الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَكَانَ أَمِير الْمُسلمين عِنْد مَجِيئه إِلَى بِلَاد الأندلس وقصده ملاقاة الأذفونش قد تحرى الْمسير بالعراء من غير أَن يمر بِمَدِينَة أَو رستاق حَتَّى نزل الزلاقة تجاه الأذفونش وَهُنَاكَ اجْتمع بعساكر الأندلس قَالَه ابْن خلكان
وَلما فرغ من الْوَقْعَة رَجَعَ عوده على بدئه كل ذَلِك تورع مِنْهُ وتكرم وَتَخْفِيف عَن الرعايا رحمه الله وَرَضي عَنهُ
وَلما رَجَعَ ابْن عباد إِلَى إشبيلية جلس للنَّاس وهنىء بِالْفَتْح وقرأت الْقُرَّاء وَقَامَت على رَأسه الشُّعَرَاء فأنشدوه قَالَ عبد الْجَلِيل بن وهبون حضرت ذَلِك الْيَوْم وأعددت قصيدة أنشدها بَين يَدَيْهِ فَقَرَأَ قارىء {إِلَّا تنصروه فقد نَصره الله} فَقلت بعدا لي ولشعري وَالله مَا أبقت لي هَذِه الْآيَة معنى أحضرهُ وأقوم بِهِ اه
وَمن هُنَا اخْتلفت أَقْوَال المؤرخين فِي حَال أَمِير الْمُسلمين فِي الْجِهَاد فَقيل إِنَّه لم يرجع إِلَى بِلَاد الأندلس بعد هَذِه الْمرة لكنه ترك قواده فِيهَا ورسم لَهُم بِالْجِهَادِ وَشن الغارات على بِلَاد الْعَدو وَقيل إِنَّه عَاد إِلَيْهَا ثَانِيًا وثالثا وعَلى هَذَا القَوْل فَاخْتَلَفُوا فِي زمَان ذَلِك الْعود وتاريخه وَالله تَعَالَى أعلم
بَقِيَّة أَخْبَار أَمِير الْمُسلمين فِي الْجِهَاد وَمَا اتّفق لَهُ مَعَ مُلُوك الأندلس وَكَبِيرهمْ ابْن عباد
أعلم أَن أَقْوَال المؤرخين اخْتلفت فِي أَمر يُوسُف بن تاشفين بعد غَزْوَة الزلاقة فَحكى ابْن خلكان وَغَيره أَن أَمِير الْمُسلمين لما عزم على النهوض إِلَى بِلَاد الْمغرب ترك قائده سير بن أبي بكر اللمتوني بِأَرْض الأندلس وَخلف مَعَه جَيْشًا برسم غَزْو الفرنج فاستراح سير بن أبي بكر أَيَّامًا قَلَائِل ثمَّ دخل بِلَاد الأذفونش وَشن الغارات فنهب وَقتل وسبى وَفتح الْحُصُون المنيعة والمعاقل الصعبة وتوغل فِي بِلَاد الْعَدو وَحصل على أَمْوَال جليلة وذخائر عَظِيمَة ورتب رجَالًا وفرسانا فِي جَمِيع مَا استولى عَلَيْهِ وَأرْسل إِلَى السُّلْطَان يُوسُف
بِجَمِيعِ مَا حصله وَكتب إِلَيْهِ يعرفهُ أَن الجيوش بالثغور مُقِيمَة على مكابدة الْعَدو وملازمة الْحَرْب والقتال فِي أضيق عَيْش وأنكده وملوك الأندلس فِي بِلَادهمْ وأهليهم فِي أرغد عَيْش وأطيبه وَسَأَلَهُ مرسومه فَكتب إِلَيْهِ أَن يَأْمُرهُم بالنقلة والرحيل إِلَى أَرض العدوة فَمن فعل فَذَاك وَمن أَبى فحاصره وقاتله وَلَا تنفس عَلَيْهِ ولتبدأ بِمن والى الثغور مِنْهُم وَلَا تتعرض لِابْنِ عباد إِلَّا بعد استيلائك على الْبِلَاد وكل بلد أَخَذته فول عَلَيْهِ أَمِيرا من عسكرك فامتثل سير بن أبي بكر أمره واستنزلهم وَاحِدًا بعد وَاحِد حَتَّى كَانَ آخِرهم ابْن عباد فألحقه بهم ونظمه فِي سلكهم على مَا نذكرهُ
وَقَالَ ابْن أبي زرع لما كَانَت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة جَازَ أَمِير الْمُسلمين إِلَى الأندلس الْجَوَاز الثَّانِي برسم الْجِهَاد قَالَ وَسبب جَوَازه أَن الأذفونش لَعنه الله لما هزم وجرح وَقتلت جموعه عمد إِلَى حصن لبيط الموَالِي لعمل ابْن عباد فشحنه بِالْخَيْلِ وَالرِّجَال وَالرُّمَاة وَأمرهمْ أَن يَكُونُوا ينزلون من الْحصن الْمَذْكُور فيغيرون فِي أَطْرَاف بِلَاد ابْن عباد دون سَائِر بِلَاد الأندلس إِذْ كَانَ السَّبَب فِي جَوَاز أَمِير الْمُسلمين إِلَى الأندلس فَكَانُوا ينزلون من الْحصن فِي الْخَيل وَالرجل فيغيرون وَيقْتلُونَ وَيَأْسِرُونَ قد جعلُوا ذَلِك وَظِيفَة عَلَيْهِم فِي كل يَوْم فسَاء ابْن عباد ذَلِك وضاق بِهِ ذرعا ثمَّ عبر الْبَحْر إِلَى العدوة مستنفرا لأمير الْمُسلمين فَلَقِيَهُ بالمعمورة من حلق وَادي سبو وَهَذِه المعمورة هِيَ الْمُسَمَّاة الْيَوْم بالمهدية من أحواز سلا فَشَكا إِلَيْهِ حصن لبيط وَمن يلقاه الْمُسلمُونَ من أَهله فوعده الْجَوَاز إِلَيْهِ فَرجع الْمُعْتَمد
وَسَار يُوسُف فِي أَثَره فَركب الْبَحْر من قصر الْمجَاز إِلَى الخضراء فَتَلقاهُ ابْن عباد بهَا بِأَلف دَابَّة تحمل الْميرَة والضيافة فَلَمَّا نزل يُوسُف بالخضراء كتب مِنْهَا إِلَى أُمَرَاء الأندلس يَدعُوهُم إِلَى الْجِهَاد وَقَالَ لَهُم الْموعد بَيْننَا وَبَيْنكُم حصن لبيط ثمَّ تحرّك يُوسُف من الخضراء وَذَلِكَ فِي ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فَنزل على حصن لبيط وَفِي الْقَامُوس لبطيط
كزنبيل بلد بالجزيرة الخضراء الأندلسية وَلَعَلَّه هُوَ هَذَا فَلَمَّا نزله أَمِير الْمُسلمين لم يَأْته مِمَّن كتب إِلَيْهِ من أُمَرَاء الأندلس غير ابْن عبد الْعَزِيز صَاحب مرسية وَابْن عباد صَاحب إشبيلية فنازلا مَعَه الْحصن وشرعوا فِي الْقِتَال والتضييق عَلَيْهِ
وَكَانَ يُوسُف رحمه الله يَشن الغارات على بِلَاد الفرنج كل يَوْم ودام الْحصار على الْحصن أَرْبَعَة أشهر لم يَنْقَطِع الْقِتَال فِيهَا يَوْمًا وَاحِدًا إِلَى أَن دخل فصل الشتَاء وَوَقع بَين ابْن عبد الْعَزِيز وَابْن عباد نزاع وَشَنَآن فَشَكا الْمُعْتَمد إِلَى أَمِير الْمُسلمين ابْن عبد الْعَزِيز فَقبض عَلَيْهِ أَمِير الْمُسلمين وأسلمه إِلَى ابْن عباد فاختل أَمر الْمحلة بِسَبَب ذَلِك وفر جَيش ابْن عبد الْعَزِيز وقواده عَنْهَا وَقَطعُوا الْميرَة عَن الْمحلة وَوَقع بهَا الغلاء
وَلما علم الأذفونش بذلك حشد أُمَم النَّصْرَانِيَّة وَقصد إِلَى حماية الْحصن فِي أُمَم لَا تحصى فَلَمَّا قرب من الْحصن انحرف لَهُ يُوسُف عَنهُ إِلَى نَاحيَة لورقة ثمَّ إِلَى المرية ثمَّ جَازَ إِلَى العدوة وَقد تغير على أُمَرَاء الأندلس لكَونه لم يَأْته مِنْهُم أحد عِنْدَمَا دعاهم إِلَى الْجِهَاد ومنازلة الْحصن
وَلما أفرج أَمِير الْمُسلمين عَن الْحصن الْمَذْكُور أقبل الأذفونش حَتَّى نزل عَلَيْهِ فأخلاه مِمَّا كَانَ فِيهِ من آلَة الْحصار ومادته وَأخرج من كَانَ فِيهِ من بَقِيَّة النَّصَارَى المنفلتين من مخالب الْمنية وَعَاد إِلَى طليطلة فاستولى ابْن عباد عَلَيْهِ بعد خلائه وفناء جَمِيع حماته بِالْقَتْلِ والجوع سوى تِلْكَ الصبابة المنفلتة
وَكَانَ فِيهِ عِنْدَمَا نازله أَمِير الْمُسلمين اثْنَا عشر ألف مقَاتل دون الْعِيَال والذرية فَأتى عَلَيْهِم الْقَتْل والجوع حَتَّى لم يبْق فِيهِ سوى نَحْو الْمِائَة وهم المنفلتون مِنْهُ عِنْد إخلائه
ثمَّ لما كَانَت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة جَازَ أَمِير الْمُسلمين إِلَى الأندلس الْجَوَاز الثَّالِث برسم الْجِهَاد فَسَار حَتَّى نزل على طليطلة وحاصر بهَا الأذفونش وَشن الغارات بأطرافها فاكتسحها وانتسف ثمارها وزروعها
وَخرب عمرانها وَقتل وسبى وَلم يَأْته من مُلُوك الأندلس أحد وَلَا عرج عَلَيْهِ مِنْهُم معرج فَغَاظَهُ ذَلِك
وَلما قفل من غَزْو طليطلة عمد إِلَى غرناطة فنازلها وَكَانَ صَاحبهَا عبد الله بن بلكين بن باديس بن حبوس قد صَالح الأذفونش وَظَاهره على أَمِير الْمُسلمين وَبعث إِلَيْهِ بِمَال واشتغل بتحصين بَلَده وَفِي ذَلِك يَقُول بعض شعراء عصره
(يَبْنِي على نَفسه سفاها
…
كَأَنَّهُ دودة الْحَرِير)
(دَعوه يَبْنِي فَسَوف يدْرِي
…
إِذا أَتَت قدرَة الْقَدِير)
وَلما انْتهى أَمِير الْمُسلمين إِلَى غرناطة تحصن مِنْهُ صَاحبهَا عبد الله بن بلكين وأغلق أَبْوَابهَا دونه فحاصره أَمِير الْمُسلمين نَحْو شَهْرَيْن وَلما اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحصار أرسل يطْلب الْأمان فَأَمنهُ أَمِير الْمُسلمين وتسلم مِنْهُ الْبِلَاد فملكها وَبعث بِعَبْد الله وأخيه تَمِيم بن بلكين صَاحب مالقة إِلَى مراكش مَعَ حريمهما وأولادهما فأقاما بهَا وأجرى عَلَيْهِمَا الْإِنْفَاق إِلَى أَن مَاتَا بهَا
وَلما خلع أَمِير الْمُسلمين بني باديس وَملك غرناطة ومالقة وَمَا أضيف إِلَيْهِمَا خَافَ مِنْهُ الْمُعْتَمد ابْن عباد وانقبض عَنهُ وَيُقَال إِن ابْن عباد طمع فِي غرناطة وَأَن أَمِير الْمُسلمين يُعْطِيهِ إِيَّاهَا فَعرض لَهُ بذلك فَأَعْرض عَنهُ أَمِير الْمُسلمين فخاف ابْن عباد مِنْهُ وَعمل على الْخُرُوج عَلَيْهِ ثمَّ سعى بَينهمَا الوشاة فَتغير عَلَيْهِ أَمِير الْمُسلمين وَعبر إِلَى العدوة فِي رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة
وَلما انْتهى إِلَى مراكش ولى على الأندلس قائده سير بن أبي بكر اللمتوني وفوض إِلَيْهِ جَمِيع أمورها كلهَا وَلم يَأْمُرهُ فِي ابْن عباد بِشَيْء فَسَار سير بن أبي بكر نَحْو إشبيلية وَهُوَ يظنّ أَن ابْن عباد إِذا سمع بِهِ يخرج إِلَيْهِ ويتلقاه على بعد وَيحمل إِلَيْهِ الضيافات على الْعَادة فَلم يفعل وتحصن مِنْهُ وَلم يتلفت إِلَيْهِ فراسله سير بن أبي بكر أَن يسلم إِلَيْهِ الْبِلَاد وَيدخل فِي طَاعَة
أَمِير الْمُسلمين فَامْتنعَ ابْن عباد فَعِنْدَ ذَلِك تقدم سير إِلَى حصاره وقتاله وَبعث بعض قواده إِلَى قرطبة ليحاصرها وَبهَا يَوْمئِذٍ الْمَأْمُون بن الْمُعْتَمد ابْن عباد فنازلها فِي عَسَاكِر المرابطين حَتَّى فتحهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث صفر سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقتل صَاحبهَا الْمَأْمُون بن الْمُعْتَمد ثمَّ فتح بياسة وأبدة وحصن البلاط والمدور والصخيرة وشقورة وَلم ينْقض شهر صفر الْمَذْكُور حَتَّى لم يبْق لِابْنِ عباد بلد إِلَّا وَقد ملكه المرابطون مَا عدا قرمونة وإشبيلية ثمَّ ارتحل سير بن أبي بكر إِلَى قرمونة فنازلها حَتَّى دَخلهَا عنْوَة زَوَال يَوْم السبت السَّابِع عشر من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فَاشْتَدَّ الْأَمر على ابْن عباد وَطَالَ عَلَيْهِ الْحصار فَبعث إِلَى الأذفونش لَعنه الله يستغيث بِهِ على لمتونة ويعده بِإِعْطَاء الْبِلَاد ويذل الطارف والتلاد إِنَّه هُوَ كشف عَنهُ مَا هُوَ فِيهِ من الْحصار فَبعث إِلَيْهِ الأذفونش قائده القومس فِي جَيش من عشْرين ألف فَارس وَأَرْبَعين ألف راجل
فَلَمَّا علم سير بقدوم الفرنج إِلَيْهِ انتخب من جَيْشه عشرَة آلَاف فَارس من أهل الشجَاعَة والنجدة وَقدم عَلَيْهِم إِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق اللمتوني وَبَعثه للقاء الفرنج فَالتقى الْجَمْعَانِ بِالْقربِ من حصن المدور فَكَانَت بَينهم حروب شَدِيدَة مَاتَ فِيهَا خلق كثير من المرابطين ومنحهم الله النَّصْر فهزموا الفرنج وقتلوهم حَتَّى لم يفلت مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل
ثمَّ شدّ سير بن أبي بكر فِي الْحصار والتضييق على إشبيلية حَتَّى اقتحمها عنْوَة وَقبض على الْمُعْتَمد وَجَمَاعَة من أهل بَيته فقيدهم وَحَملهمْ فِي السفين بنهر إشبيلية وَبعث بهم إِلَى أَمِير الْمُسلمين بمراكش فَأمر أَمِير الْمُسلمين بإرسال الْمُعْتَمد إِلَى مَدِينَة أغمات فسجن بهَا وَاسْتمرّ فِي السجْن إِلَى أَن مَاتَ بِهِ لإحدى عشرَة لَيْلَة خلت من شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
وَكَانَ دُخُول سير بن أبي بكر مَدِينَة إشبيلية يَوْم الْأَحَد الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
ثمَّ ملك المرابطون بعد ذَلِك مَا بَقِي من بِلَاد الأندلس إِلَى أَن خلصت لَهُم وَلم يبْق لملوك الطوائف بهَا ذكر وَهَذِه الْأَخْبَار نقلناها عَن ابْن أبي زرع ممزوجة باليسير من كَلَام غَيره واعتمدنا كَلَامه لِأَنَّهُ مَوْضُوع بِالْقَصْدِ الأول لأحبار الْمغرب فَيكون أعنى بِهِ من غَيره
وَفِي تَارِيخ ابْن خلدون بعض مُخَالفَة لما مر قَالَ أجَاز يُوسُف بن تاشفين الْبَحْر إِلَى الأندلس الْجَوَاز الثَّانِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وتثاقل أُمَرَاء الطوائف عَن لِقَائِه لما أحسوا من نكيره عَلَيْهِم لما يسمون بِهِ رعاياهم من الظلامات والمكوس وتلاحق المغارم فَوجدَ عَلَيْهِم وعهد بِرَفْع المكوس وتحرى المعدلة وَقَالَ أَيْضا إِن الْفُقَهَاء بالأندلس طلبُوا من يُوسُف بن تاشفين رفع المكوس والظلامات عَنْهُم فَتقدم بذلك إِلَى مُلُوك الطوائف فَأَجَابُوهُ بالامتثال حَتَّى إِذا رَجَعَ عَن بِلَادهمْ رجعُوا إِلَى حَالهم فَلَمَّا أجَاز ثَانِيَة انقبضوا عَنهُ إِلَّا ابْن عباد فَإِنَّهُ بَادر إِلَى لِقَائِه وأغراه بالكثير مِنْهُم فتقبض على ابْن رَشِيق الْبناء وَأمكن ابْن عباد مِنْهُ للعداوة الَّتِي بَينهمَا وَبعث جَيْشًا إِلَى المرية ففر عَنْهَا صَاحبهَا ابْن صمادح وَنزل بجاية من أَرض إفريقية وتوافق مُلُوك الطوائف على قطع المدد عَن عَسَاكِر أَمِير الْمُسلمين ومحلاته فسَاء نظره وَأَفْتَاهُ الْفُقَهَاء وَأهل الشورى من الْمغرب والأندلس بخلعهم وانتزاع الْأَمر من أَيْديهم وسارت إِلَيْهِ بذلك فَتَاوَى أهل الْمشرق الْأَعْلَام مثل الْغَزالِيّ والطرطوشي وَغَيرهمَا
فَعمد إِلَى غرناطة واستنزل صَاحبهَا عبد الله بن بلكين وأخاه تميما عَن مالقة بعد أَن كَانَ مِنْهُمَا مداخلة للطاغية فِي عَدَاوَة يُوسُف بن تاشفين وَبعث بهما إِلَى الْمغرب فخاف ابْن عباد عِنْد ذَلِك مِنْهُ وانقبض عَن لِقَائِه وفشت السعايات بَينهم ونهض أَمِير الْمُسلمين إِلَى سبتة فاستقر بهَا وَعقد للأمير سير بن أبي بكر على الأندلس وَأَجَازَهُ فَانْتهى إِلَيْهَا وَقعد ابْن عباد عَن تلقيه وميرته فأحفظه ذَلِك وطالبه بِالطَّاعَةِ لأمير الْمُسلمين وَالنُّزُول عَن الْأَمر ففسد ذَات بَينهمَا ثمَّ غَلبه على جَمِيع عمله ثمَّ صَمد إِلَى إشبيلية فحاصره بهَا واستنجد الطاغية فَعمد إِلَى استنقاذه من هَذَا الْحصار فَلم يغن
عَنهُ شَيْئا وَكَانَ دفاع لمتونة مِمَّا فت فِي عضده واقتحم المرابطون إشبيلية عنْوَة سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وتقبض سير على الْمُعْتَمد وقاده أَسِيرًا إِلَى مراكش فَلم يزل فِي اعتقال يُوسُف بن تاشفين إِلَى أَن هلك فِي محبسه من أغمات سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة
ثمَّ عمد إِلَى بطليوس وتقبض على صَاحبهَا عمر بن الْأَفْطَس فَقتله وابنيه يَوْم الْأَضْحَى سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة بِمَا صَحَّ عِنْده من مداخلتهم الطاغية وَأَن يملكهُ مَدِينَة بطليوس
ورثاهم ألأديب أَبُو مُحَمَّد عبد الْمجِيد بن عبدون بقصيدته الْمَشْهُورَة الَّتِي يَقُول فِي أَولهَا
(الدَّهْر يفجع بعد الْعين بالأثر
…
فَمَا الْبكاء على الأشباح والصور)
وَهِي قصيدة غَرِيبَة فِي منوالها وموضوعها عدد فِيهَا أهل النكبات وَمن عثر بِهِ الزَّمَان بِمَا يبكي مِنْهُ الجماد وتستشرف لسماعه الأنجاد والوهاد
ثمَّ أجَاز يُوسُف بن تاشفين الْجَوَاز الثَّالِث إِلَى الأندلس سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة وزحف إِلَيْهِ الطاغية فَبعث أَمِير الْمُسلمين عَسَاكِر المرابطين لنظر مُحَمَّد بن الْحَاج اللمتوني فَانْهَزَمَ النَّصَارَى أَمَامه وَكَانَ الظُّهُور للْمُسلمين
ثمَّ أجَاز الْأَمِير يحيى بن أبي بكر بن يُوسُف بن تاشفين سنة ثَلَاث وَتِسْعين وانضم إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الْحَاج وسير بن أبي بكر فافتتحوا عَامَّة الأندلس من أَيدي مُلُوك الطوائف وَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا سرقسطة فِي يَد المستعين بن هود معتصما بالنصارى وأغزى الْأَمِير مزدلي صَاحب بلنسية إِلَى بِلَاد برشلونة فأثخن فِيهَا وَبلغ إِلَى حَيْثُ لم يبلغ أحد قبله وَرجع وانتظمت بِلَاد الأندلس فِي ملكة يُوسُف بن تاشفين وانقرض ملك الطوائف مِنْهَا أجمع كَانَ لم يكن وَاسْتولى أَمِير الْمُسلمين على العدوتين مَعًا واتصلت هزائم المرابطين على الفرنج مرَارًا وَالله غَالب على أمره فَهَذَا كَلَام ابْن خلدون فِي سِيَاقه هَذِه الْأَخْبَار