الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا:
أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس فيها ما يدل على جواز الاختلاط
الشبهة الحادية عشرة:
حديث أم حرام بنت ملحان
رضي الله عنها (1):
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمّ حَرَام بِنْت مِلْحَان فَتُطْعِمُه، وَكَانَتْ أُمّ حَرَام تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِت، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَوْمًا فَأَطْعَمَتْه، ثُمَّ جَلَسَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: «مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟» .
قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ (2) هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ ـ يَشُكُّ أَيَّهُمَا ـ.
قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ» ، كَمَا قَالَ فِي الْأُولَى.
قَالَتْ: فَقُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ؟» .
قَالَ: «أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ» ، فَرَكِبَتْ أُمّ حَرَام بِنْت مِلْحَان الْبَحْرَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ. (رواه البخاري ومسلم).
(1) بتصرف من (إشكال وجوابه في حديث أم حرام بنت ملحان، دراسة تأصيلية تطبيقية تبين المنهج العلمي في الإجابة عن الإشكالات التي ربما تعرض في بعض الأحاديث) تأليف: علي بن عبد الله بن شديد الصياح المطيري.
(2)
الثَّبَج: ظَهْر الشَّيْء، وَالْمُرَاد أَنَّهُمْ يَرْكَبُونَ السُّفُن الَّتِي تَجْرِي عَلَى ظَهْره. (من فتح الباري لابن حجر).
تنبيه:
قال صاحب كتاب (إشكال وجوابه في حديث أم حرام بنت ملحان): «وأنبه أن لفظة (النوم في الحجر) لم أجدها في أي رواية من روايات الحديث» (1).
الجواب:
استشكل حَدِيث أُمّ حَرَام هذا مِنْ وجهين:
الأوَّل: أنّ ظاهر الحَدِيث يوهم خلوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأُمّ حَرَام، ومعلوم أنّ خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية لا تجوز باتفاق العلماء.
والثاني: أنّ في الحَدِيث: «ثُمَّ جَلَسَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ فَنَامَ» فهل يجوز للمرأة مس جسد الرجل الأجنبي؟.
وهذا الإشكال فرح به صنفان من أهل الأهواء:
فالصنف الأوَّل: اتخذ هذا الحَدِيث حجة للطعن في أصح كتابين بعد كتاب الله (صحيح البخاري، وصحيح مسلم)، لفهمه السقيم أنّ في ذلك طعنًا في جناب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
والصنف الثاني: وهم أهل الشهوات الذين قَالَ الله عز وجل فيهم: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} (النساء:27)، فأخذوا ما يوافق شهواتهم وأعرضوا عن ما يخالفها من صريح الكتاب والسنة.
وهذان الصنفان ليس نظرهم في الدليل نظر المستبصر حتى يكونَ هواه تحت حكمه، بل نظر مَنْ حَكَمَ بالهوى ثم أتى بالدليلِ كالشاهدٍ له، وهذا شأنُ كلّ مبطل ممن يترك المحكم للمتشابه.
(1) هامش ص 19.
وعند التحقيق وتطبيق المنهج العلمي السليم في دراسة المسألة جمعًا ودراسةً يتبين أنه لا حجة للصنفين في الحَدِيث.
قال صاحب كتاب (إشكال وجوابه في حديث أم حرام بنت ملحان):
«والجواب عن حديث أم حرام وتفليتها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يخرج عن أحد ثلاثة:
1 -
الخصوصية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
2 -
أو الخصوصية لأم حرام وأختها أم سليم.
3 -
أو أنّ هناك علاقة محرمية بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأم حرام وأختها أم سليم.
ولم أذكر جوابًا رابعًا ـ وهو ما يدور حوله أهل الشهوات ـ وهو أنه يجوز للأجنبي الخلوة بالأجنبية ومسها لأمرين:
1 -
أنَّ النصوص من القرآن والسنة دالة دلالة قطعية على تحريم الخلوة بالأجنبية ومسها.
2 -
أنّ أحدًا من أهل العلم ممن تقدم أو تأخر لم يذكر هذا الجواب للسبب المتقدم.
فلمّا بحثت الحديث بحثًا موسعًا شاملًا للرواية والدراية ظهرت لي أمور مجتمعة تُعدّ من قبيل تضافر الدلائل التي لا تخطئ، والدلالات التي تورث اليقين بأنَّ هناك محرمية بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمّ حرام، وبينت أنه بأقل من القرائن المذكورة يستدل على مثل هذه القضايا، فكيف بهذه القرائن مجتمعة» (1).
وقال أيضًا: «لم أقفْ إلى الآن عَلَى حَدِيثٍ صحيحٍ صريحٍ في خلوة النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحدَه بامرأةٍ أجنبيةٍ
…
والأحاديثُ التي ذَكَرَ بعضُ العلماء أنّ فيها خلوةً، أو استدل بها عَلَى أنّ مِنْ خصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الخلوة بالمرأة الأجنبية والنظر إليها ليست صريحة» (2).
(1) هامش ص 26.
(2)
ص 45.
أجوبةُ أهلِ العلم والإيمان عن هذين الإشكالين:
أمَّا الإشكالُ الأوَّل:
وهو أنّ ظاهر الحَدِيث يوهم الخلوة، فالإجابة عنه أنّ الحَدِيثَ ليسَ فيه التصريح بالخلوة أو عدم الخلوة فإذا كان كذلك رجع إلى الأصل وهو تحريمه صلى الله عليه وآله وسلم القطعيّ للخلوة بالمرأة الأجنبية، وقد أشار إلى هذا المعنى اِبْن عَبْد الْبَرِّ فَقَالَ بعد أن ذكر المحرمية:: «والدليل على ذلك
…
ـ ثم ساق حَدِيث جابر، وعمر بن الخطاب، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر في النهي عن الخلوة ـ وهذه آثار ثابتة بالنهي عن ذلك، ومحال أنْ يأتي رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ما ينهى عنه» (1).
وَقَالَ الدِّمْيَاطِيّ: «لَيْسَ فِي الْحَدِيث مَا يَدُلّ عَلَى الْخَلْوَة بها؛ فلعل ذاك كَانَ مَعَ وَلَد أَوْ خَادِم أَوْ زَوْج أَوْ تَابِع، والعادةُ تقتضي المخالطة بين الْمَخْدُوم وَأَهْل خَادِمه، سيّما إذا كنَّ مسنَّات مع ما ثبت له صلى الله عليه وآله وسلم من العصمة» (2).
قَالَ ابنُ حَجَر: «قُلْتُ: وَهُوَ اِحْتِمَال قَوِيّ» (3).
وكثيرًا ما يقع في الكتابِ والسنةِ ترك بيان بعض الأمور في موضع لائق به اعتمادًا على وضوحها وظهورها، أو اعتمادا على بيانها في موضع آخر، وليس هذا بأكثر من مجيء عموم أو إطلاق في القرآن ومجيء تخصيصه أو تقييده في السنة.
ولو ثبتت الخلوة صراحة في الحَدِيث لم تضر لأنّ أُمّ حَرَام خالة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرَّضَاعَ أو أنَّ ذلك من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم.
(1) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1/ 226).
(2)
عمدة القاري (14/ 86).
(3)
فتح الباري (11/ 78) ..
أمَّا الإشكال الثاني:
وهو فَلْيُ أُمّ حَرَام لرأس النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقد تعددت آراء العلماء في ذلك على أقوال:
القولُ الأَّولُ: أنّ من خصائص النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم إباحة النَّظَرِ لِلأَجْنَبِيَّاتِ وَالْخَلْوَةِ بِهِنَّ وَإِرْدَافِهِنّ، ويدخل في ذلك تفلية الرأس وغيره.
ولكن يضَعّف هذا القول امتناع النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن مصافحة النساء في البيعة والاكتفاء بالكلام، فهذا الامتناع في هذا الوقت الذي يقتضيه ـ وهو وقتُ المبايعة ـ دليلٌ على عدم الخصوصية، وإلَاّ فبماذا يُفسر هذا الامتناع في هذا المقام الذي يقتضي عدم الامتناع؟!.
وكذلك حَدِيث صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلانِ مِنْ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم:«عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ» فَقَالا: «سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ» ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم:«إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا» (رواه البخاري ومسلم).
فلو كان مستقرًا عند الصحابة هذا المعنى لما احتاج النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول للصحابيين ما قَالَ.
القولُ الثاني: أنّ هذا خاصٌ بأُمّ حَرَام وأختها أُمّ سُلَيْم.
ويرد على هذا القول الاعتراضات السابقة نفسها، ويزاد: لماذا خُصَّتْ أُمّ سُلَيْم وأختها بهذه الخصوصية.
القولُ الثالث: أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم مَحْرَم لأُمّ حَرَام؛ فبينهما إمَّا قرابة نسب أو رضاع.
وَقَالَ أيضًا: «وكانت أُمّ سُلَيْم هذه هي وأختها خالتين لرسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم» (2).
والقول بالمحرمية بالنسب فيه نظر، لأنّ خفاء قرابة النسب يبعد بخلاف الرَّضَاعَ؛ فإنّ الرَّضَاعَة من الأجنبية كانت منتشرة في ذلك الوقت، وربما خفي أمْرُها على أقرب الناس.
ومما وَرَدَ في خفاء الرضاع من الحَدِيث:
1 -
عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ، قَالَتْ: فَقَالَ: «انْظُرْنَ إِخْوَتَكُنَّ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ» (رواه البخاري ومسلم).
فانظرْ كيفَ خفي أمر رضاعة من هي من أقرب الناس إليه صلى الله عليه وآله وسلم وهي زوجته.
(1) شرح النَّوَوِيّ على صحيح مسلم (13/ 57).
(2)
تهذيب الأسماء (2/ 626).
(3)
فتح الباري (11/ 78).
2 -
وعن عَبْدُ اللهِ بنُ أبي مُلَيْكَة عنْ عُقْبَةَ بنِ الحارِث ِ أنَّهُ تَزَوَّجَ ابنَةً لأبي إِهابِ بنِ عَزِيزِ فَأتَتْهُ امْرَأةٌ فَقالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرضَعْتُ عُقْبَةَ والَّتِي تَزَوَّجَ، فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ:«ما أعْلَمُ أنَّكِ أرْضَعْتِنِي وَلا أخْبَرْتِنِي» .فَرَكِبَ إِلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمَدِينَة فَسَأَلَهُ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كَيْفَ وقَدْ قِيلَ!» ، فَفارَقَها عُقْبَةُ ونَكَحَتْ زَوْجًا غَيَرَهُ (رواه البخاري).
3 -
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أُرِيدَ عَلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ فَقَالَ: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّحِمِ» (رواه البخاري ومسلم).
4 -
وعَنْ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «أَعَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لَوْ لَمْ أَنْكِحْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لِي؛ إِنَّ أَبَاهَا أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ» (رواه البخاري ومسلم).
الراجح في الإجابة عن مس أُمّ حَرَام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:
إنّ مَنْ استقرأ النصوص الواردة في تعامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أُمّ سُلَيْم وأختها أُمّ حَرَام رأى أنّ لأُمّ سُلَيْم وأختها أُمّ حَرَام دون بقية النساء ـ غير أزوجه ـ خصوصية لا يمكن أن تقع إلا للمحرم مع محرمه، فمن ذلك:
1 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يَدْخُلُ بَيْتَ أُمِّ سُلَيْمٍ فَيَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا، وَلَيْسَتْ فِيهِ، قَالَ: فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَنَامَ عَلَى فِرَاشِهَا فَأُتِيَتْ فَقِيلَ لَهَا: «هَذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم نَامَ فِي بَيْتِكِ عَلَى فِرَاشِكِ» .
قَالَ: فَجَاءَتْ وَقَدْ عَرِقَ وَاسْتَنْقَعَ عَرَقُهُ عَلَى قِطْعَةِ أَدِيمٍ عَلَى الْفِرَاشِ فَفَتَحَتْ عَتِيدَتَهَا فَجَعَلَتْ تُنَشِّفُ ذَلِكَ الْعَرَقَ فَتَعْصِرُهُ فِي قَوَارِيرِهَا فَفَزِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: «مَا تَصْنَعِينَ يَا أُمَّ
سُلَيْمٍ؟» فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، نَرْجُو بَرَكَتَهُ لِصِبْيَانِنَا» ، قَالَ:«أَصَبْتِ» (رواه مسلم)(1).
وتأمل قولَ أَنَسِ رضي الله عنه: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يَدْخُلُ بَيْتَ أُمِّ سُلَيْمٍ فَيَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا، وَلَيْسَتْ فِيهِ» ؛ فهل يعقل أن يترك أهل الكفر والنفاق ـ زمن النبوة ـ مثل هذا الموقف دون استغلاله في الطعن في النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم وفي نبوته؟ وهم الذين طعنوا في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بمجرد شبهة باطلة!!
وما فتأوا (2) يحيكون الدسائس والمؤامرات والشائعات!!
وكذلك لِمَ لمْ يتكلموا في أُمّ سُلَيْم وأختها أُمّ حَرَام كما تكلموا في عائشة رضي الله عنها؟!!
2 -
حَدِيثُ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بَيْتًا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِ فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: «إِنِّي أَرْحَمُهَا قُتِلَ أَخُوهَا مَعِي» (رواه البخاري ومسلم).
قَالَ ابن حَجَر: «قَوْله: (لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بِالْمَدِينَةِ بَيْتًا غَيْر بَيْتٍ أَمْ سَلِيم) قَالَ الحُمَيْدِيّ: لَعَلَّهُ أَرَادَ عَلَى الدَّوَامِ وَإِلَّا فَقَدَ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمّ حَرَام.
وَقَالَ اِبْن التِّينِ: يُرِيدُ أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ الدُّخُولُ عَلَى أُمِّ سَلِيم وَإِلَّا فَقَدَ دَخَلَ عَلَى أُخْتِهَا أُمِّ حَرَام، وَلَعَلَّهَا ـ أَيْ أَمُّ سَلِيم ـ كَانْت شَقِيقَة المَقْتُولِ أَوْ وَجَدَتْ عَلَيْهِ أَكْثَر مِنْ أُمّ حَرَام.
قُلْت (أي الحافظ ابن حجر): «لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَإِنَّ بَيْت أُمّ حَرَام وَأُمّ سَلِيم وَاحِد وَلَا مَانِع أَنْ تَكُونَ الأُخْتَانِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ كَبِيرٍ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِيهِ مَعْزِل فَنُسِبَ
(1) قَوْله: (فَفَتَحَتْ عَتِيدَتهَا) هِيَ كَالصُّنْدُوقِ الصَّغِير، تَجْعَلُ الْمَرْأَة فِيهِ مَا يَعِزُّ مِنْ مَتَاعهَا.
مَعْنَى فَزِعَ: اِسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمه. (من شرح النووي على مسلم (15/ 87).
(2)
ما أفْتَأَ يفعل كذا، وما فَتِئَ، وما فَتَأَ: أي ما زال، وما برح، قال تعالى:{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)} (يوسف: 85)، أي لا تزال تذكره، والنفي في الآية بعد القسم وقبل الفعل المضارع ملحوظ وإن لم يذكر. (مختار الصحاح، المعجم الوسيط، مادة: فتأ).
تَارَةً إِلَى هَذِهِ وَتَارَةً إِلَى هَذِهِ» (1).
وما أجاب به الحُمَيْدِيّ واِبْن التِّينِ يتضمن تفسيرًا لقوله: «فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ» فإنَّه سؤالٌ عن سبب كثرة دخوله عليها، ولا يجوز أنْ يكون سؤالًا عن سبب دخوله عليها لكونها أجنبيةً منه، فإنَّ ذلك لا يناسبه ما أجاب به صلى الله عليه وآله وسلم من قوله:«إِنِّي أَرْحَمُهَا قُتِلَ أَخُوهَا مَعِي» فتعين أن يكون السؤال عن غير هذا.
قَالَ النَّوَوِيّ: «قَدْ قَدَّمْنَا فِي كِتَاب الْجِهَاد عِنْد ذِكْر أُمّ حَرَام أُخْت أُمّ سُلَيْمٍ أَنَّهُمَا كَانَتَا خَالَتَيْنِ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَحْرَمَيْنِ إِمَّا مِنْ الرَّضَاع ، وَإِمَّا مِنْ النَّسَب ، فَتَحِلُّ لَهُ الْخَلْوَة بِهِمَا ، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمَا خَاصَّةً ، لَا يَدْخُلُ عَلَى غَيْرهمَا مِنْ النِّسَاء إِلَّا أَزْوَاجه. قَالَ الْعُلَمَاء: فَفِيهِ جَوَاز دُخُول الْمَحْرَم عَلَى مَحْرَمه ، وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى مَنْع دُخُول الرَّجُل إِلَى الْأَجْنَبِيَّة. وَإِنْ كَانَ صَالِحًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة فِي تَحْرِيم الْخَلْوَة بِالْأَجْنَبِيَّةِ.
قَالَ الْعُلَمَاء: أَرَادَ اِمْتِنَاع الْأُمَّة مِنْ الدُّخُول عَلَى الْأَجْنَبِيَّات» (2).
قَالَ العينيُّ: «قَالَ الكرمانيّ: «كيف صار قتل الأخ سببًا للدخول على الأجنبية؟» قلتُ: «لم تكن أجنبية كانت خالة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الرَّضَاعَ، وقيل: من النسب فالمحرمية كانت سببًا لجواز الدخول» (3).
3 -
وعَنْ سُلَيْمَانُ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَيْنَا وَمَا هُوَ إِلا أَنَا وَأُمِّي وَأُمُّ حَرَامٍ خَالَتِي فَقَالَ: «قُومُوا فَلِأُصَلِّيَ بِكُمْ» ، فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةٍ فَصَلَّى بِنَا فَقَالَ رَجُلٌ لِثَابِتٍ: «أَيْنَ جَعَلَ أَنَسًا مِنْهُ؟ قَالَ: جَعَلَهُ عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ دَعَا لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ
(1) فتح الباري (6/ 51).
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 10).
(3)
عمدة القاري (14/ 138).
بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَالَتْ أُمِّي: يَا رَسُولَ اللهِ خُوَيْدِمُكَ ادْعُ اللهَ لَهُ، قَالَ: فَدَعَا لِي بِكُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ فِي آخِرِ مَا دَعَا لِي بِهِ أَنْ قَالَ:«اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ» (رواه مسلم).
4 -
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم دَخَلَ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ فَأَتَوْهُ بِسَمْنٍ وَتَمْرٍ فَقَالَ: «رُدُّوا هَذَا فِي وِعَائِهِ، وَهَذَا فِي سِقَائِهِ؛ فَإِنِّي صَائِمٌ» ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا فَقَامَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ وَأُمُّ حَرَامٍ خَلْفَنَا». (رواه أبو داود وصححه الألباني).
5 -
وعَنْ حُمَيْد عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه:دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ قَالَ: أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ فَإِنِّي صَائِمٌ ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ فَصَلَّى غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ فَدَعَا لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأَهْلِ بَيْتِهَا فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي خُوَيْصَةً» .
قَالَ «مَا هِيَ؟» .قَالَتْ: «خَادِمُكَ أَنَسٌ» ، فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلَا دُنْيَا إِلَّا دَعَا لِي بِهِ قَالَ:«اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالًا وَوَلَدًا وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ» ؛ فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الْأَنْصَارِ مَالًا، وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ حَجَّاجٍ الْبَصْرَةَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ» (رواه البخاري)(1).
6 -
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ فَقُمْتُ وَيَتِيمٌ
(1) قَوْله: (إِنَّ لِي خُوَيْصَة) بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَبِتَخْفِيفِهَا، تَصْغِير خَاصَّة.
وَقَوْلها: «خَادِمك أَنَس» هُوَ عَطْف بَيَان، أَوْ بَدَل، وَالْخَبَر مَحْذُوف تَقْدِيره أَطْلُبُ مِنْك الدُّعَاء لَهُ.
(أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي) أَيْ مِنْ وَلَدِهِ دُونَ أَسْبَاطِهِ وَأَحْفَادِهِ.
قَوْله: (مَقْدَمَ الْحَجَّاجِ الْبَصْرَةَ) أَيْ مِنْ أَوَّلِ مَا مَاتَ لِي مِنْ الْأَوْلَادِ إِلَى أَنْ قَدِمَهَا الْحَجَّاجُ، وَكَانَ قُدُومُ الْحَجَّاج الْبَصْرَةَ سَنَة خَمْس وَسَبْعِينَ وَعُمُرُ أَنَسٍ حِينَئِذٍ نَيِّفٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَقَدْ عَاشَ أَنَس بَعْد ذَلِكَ إِلَى سَنَة ثَلَاث وَيُقَالُ اِثْنَتَيْنِ وَيُقَال إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَقَدْ قَارَبَ الْمِائَةَ.
…
قَوْله: (بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ) فِي ذِكْر هَذَا دَلَالَة عَلَى كَثْرَةِ مَا جَاءَهُ مِنْ الْوَلَدِ فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ الَّذِي مَاتَ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ بَقُوا فَفِي رِوَايَة إِسْحَاق اِبْن أَبِي طَلْحَة عَنْ أَنَس عِنْد مُسْلِمٍ:«وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَد وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ» . (باختصار من فتح الباري لابن حجر).
خَلْفَهُ وَأُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا» (رواه البخاري).
7 -
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا مَرَّ بِجَنَبَاتِ (1) أُمِّ سُلَيْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَلَّمَ عَلَيْهَا» (رواه البخاري).
8 -
وعن أنس رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ» (رواه البخاري).
ومما يضاف إلى ذلك أنّ أنس بن مالك ـ وهو ابن أُمّ سُلَيْم ـ خدم النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاته ففي الحَدِيث: عَنْ إِسْحَاق بن أبي طلحة قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ: جَاءَتْ بِي أُمِّي أُمُّ أَنَسٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وَقَدْ أَزَّرَتْنِي بِنِصْفِ خِمَارِهَا وَرَدَّتْنِي بِنِصْفِهِ ـ فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا أُنَيْسٌ ابْنِي أَتَيْتُكَ بِهِ يَخْدُمُكَ فَادْعُ اللهَ لَهُ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ» ، قَالَ أَنَسٌ:«فَوَاللهِ إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ الْيَوْمَ» (رواه مسلم).
فإذا تأمل الباحث المُنصف هذه الأحاديث رأى أنّ تعامل النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع أُمّ سُلَيْم وأختها أُمّ حَرَام تعامل المحارم بعضهم مع بعض، وأنّ هناك خصوصية ما لأُمّ سُلَيْم وأختها أُمّ حَرَام.
(1) الجَنَبَات جمع جَنَبة وهي الناحية، قاله ابنُ حَجَر في فتح الباري (9/ 227)، وقال العينيُّ:«ويقال: يحتمل أن يكون مأخوذًا من الجناب وهو الفناء، فكأنه يقول: إذا مر بفنائها» (عمدة القاري 20/ 151).
فإن قَالَ قائل إنّ دعوى محرمية الرَّضَاعَ هذه تحتاج إلى نصٍ صريح، ولا يوجد؟
الجواب:
الأمور المتقدمة:
- تعامل النَّبِيّ ص مع أُمّ سُلَيْم وأختها أُمّ حَرَام تعامل المحارم بعضهم مع بعض.
- عدم وجود نص واحد ـ قولي أو فعلي ـ يدل على خصوصية النَّبِيّ ص بالخلوة أو النظر أو المس.
- امتناع النَّبِيّ ص عن مصافحة النساء في البيعة والاكتفاء بالكلام.
- وكذلك قوله للصحابيين: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ» .
- ثم إنّ الرَّضَاعَ من النساء الأجنبيات من الأمور المنتشرة في ذلك الوقت، وربما خفي أمره على أقرب الناس وتقدم ذكر عدد من الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك.
فهذه الأمور مجتمعة تُعدّ من قبيل تظافر الدلائل التي لا تخطىء، والدلالات التي تورث اليقين بأنَّ هناك محرمية بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمّ حرام، وبأقل من هذه القرائن يستدل على مثل هذه القضايا، فكيف بهذه القرائن مجتمعة والله أعلم.
كلام جميل للدكتور طه حبيشي ردّ فيه على تهويشات أحمد صبحي منصور ـ ومن قَالَ بقوله ـ حول حَدِيث أُمّ حَرَام:
«الروايات مجمعة تقريبًا على أن النَّبِيّ كان يكثر من التردد، والأكل والشرب، عند أُمّ سُلَيْم، وأُمّ حَرَام. والباحث الحصيف يسأل هل هناك شئ من العلاقة بين هاتين المرأتين الجليلتين؟ والروايات تجيب أن أُمّ سُلَيْم، وأُمّ حَرَام أختان، وأُمّ سُلَيْم هي أم أنس بن مالك رضي الله عنه وأُمّ حَرَام خالته، وأنس بن مالك كان في صباه يخدم النَّبِيّ عشر سنين وكان النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعامله معاملة تناسب أخلاق النبوة.
هؤلاء ثلاثة ليسوا من المجاهيل في الصحابة والصحابيات، وما الذي جعل علاقة النَّبِيّ بهم على هذا المستوى من الاهتمام، وكثرة السؤال عنهم.
إن هذا لا يكون إلا في حالة واحدة، وهي أن تكون هناك درجة من القرابة تجعل المرأتين من محارم النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم، سواء أكان ذلك من جهة النسب كما قَالَ بعض المؤرخين، أو كان من جهة الرَّضَاعَة كما قَالَ البعض الآخر.
فهل يمكن عقلًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يخالف الناس إلى ما ينهاهم عنه؟
وهل يجيز المنطق أو العادة أن يسمح النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم لغير قريبه من الصبيان أن يخدمه في بيته عشر سنوات كاملات؟.
وهل يعقل أن يترك أهل الكفر والنفاق ـ زمن النبوة ـ مثل هذا الموقف دون استغلاله في الطعن في النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم وفي نبوته؟
أمور كلها تعد من قبيل الشواهد التي لا تخطيء والدلالات التي تورث اليقين بأن النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان قريبا قرابة محرمة لأُمّ سُلَيْم وأختها أُمّ حَرَام.
وخصوصًا وأنّ بعض الروايات تقول كان النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدخل بيت أُمّ سُلَيْم فينام على فراشها وليست فيه، ورواية عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُخْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ الرُّمَيْصَاءِ قَالَتْ نَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم فَاسْتَيْقَظَ، وَكَانَتْ تَغْسِلُ رَأْسَهَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَتْ:«يَا رَسُولَ اللهِ أَتَضْحَكُ مِنْ رَأْسِى؟» قَالَ «لَا» . (رواه أبو داود وصححه الألباني).
قد يقول قائل: قريبات النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم معروفات، وليس منهن أُمّ سُلَيْم ولا أُمّ حَرَام.
والجواب: إننا نتحدث عن مجتمع لم يكن يمسك سجلات للقرابات وخاصة إذا كانت القرابة في النساء، فهناك قريبات كثيرات أغفلهن التاريخ في هذا المجتمع وأهملهن الرواة» (1).
(1) السنة في مواجهة أعدائها (ص202 - 206).