المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - قصة حجة الوداع - شرح المصابيح لابن الملك - جـ ٣

[ابن الملك]

فهرس الكتاب

- ‌8 - كِتَابُ فَضَائِل القُرْآنِ

- ‌فصل

- ‌ فصلً

- ‌9 - كِتابُ الدَّعَوَاتِ

- ‌2 - باب ذِكْرِ الله عز وجل والتَّقرُبِ إليهِ

- ‌3 - باب أَسْماءِ الله تعالى

- ‌4 - باب ثَواب التَّسبيح والتَّحميد والتَّهليل

- ‌5 - باب الاستِغفار والتَّوبة

- ‌فصل

- ‌6 - باب ما يقُول عند المصَّباح والمَسَاء والمَنام

- ‌7 - باب الدَّعَواتِ في الأَوْقاتِ

- ‌8 - باب الاستِعاذَة

- ‌9 - باب جامع الدعاء

- ‌10 - كِتَابُ الحَجِّ

- ‌1 - باب المَناسِك

- ‌2 - باب الإِحْرام والتَّلْبية

- ‌3 - قِصَّةُ حجة الوداع

- ‌4 - باب دُخُول مَكَّةَ والطواف

- ‌5 - باب الوُقوف بِعَرَفة

- ‌6 - باب الدفْع من عَرَفَةَ والمُزْدَلِفَة

- ‌7 - باب رَمْيِ الجِمَار

- ‌8 - باب الهَدْي

- ‌9 - باب الخلق

- ‌فصل

- ‌10 - باب الخُطْبة يومَ النحر ورَمْي أيام التشريق والتوديع

- ‌11 - باب ما يجتنبه المحرم

- ‌12 - باب المحرِم يَجتنِب الصيد

- ‌13 - باب الإِحْصَار وفَوْت الحَجّ

- ‌14 - باب حرَم مكةَ حرَسَها الله

- ‌15 - باب حرَم المَدينة على ساكنها الصلاةُ والسلام

- ‌11 - كِتَابُ البُيُوعِ

- ‌1 - باب الكَسْب وطلَب الحلال

- ‌2 - باب المُساهلةِ في المُعاملة

- ‌3 - باب الخِيَارِ

- ‌4 - باب الرِّبا

- ‌5 - باب المنهي عنها من البيوع

- ‌فصل

- ‌6 - باب السَّلَمِ والرَّهنِ

- ‌7 - باب الاحتِكارِ

- ‌8 - باب الإفلاسِ والإنظارِ

- ‌9 - باب الشَّركة والوَكالةَ

- ‌10 - باب الغَصْبِ والعاريَةِ

- ‌11 - باب الشُّفْعَةِ

- ‌12 - باب المُساقاةِ والمُزارعةِ

- ‌13 - باب الإجارةِ

- ‌14 - باب إحياء المَوَاتِ والشِّرْبِ

- ‌15 - باب العطايا

- ‌فصل

- ‌16 - باب اللُّقَطَة

- ‌17 - باب الفرائضِ

- ‌18 - باب الوصايا

- ‌12 - كِتَابُ النِّكَاحِ

- ‌2 - باب النَّظَرِ إلى المَخطوبة وبيانِ العَورات

- ‌3 - باب الوليِّ في النِّكاح واستِئذانِ المَرأةِ

- ‌4 - باب إعلانِ النكاحِ والخِطبةِ والشَّرطِ

- ‌5 - باب المُحرَّماتِ

- ‌6 - باب المُباشَرةِ

- ‌فصل

- ‌7 - باب الصَّداق

- ‌8 - باب الوَليمةِ

- ‌9 - باب القَسْمِ

الفصل: ‌3 - قصة حجة الوداع

طلب العفو والإجارة "برحمته من النَّار" وروي: (واستعاذه).

* * *

‌3 - قِصَّةُ حجة الوداع

(قصة حجة الوداع) بفتح الواو.

مِنَ الصِّحَاحِ:

1841 -

قال جابرُ بن عبد الله رضي الله عنه: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مَكَثَ بالمدينةِ تِسْعَ سِنين لم يَحُجَّ، ثُمَّ أَذِّنَ في النَّاسِ بالحَجِّ في العَاشِرَةِ، فَقَدِمَ المدينةَ بَشَرٌ كَثيرٌ، فَخَرْجَنا مَعَهُ حَتَّى إذا أتيْنَا ذَا الحُلَيْفَةِ وَلَدَتْ أسماءُ بنتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بن أبي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إلى رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: كَيفَ أَصْنَعُ؟ قال: "اغتَسِلِي، واسْتَثْفِرِي، بِثَوبٍ وَأَحْرِمِي"، فَصَلَّى - يعني رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ركعَتَيْنِ في المسجدِ، ثمَّ ركبَ القَصْوَاءَ حتَّى إذا اسْتَوَتْ بِهِ ناقتهُ على البَيْدَاءِ، أَهَلَّ بالتَّوْحِيدِ:"لَبَّيْكَ اللَّهمَّ لَبَّيْكَ، لا شَرِيكَ لكَ، إن الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لكَ والمُلْكَ، لا شَرِيكَ لكَ"، وقال جابر: لَسْنَا ننوِي إلَّا الحَجَّ، لَسْنا نَعْرِفُ العُمْرَةَ، حتَّى إذا أتيْنَا البَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ وطَافَ سَبْعاً: رَمَلَ ثلاثاً، ومشى أرْبَعاً، ثُمَّ تَقَدَّمَ إلى مَقَامِ إبراهيمَ فَقَرَأَ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، فَصَلَّى ركعَتَيْنِ جَعَلَ المَقَامَ بينَهُ وبَيْنَ البَيْتِ.

ويُروى: أنَّه قَرَأَ في الرَّكعَتَيْنِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .

ثُمَّ رَجَعَ إلى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الباب إلى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قرَأَ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ، أَبْدَأُ بما بَدَأَ الله به"، فَبَدَأَ بالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيْهِ حتَّى رأَى البَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَوَحَّدَ الله وكَبَّرَهُ، وقال: "لا إله إلَّا الله وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، ولَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ، لا إله إلَّا الله وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، ونصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ"، ثُمَّ دَعَا

ص: 255

بينَ ذلك، قالَ مِثْلَ هذا ثلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ تزَلَ فمشَى إلى المَرْوَةِ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتَّى اَنْصَبَّتْ قدماهُ في بَطْنِ الوادي سَعَى، حتَّى إذا أصْعَدتْ قدمَاهُ مَشَى، حتَّى أتَى المَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى المَرْوَةِ والنَّاسُ تَحتَهُ فقال:"لَوْ أنِّي اَسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمري ما اَسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الهَدْيَ، وجَعَلْتُها عُمْرَةً، فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ ليَسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً"، فقامَ سُراقَةُ بن جُعْشُم فقال: يا رسولَ الله!، أَلِعَامِنا هذا أمْ للأبدِ؟ فَشَبَّكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَصابعَهُ وقال:"دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ"، مَرَّتَيْنِ، "لا بلْ لأَبَدِ الأَبَدِ"، وقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ اليَمَنِ بِبُدْنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ماذا قُلْتَ حينَ فَرَضْتَ الحَجَّ؟ "، قالَ: قُلْتُ: اللَّهمَّ إنِّي أُهِلُّ بما أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ صلى الله عليه وسلم، قال:"فإنَّ مَعِيَ الهَدْيَ"، قال:"فأهْدِ، وامكُثْ حرامًا، فلا تَحِلُّ"، قال: فكانَ جماعَةُ الهَدْيِ الذي قَدِمَ بِهِ عَليٌّ مِنَ اليَمَنِ والذي أتَى بِهِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم مائَةً، قال: فَحَلَّ النَّاسُ كُلّهُمْ وقَصَّرُوا، إلَّا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ومَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فلمَّا كانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلى مِنًى، فَأَهَلُّوا بالحَجِّ، ورَكبَ النَّبيّ، فَصَلَّى بها الظُّهْرَ والعَصْرَ والمَغْرِبَ والعِشَاءَ والفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قليلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بنمِرَةَ، فَسَارَ، فَنَزَلَ بها، حتَّى إذا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بالقَصْوَاءَ فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الوادي، فخَطَبَ النَّاسَ، وقال: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كحُرْمَةِ يَوْمِكُم هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، أَلَا كلُّ شَيءٍ مِنْ أَمْرِ الجاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، ودِمَاءُ الجاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وإنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ اَبن رَبيعَةَ ابن الحارِث - كانَ مُسْتَرْضعاً في بني سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ - ورِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعة، وأَوَّلُ ربا أَضَعُ مِنْ رِبَانا رِبَا عَبَّاسِ بن عَبْدِ المُطَّلِبِ، فإنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاَتَّقُوا الله في النِّسَاءَ، فإنَّكمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ الله، واَسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ الله، ولَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونه، فإنَّ فَعَلْنَ ذلكَ فاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غيرَ مُبَرِّحٍ، ولَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمَعْرُوفِ، وقَدْ

ص: 256

تَرَكْتُ فيكُمْ مَا لنْ تَضلُّوا بَعْدَهُ إِن اَعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابَ الله، وأَنتمْ تُسْألونَ عَنِّي، فَمَا أَنتمْ قَائِلُونَ؟ "، قالوا: نشهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وأَدَّيْتَ ونَصَحْتَ، فقال بإصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُها إلى السَّماءَ، ويَنْكُتُهَا إلى النَّاسِ: "اللَّهمَّ اَشْهَدْ، اللَّهمَّ اَشْهَدْ، اللَّهمَّ اَشْهَدْ" ثَلَاثَ مرَّات، ثُمَّ أَذَّنَ بِلالٌ، ثُمَّ أقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أقامَ فَصَلَّى العَصْرَ، ولَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شيئاً، ثُمَّ رَكِبَ حتَّى أتى المَوْقفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ ناقَتِهِ القَصْوَاءَ إلى الصَّخَرَاتِ، وجَعَلَ حَبْلَ المُشاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، واَستقْبَلَ القِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ واقفاً حتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وأَرْدَفَ أُسامَةَ خَلْفَهُ، ودَفَعَ حَتَّى أتى المُزْدلفَةَ، فَصَلَّى بها المَغْرِبَ والعِشاءَ بأَذَانٍ واحِدٍ وإقامَتَيْنِ، ولم يُسَبحْ بَيْنَهُمَا شيْئاً، ثُمَّ اَضْطَجَعَ حتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، فَصَلَّى الفَجْرَ حينَ تَمينَ لَهُ الصُّبْحُ بأَذَانٍ وإقامَةٍ، ثمَّ رَكِبَ القَصْوَاءَ حَتَّى أتى المَشْعَرَ الحَرامَ، فاَسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَحَمِدَ الله وكَبَّرَهُ وهَلَّلَهُ ووَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ واقِفاً حَتَّى أسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَع قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وأَرْدَفَ الفَضْلَ بن عَبَّاسٍ حتَّى أتى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّكَ قليلاً، ثُمَّ سَلَكَ الطَّريقَ الوُسْطَى التي تَخْرُجُ على الجَمْرَةِ الكُبْرَى، حَتَّى أتى الجَمْرَةَ التي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فرماهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبرُ مَعَ كُلِّ حصَاةٍ منها مِثْلَ حَصَى الخَذْفِ، فَرَمَى مِنْ بَطْنِ الوادِي، ثُمَّ اَنْصَرَفَ إلى المَنْحَرِ، فَنَحَرَ ثلاثًا وسِتِّينَ إبلاً بيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَر ما غَبَرَ، وأَشْرَكَهُ في هَدْيهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ في قِدْرٍ فَطُبخَتْ، فَأَكَلا مِنْ لَحْمِهَا، وشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَأفاضَ إلى البَيْتِ، فَصَلَّى بمَكَّةَ الظُّهْرَ، فَأَتَى بني عَبْدِ المُطَّلِبِ يَسْقُونَ على زَمْزَمَ، فقالَ: "انْزَعوا بني عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ على سِقَايتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ"، فَنَاوَلُوهُ دلواً، فَشَرِبَ منهُ.

"من الصحاح":

" قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بالمدينة تسع سنين لم

ص: 257

يحج، ثم أذَّن في النَّاس بالحج"؛ أي: نادى بينهم بأني أريد الحج "في العاشرة"؛ أي: في السنة العاشرة من الهجرة.

"فقدم المدينة بشر كثير، فخرجنا معه، حتَّى إذا أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس" زوجة أبي بكر رضي الله عنه "محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب"، وقد مر بيان الاستثفار في (باب الاستحاضة).

"وأحرمي، فصلَّى - يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين في المسجد، ثم ركب القصواء": اسم ناقته صلى الله عليه وسلم، وكل ما قُطع أذنه فهو جَدْعٌ، فإذا بلغ القطعُ الربعَ فهو قَصْو، فإن جاوزه فهو عَضْبٌ، فإن استؤصلت فهو صَلْم.

"حتَّى إذا استوت به ناقته على البيداء" وهي المفازة التي لا شيء بها، وهو هنا اسم موضع مخصوص بين مكّة والمدينة.

"أهلَّ بالتوحيد: لبيك اللَّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، قال جابر: لسنا ننوي إلَّا الحج"؛ أي: لسنا ننوي شيئاً من النيات إلَّا نية الحج.

"ولسنا نعرف العمرة"؛ أي: ما قصدناها ولا ذكرناها في الحج، وكان أهلُ الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وإنَّما كانوا يعتمرون بها بعد مضيها.

"حتَّى إذا أتينا البيت معه استلم الركن"؛ أي: الحجر الأسود إما بالقُبلة أو باليد.

"فطاف سبعاً: رمل ثلاثاً"؛ أي: أسرع في المشي في ثلاث مرات من الطواف.

"ومشى" على الهينة والسكون "أربعاً"؛ أي: في الأربعة الباقية.

ص: 258

"ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، فصلَّى ركعتين، جعل المقام بينه وبين البيت، ويروى أنه قرأ في الركعتين: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب"؛ أي: باب الصفا.

"إلى الصفا، فلما دنا"؛ أي: قَرُب "من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ": جمع شَعيرة، وهي العلامة التي جعلت للطاعات المأمورة في الحج كالوقوف والرمي والطواف والسعي.

"أبدأ بما بدأ الله به"؛ يعني: أبدًا بالصفا؛ لأنَّه تعالى بدأ بذكره في الآية.

"فبدأ بالصفا فرَقيَ"؛ أي: صعد "عليه حتَّى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله تعالى"؛ أي: قال: لا إله إلَّا الله.

"وكبره وقال: لا إله إلَّا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلَّا الله وحده، أنجز وعده"؛ أي: وفى بما وعد محمداً من الفتح.

"ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك" إشارة إلى قوله: (لا إله إلَّا الله)، أو بما شاء.

"قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل فمشى إلى المروة حتَّى انصبَّتْ"؛ أي: بلغت "قدماه" على وجه السرعة إلى أرض منخفض.

"في بطن الوادي، سعى" سعياً شديدًا.

"حتَّى إذا صعدت"؛ أي: ارتفعت "قدماه" من الوادي.

"مشى" على السكون.

"حتَّى أتى المروة ففعل" على المروة "كما فعل على الصفا"؛ يعني: رقي على المروة وقرأ من الذكر والدعاء كماه في الصفا.

ص: 259

"حتَّى إذا كان آخر طوافه"؛ أي: آخر سعيه، يعني: آخر السعي السبعة.

"على المروة نادى وهو على المروة والنَّاس تحته فقال: لو أني استقبلت"؛ يعني: لو علمت في الاستقبال "من أمري ما استدبرت"؛ أي: ما علمت في دبرٍ منه، يعني: لو عنَّ لي هذا الرأي الذي رأيته الآن عند خروجي من المدينة "لم أسُق الهديَ" حتَّى لا يلزمني إتمام الحج، والصبر على الإحرام إلى الذبح، فإنَّ بسوقه لا يحلَّ حتَّى ينحر يوم النحر، ولو لم يكن معه هدي لا يلزم هذا، ويجوز له فسخ الحج بعمرة، أراد بهذا القول تطييبَ قلوب أصحابه؛ لأنَّه كان يشقُّ عليهم أن يحفُوا وهو مُحِرمٌ.

"وجعلتها"؛ أي: الحجة أو النسيكة.

"عمرة"؛ أي: جعلت إحرامي بالحج مصروفاً إلى العمرة كما أمرتكم به موافقةً لكم.

"فمن كان" الفاء فيه جواب شرط محذوف، يعني: إذا تقرَّر ما ذكرتُ فمَن كان "ليس معه هدي فليَحْلِلْ"؛ أي: فليخرج من إحرامه بعد فراغه من أفعال العمرة.

"وليجعلها"؛ أي: الحجة.

"عمرة" وقد أبيح له ما حرم عليه بسبب الإحرام حتَّى يستأنف الإحرام للحج.

"فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا"؛ يعني: الإتيان بالعمرة في أشهر الحج مختصٌّ بهذه السنة "أم للأبد؟ فشبَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه وقال: دخلتِ العمرةُ في الحج، مرتين"؛ أي: قالها مرتين.

"لا، بل لأبد أبدٍ"؛ يعني: ليس هذا مختصاً بهذه السنة، بل يجوز في جميع السنة.

ص: 260

"وقدم عليّ من اليمن ببُدْنِ النَّبيّ عليه الصلاة والسلام": جمع بَدَنةِ، وهي ما يتقرَّب بذبحه من الإبل.

"فقال"؛ أي: النَّبيّ عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه: "ماذا قلتَ حين فرضْتَ الحجَّ؟ "؛ أي: ألزمْتَه على نفسك بالتلبية.

"قال"؛ أي: عليّ رضي الله عنه:

"قلت: اللَّهم إنِّي أُهِلُّ بما أَهَلَّ به رسولك" يدل على جواز تعليق إحرام الرجل على إحرام غيره.

"قال"؛ أي: النبيُّ عليه الصلاة والسلام: "فإنَّ معي الهدي"؛ أي: إنِّي أحرمت بالعمرة ومعي الهدي، ولا أقدر أن أخرج من العمرة، بل قد أدخلت الحج فيها، "فلا تحل، بالخروج من الإحرام كما لا أحل حتَّى تفرغ من العمرة والحج.

"قال"؛ أي: الراوي: "فكان جماعة الهدي" من الإبل "الذي قدم به"؛ أي: بذلك الهدي "عليّ رضي الله عنه من اليمن، والذي أتى به النَّبيّ صلى الله عليه وسلم مئة" من الهدي.

"قال"؛ أي: الراوي: "فحل النَّاس كلهم"؛ أي: خرج من الإحرام مَن أحرم بالعمرة ولم يكن معه هديٌ بعد الفراغ منها "وقصروا إلَّا النَّبيّ عليه الصلاة والسلام ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية" وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي به لأنَّ الحجاج يرتوون فيه من الماء لما بعده، وقيل: لأنَّ خليل الله عليه السلام تروَّى؛ أي: تفكَّر فيه في ذبح إسماعيل عليه السلام، وأنه كيف يصنع، حتَّى جزم عزمه في اليوم العاشر بذبحه.

"توجهوا"؛ أي: خرجوا من مكّة "إلى منى فأهلوا بالحج"؛ أي: أحرم به مَن كان خرج عن إحرامه بعد الفراغ من العمرة.

ص: 261

"وركب النَّبيّ" عليه الصلاة والسلام وسار من مكّة إلى منى يوم التروية.

"فصلَّى بها"؛ أي: بمنى في هذا اليوم.

"الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث"؛ أي: وقف "قليلاً حتَّى طلعت الشّمس، وأمر بقبة"؟ أي: بضرب قبة "من شعر تضرب له" بصيغة المجهول.

"بنمِرة" بفتح النون وكسر الميم: موضع قريب من عرفة.

"فسار فنزل بها حتَّى إذا زاغت الشّمس"؛ أي: سألت فدخلت وقت الظهر.

"أمر بالقصواء"؛ أي: بإحضارها.

"فرُحِلَتْ له"؛ أي: شُدَّ عليها الرَّحْلُ للنبي صلى الله عليه وسلم.

"فأتى بطن الوادي" موضعٌ بعرفة.

"فخطب النَّاس فقال: إن دمائكم وأموالكم"؛ أي: تعرُّض بعضكم دماءَ بعض وأمواله في غير هذه الأيام "حرام عليكم كحرمة يومكم هذا"؛ أي: كحرمة التعرُّض لهما في يوم عرفة.

"في شهركم هذا" وهو ذو الحجة.

"في بلدكم هذا" وهو مكّة، وإنَّما أكد التحريم بهذا التشبيه لمَّا تقرَّر عندهم أنها من أشد المحرمات.

"ألا كل شيء من أمر الجاهلية"؛ أي: كلُّ شيء فعله أحدكم قبل الإسلام.

"تحت قدمي موضوع"؛ أي: كالشيء الموضوع تحت القدم، مجازٌ عن إبطاله وإهداره، يعني: لا مؤاخذة عليه بعد الإسلام بما فعله في الجاهلية.

ص: 262

"ودماء الجاهلية موضوعة"؛ أي: متروكة؛ يعني: لا قصاص، ولا دية، ولا كفارة، على قاتلٍ بعد الإسلام بما صدر عنه من القتل في جاهليته.

"وإن أول دم أخرجه من دمائنا"؛ أي: من الدماء المستحقة لنا.

"دم ابن ربيعة بن الحارث" ابن عبد المطّلب.

"وكان مسترضعاً"؛ يعني: كان لابن ربيعة ظئر ترضعه "في بني سعد" وكان طفلاً صغيراً يحبو بين البيوت، فأصابه حجر في حرب بني سعد مع قبيلة هذيل، "فقتلته هذيل".

"وربا الجاهلية موضوع، وأولُ رباً أخرجه من ربانا ربا العباس" بدل من (ربانا)"بن عبد المطّلب، فإنَّه موضوع كله" المراد به ما هو زائد على رأس المال؛ لأنَّ رأس ماله غير متروك؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279]، وإنَّما وضع عليه الصلاة والسلام أولاً من الدماء دم ابن ربيعة ومن الأربية ربا عمه العباس بن عبد المطّلب؛ ليكون أمكنَ في القلوب وأدعى إلى القبول.

"فاتقوا الله في النساء"؛ أي: في أمرهن فلا تؤذوهن بالباطل.

"فإنكم أخذتموهن بأمان الله"؛ أي: بعهده، وهو ما عُهد إليهم من الرفق بهنَّ والشفقة عليهن ومعاشرتهن بالمعروف.

"واستحللتم فروجهن بكلمة الله"؛ أي: بأمره وحُكمه، وهو قوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3].

"ولكم"؛ أي: من حقوقكم.

"عليهن أن لا يوطئن" بهمزة من باب الإفعال.

"فُرُشَكم أحدًا تكرهونه"؛ أي: أن لا يأذنَّ لأحد من الرجال الأجانب أن يدخلوا عليهن فيتحدثَ إليهن، وكان ذلك من عادة العرب لا يرون به بأساً، فلما

ص: 263

نزل آية الحجاب انتهوا عنه، وليس هذا كنايةً عن الزنا، وإلا كان عقوبتهن الرجم دون الضرب.

"فإن فعلن ذلك"؛ أي: الإيطاء المذكور.

"فاضربوهن ضرباً غير مبرح"؛ أي: غير جارح.

"ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"؛ أي: باعتبار حالكم غنًى وفقراً.

"وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده"؛ أي: بعد تركي إياه فيكم "إن اعتصمتم"؛ أي: إذا عملتم "به: كتاب الله" - بالنصب - بدل أو بيان لـ (ما): في التفسير بعد الإبهام تفخيمٌ لشأن القرآن، ويجوز بالرفع بأنه خبر مبتدأ محذوف.

"وأنتم تُسألون عني" - بصيغة المجهول - عطفٌ على مقدَّر وهو: قد بلغت ما أُرسلت به إليكم، يعني: سألكم ربكم يوم القيامة أن محمدًا عليه الصلاة والسلام هل بلغكم ما أرسلتُ به؟.

"فما أنتم قائلون" في ذلك اليوم؟.

"قالوا: نشهد أنك قد بلغت، الرسالة، "وأديت" الأمانة، "ونصحت" أمتك.

"فقال بإصبعه السبابة"؛ أي: أشار بها "يرفعها" حال من فاعل (قال)؛ أي: رافعاً إياها، أو من (السبابة)؛ أي: مرفوعة.

"إلى السماء وبنكِّبُها" بالباء الموحدة بعد الكاف، من (النَّكَب) بالتحريك: الميل؛ أي: يُميلها "إلى النَّاس: اللَّهم اشهد"؛ أي: على عبادك فإنهم قد أقرُّوا بأنِّي قد بلَّغتُ إليهم رسالتك، "اللَّهم اشهد، اللَّهم اشهد، ثلاث مرات".

"ثم أذَّن بلال، ثم أقام فصلَّى الظهر، ثم أقام فصلَّى العصر"؛ أي: جمع

ص: 264

بينهما "ولم يصل بينهما شيئًا، من السنن والنوافل كيلا يَبْطُلَ الجمع؛ لأنَّ الموالاة بين الصلاتين واجبة.

"ثم ركب حتَّى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات" يريد بها اللاصقة بصفح الجبل، وهو موقف الإمام، وكان صلى الله عليه وسلم يتحرى الوقوف به.

"وجعل جبل المشاة": أسم موضع من الرمل مرتفعة كالكثبان، وقيل: الجبل: الرمل المستطيل، وإنما أضافها إلى المشاة لأنَّه لا يقدر أن يصعد إليها إلَّا الماشي.

"بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتَّى غربت الشّمس وأردف أسامة"؛ أي أركبه "خلفه ودفع"؛ أي: ذهب "حتَّى أتى المزدلفة" وهي منزلةٌ بين منى وعرفة، سميت بها لمجيء النَّاس إليها في زلف من الليل.

"فصلَّى بها المغرب والعشاء بآذان وإقامتين ولم يسبح بينهما"؛ أي: لم يصلِّ بين المغرب والعشاء "شيئاً": من السنن والنوافل.

"ثم اضطجع حتَّى طلع الفجر فصلَّى الفجر حين تبيّن له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتَّى أتى المشعر الحرام" سمي به لأنَّه مَعْلَمٌ للعباد، والمشاعر: المعالم التي ندب الله تعالى إليها وأمر بالقيام عليها.

"فاستقبل القبلة فحمد الله وكبره وهلَّله ووحَّده، فلم يزل واقفاً حتَّى أسفر جداً"؛ أي: أضاء الفجر إضاءة تامة.

"فدفع قبل أن نطَّلع الشّمس وأردف الفضل بن عباس رضي الله عنه "؛ أي: أركبه خلفه "حتَّى أتى بطن محسِّر" بكسر السِّين المشددة: وادٍ معترضٌ للطريق يقطعها عرضًا، التحسُّر: الإعياء، سمي هذا الموضع به لإسراع الركاب والمشاة فيه.

"فحرك"؛ أي: طرد ناقته.

ص: 265

"قليلاً"؛ أي: تحريكاً قليلاً، وأسرع إلى منى لأداء العبادات المأمورة بها فيها.

"ثم سلك"؛ أي: مشى.

"الطريق الوسطى" هو غير الطريق الذي ذهب فيه إلى عرفات.

"التي تخرج على الجمرة الكبرى، ثم أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبِّر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف" بالخاء والذال المعجمتين: الرمي برؤوس الأصابع.

"فرمى من بطن الوادي ثم انصرف"؛ أي: رجع من جمرة العقبة "إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين" بدنة "بيده" كأنه قصد به أن ينحر عن كل سنة من سني عمره بيده بدنة.

"ثم أعطى علياً فنحر ما غبر"؛ أي: ما بقي، والباقي كان سبعةً وثلاثين تمام المئة.

"وأشركه"؛ أي: النبيُّ عليه الصلاة والسلام علياً "في هديه"؛ أي: أعطاه بعض الهدايا لينحره عن نفسه؛ لأنَّه لم يكن له هديٌ في تلك الحجة.

"ثم أمر من كل بدنة ببَضعة" بفتح الباء الثَّانية؛ أي: بقطعة من اللحم.

"فجعلت في قِدْرٍ فطُبخت، فأكلا من لحمها" الضمير يعود إلى القِدْرِ، ويحتمل أن يعود إلى الهدايا.

"وشربا من مرقها" يدل على جواز الأكل من هدي التطوع.

"ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت"؛ أي: مشى إلى الكعبة لطواف الفرض.

"فصلَّى بمكة الظهر فأتى عليّ بني عبد المطّلب"؛ يعني: عباس بن

ص: 266

عبد المطّلب ومتعلَّقيه.

"وهم يسقون على زمزم"؛ أي: ينزعون الماء من بئر زمزم ويسقون النَّاس.

"فقال: انزعوا بني عبد المطّلب، بحذف النداء، دعاء لهم بالقوة على النزع والاستقاء، يريد أن هذا العمل - أي: النزع - عمل صالح مرغوب فيه لكثرة ثوابه.

"فلولا أن يغلبكم النَّاس على سقايتكم"؛ يعني: لولا مخافةُ كثرة الازدحام عليكم بحيث يؤدي إلى إخراجكم عنه رغبة في النزع "لنزعت معكم، فناولوه"؛ أي: أعطوه "دلواً فشرب منه" فصار الشرب منه سنةً.

* * *

1842 -

وقالت عائشة رضي الله عنها: خَرَجْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَداعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، ومِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، فلمَّا قَدِمْنا مَكَّةَ فقالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ ولَمْ يُهْدِ فَلْيَحْلِلْ، ومَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وأَهْدَى فَلْيُهِلَّ بالحَجِّ مَعَ العُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُما".

وفي روايةٍ: "فلا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ بنحْرِ هَدْيهِ، ومَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَلْيُتمَّ حَجَّهُ".

وقالَتْ: فَحِضْتُ، ولَمْ أَطُفْ بالبَيْتِ، ولا بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فَلَمْ أَزَلْ حائِضاً حتَّى كانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، ولَمْ أُهِلَّ إلَّا بِعُمْرَةٍ، فَأمَرَني النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أنْقُضَ رَأْسي وأَمْتَشِطَ، وأُهِلَّ بالحَجِّ، وأترُكَ العُمْرَةَ، فَفَعَلْتُ حتَّى قَضَيْتُ حَجَّتي، بَعَثَ مَعِي عَبْدَ الرَّحمن بن أَبي بَكْر، وأَمَرَني أَنْ أَعْتَمِرَ مَكانَ عُمْرَتي مِنَ التَّنْعِيم، قالت: فَطَافَ الذينَ كانُوا أَهَلوا بالعُمْرَةِ بالبيتِ وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ،

ص: 267

ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافاً بَعْدَ أنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وأَمَّا الذينَ جَمَعُوا الحَجَّ والعُمْرَةَ فإِنَّما طافوا طَوَافاً واحِداً.

"وقالت عائشة رضي الله عنها: خرجنا مع النَّبيّ عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، فمنا من أهلَّ بعمرة، ومنا من أهل بحجة، فلما قدمنا مكّة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهل بعمرة ولم يُهْدِ"؛ أي: لم يكن معه هديٌ "فليَحْلِلَ، ومن أحرم بعمرةٍ وأهدى"؛ أي: كان معه هدي "فليُهِلَّ بالحج مع العمرة"؛ أي: فليُدْخِل الحجَّ في العمرة ليكون قارناً.

"ثم لا يَحِلَّ حتَّى يَحِلَّ منهما"؛ يعني: لا يَخْرُج من الإحرام ولا يَحِلُّ له شيء من المحظورات حتَّى يُتم أفعال الحج والعمرة جميعًا.

"وفي رواية: فلا يحلَّ حتَّى يحلَّ بنحر هديه"؛ أي: حتَّى يأتي يوم العيد، فإنَّه لا يجوز نحر الهدي قبله، "ومن أهل بحج فليتم حجه".

"قالت: فحضتُ ولم أَطُفْ بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فلم أزل حائضاً حتَّى كان يوم عرفة ولم أُهلَّ إلَّا بعمرة، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنقض رأسي وأمتشط"؛ أي: أمرني أن أخرج من إحرام العمرة، وأتركها باستباحة المحظورات من التمشُّط وغيره؛ لعدم القدرة على الإتيان بأفعالها بسبب الحيض".

"وأهلَّ بالحج"؛ أي: أمرني أن أُحرم بالحج "وأترك العمرة، ففعلت حتَّى قضيت حجي فبعث معي عبد الرحمن بن أبي بكر وأمرني أن أعتمر مكان عمرتي"؛ أي: بدلها، نصبٌ على المصدر.

"من التنعيم": موضع قريبٌ من مكَّة بينها وبينه فرسخ، وبهذا تمسُّك أبو حنيفة رحمه الله.

وقال الشَّافعي: ليس معناه أنه عليه الصلاة والسلام أمرها بترك العمرة

ص: 268

رأساً، بل أمرها بترك أفعال العمرة من الطواف والسعي وإدخال الحج في العمرة لتكون قارنة، وأمَّا عمرتُها بعد الفراغ من الحج فكانت تطوُّعاً لتطييب نفسها؛ لئلا تظن لحوق نقصانٍ بترك أعمال عمرتها.

"قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة"؛ أي: الذين أفردوا العمرة عن الحج.

"بالبيت وبين الصفا والمروة"؛ يعني: طافوا طوافاً للعمرة.

"ثم حلُّوا، ثم طافوا طوافاً، للحج في يوم النحر.

"بعد أن رجعوا من منى" إلى مكّة.

"وأمَّا الذين جمعوا الحج والعمرة فإنَّما طافوا طوافاً واحدًا" يوم النحر لهما جميعاً، وعليه الشَّافعي، وعندنا: يلزم القارنَ طوافان: طوافٌ قبل الوقوف بعرفة للعمرة، وطوافٌ بعده للحج.

* * *

1843 -

وقال عبد الله بن عُمر: تَمَتَّعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَداعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجَّ، فساقَ مَعَهُ الهَدْيَ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وبدأَ فَأَهَلَّ بالعُمْرَة، ثُمَّ أَهَلَّ بالحَجِّ فتمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، فكانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، ومِنْهُم مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قال للنَّاسِ:"مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فإنَّهُ لَا يَحِلُّ من شيءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضيَ حَجَّهُ، ومَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بالبَيْتِ وبالصَّفَا والمَرْوَةِ وَلْيُقَصِّرْ ولْيَحْلِلْ، ثُمَّ لْيُهِلَّ بالحَجِّ، ولْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجدْ هَدْياً فَلْيَصُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ في الحَجِّ وسَبْعَةً إذا رَجَعَ إلى أهْلِهِ" فَطَافَ حينَ قَدِمَ مَكَّةَ، واَسْتَلَمَ الرُّكْنَ أوَّلَ شيء، ثُمَّ خَبَّ ثلاثةَ أطْوافٍ،

ص: 269

ومشَى أرْبعاً، فَرَكَعَ حينَ قَضَى طَوافُهُ بالبَيْتِ عِنْدَ المَقَامِ ركعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فاَنْصَرَفَ، فَأتى الصَّفَا، فطافَ بالصَّفَا والمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحِلَّ مِنْ شيءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وأَفاضَ فطافَ بالبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شيء حَرُمَ مِنْهُ، وفعَلَ مِثْلَ ما فعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَنْ ساقَ الهَديَ مِنَ النَّاسِ.

"وقال عبد الله بن عمر: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، فساق معه الهديَ من ذي الحليفة وبدأ فأهلَّ بالعمرة، ثم أهلَّ بالحج، فتمتَّع النَّاس مع النَّبيّ عليه الصلاة والسلام بالعمرة إلى الحج، فكان من النَّاس من أهدى، ومنهم من لم يهدِ، فلما قدم النَّبيّ عليه الصلاة والسلام مكّة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنَّه لا يَحِلُّ من شيء حرمَ منه حتَّى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصِّرْ ولْيَحلِلْ، ثم ليُهِلَّ بالحج ولْيُهْدِ"؛ أي: يلزمه هديُ التمتُّع لتقديمه العمرة على الحج في أشهره.

"فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيَّام في الحج" قبل يوم النحر "وسبعة إذا رجع إلى أهله".

"فطاف"؛ أي: النَّبيّ صلى الله عليه وسلم للقدوم "حين قدم مكّة، واستلم الركن"؛ أي: مسح الحجر الأسود بيده.

"ثم خب ثلاثة أطواف"؛ أي: أسرع في المشي في ثلاث مرات إظهاراً للجلادة والرجولية من نفسه ومِمَّن معه من الصّحابة؛ كيلا يظنَّ الكفار أنهم عاجزون ضعفاء.

"ومشى أربعاً"؛ أي: مشى على السكون في أربع مرات.

"فركع"؛ أي: فصلَّى "حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم

ص: 270

سلم فانصرف، فأتى الصفا، فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف (1)، ثم لم يحل من شيء حرم منه حتَّى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثل ما فعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَن ساق الهدي من النَّاس".

* * *

1844 -

وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "هذِهِ عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بِها، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ الهَدْيُ فَلْيَحِلَّ الحِلَّ كُلَّهُ، فإنَّ العُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ في الحَجَّ إلى يَوْمِ القيامَةِ".

"وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه عمرة استمتعنا بها" استَدَلَّ به مَن قال: إنه عليه الصلاة والسلام كان متمتعاً، فمعناه: أنه استمتع بأنَّ قدَّم العمرةَ على الحج، واستباح محظورات الإحرام بعد الفراغ من العمرة حتَّى يحرم بعد ذلك بالحج، ومن قال: إنه كان قارناً، أوَّلَ قولَه:(استمتعنا) بأنَّ: استَمْتَعَ من أمرتُه من أصحابي بتقديم العمرة على الحج، فأضاف فعلهم إلى نفسه لأنَّه هو الآمر.

"فمن لم يكن عنده الهدي فليَحِلَّ الحلَّ كلَّه" تأكيد له؛ أي: فليَجْعَلَ حلالاً على نفسه جميعَ ما حلَّ له قبل الإحرام بالعمرة بعد الفراغ من أفعالها.

"فإنَّ العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة"؛ يعني: إن دخولها فيه في أشهُره لا يختص بهذه السنة، بل يجوز في جميع السنين.

* * *

(1) في "ت" و "غ": "أشواط".

ص: 271