المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الخبر عن الغزوة الكبرى بالزلاقة من أرض الأندلس - الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى - جـ ٢

[أحمد بن خالد الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الدولة المرابطية

- ‌الْخَبَر عَن الدولة الصنهاجية اللمتونية المرابطية وأوليتها

- ‌الْخَبَر عَن رياسة يحيى بن إِبْرَاهِيم الكدالي وَمَا كَانَ من أمره مَعَ الشَّيْخ أبي عمرَان الفاسي رحمهمَا الله

- ‌الْخَبَر عَن دُخُول عبد الله بن ياسين أَرض الصَّحرَاء وَابْتِدَاء أمره بهَا

- ‌شُرُوع عبد الله بن ياسين فِي الْجِهَاد وإعلانه بالدعوة وَمَا كَانَ من أمره فِي ذَلِك

- ‌الْخَبَر عَن رياسة يحيى بن عَمْرو بن تكلاكين اللمتوني

- ‌الْخَبَر عَن غَزْو عبد الله بن ياسين وَيحيى بن عمر سجلماسة وَالسَّبَب فِي ذَلِك

- ‌الْخَبَر عَن رياسة أبي بكر بن عمر اللمتوني وَفتح بِلَاد السوس

- ‌فتح بِلَاد المصامدة وَمَا يتبع ذَلِك من جِهَاد برغواطة وَفتح بِلَادهمْ وَذكر نسبهم

- ‌غَزْوَة أبي بكر بن عمر بِلَاد الْمغرب سوى مَا تقدم وفتحه إِيَّاهَا

- ‌عود أبي بكر بن عمر إِلَى بِلَاد الصَّحرَاء وَالسَّبَب فِي ذَلِك

- ‌الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين اللمتوني

- ‌بِنَاء مَدِينَة مراكش

- ‌فتح مَدِينَة فاس وَغَيرهَا من سَائِر بِلَاد الْمغرب

- ‌فتح سبتة وطنجة وَمَا ترَتّب عَلَيْهِ من جِهَاد بالأندلس

- ‌الْخَبَر عَن الْغَزْوَة الْكُبْرَى بالزلاقة من أَرض الأندلس

- ‌بَقِيَّة أَخْبَار أَمِير الْمُسلمين فِي الْجِهَاد وَمَا اتّفق لَهُ مَعَ مُلُوك الأندلس وَكَبِيرهمْ ابْن عباد

- ‌بَقِيَّة أَخْبَار أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين سوى مَا تقدم

- ‌الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُسلمين أبي الْحسن عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين اللمتوني

- ‌خُرُوج يحيى بن أبي بكر بن يُوسُف بن تاشفين على عَمه أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين

- ‌أَخْبَار الْوُلَاة بالمغرب والأندلس

- ‌أَخْبَار أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف فِي الْجِهَاد وجوازه الأول إِلَى بِلَاد الأندلس

- ‌اسْتِيلَاء الْعَدو على سرقسطة

- ‌ولَايَة الْأَمِير تاشفين بن عَليّ بن يُوسُف على بِلَاد الأندلس وأخباره فِي الْجِهَاد

- ‌الْخَبَر عَن دولة أبي الْمعز تاشفين بن عَليّ بن يُوسُف ابْن تاشفين اللمتوني

- ‌الدولة الموحدية الْخَبَر عَن دولة الْمُوَحِّدين من المصامدة وقيامها على يَد مُحَمَّد بن تومرت الْمَعْرُوف بالمهدي

- ‌وَفَاة الْمهْدي رحمه الله

- ‌الْخَبَر عَن دولة أبي مُحَمَّد عبد الْمُؤمن بن عَليّ الكومي وأوليتها

- ‌بيعَة عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَالسَّبَب فِيهَا

- ‌غَزْوَة عبد الْمُؤمن الطَّوِيلَة الَّتِي استولى فِيهَا على المغربين

- ‌فتح مَدِينَة فاس

- ‌فتح مراكش واستئصال بَقِيَّة اللمتونيين

- ‌ثورة مُحَمَّد بن هود السلاوي الْمَعْرُوف بالماسي

- ‌انْتِقَاض أهل سبتة على الْمُوَحِّدين وَخبر القَاضِي عِيَاض رحمه الله مَعَهم

- ‌أَخْبَار الأندلس وفتوحها

- ‌قدوم عبد الْمُؤمن إِلَى سلا ووفادة أهل الأندلس عَلَيْهِ بهَا

- ‌غَزْو إفريقية وَفتح مَدِينَة بجاية

- ‌فتح المرية وبياسة وأبدة

- ‌قدوم عبد الْمُؤمن مَدِينَة سلا وتولية أَوْلَاده على النواحي بهَا

- ‌إِيقَاع عبد الْمُؤمن بِعَبْد الْعَزِيز وَعِيسَى أخوي الْمهْدي وَالسَّبَب فِي ذَلِك

- ‌إِيقَاع يحيى بن يغمور بِأَهْل لبلة وإسرافه فِي ذَلِك

- ‌أَمر عبد الْمُؤمن بتحريق كتب الْفُرُوع ورد النَّاس إِلَى الْأُصُول من الْكتاب وَالسّنة

- ‌نقل الْمُصحف العثماني من قرطبة إِلَى مراكش وَبِنَاء جَامع الكتبيين بهَا

- ‌نكبة الْوَزير ابْن عَطِيَّة وَالسَّبَب فِيهَا

- ‌غَزْو إفريقية ثَانِيًا وَفتح المهدية وَغَيرهَا من الثغور

- ‌توظيف عبد الْمُؤمن الْخراج على أَرض الْمغرب

- ‌بِنَاء عبد الْمُؤمن جبل طَارق

- ‌عبور عبد الْمُؤمن إِلَى جبل طَارق وَالسَّبَب فِي ذَلِك

- ‌قدوم كومية قَبيلَة عبد الْمُؤمن عَلَيْهِ بمراكش وَالسَّبَب فِي ذَلِك

- ‌استعداد عبد الْمُؤمن للْجِهَاد وإنشاؤه الأساطيل بسواحل الْمغرب وَمَا يتبع ذَلِك من وَفَاته رحمه الله

- ‌بَقِيَّة أَخْبَار عبد الْمُؤمن وَسيرَته

- ‌الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بن عَليّ

- ‌ثورة سبع بن منغفاد بجبال غمارة

- ‌الْجَوَاز الأول لأمير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد

- ‌غَزْو أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بِلَاد إفريقية وَفتح مَدِينَة قفصة وَالسَّبَب فِي ذَلِك

- ‌الْجَوَاز الثَّانِي لأمير الْمُؤمنِينَ يُوسُف ابْن عبد الْمُؤمن إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد وَمَا يتَّصل بذلك من وَفَاته رحمه الله

- ‌بَقِيَّة أَخْبَار أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَسيرَته

- ‌الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور بِاللَّه يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بن عَليّ

- ‌خُرُوج عَليّ بن إِسْحَاق المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية على يَعْقُوب الْمَنْصُور

- ‌الْخَبَر عَن انْتِقَال الْعَرَب من جزيرتهم إِلَى ارْض إفريقية ثمَّ مِنْهَا إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى وَالسَّبَب فِي ذَلِك

- ‌الْخَبَر عَن بني معقل عرب الصَّحرَاء من أَرض الْمغرب وَتَحْقِيق نسبهم وَبَيَان شعوبهم وبطونهم

- ‌الْجَوَاز الأول ليعقوب الْمَنْصُور رحمه الله إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد

- ‌مراسلة السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب صَاحب مصر ليعقوب الْمَنْصُور رحمهمَا الله والتماسه مِنْهُ الأساطيل للْجِهَاد

- ‌عود الْمَنْصُور إِلَى إفريقية وَالسَّبَب فِي ذَلِك

- ‌ذكر مَا شيده الْمَنْصُور رحمه الله من الْآثَار بالمغرب والأندلس

- ‌بَقِيَّة أَخْبَار الْمَنْصُور وَسيرَته

- ‌وَفَاة يَعْقُوب الْمَنْصُور رحمه الله

- ‌الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي عبد الله مُحَمَّد النَّاصِر لدين الله بن يَعْقُوب الْمَنْصُور بِاللَّه

- ‌غَزْو النَّاصِر بِلَاد إفريقية وَولَايَة الشَّيْخ أبي مُحَمَّد بن أبي حَفْص عَلَيْهَا وَالسَّبَب فِي ذَلِك

- ‌فتح جَزِيرَة ميورقة

- ‌ثورة ابْن الْفرس وَمَا كَانَ من أمره

- ‌غَزْوَة الْعقَاب الَّتِي محص الله فِيهَا الْمُسلمين

- ‌وَفَاة النَّاصِر رحمه الله

- ‌الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْوَاحِد المخلوع ابْن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن رحمه الله

- ‌الْخَبَر عَن دولة أبي مُحَمَّد عبد الله الْعَادِل ابْن الْمَنْصُور رحمه الله

- ‌الْخَبَر عَن دولة الْمَأْمُون بن الْمَنْصُور ومزاحمة يحيى بن النَّاصِر لَهُ

- ‌ثورة مُحَمَّد بن أبي الطواجين الكتامي بجبال غمارة

- ‌أَخْبَار الثوار وَمَا آل إِلَيْهِ أَمر الْمُوَحِّدين بهَا

- ‌قدوم أبي الْعَلَاء الْمَأْمُون بن الْمَنْصُور من الأندلس إِلَى مراكش وَمَا اتّفق لَهُ فِي ذَلِك

- ‌الْخَبَر عَن دولة أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد الرشيد ابْن الْمَأْمُون ابْن الْمَنْصُور رحمه الله

- ‌فتْنَة الْخَلْط مَعَ الرشيد واستيلاؤهم على حَضْرَة مراكش

- ‌هجوم نَصَارَى جنوة على مَدِينَة سبتة وحصارهم إِيَّاهَا

- ‌عود الرشيد إِلَى مراكش وفرار يحيى عَنْهَا إِلَى بني معقل ومقتله بهم

- ‌اسْتِيلَاء الْعَدو على قرطبة

- ‌وَفَاة الرشيد رحمه الله

- ‌الْخَبَر عَن دولة أبي الْحسن السعيد عَليّ بن الْمَأْمُون بن الْمَنْصُور رحمه الله

- ‌نهوض السعيد من مراكش إِلَى غَزْو الثوار بالمغربين ومحاصرته يغمراسن بن زيان وَمَا آل إِلَيْهِ الْأَمر من مَقْتَله رحمه الله

- ‌الْخَبَر عَن دولة أبي حَفْص عمر المرتضى ابْن السَّيِّد أبي إِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن رحمه الله

- ‌رَجَعَ إِلَى أَخْبَار عمر المرتضى

- ‌انْتِقَاض أبي دبوس على المرتضى واستيلاؤه على مراكش ومقتل المرتضى عقب ذَلِك

- ‌رَجَعَ إِلَى خبر أبي دبوس

- ‌الْخَبَر عَن دولة أبي الْعَلَاء إِدْرِيس الواثق بِاللَّه الْمَعْرُوف بِأبي دبوس

الفصل: ‌الخبر عن الغزوة الكبرى بالزلاقة من أرض الأندلس

يرتحل عَنْهَا حَتَّى يدخلهَا أَو يحول الْمَوْت دونهَا وَأَرَادَ أَن يقدمهَا بِالْفَتْح على غَيرهَا فبذل إِلَيْهِ أميرها المستعين بن هود مَالا عَظِيما فَلم يقبله مِنْهُ وَقَالَ المَال والبلاد لي وَبعث إِلَى كل قَاعِدَة من قَوَاعِد الأندلس جَيْشًا لحصارها والتضييق عَلَيْهَا ثمَّ ملك مَدِينَة طليطلة من يَد صَاحبهَا الْقَادِر بن ذِي النُّون سنة سبع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فَكَانَ ذَلِك من أقوى الْأَسْبَاب المحركة لعزائم الْمُسلمين بالأندلس وَالْمغْرب على الْجِهَاد

‌الْخَبَر عَن الْغَزْوَة الْكُبْرَى بالزلاقة من أَرض الأندلس

لما انقرضت دولة بني أُميَّة بالأندلس صدر الْمِائَة الْخَامِسَة بعد نزاع بَين أعياصها شَدِيد وقتال مِنْهُم عريض مديد وخلفتها الدولة الحمودية فَلم يطلّ أمدها حَتَّى اقتسمت رُؤَسَاء الأندلس مملكتها وتوزعوا أَعمالهَا وَصَارَت الْحَال إِلَى مَا قَالَ ابْن الْخَطِيب

(حَتَّى إِذا سلك الْخلَافَة انْتَشَر

وَذهب الْعين جَمِيعًا والأثر)

(قَامَ بِكُل بقْعَة مليك

وَصَاح فَوق كل غُصْن ديك)

فَوجدَ الْعَدو السَّبِيل إِلَى الِاسْتِيلَاء على ثغور الْمُسلمين وانتهاز الفرصة فِيهَا بالتضريب بَين مُلُوكهَا وإغراء بَعضهم بعض وَكَانَ مِنْهُم ابْن عباد بإشبيلية وَابْن الْأَفْطَس ببطليوس وَابْن ذِي النُّون بطليطلة وَابْن هود بسرقسطة وَمُجاهد العامري بدانية وَغير هَؤُلَاءِ وَكلهمْ يُدَارِي الطاغية ويتقيه بالجزية إِلَى أَن كَانَ من أَمر الأذفونش مَا كَانَ من تخريب بِلَاد الْمُسلمين واستيلائه على طليطلة بعد حصاره إِيَّاهَا سبع سِنِين ثمَّ حصاره سرقسطة

فَلَمَّا رأى رُؤَسَاء الأندلس مَا نزل بهم من مضايقة عَدو الدّين واستطالته على ثغور الْمُسلمين أجمع رَأْيهمْ على إجَازَة يُوسُف بن تاشفين فكاتبه أهل الأندلس كَافَّة من الْخَاصَّة وَالْعُلَمَاء يستصرخونه فِي تَنْفِيس الْعَدو عَن مخنقهم ويكونوا مَعَه يدا وَاحِدَة عَلَيْهِ

ص: 33

فَلَمَّا تَوَاتَرَتْ رسلهم وكتبهم عَلَيْهِ بعث ابْنه الْمعز بن يُوسُف فِي عَسَاكِر المرابطين إِلَى سبتة فَرْضه الْمجَاز فنازلها برا وأحاطت بهَا أساطيل ابْن عباد بحرا فاقتحموها عنْوَة فِي ربيع الآخر سنة سبع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وَقبض على صَاحبهَا ضِيَاء الدولة يحيى بن سكُوت البرغواطي وَجِيء بِهِ إِلَى الْمعز أَسِيرًا فَقتله صبرا وَبعث بِكِتَاب الْفَتْح إِلَى أَبِيه وَهُوَ بفاس ينظر فِي أَمر الْجِهَاد ويستعد لَهُ ففرح يُوسُف بِفَتْح سبتة وَخرج من حِينه قَاصِدا نَحْوهَا ليعبر مِنْهَا إِلَى الأندلس

وَلما سمع الْمُعْتَمد ابْن عباد بِفَتْح سبتة ركب الْبَحْر إِلَى الْمغرب لاستنفار يُوسُف إِلَى الْجِهَاد فَلَقِيَهُ مُقبلا بِبِلَاد طنجة بِموضع يعرف ببليطة على ثَلَاث مراحل من سبتة وَقَالَ ابْن خلدون لقِيه بفاس فَأخْبرهُ بِحَال الأندلس وَمَا هِيَ عَلَيْهِ من الضعْف وَشدَّة الْخَوْف وَالِاضْطِرَاب وَمَا يلقاه الْمُسلمُونَ من عدوهم من الْقَتْل والأسر والحصار كل يَوْم فَقَالَ لَهُ يُوسُف ارْجع إِلَى بلادك وَخذ فِي أَمرك فَإِنِّي على أثرك فَرجع ابْن عباد إِلَى الأندلس وَنزل ليوسف عَن الجزيرة الخضراء لتَكون رِبَاطًا لجهاده وَدخل يُوسُف سبتة فَنظر فِي أمرهَا وَأصْلح سفنها وقدمت عَلَيْهِ بهَا جنود الله من الْمغرب والصحراء والقبلة والزاب فشرع فِي إجازتها إِلَى الأندلس

وَلما تكاملت بساحل الخضراء عبر هُوَ فِي أَثَرهَا فِي موكب عَظِيم من قواد المرابطين وأنجادهم وصلحائهم فَلَمَّا اسْتَوَى على ظهر السَّفِينَة رفع يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَن فِي جوازنا هَذَا صلاحا للْمُسلمين فسهل علينا هَذَا الْبَحْر حَتَّى نعبره وَإِن كَانَ غير ذَلِك فصعبه حَتَّى لَا نعبره فسهل الله عَلَيْهِم العبور فِي أسْرع وَقت وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس عِنْد الزَّوَال منتصف ربيع الأول سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وَنزل بالخضراء فصلى بهَا الظّهْر من يَوْمه ذَلِك ولقيه الْمُعْتَمد ابْن عباد صَاحب إشبيلية وَابْن الْأَفْطَس صَاحب بطليوس وَغَيرهمَا من مُلُوك الأندلس

ص: 34

واتصل الْخَبَر بالأذفونش وَهُوَ محاصر لسرقسطة فارتحل عَنْهَا وَقصد نَحْو أَمِير الْمُسلمين وَبعث إِلَى ابْن ردمير والبرهانس وَغَيرهمَا من كبار النَّصْرَانِيَّة واستنفر أهل قشتالة وجليقية وَسَائِر المجاورين لَهُ من أُمَم النَّصْرَانِيَّة فَاجْتمع لَهُ مِنْهُم مَا يفوت الْحصْر وصمد إِلَى ابْن تاشفين وَالْمُسْلِمين هَكَذَا وَقع مساق هَذِه الْغَزْوَة عِنْد ابْن خلدون وَابْن أبي زرع وَغَيرهمَا

وساقها ابْن الْأَثِير وَابْن خلكان وَابْن عبد الْمُنعم الْحِمْيَرِي مساقا غير هَذَا ولنذكر بعض مَا نقلوه من ذَلِك فَنَقُول لما ملك يُوسُف بن تاشفين الْمغرب وَبنى مراكش وتلمسان الجديدة وأطاعته البربر مَعَ شكيمتها الشَّدِيدَة وتمهدت لَهُ الأقطار العريضة المديدة تاقت نَفسه إِلَى العبور لجزيرة الأندلس فهم بذلك وَأخذ فِي إنْشَاء السفن والمراكب ليعبر فِيهَا فَلَمَّا علم بذلك مُلُوك الأندلس كَرهُوا إلمامه بجزيرتهم وَأَعدُّوا لَهُ الْعدة وَالْعدَد إِلَّا أَنهم استهولوا جمعه واستصعبوا مدافعته وكرهوا أَن يصبحوا بَين عدوين الفرنج عَن شمالهم والملثمين عَن جنُوبهم وَكَانَت الفرنج قد اشتدت وطأتها عَلَيْهِم فَتغير وتنهب وَرُبمَا يَقع بَينهم صلح على شَيْء مَعْلُوم كل سنة يأخذونه من الْمُسلمين والفرنج مَعَ ذَلِك ترهب جَانب ملك الْمغرب يُوسُف بن تاشفين إِذْ كَانَ لَهُ اسْم كَبِير وصيت عَظِيم لنفاذ أمره وَنَقله دولة زناتة وَملك الْمغرب إِلَيْهِ فِي أسْرع وَقت مَعَ مَا ظهر لأبطال الملثمين ومشايخ صنهاجة فِي المعارك من ضربات السيوف الَّتِي تقد الْفَارِس والطعنات الَّتِي تنظم الكلى فَكَانَ لَهُم بذلك ناموس ورعب فِي قُلُوب المنتدبين لقتالهم

وَكَانَ مُلُوك الأندلس يفيئون إِلَى ظلم يُوسُف ويحذرونه خوفًا على ملكهم مهما عبر إِلَيْهِم وعاين بِلَادهمْ فَلَمَّا رَأَوْا عزيمته متوفرة على العبور راسل بَعضهم بَعْضًا يستنجدون آراءهم فِي أمره وَكَانَ فزعهم فِي ذَلِك إِلَى الْمُعْتَمد ابْن عباد لِأَنَّهُ أَشْجَع الْقَوْم وأكبرهم مملكة فَوَقع اتِّفَاقهم على مُكَاتبَته وَقد تحققوا أَنه يقصدهم يسألونه الْإِعْرَاض عَنْهُم وَأَنَّهُمْ تَحت

ص: 35

طَاعَته فَكتب عَنْهُم كَاتب من أهل الأندلس يَقُول

أما بعد فَإنَّك إِن أَعرَضت عَنَّا نسبت إِلَى كرم وَلم تنْسب إِلَى عجز وَإِن أجبنا داعيك نسبنا إِلَى عقل وَلم تنْسب إِلَى وَهن وَقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبتينا فاختر لنَفسك أكْرم نسبتيك فَإنَّك بِالْمحل الَّذِي لَا يجوز أَن نسبق فِيهِ إِلَى مكرمَة وَإِن فِي أستبقائك ذَوي الْبيُوت مَا شِئْت من دوَام لأمرك وَثُبُوت وَالسَّلَام فوصله الْكتاب مَعَ تحف وهدايا وَكَانَ يُوسُف لَا يعرف اللِّسَان الْعَرَبِيّ لكنه كَانَ ذكي الطَّبْع يجيد فهم الْمَقَاصِد وَكَانَ لَهُ كَاتب يعرف اللغتين الْعَرَبيَّة والمرابطية فَقَالَ لَهُ أَيهَا الْملك هَذَا الْكتاب من مُلُوك الأندلس يعظمونك فِيهِ ويعرفونك أَنهم أهل دعوتك وَتَحْت طَاعَتك ويلتمسون مِنْك أَن لَا تجعلهم فِي منزلَة الأعادي فَإِنَّهُم مُسلمُونَ وهم من ذَوي البيوتات فَلَا تغير بهم وكف بهم من ورائهم من الْأَعْدَاء الْكفَّار وبلدهم ضيق لَا يحْتَمل العساكر فَأَعْرض عَنْهُم إعراضك عَمَّن أطاعك من أهل الْمغرب فَقَالَ يُوسُف بن تاشفين لكَاتبه فَمَا ترى أَنْت فَقَالَ أَيهَا الْملك أعلم أَن تَاج الْملك وبهجته وَشَاهده الَّذِي لَا يرد بِأَنَّهُ خليق بِمَا حصل فِي يَده من الْملك أَن يعْفُو إِذا استعفى وَأَن يهب إِذا استوهب وَكلما وهب جزيلا كَانَ أعظم لقدره فَإِذا عظم قدره تأصل ملكه وَإِذا تأصل ملكة تشرف النَّاس بِطَاعَتِهِ وَإِذا كَانَت طَاعَته شرفا جَاءَهُ النَّاس وَلم يتجشم الْمَشَقَّة إِلَيْهِم وَكَانَ وَارِث الْملك من غير إهلاك لآخرته وَاعْلَم أَن بعض الْمُلُوك الأكابر والحكماء البصراء بطرِيق تَحْصِيل الْملك قَالَ من جاد سَاد وَمن سَاد قاد وَمن قاد ملك الْبِلَاد فَلَمَّا ألْقى الْكَاتِب هَذَا الْكَلَام على السُّلْطَان يُوسُف فهمه وَعلم صِحَّته فَقَالَ لِلْكَاتِبِ أجب الْقَوْم واكتب بِمَا يجب فِي ذَلِك واقرأ عَليّ كتابك فَكتب الْكَاتِب بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من يُوسُف بن تاشفين سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته تَحِيَّة من سالمكم وَسلم إِلَيْكُم وَحكمه التأييد والنصر فِيمَن حكم عَلَيْكُم وَإِنَّكُمْ مِمَّا بِأَيْدِيكُمْ من الْملك فِي أوسع إِبَاحَة مخصوصون منا بأكرم إِيثَار وسماحة فاستديموا وفاءنا بوفائكم واستصلحوا آخاءنا بإصلاح آخائكم وَالله ولي التَّوْفِيق لنا لكم

ص: 36

وَالسَّلَام فَلَمَّا فرغ من كِتَابه قَرَأَ على يُوسُف بن تاشفين بِلِسَانِهِ فَاسْتَحْسَنَهُ وَقرن بِهِ مَا يصلح لَهُم من التحف ودرق اللمط مِمَّا لَا يكون إِلَّا فِي بِلَاده وأنفذ ذَلِك إِلَيْهِم فَلَمَّا وصلهم ذَلِك وقرؤوا كِتَابه فرحوا بِهِ وعظموه واعتزوا بولايته وتقوت نُفُوسهم على دفع الفرنج وأزمعوا إِن رَأَوْا من الفرنج مَا يريبهم أَن يجيزوا إِلَيْهِ يُوسُف بن تاشفين ويكونوا من أعوانه عَلَيْهِ فتأتى ليوسف بن تاشفين بِرَأْي وزيره مَا أَرَادَ من محبَّة أهل الأندلس لَهُ وَكَفاهُ حربهم

وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي الْكَامِل كَانَ الْمُعْتَمد ابْن عباد أعظم مُلُوك الأندلس وممتلكا لأكبر بلادها مثل قرطبة وإشبيلية وَكَانَ مَعَ ذَلِك يُؤَدِّي الضريبة إِلَى الأذفونش كل سنة فَلَمَّا تملك الأذفونش طليطلة أرسل إِلَيْهِ الْمُعْتَمد الضريبة على عَادَته فَردهَا عَلَيْهِ وَلم يقبلهَا مِنْهُ ثمَّ أرسل إِلَيْهِ يتهدده ويتوعده بِالْمَسِيرِ إِلَى قرطبة وتملكها من يَده إِلَّا أَن يسلم إِلَيْهِ جَمِيع الْحُصُون الَّتِي فِي الْجَبَل ويبقي السهل للْمُسلمين وَكَانَ الرَّسُول فِي جمع كثير نَحْو خَمْسمِائَة فَارس فأنزله الْمُعْتَمد وَفرق أَصْحَابه على قواد عسكره ثمَّ أَمر القواد أَن يقتل كل مِنْهُم من عِنْده وأحضر الرَّسُول فصفعه حَتَّى برزت عَيناهُ وَسلم من الْجَمَاعَة ثَلَاثَة نفر فعادوا إِلَى الأذفونش وَأَخْبرُوهُ الْخَبَر وَكَانَ مُتَوَجها إِلَى قرطبة ليحاصرها فَلَمَّا بلغه هَذَا الْخَبَر رَجَعَ إِلَى طليطلة ليجمع آلَات الْحصار ويستعد اسْتِعْدَادًا غير الَّذِي سبق وَعَاد الْمُعْتَمد إِلَى إشبيلية وَأقَام بهَا وَترك قرطبة بِدُونِ مدافع يدافع عَنْهَا

وَقَالَ ابْن عبد الْمُنعم الْحِمْيَرِي فِي كِتَابه الرَّوْض المعطار مَا ملخصه إِن الْمُعْتَمد ابْن عباد أخر فِي سنة من السنين الضريبة الَّتِي كَانَ يَدْفَعهَا للأذفونش عَن وَقتهَا ثمَّ أرسلها إِلَيْهِ بعد فَغَضب الأذفونش واشتط وَطلب بعض الْحُصُون زِيَادَة على الضريبة وأمعن فِي التجني حَتَّى طلب أَن تَأتي زَوجته إِلَى الْجَامِع الْأَعْظَم بقرطبة فتلد فِيهِ إِذْ كَانَت حَامِلا وَكَانَ بالجانب الغربي من الْمَسْجِد الْمَذْكُور مَوضِع كَنِيسَة قديمَة بنى الْمُسلمُونَ عَلَيْهَا الْمَسْجِد فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاء والقسيسون أَن تكون زَوجته سَاكِنة قرب وِلَادَتهَا

ص: 37

بِمَدِينَة الزهراء الَّتِي بناها عبد الرَّحْمَن النَّاصِر لدين الله وأبدع فِي تشييدها وتنجيدها وتتردد الْمَرْأَة مَعَ ذَلِك إِلَى الْجَامِع الْمَذْكُور حَتَّى تكون وِلَادَتهَا بَين طيب نسيم الزهراء وفضيلة مَوضِع الْكَنِيسَة وَكَانَ الرَّسُول فِي ذَلِك يَهُودِيّا وَكَانَ وزيرا للأذفونش فَامْتنعَ ابْن عباد من ذَلِك فَرَاجعه الْيَهُودِيّ وَأَغْلظ لَهُ فِي القَوْل ولسعه بِكَلِمَة آسفته فَأخذ ابْن عباد محبرة كَانَت بَين يَدَيْهِ وَضرب بهَا رَأس الْيَهُودِيّ فَأنْزل دماغه فِي حلقه وَأمر بِهِ فصلب منكوسا بقرطبة

وَلما سكن غَضَبه استفتى الْفُقَهَاء عَن حكم مَا فعله باليهودي فبادره الْفَقِيه مُحَمَّد بن الطلاع بِالرُّخْصَةِ فِي ذَلِك لتعدي الرَّسُول حُدُود الرسَالَة إِلَى مَا اسْتوْجبَ بِهِ الْقَتْل إِذْ لَيْسَ لَهُ ذَلِك وَقَالَ للفقهاء إِنَّمَا بادرت بالفتوى خوفًا أَن يكسل الرجل عَمَّا عزم عَلَيْهِ من منابذة الْعَدو وَعَسَى الله أَن يَجْعَل فِي عزيمته للْمُسلمين خيرا

وَبلغ الأذفونش مَا صنعه ابْن عباد فأقسم بآلهته ليغزونه بإشبيلية وليحاصرنه فِي قصره ثمَّ زحف فِي عسكرين أَحدهمَا عَلَيْهِ وَالْآخر على بعض قواده حَتَّى نزل على ضفة النَّهر الْأَعْظَم بإشبيلية قبالة قصر ابْن عباد وَفِي أَيَّام مقَامه هُنَالك كتب إِلَى ابْن عباد زاريا عَلَيْهِ كثر بطول مقَامي فِي مجلسي هَذَا عَليّ الذُّبَاب وَاشْتَدَّ الْحر فأتحفني من قصرك بمروحة أروح بهَا على نَفسِي وَأطْرد بهَا الذُّبَاب عَن وَجْهي فَوَقع لَهُ ابْن عباد بِخَط يَده فِي ظهر الرقعة قَرَأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك وسأنظر لَك فِي مراوح من جُلُود اللمط تروح مِنْك لَا عَلَيْك إِن شَاءَ الله فَلَمَّا وصلت رِسَالَة ابْن عباد الأذفونش وقرئت عَلَيْهِ وَفهم مقتضاها أطرق إطراق من لم يخْطر لَهُ ذَلِك ببال وَفَشَا فِي الأندلس توقيع ابْن عباد وَمَا أظهر من الْعَزِيمَة على إجَازَة يُوسُف بن تاشفين والاستظهار بِهِ على الْعَدو فَاسْتَبْشَرَ النَّاس وفرحوا بذلك وانفتحت لَهُم أَبْوَاب الآمال

وَأما مُلُوك طوائف الأندلس فَلَمَّا تحققوا عزم ابْن عباد وانفراده بِرَأْيهِ فِي ذَلِك اهتموا مِنْهُ فَمنهمْ من كَاتبه وَمِنْهُم من شافهه وَحَذرُوهُ عَاقِبَة ذَلِك وَقَالُوا لَهُ الْملك الْعَقِيم والسيفان لَا يَجْتَمِعَانِ فِي غمد فأجابهم ابْن عباد بكلمته

ص: 38

الَّتِي صَارَت مثلا رعي الْجمال خير من رعي الْخَنَازِير وَمَعْنَاهُ أَن كَونه مَأْكُولا ليوسف بن تاشفين أَسِيرًا يرْعَى جماله فِي الصَّحرَاء خير من كَونه ممزقا للأذفونش أَسِيرًا لَهُ يرْعَى خنازيره وَقَالَ لمن لامه يَا قوم إِنِّي من أَمْرِي على حالتين حَالَة يَقِين وَحَالَة شكّ وَلَا بُد لي من إِحْدَاهمَا أما حَالَة الشَّك فَإِنِّي استندت إِلَى ابْن تاشفين أَو إِلَى الأذفونش فَفِي الْمُمكن أَن يَفِي لي وَيبقى على وفائه وَيُمكن أَن لَا يفعل فَهَذِهِ حَالَة شكّ وَأما حَالَة الْيَقِين فَإِنِّي إِن استندت إِلَى ابْن تاشفين فَإِنِّي أرضي الله وَإِن استندت إِلَى الأذفونش أسخطت الله فَإِذا كَانَت حَالَة الشَّك فيهمَا عارضة فلأي شَيْء أدع مَا يُرْضِي الله وَآتِي مَا يسخطه فَحِينَئِذٍ أقصر أَصْحَابه عَن لومه

وَلما عزم ابْن عباد على رَأْيه أَمر صَاحب بطليوس المتَوَكل على الله عمر بن الْأَفْطَس وَصَاحب غرناطة عبد الله بن حبوس الصنهاجي أَن يبْعَث إِلَيْهِ كل مِنْهُمَا قَاضِي حَضرته ففعلا واستحضر قَاضِي الْجَمَاعَة بقرطبة عبد الله بن مُحَمَّد بن أدهم وَكَانَ أَعقل أهل زَمَانه فَلَمَّا اجْتمع عِنْد ابْن عباد الْقُضَاة بإشبيلية أضَاف إِلَيْهِم وزيره أَبَا بكر بن زيدون وعرفهم أربعتهم أَنهم رسله إِلَى يُوسُف بن تاشفين وَأسْندَ إِلَى الْقُضَاة مَا يَلِيق بهم من وعظ يُوسُف وترغيبه فِي الْجِهَاد وَأسْندَ إِلَى الْوَزير مَا لَا بُد مِنْهُ من إبرام الْعُقُود السُّلْطَانِيَّة

وَكَانَ يُوسُف بن تاشفين لَا تزَال تفد عَلَيْهِ وُفُود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء ناشدين بِاللَّه وَالْإِسْلَام مستنجدين بفقهاء حَضرته ووزراء دولته فَيسمع إِلَيْهِم ويصغي لقَولهم وترق نَفسه لَهُم

وَلما انْتَهَت الرُّسُل إِلَى ابْن تاشفين أقبل عَلَيْهِم وَأكْرم مثواهم وَجَرت بَينه وَبينهمْ مراوضات ثمَّ انصرفوا إِلَى مرسلهم

ثمَّ عبر يُوسُف الْبَحْر عبورا سهلا حَتَّى أَتَى الجزيرة الخضراء فَخرج إِلَيْهِ أَهلهَا بِمَا عِنْدهم من الأقوات والضيافات وَأَقَامُوا لَهُ سوقا جلبوا إِلَيْهِ مَا عِنْدهم من سَائِر الْمرَافِق وأذنوا للغزاة فِي دُخُول الْبَلَد وَالتَّصَرُّف فِيهَا

ص: 39

فامتلأت الْمَسَاجِد والرحاب بالمطوعة وَتَوَاصَوْا بهم خيرا هَذَا مساق صَاحب الرَّوْض المعطار

وَقَالَ ابْن الْأَثِير لما رَجَعَ الْمُعْتَمد ابْن عباد إِلَى إشبيلية وَترك قرطبة بِدُونِ مدافع وَسمع مشايخها بِمَا جرى من قتل ابْن عباد لِلْيَهُودِيِّ وَرَأَوا قُوَّة الفرنج وَضعف الْمُسلمين واستعانة بعض مُلُوكهمْ بالفرنج على بعض اجْتَمعُوا وَقَالُوا هَذِه بِلَاد الأندلس قد غلب عَلَيْهَا الفرنج وَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيل وَإِن استمرت الْأَحْوَال على مَا نرى عَادَتْ نَصْرَانِيَّة كَمَا كَانَت وَسَارُوا إِلَى القَاضِي أبي بكر عبد الله بن مُحَمَّد بن أدهم فَقَالُوا لَهُ أَلا تنظر إِلَى مَا فِيهِ الْمُسلمُونَ من الصغار والذلة وإعطائهم الْجِزْيَة بعد أَن كَانُوا يأخذونها وَقد رَأينَا رَأيا نعرضه عَلَيْك قَالَ مَا هُوَ قَالُوا نكتب إِلَى عرب إفريقية ونشترط لَهُم إِذا وصلوا إِلَيْنَا قاسمناهم أَمْوَالنَا وَخَرجْنَا مَعَهم مجاهدين فِي سَبِيل الله وَقَالَ أَخَاف إِذا وصلوا إِلَيْنَا أَن يخربوا بِلَادنَا كَمَا فعلوا بإفريقية ويتركوا الفرنج ويبدؤوا بِنَا والمرابطون أصلح مِنْهُم واقرب إِلَيْنَا قَالُوا لَهُ فكاتب يُوسُف بن تاشفين وراغب إِلَيْهِ فِي العبور إِلَيْنَا أَو يُرْسل بعض قواده

وبينما هم يتفاوضون إِذْ قدم عَلَيْهِم ابْن عباد وهم فِي ذَلِك فَعرض عَلَيْهِ القَاضِي ابْن أدهم مَا كَانُوا فِيهِ فَقَالَ لَهُ ابْن عباد أَنْت رَسُولي إِلَيْهِ فِي ذَلِك فَامْتنعَ القَاضِي وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يبرىء نَفسه من تُهْمَة تلْحقهُ فألح عَلَيْهِ الْمُعْتَمد فَعبر القَاضِي الْبَحْر إِلَى أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين فأبلغه الرسَالَة وأعلمه مَا فِيهِ الْمُسلمُونَ من الْخَوْف من الأذفونش وَكَانَ أَمِير الْمُسلمين يَوْمئِذٍ بِمَدِينَة سبتة فَفِي الْحَال أَمر بعبور العساكر إِلَى الأندلس وَأرْسل إِلَى مراكش فِي طلب من بَقِي من عساكره فَأَقْبَلت إِلَيْهِ يَتْلُو بَعْضهَا بَعْضًا فَلَمَّا تكاملت عِنْده عبر الْبَحْر وَسَار فَاجْتمع بالمعتمد ابْن عباد بإشبيلية

وَكَانَ الْمُعْتَمد قد جمع عساكره أَيْضا وَخرج من أهل قرطبة عَسْكَر كَبِير وقصده المطوعة من سَائِر بِلَاد الأندلس ووصلت الْأَخْبَار إِلَى الأذفونش فَجمع عساكره وحشد جُنُوده وَسَار من طليطلة وَكتب إِلَى أَمِير

ص: 40

الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين كتابا كتبه لَهُ بعض غواة أدباء الْمُسلمين يغلظ لَهُ فِي القَوْل ويصف مَا مَعَه من الْقُوَّة وَالْعدَد وَبَالغ فِي ذَلِك فَلَمَّا وصل وقرأه يُوسُف أَمر كَاتبه أَبَا بكر بن القصيرة أَن يجِيبه وَكَانَ كَاتبا مفلقا فَكتب وأجاد فَلَمَّا قَرَأَهُ على أَمِير الْمُسلمين قَالَ هَذَا كتاب طَوِيل وأحضر كتاب الأذفونش وَكتب على ظَهره الَّذِي يكون ستراه وأرسله إِلَيْهِ فَلَمَّا وقف عَلَيْهِ الأذفونش ارتاع لَهُ وَعلم أَنه بلي بِرَجُل لَهُ دهاء وعزم

وَذكر ابْن خلكان أَن يُوسُف بن تاشفين أَمر بعبور الْجمال فَعبر مِنْهَا مَا أغص الجزيرة وارتفع رغاؤها إِلَى عنان السَّمَاء وَلم يكن أهل الجزيرة رَأَوْا جملا قطّ وَلَا خيلهم رأتها قطّ فَصَارَت الْخَيل تجمح من رُؤْيَة الْجمال ورغائها وَكَانَ ليوسف فِي عبورها رَأْي مُصِيب فَكَانَ يحدق بهَا عسكره ويحضرها الْحَرْب فَكَانَت خيل الفرنج تجمح مِنْهَا

وَقدم يُوسُف بن تاشفين بن يَدَيْهِ كتابا للأذفونش يعرض عَلَيْهِ فِيهِ الدُّخُول فِي الْإِسْلَام أَو الْجِزْيَة أَو الْحَرْب كَمَا هِيَ السّنة وَمن جملَة مَا فِي الْكتاب بلغنَا يَا أذفونش أَنَّك دَعَوْت الله فِي الإجتماع بِنَا وتمنيت أَن تكون لَك سفن تعبر عَلَيْهَا الْبَحْر إِلَيْنَا فقد عبرناه إِلَيْك وَقد جمع الله تَعَالَى فِي هَذِه الْعَرَصَة بَيْننَا وَبَيْنك وسترى عَاقِبَة دعائك وَمَا دُعَاء الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال فَلَمَّا سمع الأذفونش مَا كتب إِلَيْهِ يُوسُف جاش بَحر غيظه وَزَاد فِي طغيانه واقسم أَن لَا يبرح من مَوْضِعه حَتَّى يلقاه

ولنرجع إِلَى كَلَام صَاحب الرَّوْض والمعطار قَالَ رحمه الله فَلَمَّا عبر يُوسُف وَجَمِيع جيوشه الْبَحْر إِلَى الخضراء نَهَضَ إِلَى إشبيلية على أحسن الهيئات جَيْشًا بعد جَيش وأميرا بعد أَمِير وقبيلا بعد قبيل وَبعث الْمُعْتَمد ابْنه إِلَى لِقَاء يُوسُف وَأمر عُمَّال الْبِلَاد بجلب الأقوات والضيافات وَرَأى يُوسُف مَا سره من ذَلِك ونشطه وتواردت الجيوش مَعَ أمرائها على إشبيلية

وَخرج الْمُعْتَمد إِلَى لِقَاء يُوسُف من إشبيلية فِي مائَة فَارس من وُجُوه أَصْحَابه فَلَمَّا أَتَى محلّة يُوسُف ركض نحوهم وركضوا نَحوه ثمَّ برز إِلَيْهِ

ص: 41

يُوسُف وَحده والتقيا منفردين وتصافحا وتعانقا وَأظْهر كل مِنْهُمَا لصَاحبه الْمَوَدَّة والخلوص وشكرا نعم الله وتواصيا بِالصبرِ وَالرَّحْمَة وبشرا أَنفسهمَا بِمَا استقبلاه من غَزْو أهل الْكفْر وتضرعا إِلَى الله فِي أَن يَجْعَل ذَلِك خَالِصا لوجهه مقربا إِلَيْهِ وافترقا فَعَاد يُوسُف لمحلته وَابْن عباد إِلَى جِهَته وَألْحق ابْن عباد مَا كَانَ أعده من هَدَايَا وتحف وضيافات أوسع بهَا على محلّة يُوسُف بن تاشفين

وَبَاتُوا تِلْكَ اللَّيْلَة فَلَمَّا أَصْبحُوا وصلوا الصُّبْح ركب الْجَمِيع وَأَشَارَ ابْن عباد على يُوسُف بالتقدم نَحْو إشبيلية فَفعل وَرَأى النَّاس من عزة سلطانهم مَا سرهم وَلم يبْق من مُلُوك الطوائف بالأندلس إِلَّا من بَادر أَو أعَان وَكَذَلِكَ فعل الصحراويون مَعَ يُوسُف أهل كل صقع من أصقاعه رابطوا وكابدوا

وَكَانَ الأذفونش لما رأى اجْتِمَاع العزائم على مناجزته علم أَنه عَام نطاح فاستنفر الفرنجة لِلْخُرُوجِ وَرفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم ونشروا أَنَاجِيلهمْ فَاجْتمع لَهُ من الجلالقة والإفرنج مَا لَا يُحْصى عدده وجواسيس كل فريق تَتَرَدَّد من الْجَمِيع وَبعث الأذفونش إِلَى ابْن عباد إِن صَاحبكُم يُوسُف قد تعنى بالمجيء من بِلَاده وخوض الْبَحْر وَأَنا أكفيه العناء فِيمَا بَقِي وَلَا أكلفكم تعبا أمضي إِلَيْكُم وألقاكم فِي بِلَادكُمْ رفقا بكم وتوفيرا عَلَيْكُم وَقَالَ لخاصته وَأهل مشورته إِنِّي رَأَيْت أَنِّي إِن أمكنتهم من الدُّخُول إِلَى بلادي فناجزوني فِيهَا وَبَين جدرها وَرُبمَا كَانَت الدائرة عَليّ يستحكمون الْبِلَاد ويحصدون من فِيهَا غَدَاة وَاحِدَة وَلَكِنِّي أجعَل يومهم معي فِي حوز بِلَادهمْ فَإِن كَانَت عَليّ اكتفوا بِمَا نالوه وَلم يجْعَلُوا الدروب وَرَاءَهُمْ إِلَّا بعد أهبة أُخْرَى فَيكون فِي ذَلِك صون لبلادي وجبر لمكاسري وَإِن كَانَت الدائرة عَلَيْهِم كَانَ مني فيهم وَفِي بِلَادهمْ مَا خفت أَن يكون فِي وَفِي بلادي إِذا ناجزوني فِي وَسطهَا

ثمَّ برز بالمختار من جُنُوده وأنجاد جموعه على بَاب دربه وَترك بَقِيَّة جموعه خَلفه وَقَالَ حِين نظر إِلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْهُم بهؤلاء أقَاتل الْجِنّ وَالْإِنْس وملائكة السَّمَاء فالمقلل يَقُول المختارون أَرْبَعُونَ ألف دارع

ص: 42

وَلكُل وَاحِد أَتبَاع وَأما النَّصَارَى فيعجبون مِمَّن يزْعم ذَلِك ويرون أَنهم أَكثر من ذَلِك كُله

وَاتفقَ الْكل أَن عدد الْمُسلمين كَانَ أقل من عدد الْكفَّار وَرَأى الأذفونش فِي نَومه كَأَنَّهُ رَاكب فيلا وَبَين يَدَيْهِ طبل صَغِير وَهُوَ ينقر فِيهِ فَقص رُؤْيَاهُ على القسيسين فَلم يعرفوا تَأْوِيلهَا فأحضر رجلا مُسلما عَالما بتفسير الرُّؤْيَا فَقَصَّهَا عَلَيْهِ فاستعفاه من تعبيرها فَلم يعفه فَقَالَ تَأْوِيل هَذِه الرُّؤْيَا من كتاب الله تَعَالَى وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بأصحاب الْفِيل} إِلَى آخر السُّورَة وَقَوله تَعَالَى {فَإِذا نقر فِي الناقور فَذَلِك يَوْمئِذٍ يَوْم عسير على الْكَافرين غير يسير} وَذَلِكَ يَقْتَضِي هَلَاك هَذَا الْجَيْش الَّذِي تجمعه فَلَمَّا اجْتمع جَيْشه وَرَأى كثرته أعجبه فأحضر ذَلِك الْمعبر وَقَالَ لَهُ بِهَذَا الْجَيْش ألْقى إِلَه مُحَمَّد صَاحب كتابكُمْ فَانْصَرف الْمعبر وَقَالَ لبَعض الْمُسلمين هَذَا الْملك هَالك وكل من مَعَه وَذكر الحَدِيث ثَلَاث مهلكات وَفِيه وَإِعْجَاب الْمَرْء بِنَفسِهِ

ثمَّ خرج الأذفونش إِلَى بِلَاد الأندلس وَتقدم السُّلْطَان يُوسُف نَحوه أَيْضا وَتَأَخر ابْن عباد لبَعض مهماته ثمَّ انزعج يقفو أَثَره بِجَيْش فِيهِ حماة الثغور ورؤساء الأندلس وَجعل ابْنه عبد الله على مقدمته وَسَار وَهُوَ ينشد متفائلا بِبَيْت سَائِر مجيزا لَهُ بِأَبْيَات من شعره

(لَا بُد من فرج قريب

يَأْتِيك بالعجب العجيب)

(غَزْو عَلَيْك مبارك

سيعود بِالْفَتْح الْقَرِيب)

(لله سعدك إِنَّه

نكس على دين الصَّلِيب)

(لَا بُد من يَوْم يكون

لَهُ أَخا يَوْم القليب)

ووافت الجيوش كلهَا بطليوس فأناخوا بظاهرها وَخرج إِلَيْهِم صَاحبهَا المتَوَكل عمر بن مُحَمَّد بن الْأَفْطَس فَلَقِيَهُمْ بِمَا يجب من الضيافات والأقوات وبذل المجهود ثمَّ جَاءَهُم الْخَبَر بشخوص الأذفونش إِلَيْهِم

وَقَالَ ابْن أبي زرع ارتحل يُوسُف بن تاشفين من الخضراء قَاصِدا

ص: 43

نَحْو الأذفونش وَقدم بَين يَدَيْهِ قائده أَبَا سُلَيْمَان دَاوُد بن عَائِشَة وَكَانَ بطلا من الْأَبْطَال فِي عشرَة آلَاف فَارس من المرابطين بعد أَن قدم أَمَامه الْمُعْتَمد ابْن عباد مَعَ أُمَرَاء الأندلس وجيوشهم مِنْهُم ابْن صمادح صَاحب المرية وَابْن حبوس صَاحب غرناطة وَابْن مسلمة صَاحب الثغر الْأَعْلَى وَابْن ذِي النُّون وَابْن الْأَفْطَس وَغَيرهم فَأَمرهمْ يُوسُف أَن يَكُونُوا مَعَ الْمُعْتَمد فَتكون محلّة مُلُوك الأندلس وَاحِدَة ومحلة المرابطين أُخْرَى فَتقدم بهم ابْن عباد فَكَانُوا إِذا ارتحل ابْن عباد من مَوضِع نزله يُوسُف بمحلته فَلم يزَالُوا كَذَلِك حَتَّى نزلُوا مَدِينَة طرطوشة فأقاموا بهَا ثَلَاثًا وَكتب مِنْهَا يُوسُف إِلَى الأذفونش يَدعُوهُ إِلَى الْإِسْلَام أَو الْجِزْيَة أَو الْحَرْب وَكَانَ جَوَاب الأذفونش مَا تقدم ثمَّ ارتحل يُوسُف وارتحل الأذفونش حَتَّى نزلا مَعًا بِالْقربِ من بطليوس وَكَانَ نزُول يُوسُف بِموضع يعرف بالزلاقة وَتقدم الْمُعْتَمد فَنزل نَاحيَة أُخْرَى تحجز بَينه وَبَين يُوسُف ربوة وَبَين الْمُسلمين والفرنج نهر بطليوس حاجزا يشرب مِنْهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء فأقاموا ثَلَاثَة أَيَّام وَالرسل تخْتَلف بَينهم إِلَى أَن وَقع اللِّقَاء على مَا نذكرهُ

وَلما ازدلف بَعضهم إِلَى بعض أذكى الْمُعْتَمد عيونه فِي محلات الصحراويين خوفًا عَلَيْهِم من مكايد الأذفونش إِذْ هم غرباء لَا علم لَهُم بالبلاد وَجعل يتَوَلَّى ذَلِك بِنَفسِهِ حَتَّى قيل إِن الرجل من الصحراويين كَانَ لَا يخرج إِلَى طرف الْمحلة لقَضَاء أَمر أَو حَاجَة إِلَّا ويجد ابْن عباد بِنَفسِهِ مطيفا بالمحلة بعد تَرْتِيب الْخَيل وَالرِّجَال على أَبْوَاب المحلات ثمَّ قَامَت الأساقفة والرهبان وَرفعُوا صلبانهم ونشروا أَنَاجِيلهمْ وتبايعوا على الْمَوْت

وَوعظ يُوسُف وَابْن عباد أصحابهما وَقَامَ الْفُقَهَاء والصالحون فِي النَّاس مقَام الْوَعْظ وحضوهم على الصَّبْر والثبات وحذروهم من الفشل والفرار

وَجَاءَت الطَّلَائِع تخبر أَن الْعَدو مشرف عَلَيْهِم صَبِيحَة يومهم وَهُوَ يَوْم الْأَرْبَعَاء فَأصْبح الْمُسلمُونَ وَقد أخدوا مَصَافهمْ فكع الأذفونش وَرجع إِلَى

ص: 44

أَعمال الْمَكْر والخديعة فَعَاد النَّاس إِلَى محلاتهم وَبَاتُوا ليلتهم ثمَّ أصبح يَوْم الْخَمِيس فَبعث الأذفونش إِلَى ابْن عباد يَقُول غَدا يَوْم الْجُمُعَة وَهُوَ عيدكم والأحد عيدنا فَلْيَكُن لقاؤنا بَينهمَا وَهُوَ يَوْم السبت فَعرف الْمُعْتَمد بذلك السُّلْطَان يُوسُف وأعلمه أَنَّهَا حِيلَة مِنْهُ وخديعة وَإِنَّمَا قَصده الفتك بِنَا يَوْم الْجُمُعَة فَلْيَكُن النَّاس على استعداد لَهُ يَوْم الْجُمُعَة كل النَّهَار وَيُقَال إِن الأذفونش واعدهم ليَوْم الْإِثْنَيْنِ وَبَات النَّاس ليلتهم على أهبة واحتراس كَمَا أَشَارَ ابْن عباد

وَبعد مُضِيّ جُزْء من اللَّيْل انتبه الْفَقِيه الناسك أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن رميلة الْقُرْطُبِيّ وَكَانَ فِي مَحَله ابْن عباد فَرحا مَسْرُورا يَقُول إِنَّه رآى النَّبِي صلى الله عليه وسلم تِلْكَ اللَّيْلَة فِي النّوم فبشره بِالْفَتْح وَالْمَوْت على الشَّهَادَة فِي صَبِيحَة تِلْكَ اللَّيْلَة فتأهب ودعا وتضرع ودهن رَأسه وتطيب وانْتهى ذَلِك إِلَى ابْن عباد فَبعث إِلَى يُوسُف يُخبرهُ بهَا تَحْقِيقا لما توقعه من غدر الْعَدو الْكَافِر ثمَّ جَاءَ بِاللَّيْلِ فارسان من طلائع الْمُعْتَمد يخبران أَنَّهُمَا أشرفا على محلّة الأذفونش وسمعا ضوضاء الْجَيْش وخشخشة السِّلَاح ثمَّ تلاحق بَقِيَّة الطَّلَائِع محققين لتحرك الأذفونش ثمَّ جَاءَت الجواسيس من دَاخل محلتهم تَقول استرقنا السّمع فسمعنا الأذفونش يَقُول لأَصْحَابه ابْن عباد مسعر هَذِه الحروب وَهَؤُلَاء الصحراويون وَإِن كَانُوا أهل حفاظ وَذَوي بصائر فِي الْحَرْب فهم غير عارفين بِهَذِهِ الْبِلَاد وَإِنَّمَا قادهم ابْن عباد فاهجموا عَلَيْهِ واصبروا لَهُ فَإِن انْكَشَفَ لكم هان عَلَيْكُم الصحراويون بعده وَلَا أرَاهُ يصبر لكم إِن صدقتموه الحملة فَعِنْدَ ذَلِك بعث ابْن عباد الْكَاتِب أَبَا بكر بن القصيرة إِلَى السُّلْطَان يُوسُف يعرفهُ بإقبال الأذفونش ويستحث نصرته فَمضى ابْن القصيرة يطوي المحلات حَتَّى جَاءَ يُوسُف بن تاشفين فَعرفهُ بجلية الْأَمر فَقَالَ لَهُ قل لَهُ إِنِّي سَائِر إِلَيْك إِن شَاءَ الله وَأمر يُوسُف بعض قواده أَن يمْضِي بكتيبة رسمها لَهُ حَتَّى يدْخل محلّة النَّصَارَى فيضرمها نَارا مَا دَامَ الأذفونش مشتغلا مَعَ ابْن عباد

ص: 45

وَانْصَرف ابْن القصيرة إِلَى الْمُعْتَمد فَلم يصله إِلَّا وَقد غَشيته جنود الطاغية فصدم ابْن عباد صدمة قطعت آماله وَمَال الأذفونش عَلَيْهِ بجموعه وَأَحَاطُوا بِهِ من كل جِهَة فهاجت الْحَرْب وحمي الْوَطِيس واستحر الْقَتْل فِي أَصْحَاب ابْن عباد وصبر صبرا لم يعْهَد مثله واستبطأ السُّلْطَان يُوسُف وَهُوَ يُلَاحظ طَرِيقه وعضته الْحَرْب وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَابه الْبلَاء وَسَاءَتْ الظنون وانكشف الْبَعْض مِنْهُم وَفِيهِمْ ابْنه عبد الله بن الْمُعْتَمد وأثخن هُوَ جراحات فِي رَأسه وبدنه وعقرت تَحْتَهُ فِي ذَلِك الْيَوْم ثَلَاث أَفْرَاس كلما هلك وَاحِد قدم لَهُ آخر وتذكر فِي تِلْكَ الْحَالة ابْنا لَهُ صَغِيرا يكنى أَبَا هَاشم وَكَانَ قد تَركه بإشبيلية عليلا فَقَالَ

(أَبَا هَاشم هشمتني الشفار

فَللَّه صبري لذَلِك الأوار)

(ذكرت شخيصك تَحت العجاج

فَلم يثنني ذكره للفرار)

ثمَّ كَانَ أول من وافى ابْن عباد من قواد يُوسُف بن تاشفين دَاوُد بن عَائِشَة وَكَانَ بطلا شهما فَنَفْس بمجيئه على ابْن عباد ثمَّ أقبل يُوسُف بعد ذَلِك وطبوله قد مَلَأت أصواتها الجو فَلَمَّا أبصره الأذفونش وَجه حَملته إِلَيْهِ وقصده بمعظم جُنُوده فبادر إِلَيْهِم السُّلْطَان يُوسُف وصدمهم صدمة ردتهم إِلَى مركزهم وانتظم بِهِ شَمل ابْن عباد واستنشق النَّاس ريح الظفر وتباشروا بالنصر ثمَّ صدقُوا جَمِيعًا الحملة فزلزلت الأَرْض من حوافر الْخَيل وأظلم النَّهَار بالعجاج وخاضت الْخَيل فِي الدِّمَاء وصبر الْفَرِيقَانِ صبرا عَظِيما

ثمَّ تراجع ابْن عباد إِلَى يُوسُف وَحمل مَعَه حَملَة مَعهَا النَّصْر وتراجع المنهزمون من أَصْحَاب ابْن عباد حِين علمُوا بالتحام الفئتين وَصَدقُوا الحملة فانكشف الطاغية وَمر هَارِبا مُنْهَزِمًا وَقد طعن فِي إِحْدَى رُكْبَتَيْهِ طعنة بَقِي يخمع بهَا بَقِيَّة عمره قَالُوا وَكَانَ أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين على فرس يَوْمئِذٍ أُنْثَى يمر بَين ساقات الْمُسلمين وصفوفهم يحرضهم وَيُقَوِّي نُفُوسهم على الْجِهَاد ويحضهم على الصَّبْر فقاتل النَّاس ذَلِك الْيَوْم قتال من يطْلب الشَّهَادَة ويرغب فِي الْمَوْت

ص: 46

وعَلى سِيَاق ابْن خلكان إِن ابْن تاشفين نزل على أقل من فَرسَخ من عَسْكَر الْعَدو فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء وَكَانَ الْموعد بالمناجزة يَوْم السبت فغدر الأذفونش ومكر فَلَمَّا كَانَ سحر يَوْم الْجُمُعَة منتصف رَجَب أَقبلت طلائع ابْن عباد وَالروم فِي أَثَرهَا وَالنَّاس على طمأنينة فبادر ابْن عباد للرُّكُوب وانبث الْخَبَر فِي العساكر فماجت بِأَهْلِهَا ورجفت الأَرْض وَصَارَت النَّاس فوضى على غير تعبئة وَلَا أهبة ودهمتهم خيل الْعَدو فغمرت ابْن عباد وحطمت مَا تعرض لَهَا وَتركت الأَرْض حصيدا خلفهَا وصرع ابْن عباد وأصابه جرح اشواه وفر رُؤَسَاء الأندلس وَأَسْلمُوا محلاتهم وظنوا أَنه وَهِي لَا يرقع ونازلة لَا تدفع وَظن الأذفونش أَن أَمِير الْمُسلمين فِي المنهزمين وَلم يعلم أَن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين فَتقدم أَمِير الْمُسلمين وَأَحْدَقَتْ بِهِ أنجاد خيله وَرِجَاله من صنهاجة ورؤساء الْقَبَائِل وقصدوا محلّة الأذفونش فاقتحموها وَقتلُوا حاميتها وَضربت الطبول وزعقت البوقات الأَرْض وتجاوبت الْجبَال والآفاق وتراجع الرّوم إِلَى محلتهم بعد أَن علمُوا أَن أَمِير الْمُسلمين فِيهَا فقصدوه فأفرج لَهُم عَنْهَا ثمَّ كرّ عَلَيْهِم فَأخْرجهُمْ مِنْهَا ثمَّ كروا عَلَيْهِ فأفرج لَهُم عَنْهَا وَلم تزل الكرات بَينهم تتوالى إِلَى أَن أَمر أَمِير الْمُسلمين حشمه السودَان فترجل مِنْهُم زهاء أَرْبَعَة آلَاف ودخلوا المعترك بدرق اللمط وسيوف الْهِنْد ومزاريق الزان فخالطوا الْخَيل وطعنوها فرمحت بفرسانها وأحجمت عَن أقرانها وتلاحق الأذفونش بأسود نفدت مزاريقه فَأَهوى ليضربه بِالسَّيْفِ فلصق بِهِ الْأسود وَقبض على عنانه وانتضى خنجرا كَانَ متمنطقا بِهِ فأثبته فِي فَخذه فهتك حلق درعه وَشك فَخذه مَعَ بداد سَرْجه وَكَانَ وَقت الزَّوَال يَوْم الْجُمُعَة منتصف رَجَب سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وهبت ريح النَّصْر فَأنْزل الله سكينته على الْمُسلمين وَنصر دينه القويم وَصَدقُوا الحملة على الأذفونش وَأَصْحَابه فأخرجوهم عَن محلتهم فَوَلوا ظُهُورهمْ وأعطوا أقفاءهم وَالسُّيُوف تصفعهم والرماح تطعنهم إِلَى أَن لَحِقُوا بِرَبْوَةٍ لجؤوا إِلَيْهَا واعتصموا بهَا وَأَحْدَقَتْ بهم الْخَيل فَلَمَّا أظلم اللَّيْل انساب الأذفونش وَأَصْحَابه من الربوة وأفلتوا من بعد مَا نشبت فيهم أظفار الْمنية وَاسْتولى

ص: 47

الْمُسلمُونَ على مَا كَانَ فِي محلتهم من الأثاث والآنية وَالْمُضَارب والأسلحة وَغير ذَلِك وَأمر ابْن عباد بِضَم رُؤُوس قَتْلَى الْمُشْركين فأجتمع من ذَلِك تل عَظِيم

وَقَالَ صَاحب الرَّوْض المعطار لَجأ الأذفوش إِلَى تل كَانَ يَلِي محلته فِي نَحْو خَمْسمِائَة فَارس مَا مِنْهُم إِلَّا مكلوم وأباد الْقَتْل والأسر من عداهم من أَصْحَابه وَعمل الْمُسلمُونَ من رؤوسهم مآذن يُؤذنُونَ عَلَيْهَا والمخذول ينظر إِلَى مَوضِع الوقيعة وَمَكَان الْهَزِيمَة فَلَا يرى إِلَّا نكالا محيطا بِهِ وبأصحابه

وَأَقْبل ابْن عباد على السُّلْطَان يُوسُف وَصَافحهُ وهنأه وشكره وَأثْنى عَلَيْهِ وشكر يُوسُف صَبر ابْن عباد ومقامه وَحسن بلائه وَسَأَلَهُ عَن حَاله عِنْدَمَا أسملته رِجَاله بانهزامهم عَنهُ فَقَالَ لَهُ هَا هم هَؤُلَاءِ قد حَضَرُوا بَين يَديك فليخبروك

وَكتب ابْن عباد إِلَى ابْنه بإشبيلية كتابا مضمونه كتابي هَذَا إِلَيْك من الْمحلة المنصورة يَوْم الْجُمُعَة منتصف رَجَب وَقد أعز الله الدّين وَنصر الْمُسلمين وَفتح لَهُم الْفَتْح الْمُبين وَهزمَ الْكَفَرَة الْمُشْركين وأذاقهم الْعَذَاب الْأَلِيم والخطب الجسيم فَالْحَمْد لله على مَا يسره وسناه من هَذِه المسرة الْعَظِيمَة وَالنعْمَة الجسيمة فِي تشتيت شَمل الأذفونش والإحتواء على جَمِيع عساكره أصلاه الله نكال الْجَحِيم وَلَا أعدمه الوبال الْعَظِيم بعد إتْيَان النهب على محلاته واستئصال الْقَتْل بِجَمِيعِ أبطاله وحماته حَتَّى اتخذ الْمُسلمُونَ من هاماتهم صوامع يُؤذنُونَ عَلَيْهَا فَللَّه الْحَمد على جميل صنعه وَلم يُصِبْنِي وَالْحَمْد لله إِلَّا جراحات يسيرَة آلمت لَكِنَّهَا قرحت بعد ذَلِك فَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَالسَّلَام

وَاسْتشْهدَ فِي ذَلِك الْيَوْم جمَاعَة من الْفُضَلَاء وَالْعُلَمَاء مثل ابْن رميلة صَاحب الرُّؤْيَا الْمَذْكُورَة وقاضي مراكش أبي مَرْوَان عبد الْملك المصمودي وَغَيرهمَا رحم الله الْجَمِيع

ص: 48

وَحكي أَن مَوضِع المعترك كَانَ على اتساعه مَا فِيهِ مَوضِع قدم إِلَّا على ميت أَو دم وأقامت العساكر بالموضع أَرْبَعَة أَيَّام حَتَّى جمعت الْغَنَائِم واستؤذن فِي ذَلِك السُّلْطَان يُوسُف فعف عَنْهَا وآثر بهَا مُلُوك الأندلس وعرفهم أَن مَقْصُوده الْجِهَاد وَالْأَجْر الْعَظِيم وَمَا عِنْد الله فِي ذَلِك من الثَّوَاب الْمُقِيم فَلَمَّا رَأَتْ مُلُوك الأندلس إِيثَار يُوسُف لَهُم بالغنائم استكرموه وأحبوه وشكروا لَهُ صنعه وَأمر أَمِير الْمُسلمين بِقطع رُؤُوس الْقَتْلَى وَجَمعهَا فَقطعت وَجمع بَين يَدَيْهِ مِنْهَا أَمْثَال الْجبَال فَبعث مِنْهَا إِلَى إشبيلية عشرَة آلَاف رَأس وَإِلَى قرطبة مثل ذَلِك وَإِلَى بلنسية مثلهَا وَإِلَى سرقسطة ومرسية مثلهَا وَبعث إِلَى بِلَاد العدوة أَرْبَعِينَ ألف رَأس فقسمت على مدن العدوة ليراها النَّاس فيشكروا الله على مَا منحهم من النَّصْر وَالظفر الْعَظِيم

قَالَ ابْن أبي زرع وَفِي هَذَا الْيَوْم تسمى يُوسُف بن تاشفين بأمير الْمُسلمين وَلم يكن يدعى بِهِ قبل ذَلِك وَأظْهر الله تَعَالَى الْإِسْلَام وأعز أَهله وَكتب أَمِير الْمُسلمين بِالْفَتْح إِلَى بِلَاد العدوة وَإِلَى تَمِيم بن الْمعز الصنهاجي صَاحب إفريقية فعمت المفرحات فِي جَمِيع بِلَاد إفريقية وَالْمغْرب والأندلس وَاجْتمعت كلمة الْإِسْلَام وَأخرج النَّاس الصَّدقَات وأعتقوا الرّقاب شكرا لله تَعَالَى

وَلما بلغ الأذفونش إِلَى بِلَاده وَسَأَلَ عَن أَصْحَابه وأبطاله ففقدهم وَلم يسمع إِلَّا نواح الثكالى عَلَيْهِم اغتم وَلم يَأْكُل وَلم يشرب حَتَّى هلك أسفا وغما وَرَاح إِلَى أمه الهاوية وَلم يخلف إِلَّا بِنْتا وَاحِدَة جعل الْأَمر إِلَيْهَا فتحصنت بطليطلة

ورحل الْمُعْتَمد إِلَى إشبيلية وَمَعَهُ السُّلْطَان يُوسُف بن تاشفين فَأَقَامَ يُوسُف بِظَاهِر إشبيلية ثَلَاثَة أَيَّام وَورد عَلَيْهِ الْخَبَر بوفاة وَلَده ابي بكر بن يُوسُف وَكَانَ قد تَركه مَرِيضا بسبتة فَاغْتَمَّ لذَلِك وَانْصَرف رَاجعا إِلَى العدوة وَذهب مَعَه ابْن عباد يَوْمًا وَلَيْلَة فعزم عَلَيْهِ يُوسُف فِي الرُّجُوع إِلَى منزله وَكَانَت جراحاته قد تورمت عَلَيْهِ فسير مَعَه وَلَده عبد الله إِلَى أَن وصل الْبَحْر وَعبر إِلَى الْمغرب

ص: 49