الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"فتنَسَّيْنَ الرَّحمة" بصيغة المجهول: من الإنساء، والمراد بنسيان الرحمة: نسيان أسبابها، يعني: لا تتركْنَ الذكْرَ فإنكنَّ لو تركتنَّ الذِّكْرَ لحرمتُنَّ ثوابه، فإن الله تعالى قال:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
5 - باب الاستِغفار والتَّوبة
(باب الاستغفار والتوبة)
مِنَ الصِّحَاحِ:
1662 -
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "والله إِنِّي لأَستغفِرُ الله وأتوبُ إليهِ في اليومِ أكثرَ من سَبْعينَ مرَّةً".
"من الصحاح":
" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرةً"، توبته عليه الصلاة والسلام كل يوم سبعين مرةً واستغفاره ليس لذنبٍ صَدَرَ منه؛ لأنه معصومٌ، بل لاعتقاد قصوره في العبودية عما يليق بحضرة ذي الجلال والإكرام، وحثٌّ للأمة على التوبة والاستغفار.
فإنه عليه الصلاة والسلام مع كونه معصومًا، وكونه خير المخلوقات يستغفر ويتوب إلى ربه في كل يومٍ أكثر من سبعين مرةً، فكيف بالمذنبين؟! والاستغفار: طلب المغفرة بالمقال والفِعَال جميعًا، والمغفرة من الله: أن يصون العبد من أن يمسَّه عذابٌ.
قال علي رضي الله عنه: كان في الأرض أمانان من عذاب الله، فرفع أحدهما،
فدونكم الآخر فتمسكوا به، أما المرفوع فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الباقي منهما فالاستغفار، (1) قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] * * *
1663 -
وقال "إنه لَيُغَانُ على قَلْبي، وإنِّي أَسْتَغْفِرُ الله في اليومِ مائةَ مرَّةٍ".
"وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه"؛ أي: إنَّ الشأن.
"لَيُغَان على قلبي"؛ أي: يُغَطَّى عليه، من الغَيْن وهو السَّتْر، وقوله:(على قلبي) في موضع الرفع لنيابته عن فاعل (يغان)، يعني: ليستر قلبي ويمنعه عن الحضور شيءٌ من السهو الذي لا يخلو منه البشر.
قيل: لما كان عليه الصلاة والسلام أتم القلوب صفاءً وأكثرها ضياءً، وكان لم يكن له بدٌ من النزول إلى الرُّخص، والالتفات إلى حظوظ النفس من معاشرة الأزواج والأولاد والأكل والشرب والنوم، فكان إذا تعاطى شيئًا من ذلك أسرع كدورته إلى القلب لكمال رقَّته وفَرْطِ نورانيته، فكان إذا أحسَّ بشيء من ذلك يلوم نفسه بترك كمال الحضور، ويعده تقصيرًا ويستغفر منه، ولذا قال:"وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة".
* * *
1664 -
وقال: "يا أيُّها الناسُ، توبُوا إلى الله، فإنِّي أَتوُبُ في اليومِ مائةَ مرَّةٍ".
"وعن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس! توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة".
* * *
1665 -
وقالَ فيما يَروي عن الله تعالَى أنه قال: "يا عِبَادِي!، إنِّي حرَّمْتُ الظُّلمَ على نفْسي، وجعلْتُهُ بينَكم مُحرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادي!، كلُّكُمْ ضَالٌّ إلَاّ مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُوني أَهْدِكُم، يا عِبادِي!، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَاّ مَنْ أَطعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعمُوني أُطْعِمْكُمْ، يا عِبادي!، كلُّكم عارٍ إلَاّ مَن كَسَوْتُه، فاسْتَكْسُوني أكْسُكُم، يا عِبَادي!، إنَّكم تُخْطِئونَ باللَّيلِ والنَّهارِ، وأنا أغفرُ الذُّنوب جميعًا، فاستغفروني أَغْفِرْ لكم، يا عِبَادي!، إنكم لنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فتضُرُّوني، ولنْ تَبلُغوا نفْعي فَتَنْفَعُوني، يا عِبَادي!، لو أن أوَّلَكم وآخِرَكُمْ وإنْسَكُم وجِنَّكُم كانُوا على أَتْقَى قَلْبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زادَ ذلكَ في مُلْكي شيئًا، يا عِبَادي، لو أن أَوَّلَكم وآخِرَكُم وإنْسَكْم وجِنَّكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما نقَصَ ذلكَ من ملكي شيئًا، يا عِبَادي!، لو أن أوَّلَكم وآخِرَكُم وإنسَكُم وجِنَّكم قامُوا في صَعيدٍ واحدٍ، فسأَلَوني، فأعطَيْتُ كلَّ إنْسانٍ مَسْأَلتَهُ، ما نقَصَ ذلكَ مما عِنْدي إلَاّ كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادي!، إنَّما هي أَعمالُكم أُحْصِيها علَيكُم، ثم أُوَفِّيكم إيَّاها، فمَن وجدَ خَيْراً فليَحْمَدِ الله، ومَن وجدَ غيرَ ذلك فلا يَلُومَنَّ إلَاّ نفسَه"، رواهُ أبو ذَرٍّ، وكان أبو إدريسَ الخَوْلانيُّ إذا حدَّث بهذا الحديثِ جَثَا على رُكبتيْهِ.
"وعن أبي ذر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله تعالى أنه قال: يا عبادي! إني حرَّمْتُ الظُّلم على نفسي"؛ أي: تقدستُ وتعاليتُ عن الظلم، فهو في حقِّي كالشيء المحرَّم على الناس.
"وجعلته بينكم محرماً"؛ أي: حَرَّمْتُ عليكم ومنعتكم منه شرعًا.
"فلا تَظالموا" بفتح التاء، حذفت إحدى التاءين تخفيفًا.
"ياعبادي! كلُّكم ضالٌ"، قيل المراد به: وصفهم بما كانوا عليه قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنهم خلقوا على الضلالة، والأوجه أن يراد: أنهم لو تُرِكُوا بما
في طِباعهم من الشَّهوات وإهمال النظر لضلُّوا.
"إلا من هديته، فاستهدوني أهدِكُم، يا عبادي! كلُّكم جائعٌ إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطْعِمْكُمْ، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كَسَوْتُه فاستكْسُوني أكْسُكُمْ"؛ المراد بالإطعام والكسوة: بسطهما.
"يا عبادي! إنكم تخطئون" بضم التاء، وروي بفتحها وفتح الطاء؛ أي: تذنبون.
"بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فَتَضُرُّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني"؛ أي: لا قدرة لكم على إيصال ضُرٍّ أو نفعٍ إلي، فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلها.
"يا عبادي! لو أن أوَّلكم"؛ أي: من الأموات.
"وآخركم"؛ أي: من الأحياء.
"وإنسكم وجنكم": إنما خصَّهما لاختصاص التَّكليف بهما، وتعاقب الفجور والتقوى عليهما.
"كانوا على أتقى قلب": وفيه حذف؛ أي: على تقوى أتقى قلبٍ، أو على أتقى أحوال قلب.
"رجلٍ واحدٍ منكم"؛ أي: لو كنتم على غاية التقوى.
"ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم"؛ أي: كانوا على غاية الفجور والكفر.
"ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ"، والمراد به: مقامٌ واحدٌ لأن اجتماع
السؤال فيه وازدحام أرباب الحاجات مما يدهش المسؤول عنه يبهته ويعسر إنجاح مآربهم.
"فسألوني، فأعطيت كل إنسانٍ مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَط" بكسر الميم؛ أي: الإبرة.
"إذا أُدْخِل البحر"؛ معناه: لا ينقص شيئًا، فضرب المثل بالمِخْيَط في البحر؛ لأنه غاية ما يُضْرَب به المثل في القِلَّة، والمقصود: التقريب إلى الأفهام بما شاهدوه؛ فإن البحر من أعظم المرئيات، والإبرة من أصغر الموجودات، مع أنها صقيلة لا يتعلق بها ماء، أو يقال: إنه من باب الفرض؛ يعني: لو فرض النقص في ملك الله تعالى لكان بهذا القدر.
"يا عبادي! إنما هي"؛ أي: إنما الأمر والقصة.
"أعمالكم"؛ أي: جزاء أعمالكم.
"أحصيها"؛ أي: أحفظها.
"عليكم"؛ أي: أحفظها عليكم وأكتبها؛ يعني: ما جزاء أعمالكم إلا محفوظ عندي لأجلكم.
"ثم أوفيكم إياها"؛ أي: أعطيكم جزاء أعمالكم تامًا وافيًا، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
"فمن وجد خيرًا فليحمد الله"؟؛ أي: فليعلم أنه من فضل الله؛ لأنه هو الذي وفَّقه على الطاعة والأعمال الصالحة.
"ومن وجد غير ذلك"؛ أي: شرًا.
"فلا يلومَنَّ إلا نفسَه"؛ لأنه صدر من نفسه، قيل: هذا صريحٌ في أن الخير من الله، والشر من النفس.
"وكان أبو إدريس الخولاني إذا حدَّث بهذا الحديث جثى على ركبتيه"؛ تعظيمًا له.
* * *
1666 -
وقال: "كانَ في بني إسْرائيلَ رجلٌ قَتَلَ تسْعةً وتسْعينَ إنساناً، ثم خَرَجَ يَسأَلُ، فأَتى راهِباً، فسأَلَهُ، فقالَ لَهُ: أَلي تَوبةٌ؟، قال: لا، فقتَلَهُ، وجعَل يَسأَلُ، فقالَ لَهُ رجلٌ: ائْتِ قَريةَ كذا وكذا فإنَّ فيها قوماً صالحين، فأَدْركَهُ المَوتُ في الطَّريقِ، فَنَأَى بَصَدْرِهِ نَحوَها، فاختصمَتْ فيهِ ملائكةُ الرَّحمةِ وملائكةُ العَذابِ، فَأَوْحَى الله إلى هذه: أنْ تَقَرَّبي، وإلى هذه: أنْ تَبَاعِدي، وقال: قِيسُوا ما بينَهما، فَوُجِدَ إلى هذه أقربَ بشبرٍ، فَغُفِرَ لهُ".
"عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً، ثم خرج": من بينهم يتردد و "يسأل" الناس قبول توبته بعد أن قتل تسعةً وتسعين إنسانًا.
"فأتى راهبًا فسأله فقال: أله"؛ أي: ألهذا الفعل "توبة؟ "، ويروى:(هل لي توبة؟).
"فقال"؛ أي: الراهب في جوابه: "لا"؛ أي: لا تقبل توبتك.
"فقتله"؛ أي: الرجل ذلك الراهب.
"وجعل يسأل فقال له رجلٌ: ائت قرية كذا وكذا"؛ أي: القرية الفلانية؛ فإنَّ فيها من يفتيك، فقصد تلك القرية.
"فأدركه الموت" قبل أن يصلها.
"فناى بصدره نحوها"؛ أي: نهض به عن القرية الأولى، وأقبل بوجهه إلى القرية التي قصدها للتوبة، (النوء): النهوض بكدِّ ومشقةٍ.
"فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب"؛ يعني: قالت ملائكة الرحمة: نحن نذهب به إلى الرحمة؛ لأنه تائبٌ لتوجهه إلى هذه القرية للتوبة، وقالت ملائكة العذاب: نحن نذهب به إلى العذاب؛ لأنه قتل مئة نفسٍ ولم يتب بعد.
"فأوحى الله تعالى"؛ أي: أمر.
"إلى هذه"؛ أي: إلى القرية التي قصدها للتوبة.
"أن تقرَّبي": من هذا الميت؛ لتكون المسافة بينه وبينك أقل.
"وإلى هذه"؛ أي: القرية التي قتل فيها الراهب.
"أن تباعدي"؛ لتكون المسافة بينه وبينك أبعد.
"وقال"؛ أي: الله تعالى: (قيسوا ما بينهما)؛ أي: قدِّروا وانظروا إلى أيتهما أقرب.
"فَوُجِد إلى هذه"؛ أي: إلى القرية التي قصدها للتوبة.
"أقرب بشبرٍ، فغفر له"، وهذا يدل على غاية سعة رحمة الله لطالب التوبة من الذنب، ونهاية عنايته به، رزقنا الله ذلك بلطفه.
* * *
1667 -
وقال: "والذي نفْسي بيدِهِ لِو لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ الله بكم، ولَجَاءَ بقَومٍ يُذْنِبُونَ، فيستغفِرُونَ الله، فيغفِرُ لهم".
"عن أبي هريرة وأبي أيوب رضي الله عنهما أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لو لم تُذْنِبوا لَذَهَبَ الله بكم": الباء للتعدية.
"ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم"، فيه تحريضٌ على استيلاء الرجاء على الخوف.
* * *
1668 -
وقال: "إنَّ الله يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيلِ لِيتوبَ مُسِيءُ النهارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهارِ لِيتَوبَ مُسيءُ اللَّيلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمسُ مِن مَغْرِبها".
"عن أبي موسى أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يَبْسُطُ يده بالليل ليتوب مُسِيءُ النهار، ويبسُطُ يده بالنهار ليتوب مُسِيءُ الليل حتى تَطْلُعَ الشَّمس من مغربها"، (يبسط يده) تعالى: كنايةٌ عن التوسع في الجود، والاغتناء بتوبة العباد، وكثرة تجاوزه عن الذنوب؛ أي: لا يعاجلهم بالعقوبة بل يمهلهم ليتوبوا، أو عن طلب التوبة لجريان العادة عند طلب أحدٍ من أحدٍ شيئًا أن يبسط يده إليه؛ أي: يدعو المذنبين إلى التوبة.
* * *
1669 -
وقال: "مَن تابَ قبلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمسُ مِنْ مَغرِبها تابَ الله عليهِ".
"عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ العبدَ إذا اعترَفَ"؛ أي: أقرَّ بكونه مُذنبًا وعَرَفَ ذَنْبَه.
"ثم تاب"؛ أي: ندم على ما فعل من الذنوب الماضية، وعزم فيما بعد ذلك أن لا يعود إلى الإذناب.
"تاب الله عليه"؛ أي: قَبِلَ توبته، وتجاوز عن سيئاته.
* * *
1670 -
وقال: "إنَّ العَبْدَ إذا اعتَرفَ، ثمَّ تابَ؛ تابَ الله عليهِ".
"عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه"، مفهوم هذا الحديث وأشباهه: يدل على أن
التوبة لا تقبل بعد طلوع الشمس من المغرب إلى يوم القيامة.
وقيل: هذا مخصوصٌ لمن شاهد طلوعها، فمن وُلِدَ بعد ذلك أو بَلَغَ وكان كافراً فآمن، أو مذنبًا فتاب يُقْبَل إيمانه وتوبته لعدم المشاهدة.
* * *
1671 -
وقال: "لَلَّهُ أَشدُّ فَرَحًا بتوبةِ عبْدِهِ حينَ يَتُوبُ إليه مِن أَحدِكم كانَ مَعَهُ راحلَتُهُ بأَرضٍ فَلَاةٍ، فانفلَتَتْ منهُ، وعليها طَعامُهُ وشرابُهُ، فأَيسَ منها، فأَتَى شجرةً، فاضطَجَعَ في ظِلِّها قد أَيسَ مِنْ راحِلَتِهِ، فبَينَما هوَ كذلك إذ هُوَ بها قائمةً عندَهُ، فأَخَذَ بخِطَامِها، ثم قالَ مِن شدَّة الفَرَحِ: اللهمَّ أنتَ عَبْدي، وأنا ربُّكَ، فأَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفرَحِ".
"وعن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَلَّه" بفتح اللام، للابتداء أو القسم.
"أشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه"، (الفرح): كنايةٌ عن الرضاء وسرعة القبول؛ أي: أرضى وأقبل لها.
"من أحدكم"؛ أي: من فرح أحدكم.
"كان [على] راحلته بأرضٍ فلاة"؛ أي: مفازة بعيدة من الأُنْسِ والعَمَارة.
"فانفلتت"؛ أي: نَفَرَتْ.
"عنه وعليها طعامه وشرابه"؛ يعني: زاده وماؤه على ظهرها.
"فَأَيسَ منها"؛ يعني: كان حزنه على غاية الشِّدة بذهاب الرَّاحلة وخوف نفسه من عدم الزاد والماء.
"فأتى شجرةً فاضطجع في ظلها، قد أَيسَ من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها"؛ أي: الرجل حاضر بتلك الرَّاحلة حال كونها "قائمة عنده"، من غير
طَلَبٍ ولا تَعَبٍ.
"فأخذَ بِخِطامِها"؛ أي: بِزِمَامِها.
"ثم قال من شِدَّة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شِدَّة الفرح"؛ يعني: أراد أن يحمد الله بما أنعم عليه من ردِّ راحلته فسَبَقَ لسانه.
* * *
1672 -
وقال: "إنَّ عَبْداً أَذْنَبَ ذَنْباً، فقالَ: ربِّ! أذَنبْتُ ذنْبًا، فاغفِرْهُ، فقالَ ربُّه: أَعَلِمَ عَبْدي أن لهُ ربًّا يغْفِرُ الذَّنبَ ويأخذُ بِهِ؟، غفرتُ لعَبْدي، ثم مكَثَ ما شاءَ الله، ثم أَذْنَبَ ذَنْبًا، فقال: ربِّ! أذنبتُ ذَنْبًا آخر، فاغفِرْهُ لي، فقالَ: أَعَلِمَ عَبْدي أن لهُ ربًّا يغفِرُ الذَّنبَ، ويأْخذُ بِهِ؟، قد غَفَرتُ لعَبْدي، ثمَّ مكَثَ ما شاءَ الله، ثم أَذنَبَ ذَنْبًا، فقال: ربِّ! أذنَبْتُ ذنبًا آخرَ، فاغفرْهُ لي، فقالَ: أَعَلِمَ عبدي أن لَهُ ربًّا يغفرُ الذَّنْبَ ويأخذُ به؟، غفرتُ لعبدي، فليَعْمَلْ ما شاء".
"وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عبدًا أذنب ذنبًا فقال: ربِّ! أذنبْتُ ذنبًا فاغفره لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربًا يغفر الذنوب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا، فقال: ربِّ! أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي، فقال: أعلم عبدي أن له ربًا يغفر الذنوب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا فقال: ربِّ! أذنبت ذنبًا آخر فاغفره لي، فقال: أعلم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي فليعمل ما شاء"؛ أي: من الذنوب التي بينه وبيني مما لا يتعلق بحقوق العباد، ثم لِيَتُبْ، وهذه الصيغة للتَّلطف وإظهار العناية والشفقة؛ أي: إن فَعَلْتَ أضعافَ ما كنْتَ تفعل واستغفرْتَ منه، غفرْتُ لك، فإني أغفرُ الذُّنوب جميعًا، ما دمْتَ
تتوب عنها وتستغفر، ولكن ذلك مشروطٌ بأن تكون نيته أن لا يعود إلى الذَّنب.
* * *
1673 -
عن جُنْدُبٍ رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حدَّثَ: "إنَّ رجُلًا قال: والله لا يغفرُ الله لفُلانٍ، وإنَّ الله قالَ: مَنْ ذَا الذي يتَأَلَّى عليَّ أَنِّي لا أَغفِرُ لفُلانٍ؟! فإنِّي قد غفَرتُ لفلانٍ، وأحبَطْتُ عَمَلَكَ"، أو كما قال.
"عن جندب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّث: أن رجلًا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله قال: مَنْ ذَا الذي يَتَأَلَّى عليَّ"؛ أي: يحلف باسمي.
"أني لا أغفر لفلانٍ؟ فإني قد غفرْتُ لفلانٍ وأحبطْتُ عملَك"؛ أي: أبطلت قَسَمَك وجعلته كذبًا أيها الحالف، أني لا أغفر لعبدي فلان، قد غفرت له على خلاف زعمك وأدخلته الجنة على رغمك.
"أو كما قال"؛ أي: الرسول عليه الصلاة والسلام من هذه الألفاظ، أو شيءٍ معناه هذا.
* * *
1674 -
وقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "سيدُ الاستِغفارِ أنْ تقولَ: اللهمَّ أنتَ ربي، لا إلهَ إلَاّ أنت، خَلَقْتَني، وأنا عبدُك، وأنا على عَهْدِكَ ووَعْدِكَ ما استَطَعْتُ، أَعُوذُ بكَ مِن شَرِّ ما صَنَعتُ، أَبُوءُ لكَ بنعْمتِكَ عليَّ، وأَبُوءُ بذَنْبي، فاغفِرْ لي، فإنَّه لا يغفرُ الذُّنوبَ إلَاّ أنتَ، قالَ: ومَن قالَها مِن النَّهارِ مُوْقِنًا بها، فماتَ مِن يَومِه قبلَ أنْ يُمسيَ فهوَ مِن أهلِ الجنَّةِ، ومَن قالَها مِن اللَّيلِ وهو مُوقنٌ بها، فماتَ قبلَ أنْ يُصْبحَ فهو مِن أهلِ الجنَّة".
"عن شدَّاد بن أَوْسٍ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيد الاستغفار أن تقول: اللهمَّ! أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك
ووعدك"؛ أي: أنا مُقِيْمٌ على الوفاء بما عاهدتني في الأزل من الإقرار بربوبيتك، ومُوْقنٌ بما وعدتني من البعث والنَّشْر وأحوال القيامة، والثواب والعقاب.
"ما استطعت": إشارة إلى الاعتراف بالعجز والقصور عن كُنْهِ الواجب من حقِّ طاعته؛ أي: لا أقدر أن أعبدك كما تحب وترضى، ولكن أجتهد بقدر طاقتي.
"أعوذ بك من شرِّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي"، أصل (البَوْء): اللزوم؛ أي: أقرُّ لك بما أنعمت عليَّ، وأعترف بما اجترحْتُ من الذنوب.
"فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ومن قالها من النهار موقنًا [بها] ": نصبٌ على الحال؛ أي: اعتقادًا بها.
"فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة"؛ يعني: يموت مؤمنًا يدخل الجنة لا محالة.
* * *
مِنَ الحِسَان:
1675 -
قال: "قالَ الله تعالى: يا ابن آدمَ! إنَّكَ ما دَعَوْتَني ورَجَوْتَني غَفَرتُ لكَ على ما كانَ فيكَ، ولا أُبالي، يا ابن آدمَ! لو بلغَتْ ذُنوبُك عَنانَ السَّماءِ لم استغفرتَني غفَرتُ لكَ، ولا أُبالي، يا ابن آدمَ! إنَّك لو أَتيتَني بقُرابِ الأَرضِ خَطايا، ثم لَقِيْتَني لا تُشرِكُ بي شيئًا لأَتيتُكَ بقُرابها مغفرةً"، غريب.
"من الحسان":
" عن أبي ذرٍ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: يا ابن آدم!
إنَّك ما دعوتَني ورجوتَني"؛ أي: ما دمت تَدْعوني وترجو مَغفِرَتي ولا تقنُطُ من رحمتي.
"غفرتُ لك على ما كان فيك" من الذنوب.
"ولا أبالي"؛ أي: لا يعظمُ علي مغفرتُك، وإن كانت ذنوبك كثيرةً.
"يا ابن آدم! لو بلغتْ ذنوبك عَنان السماء" بفتح العين: وهو ما ظهر لك منها إذا رفعتَ رأسك إلى السماء، ويروى:(أعنانَ السماء)، أي: نواحيها، يعني: لو كانت ذنوبك بحيث تملأ ما بين الأرض والسماء.
"ثم استغفرتني": وتبتَ إليَّ منها.
"غفرتُ لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو لقيتَني بقُراب الأرض" بضم القاف وكسرها والضم أشهر؛ أي: بملئها "خطايا"، في تقدير النصب على التمييز مِن قراب الأرض.
"ثم لقيتَني لا تشركُ بي شيئًا لأتيتُك بِقرَابها مغفرةً"، تمييز أيضًا.
"غريب".
* * *
1676 -
وقال: "مَن عَلِمَ أَنِّي ذُو قُدرةٍ على مَغفرةِ الذُّنوبِ غَفَرتُ لهُ، ولا أُبالي، ما لم يُشركْ بي شَيئًا".
"عن ابن عباسٍ أنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: مَن علمَ أني ذو قدرةٍ على مغفرةِ الذنوب غفرتُ له ولا أبالي ما لم يشركْ بي شيئًا"، وهذا يشير إلى أن اعتراف العبدِ يكون سببًا لغفران الذنوب.
* * *
1677 -
وقال: "مَن لَزِمَ الاستِغفارَ جعَلَ الله لهُ من كلِّ ضيْقٍ مَخْرَجًا، ومِن كلِّ همٍّ فَرَجًا، ورَزَقَه مِن حيثُ لا يحتَسِبُ".
"وعن عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ لَزِمَ الاستغفارَ"؛ أي: داوَمَ عليه.
"جعلَ الله له مِن كلِّ ضيقٍ مَخرجًا"؛ أي: طريقًا يُخرجه من كلِّ أمرِ عسير.
"ومِن كل هَمٍّ فرَجًا"؛ أي: خلاصًا.
"ورزَقَه مِن حيثُ لا يحتسب"؛ أي: من حيث لا يرجو ولا يخطر بباله.
* * *
1678 -
وقال: "ما أَصَرَّ مَن استَغفرَ وإنْ عادَ في اليومِ سَبْعينَ مرَّةً".
"وعن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أَصَرَّ مَن استغفر"، الإصرار: الثبات والدوام على المعصية، يعني: من عملَ معصيةً ثم استغفر فندم على ذلك خرجَ عن كونه مُصِراً.
"وإن عاد" إلى الذنب "في اليوم سبعين مرةً"؛ لأن المُصِرَّ هو الذي لم يستغفر ولم يندَم على الذنب.
* * *
1679 -
وقال: "كلُّ بنيْ آدمَ خَطَّاءٌ، وخَيْرُ الخَطَّائينَ التوَّابُونَ".
"وعن أنسٍ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ"؛ أي: كثير الخطأ.
"وخير الخَطَّائين التَّوَّابون"، قيل: هذا يعمُّ جميعَ بني آدم حتى الأنبياء،
لكنهم خارجون من هذا الحديث؛ لكونهم معصومين، وأمَّا الزَّلات المنقولةُ عن بعضهم فتُحْمَل على الخطأ والنسيان من غير أن يكونَ لهم قصدُ إلى الزلة.
* * *
1680 -
وقال: "إنَّ المُؤمنَ إذا أذنَبَ كانتْ نُكتةٌ سَوداءُ في قَلْبهِ، فإنْ تابَ، واستَغْفرَ صُقِلَ قلْبُه، وإنْ زادَ زادَتْ حتى تَعْلُوَ قلْبَه، فذلِكُم الرَّانُ الذي ذكرَ الله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} ، صحيح.
"وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمنَ إذا أذنبَ كانتْ، (كان) تامةٌ هنا بمعنى حدَثَ، أنَّثها لتأنيث ما دل عليه (أذنب)، على تأويل السيئة، يعني: أنه إذا أتى بالذنب حَدَثتْ "منه نكتةٌ"؛ أي: أثرٌ.
"سوداءُ في قلبه": كقطرةِ مدادٍ تقطُرُ في القرطاس.
"فإن تاب واستغفر صُقِلَ قلبُه"؛ أي: أُزيلت تلك النكتة عن قلبه.
"وإن": لم يتُبْ، بل "زادَ" الذنبَ "زادت" النكتة، ويظهر لكل ذنب نكتةٌ.
"حتى تعلوَ قلبَه"؛ أي: تغطِّي تلك النكت نورَ القلب فيَعمى، ولا يبصر شيئًا من العلوم والحِكَم، ولا يَفْهم خيرًا، ويزول عنه الشفقة والرحمة، ويثبت في قلبه الظلمُ والفِتَن، وإيذاء الناس، والجُرْأة على المعاصي.
"فذلكم الرَّان"، الخطاب للصحابة، يعني: أخاطِبُكم وأُخْبِركم بأن سَتْرَ تلك النكتِ نورَ القلب هو الرَّان.
"الذي ذكرَ الله تعالى في قوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14] ".
هذه الآية مذكورةٌ في حقِّ الكفار، ولكن ذكرها صلى الله عليه وسلم تخويفًا للمؤمنين لكي
يحتَرِزُوا عن كثرة الذنوب؛ كيلا تَسْوَدَّ قلوبُهم كما اسودَّت قلوبُ الكفار.
"صحيح".
* * *
1681 -
وقال: "إنَّ الله يَقْبَلُ توبةَ العَبْدِ ما لم يُغَرْغِرْ".
"عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله يقبلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغَرْغِر"؛ أي: ما لم تبلغ روحه حلقومَه، جُعل ابتداءُ قَبْضِ الروحِ من الرِّجل؛ ليبقى القلب واللسان ذاكرًا، وليتوب إلى الله مَتابًا، ويستحلَّ من الناس عن المظالم والغِيبة، وليوصيَ بالخير آخرَ عَهْده.
* * *
1682 -
وقال: "إنَّ الشَّيطانَ قال: وَعِزَّتِكَ يا ربِّ، لا أَبْرحُ أُغْوي عبادَكَ ما دامَتْ أرواحُهم في أَجْسادِهم، فقالَ الربُّ عز وجل: وعِزَّتي وجَلالي، وارتفاعِ مكاني، لا أَزالُ أَغفِرُ لهم ما استَغْفرُوني".
"عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه أنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطانَ قال: وعِزَّتِك يا ربِّ لا أَبْرحُ"؛ أي: لا أزال أبدًا "أُغْوِي عبادَك"؛ أي: أُضلُّهم وآمرهم بالكفر والعصيان.
"ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الربُّ عز وجل: وعِزَّتي وجلالي وارتفاعِ مكاني"، المراد به ارتفاعُ المكانة والمرتبةَ.
"لا أزال أغفِر لهم ما استغفروني".
* * *
1683 -
وقال: "إنَّ الله تعالى جعَلَ بالمَغربِ بابًا عَرْضُه مَسِيْرةُ سَبْعينَ عامًا للتَّوبةِ، لا يُغْلَقُ ما لم تَطْلُعِ الشَّمسُ مِن قِبَلِهِ، وذلكَ قولُه تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} ".
"عن صفوانَ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى جعلَ بالمغرب بابًا عرضُه مسيرةُ سبعين عامًا"، مبالغةً في التوسعة.
"للتوبة"؛ يعني: يدخلُ توبة التائبين في ذلك الباب، فمن مات قبل غلقه قُبلت توبتُه.
"لا يغلق" ذلك الباب "ما لم تطلع الشمس مِن قِبَلهِ"؛ أي: من جانب الباب.
"وذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} "؛ أي: بعض العلامات التي يظهرها ربك إذا قَرُبَت القيامة.
{لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 158].
* * *
1684 -
وقال: "لا تَنْقطِعُ الهِجْرةُ حتى تَنقطِعَ التَّويةُ، ولا تَنْقَطِعُ التَّويةُ حتى تطلعَ الشمسُ مِن مغربها".
"وعن معاويةَ رضي الله عنه أنه قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تنقطعُ الهجرةُ حتى تنقطعَ التوبةُ"؛ أراد بالهجرة هنا: الانتقال من الكفر إلى الإيمان، ومن دار الشرك إلى دار الإسلام، ومن المعصية إلى التوبة.
"ولا تنقطعُ التوبةُ حتى تطلعَ الشمسُ من مغربها".
* * *
1685 -
وقال: "إنَّ رجلَينِ كانا في بنيْ إسرائيلَ مُتحابَّيْنِ، أحدُهما مُجتهِدٌ في العِبادَةِ والآخرُ مُذْنِبٌ، فجعَلَ المُجتهِدُ يقولُ: أَقْصِرْ عمَّا أنتَ فيهِ، فيقولُ: خَلِّني وَرَبي، حتى وجَدَهُ يومًا على ذنْبٍ استعظمَهُ، فقال: أَقْصِرْ، فقالَ: خَلِّني وَرَبي، أَبُعِثتَ عليَّ رَقِيبًا؟ فقال: والله لا يغْفِرُ الله لكَ أبدًا، ولا يُدْخِلُكَ الجنَّةَ، فبعثَ الله إليهما مَلَكًا، فقبَضَ أَرواحَهما، فاجتمعا عنْدَه، فقالَ للمُذنِبِ: اُدخُلْ الجنَّةَ برحمتي، وقالَ للآخرِ: أتَستطِيعُ أنْ تَحْظُرَ على عَبْدي رحمتي؟ فقالَ: لا يا ربِّ، قال: اذهبُوا بهِ إلى النارِ".
"وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابَّين"؛ أي: تجري بينهما المودة والمحبة.
"أحدُهما مجتهدٌ بالعبادة"؛ أي: مبالغٌ فيها، "والآخر يقول: مذنب"؛ أي: أنا مذنبٌ.
"فجعل"؛ أي: طَفِقَ "المجتهدُ يقول" للمذنب: "أقصر"؛ أي: امتنع "عما أنت فيه" من الذنب.
"فيقول"؛ أي: المذنب: "خَلِّني وربِّي"؛ أي: اتركني معه فإنه غفور رحيم.
"حتى وجده يومًا"؛ أي: المجتهدُ المذنبَ "على ذنبٍ استعظَمه" المجتهدُ.
"فقال: أقصِرْ، قال: خَلِّني وربي، أَبُعِثْتَ، استفهام بمعنى الإنكار؛ أي: أُرْسِلْتَ "عليَّ رقيبًا؟ "؛ أي: حافظًا، يعني: ما أمرك الله أن تحفظَني.
"فقال:"؛ أي: العابدُ للمذنب.
"والله لا يغفرُ الله لكَ أبدًا"؛ لأنك مذنِبٌ.
"ولا يُدْخِلُكَ الجَنَّة، فبعث الله تعالى إليهما مَلَكًا فقبض أرواحَهما
فاجتمعَا عنده"؛ أي: أُحيَيا بعد الموت كما يُحْيىَ سائرُ الأموات في القبور لجواب المنكر والنكير.
"فقال للمذنب: ادخل الجَنَّة برحمتي"، أنا عند ظن عبدي بي، فإذا ظننتَني غفورًا رحيمًا فقد غفرت لك ورحمتك.
"وقال للآخر: أتستطيع أن تحظُرَ"؛ أي: تمنعَ وتُحرِّم "على عبدي رحمتي، فقال: لا يا رب! فقال: اذهبوا به إلى النار"، إدخاله النار كان مجازاةً له على قَسَمِه بأن الله لا يغفر للمذنب ذنبَه؛ لأنه جعل الناسَ آيسين من رحمة الله، وحَكَمَ بأن الله غير غفور.
* * *
1686 -
عن أَسْماءَ بنتِ يَزيْدَ قالَتْ: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ، وَلا يُبالي"، غريب.
"وعن أسماءَ بنت يزيدَ رضي الله عنها أنها قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقول الله تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا} "؛ أي: لا تقولوا: نحن منقطعون محرومون {مِنْ رَحْمَةِ اللَّه} ؛ بكثرة ذنوبنا، بل ينبغي أن تكونوا في الرجاء.
" {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}، ولا يبالي" بغفرانها جميعًا؛ لأنه غفورٌ رحيم.
"غريب".
* * *
1687 -
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما في قوله: {إِلَّا اللَّمَمَ} : قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"إنْ تَغْفِرِ اللهمَّ تَغفِرْ جَمًّا. . . وأَيُّ عَبْدٍ لكَ لا أَلَمَّا"، غريب
"وعن ابن عباس رضي الله عنه: في قوله تعالى: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} [النجم: 31 - 32] ": كبائر الإثم: كل ذنبٍ فيه حَدٌّ، والفواحش: الزنا خاصةً.
{إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32]، بفتح اللام؛ أي: الصغائر، يعني: ويجزي المحسِنين المجتنِبين كبائرَ الإثم والفواحش إلا اللَّمَمَ، فإنهم لا يقدِرون أن يجتنبوها؛ لأن الأمم غير معصومين عنها، فإنها تُغفَرُ لهم بالتوبة والطاعة.
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تَغْفِرِ اللهم تغفِرْ جَمًّا"؛ أي: كثيرًا، يعني: إن تغفر ذنوبَ عبادِك فقد غفرتَ ذنوبًا كثيرةً، فإنَّ جميعَ عبادِك كلهم خطَّاؤون.
"وأي عبدٍ لكَ لا ألمَّا": يقال: ألمَّ إذا فعل اللَّمَم، وهذا البيتُ من أشعار أمية بن الصَّلْت قرأه رسول الله عليه الصلاة والسلام استشهادًا بأن المؤمن لا يخلو من اللَّمَم.
"غريب".
* * *
1688 -
عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يقولُ الله تعالى: يا عبادِي!، كلُّكم ضالٌّ إلَاّ مَنْ هَدَيْتُهُ، فَسَلوني الهُدَى أَهْدِكم، وكلُّكم فُقراءُ إلَاّ مَن أَغْنَيتُ، فَسَلُوني الرِّزْقَ أَرزُقْكم، وكلكُّم مُذنِبٌ إلا مَنْ عافَيْتُ، فمَن عَلِمَ منكم أني ذُو قُدرةٍ على المغفرةِ فاستغفرَني غَفَرتُ لهُ، ولا أبالي، ولو أن أَوَّلَكم وآخِرَكم، وحَيَّكم وميتكم، ورَطْبَكم ويابسَكم، اجتمعُوا على أتْقَى قلْبِ عبدٍ مِن عِبَادي ما زادَ ذلكَ في مُلْكي جَناحَ بعَوضَةٍ، ولو أن أوَّلَكم
وآخِرَكم، وحَيَّكم ومَيتَكم، ورَطْبَكم ويابسَكم اجتمعُوا على أشقَى قلْبِ عبْدٍ مِن عبادي ما نقصَ ذلكَ من مُلْكي جَناحَ بَعُوضَةٍ، ولو أن أوَّلَكم وآخِرَكم، وجِنَّكُم وإنْسَكم، ورَطْبَكم ويابسَكم اجتمعُوا في صَعيدٍ واحدٍ، فسأَلَ كلُّ سائلٍ مِنكم ما بلغَتْ أُمنيَّتهُ، فأَعطيتُ كلَّ سائلٍ منكم مَسْأَلتَهُ ما نقَصَ ذلكَ مِن مُلْكي إلَاّ كما لو أن أحدَكم مَرَّ بالبَحْرِ، فغَمَسَ فيه إبرْةً، فَرفَعَها، ذلكَ بأَنِّي جَوادٌ ماجدٌ، أَفْعلُ ما أُريدُ، عطائي كلامٌ، وعَذابي كلامٌ، إنَّما أمري لشيءٍ إذا أردْتُ أنْ أقولَ لهُ: كُنْ، فيكونُ".
"وعن أبي ذرٍ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: يا عبادي! كلُّكم ضالٌّ إلا مَن هديتُه، فاسألوني الهدى أَهْدِكم، وكلُّكم فقراءُ إلا من أغنيت فاسالوني الرِّزْق أَرْزُقْكم، وكلكم مذنبٌ إلا مَن عافيتُ"؛ أي: إلا مَن أعْصِمُه من الأنبياء والصِّدِّيقين، فوضَع (عافيتُ) موضعَ (عَصَمْتُ)؛ ليشعر بأن الذنب مرضٌ ذاتيٌّ، وصِحَّتُه عصمةُ الله تعالى منه.
"فمن عَلِمَ منكم أني ذو قدرةٍ على المغفرةِ فاستغفرَني غفرتُ له ولا أُبالي، ولو أن أَوَّلَكم وآخرَكم وحيَّكم وميتَكم ورَطْبَكم ويابسَكم"؛ أراد بالرَّطْب: الصغائر، وباليابس: الكبائر، أو بالرَّطْب: الشجر، وباليابس: المَدَرَ والحَجَر، أو البحر والبر؛ أي: أهلَهما؛ أي: لو صار كل ما في البحر والبر من الشجر والحجَر والمَدَر والحيتان آدميًا.
"اجتمعُوا على أتقى قلبِ عبدٍ من عبادي ما زادَ ذلك في مُلكي جناحَ بعوضةٍ"، وقيل: جاز أن يرادَ برطْبكم ويابسكم: عالِمُكُم وجاهِلُكم، أو شابُّكم وشيخكم، أو مطيعُكم وعاصيكم.
"ولو أن أولَكم وآخرَكم وحيَّكم وميتكم ورطْبَكم ويابسَكم اجتمعوا على أشقى قلب عبدٍ من عبادي ما نقصَ ذلك من ملكي جناحَ بعوضةٍ، ولو أن
أولَكم وآخرَكم وحيَّكم وميتكم ورطْبَكم ويابسَكم اجتمعوا في صعيدٍ واحدٍ"؛ أي: في أرضٍ.
"فسألَ كلُّ إنسانٍ منكم ما بلغتْ أُمنيته"، بضم الهمزة: هو اشتهاء النفس وإرادتها، يعني: كل حاجةٍ تَجري في خاطره.
"فأعطيتُ كل سائلٍ منكم مسألته ما نقصَ ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمَس"، بفتح الميم؛ أي: أدخلَ"فيه إبرةً ثم رفعَها، ذلك": إشارة إلى قضاء الحوائج.
"بأني جوادٌ"؛ أي: بسبب أني كثيرُ الجُود والكَرَم.
"ماجدٌ"؛ أي: كريمٌ واسعُ العطاء.
"أفعلُ ما أريدُ، عطائي كلامٌ، وعذابي كلامٌ"؛ يعني: لا أتعب بثوابِ المطيع، ولا بعقاب العاصي، ولا بالجود والعطاء، بل يَكفي في حصوله ووصوله تعلُّق إرادتي به، فإني إذا أردتُ إيجاد شيءٍ لم يتأخَّرْ كونه عن تكلمي وأمري بقولي له: كنْ.
"إنما أمري لشيءٍ إذا أردت أن أقول له: كن فيكون"، هذا تفسيرٌ لقوله:(عطائي كلام وعذابي كلام).
* * *
1689 -
عن أنسٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنه قَرَأَ: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} ، قال:"قالَ ربُّكم: أنا أَهْلٌ أنْ أُتَّقَى، فمَن اتَّقاني فأَنا أهلٌ أَنْ أَغفِر لهُ".
"عن أنس رضي الله عنه: عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنَّه قرأ: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} "؛ أي: حقيقٌ بأن يُتَّقَى منه.
وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [المدثر: 56]؛ أي: حقيقٌ بأن يَغفِرَ لمن اتقاه.
"قال عليه الصلاة والسلام قال ربكم: أنا أهلٌ أن أتقَى، فمن اتقاني فأنا أهلٌ أن أَغْفِرَ له".
* * *
1690 -
عن ابن عُمر رضي الله عنه قال: إنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم في المَجْلِسِ يقولُ: "ربِّ اغفِرْ لي، وَتُبْ عليَّ، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الغَفورُ" = مائةَ مرةٍ.
"عن ابن عمر رضي الله عنه قال: إنْ كنَّا"، (إنْ) هذه مخففة من المثقلة.
"لنَعُدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: في المجلس"؛ أي: في المَجْلِس الواحد.
"يقول: ربِّ! اغفرْ لي وتُبْ عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم، مئةَ مرة"، نصبٌ على المصدر.
* * *
1691 -
ورُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن قالَ: أَستغفِرُ الله الذي لا إلهَ إلَاّ هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ، وأتوبُ إليهِ؟ غُفِرَ لهُ وإنْ كانَ فَرَّ مِن الزحْفِ"، غريب.
"عن زيدٍ بن يَسَار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَن قال: أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحي القَيُّوم": روي منصوبًا صفة لله، ومرفوعًا بدلًا، أو بيانًا لقوله: هو.
"وأتوبُ إليه، غُفِرَ له وان كان فَرَّ من الزَّحْف"؛ أي: من الحرب مع الكفار، قيل: هذا يدلُّ على أن الكبائر تُغْفَرُ بالتوبة والاستغفار.
* * *