الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نكبة الْوَزير ابْن عَطِيَّة وَالسَّبَب فِيهَا
كَانَ الْوَزير أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن عَطِيَّة من أهل مراكش وَأَصله الْقَدِيم من طرطوشة ثمَّ بعد من دانية
وَكَانَ أَبوهُ أَبُو أَحْمد بن عَطِيَّة كَاتبا لأمير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف اللمتوني ثمَّ لِابْنِهِ تاشفين من بعده وَتحصل فِي قَبْضَة الْمُوَحِّدين فَعَفَا عَنهُ عبد الْمُؤمن
وَلما حاصر عبد الْمُؤمن فاسا اعتزم أَبُو أَحْمد هَذَا الْفِرَار فتقبض عَلَيْهِ فِي طَرِيقه وسيق إِلَى عبد الْمُؤمن فَاعْتَذر فَلم يقبل عبد الْمُؤمن عذره وسحب إِلَى مصرعه فَقتل رحمه الله
وَكَانَ ابْنه أَبُو جَعْفَر صَاحب التَّرْجَمَة كَاتبا لإسحاق بن عَليّ اللمتوني بمراكش فشمله عَفْو أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيمَن شَمله من ذَلِك الفل
وَخرج فِي جملَة الشَّيْخ أبي حَفْص الهنتاتي حِين نَهَضَ لقِتَال مُحَمَّد بن هود الماسي
فَلَمَّا كَانَ الْفَتْح وَكتب رسَالَته الْمُتَقَدّمَة وقف عَلَيْهَا عبد الْمُؤمن فاستحسنها واستكتبه لذَلِك ثمَّ ارْتَفَعت مكانته عِنْده فاستوزره فَظهر غناؤه وكفايته وحمدت سيرته وإدارته وقاد العساكر وَجمع الْأَمْوَال وبذلها وَبعد فِي الدولة صيته ونال من الرُّتْبَة عِنْد السُّلْطَان مَا لم ينله أحد فِي دولته وتحبب إِلَى النَّاس بإجمال السَّعْي وَالْإِحْسَان فعمت صنائعه وَفَشَا معروفه وَكَانَ مَحْمُود السِّيرَة مبخت المحاولات ناجح المساعي سعيد المآخذ ميسر المآرب وَكَانَت وزارته زينا للْوَقْت وكمالا للدولة رحمه الله
ثمَّ لما كَانَت سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة وَفد أَشْيَاخ إشبيلية على عبد الْمُؤمن وَرَغبُوا مِنْهُ فِي ولَايَة بعض أبنائه عَلَيْهِم فعقد لِابْنِهِ السَّيِّد أبي يَعْقُوب عَلَيْهَا وَبعث مَعَه لوزير ابْن عَطِيَّة الْمَذْكُور لمباشرة الْأُمُور وَإِصْلَاح الْأَحْوَال فأغنى فِي ذَلِك الْغناء الْجَمِيل
وَلما غَابَ وَجهه عَن الحضرة وجد حساده السَّبِيل إِلَى التَّدْبِير عَلَيْهِ
وَالسَّعْي بِهِ حَتَّى أوغروا صدر الْخَلِيفَة عَلَيْهِ فاستوزر عبد السَّلَام بن مُحَمَّد الكومي وانبرى لمطالبة ابْن عَطِيَّة وجد فِي التمَاس عوراته وتشنيع سقطاته وطرحت بِمَجْلِس السُّلْطَان أَبْيَات مِنْهَا
(قل للْإِمَام أَطَالَ الله مدَّته
…
قولا تبين لذِي لب حقائقه)
(إِن الزراجين قوم قد وترتهم
…
وطالب الثأر لم تؤمن بوائقه)
(وللوزير إِلَى آرائهم ميل
…
فَذَاك مَا كثرت فيهم علائقه)
(فبادر الحزم فِي إطفاء نارهم
…
فَرُبمَا عَاق من أَمر عوائقه)
(هم الْعَدو وَمن والاهم كهم
…
فاحذر عَدوك وَاحْذَرْ من يصادقه)
(الله يعلم أَنِّي نَاصح لكم
…
وَالْحق أَبْلَج لَا تخفى طرائقه)
قَالُوا فَلَمَّا وقف عبد الْمُؤمن على هَذِه الأبيات البليغة فِي مَعْنَاهَا وغر صَدره على وزيره أبي جَعْفَر وأضمر لَهُ فِي نَفسه شرا فَكَانَ ذَلِك من أقوى أَسبَاب نكبته وَقيل أفْضى إِلَيْهِ بسر فأفشاه
وانْتهى ذَلِك كُله إِلَى أبي جَعْفَر وَهُوَ بالأندلس فقلق وَعجل الِانْصِرَاف إِلَى مراكش فحجب عِنْده قومه ثمَّ قيد إِلَى الْمَسْجِد فِي الْيَوْم بعده حاسر الْعِمَامَة واستحضر النَّاس على طبقاتهم وقرروا على مَا يعلمُونَ من أمره وَمَا صَار إِلَيْهِ مِنْهُم فَأجَاب كل بِمَا اقْتَضَاهُ هَوَاهُ وَأمر بسجنه ولف مَعَه أَخُوهُ أَبُو عقيل عَطِيَّة وَتوجه فِي أثر ذَلِك عبد الْمُؤمن إِلَى زِيَارَة تربة الْمهْدي فاستصحبهما بِحَال ثقاف
وَصدر عَن أبي جَعْفَر فِي هَذِه الْحَرَكَة من لطائف الْآدَاب نظما ونثرا فِي سَبِيل التوسل بتربة إمَامهمْ الْمهْدي عجائب فَلم تَجِد شَيْئا مَعَ نُفُوذ الله تَعَالَى فِيهِ
وَلما انْصَرف من وجهته أعادهما مَعَه قَافِلًا إِلَى مراكش فَلَمَّا حَاذَى تاكمارت أنفذ الْأَمر بِقَتْلِهِمَا بالشعراء الْمُتَّصِلَة بالحصن على مقربة من الملاحة هُنَالك فمضيا لسبيلهما وَذَلِكَ فِي شَوَّال سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَمِمَّا خَاطب بِهِ الْوَزير الْمَذْكُور عبد الْمُؤمن مستعطفا لَهُ من رِسَالَة تغالى فِيهَا فغالته الْمنية وَلم ينل الأمنية وَهَذِه سنة الله تَعَالَى فِيمَن لَا يحترم
جناب الألوهية وَلم يحرص لِسَانه من الْوُقُوع فِيمَا يخدش فِي وَجه فضل الْأَنْبِيَاء على غَيرهم قَوْله سامحه الله تالله لَو أحاطت بِي كل خطية وَلم تنفك نَفسِي عَن الْخيرَات بطية حَتَّى سخرت بِمن فِي الْوُجُود وأنفت لآدَم من السُّجُود وَقلت إِن الله تَعَالَى لم يوحي فِي الْفلك إِلَى نوح وأبرمت لحطب نَار الْخَلِيل حبلا وبريت لقدار ثَمُود نبْلًا وحططت عَن يُونُس شَجَرَة اليقطين وَأوقدت مَعَ هامان على الطين وقبضت قَبْضَة من أثر الرَّسُول فنبذتها وافتريت على الْعَذْرَاء البتول فقذفتها وكتبت صحيفَة القطيعة بدار الندوة وظاهرت الْأَحْزَاب بالقصوى من العدوة وأبغضت كل قرشي وأكرمت لأجل وَحشِي كل حبشِي وَقلت إِن بيعَة السَّقِيفَة لَا توجب إِمَامَة الْخَلِيفَة وشحذت شفرة غُلَام الْمُغيرَة بن شُعْبَة واعتلقت من حِصَار الدَّار وَقتل أشمطها بشعبة وَقلت تقاتلوا رَغْبَة فِي الْأَبْيَض والأصفر وسفكوا الدِّمَاء على الثَّرِيد الأعفر وغادرت الْوَجْه من الهامة خضيبا وناولت من قرع سنّ الْحُسَيْن قَضِيبًا ثمَّ أتيت حَضْرَة الْمَعْصُوم لائذا ويقبر الإِمَام الْمهْدي عَائِدًا لأذن لمقالتي أَن تسمع وَتغْفر لي هَذِه الخطيئات أجمع مَعَ أَنِّي مقترف وبالذنب معترف
(فعفوا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَمن لنا
…
بِحمْل قُلُوب هدها الخفقان)
وَالسَّلَام على الْمقَام الْكَرِيم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته
وَكتب مَعَ ابْن لَهُ صَغِير آخِرَة
(عطفا علينا أَمِير الْمُؤمنِينَ فقد
…
بَان العزاء لفرط البث والحزن)
(قد أغرقتنا ذنُوب كلهَا لجج
…
وَرَحْمَة مِنْكُم أنجى من السفن)
(وصادفنا سِهَام كلنا غَرَض
…
وعطفة مِنْكُم أوفى من الجنن)
(هَيْهَات للخطب أَن تسطو حوادثه
…
بِمن أجارته رحماكم من المحن)
(من جَاءَ عنْدكُمْ يسْعَى على ثِقَة
…
بنصره لم يخف بطشا من الزَّمن)
(فالثوب يطهر عِنْد الْغسْل من درن
…
والطرف يرهص بعد الركض فِي سنَن)
(أَنْتُم بذلتم حَيَاة الْخلق كلهم
…
من دون من عَلَيْهِم لَا وَلَا أثمن)
(وَنحن من بعض من أحيت مكاركم
…
كلتا الحياتين من نفس وَمن بدن)
(وصبية كفراخ الْوَرق من صغر
…
لم يألفوا النوح فِي فرع وَلَا فنن)
(قد أوجدتهم أياد مِنْك سَابِقَة
…
وَالْكل لولاك لم يُوجد وَلم يكن)
فَوَقع عبد الْمُؤمن على هَذِه القصيدة الْآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين
وَمِمَّا كتب بِهِ من السجْن
(أنوح على نَفسِي أم أنْتَظر الصفحا
…
فقد آن أَن تنسى الذُّنُوب وَأَن تمحى)
(فها أَنا فِي ليل من السخط حائر
…
وَلَا اهتدي حَتَّى أرى للرضا صبحا)
وامتحن عبد الْمُؤمن الشُّعَرَاء بهجو ابْن عَطِيَّة فَلَمَّا أسمعوه مَا قَالُوا أعرض عَنْهُم وَقَالَ ذهب ابْن عَطِيَّة وَذهب الْأَدَب مَعَه
وَكَانَ لأبي جَعْفَر أَخ اسْمه عَطِيَّة قتل مَعَه كَمَا قُلْنَا ولعطية هَذَا ابْن أديب كَاتب وَهُوَ أَبُو طَالب عقيل بن عَطِيَّة وَمن نظمه فِي رجل تعشق قينة كَانَت ورثت مَالا من مَوْلَاهَا فَكَانَت تنْفق عَلَيْهِ مِنْهُ فَلَمَّا فرغ المَال ملها
فَقَالَ أَبُو طَالب
(لَا تلحه إِن مل من حبها
…
فَلم يكن ذَلِك عَن ود)
(لما رَآهَا قد صفا مَا لَهَا
…
قَالَ صفا الوجد مَعَ الوجد)
ويروى أَن الْوَزير ابْن عَطِيَّة رحمه الله مر مَعَ الْخَلِيفَة عبد الْمُؤمن بِبَعْض طرق مراكش فأطلت جَارِيَة بارعة الْجمال من شباك فَقَالَ عبد الْمُؤمن
(قدت فُؤَادِي من الشباك إِذْ نظرت
…
)
فَقَالَ الْوَزير مجيزا لَهُ
(حوراء ترنو إِلَى العشاق بالمقل
…
)
فَقَالَ عبد الْمُؤمن
(كَأَنَّمَا لحظها فِي قلب عاشقها
…
)
فَقَالَ الْوَزير
(سيف الْمُؤَيد عبد الْمُؤمن بن عَليّ
…
)
وَلَا خَفَاء أَن هَذِه طبقَة عالية رحم الله الْجَمِيع بمنه