الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِيقَاع يحيى بن يغمور بِأَهْل لبلة وإسرافه فِي ذَلِك
لما كَانَت سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فتح الموحدون مَدِينَة لبلة وَكَانَ المتولى لفتحها يحيى بن يغمور وَالِي قرطبة وإشبيلية حاصرها مُدَّة ثمَّ اقتحهما عنْوَة وَقبض على أَهلهَا فَخرج بهم إِلَى ظَاهر الْمَدِينَة وَصفهم فِي صَعِيد وَاحِد ثمَّ عرضهمْ على السَّيْف أَجْمَعِينَ حَتَّى خلص الْقَتْل مِنْهُم إِلَى الْفَقِيه الْمُحدث أبي الْحُكَّام بن بطال والفقيه الصَّالح أبي عَامر بن الْجد
وَكَانَ عدد من قتل من أهل لبلة فِي ذَلِك الصَّعِيد ثَمَانِيَة آلَاف وَقتل بأحوازها نَحْو أَرْبَعَة آلَاف ثمَّ بِيعَتْ نِسَاؤُهُم وأبناؤهم وأمتعتهم وأسلابهم فعل ذَلِك افتياتا على عبد الْمُؤمن وبلغه الْخَبَر وَهُوَ بمراكش فسخطه وَبعث إِلَيْهِ عبد الله بن سُلَيْمَان فجَاء بِهِ معتقلا إِلَى الحضرة يَوْم عيد الْفطر فألزمه بَيته وَبَقِي على ذَلِك مُدَّة ثمَّ عَفا عَنهُ وسرحه مَعَ ابْنه السَّيِّد أبي حَفْص إِلَى تلمسان وَلم يصرف إِلَى أهل لبلة شَيْئا مِمَّا أَخذ لَهُم واستقام أَمر الأندلس وَنزل مَيْمُون بن بدر اللمتوني عَن غرناطة للموحدين فملكوها وَأَجَازَ إِلَيْهَا السَّيِّد أَبُو سعيد صَاحب سبتة بِعَهْد أَبِيه عبد الْمُؤمن إِلَيْهِ بذلك وَلحق الملثمون بمراكش
أَمر عبد الْمُؤمن بتحريق كتب الْفُرُوع ورد النَّاس إِلَى الْأُصُول من الْكتاب وَالسّنة
لما كَانَت سنة خمسين وَخَمْسمِائة أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْمُؤمن بن عَليّ بإصلاح الْمَسَاجِد وبنائها فِي جَمِيع ممالكه وبتغيير الْمُنْكَرَات مَا كَانَت وَأمر مَعَ ذَلِك بتحريق كتب الْفُرُوع ورد النَّاس إِلَى قِرَاءَة كتب الحَدِيث واستنباط الْأَحْكَام مِنْهَا وَكتب بذلك إِلَى جَمِيع طلبة الْعلم من بِلَاد الأندلس والعدوة فجزاه الله خيرا
نقل الْمُصحف العثماني من قرطبة إِلَى مراكش وَبِنَاء جَامع الكتبيين بهَا
كَانَ بقرطبة ثمَّ بجامعها الْأَعْظَم الْمَشْهُور مصحف أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه ذكر جمَاعَة من المؤرخين مِنْهُم أبن بشكوال وَغَيره وَكَانَ ذَلِك الْمُصحف الْكَرِيم متداولا عِنْد بني أُميَّة وَأهل الأندلس وَاسْتمرّ بقرطبة إِلَى دولة الْمُوَحِّدين فنقله عبد الْمُؤمن إِلَى مراكش
قَالَ ابْن بشكوال أخرج الْمُصحف العثماني من قرطبة وَغرب مِنْهَا وَكَانَ بجامعها الْأَعْظَم لَيْلَة السبت الْحَادِي عشر من شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة فِي أَيَّام أبي مُحَمَّد عبد الْمُؤمن بن عَليّ وبأمره وَهَذَا
أحد الْمَصَاحِف الْأَرْبَعَة الَّتِي بعث بهَا عُثْمَان رضي الله عنه إِلَى الْأَمْصَار مَكَّة وَالْبَصْرَة والكوفة وَالشَّام وَمَا قيل من أَن فِيهِ دم عُثْمَان بعيد وَإِن يكن أَحدهَا فَلَعَلَّهُ الشَّامي
قَالَ ابْن عبد الْملك قَالَ أَبُو الْقَاسِم التجِيبِي السبتي أما الشَّامي فَهُوَ بَاقٍ بمقصورة جَامع بني أُميَّة بِدِمَشْق وعاينته هُنَالك سنة سبع وَخمسين وسِتمِائَة كَمَا عَايَنت الْمَكِّيّ بَقِيَّة الشَّرَاب قَالَ فعله الْكُوفِي أَو الْبَصْرِيّ
قَالَ الْخَطِيب ابْن مَرْزُوق فِي كتاب الْمسند الصَّحِيح الْحسن اختبرت الَّذِي بِالْمَدِينَةِ وَالَّذِي نقل من الأندلس فألفيت خطهما سَوَاء وَمَا توهموه أَنه خطه بِيَمِينِهِ فَلَيْسَ بِصَحِيح فَلم يخط عُثْمَان وَاحِدًا مِنْهَا وَإِنَّمَا جمع عَلَيْهَا بَعْضًا من الصَّحَابَة كَمَا هُوَ مَكْتُوب على ظهر المتني وَنَصّ مَا على ظَهره هَذَا مَا أجمع عَلَيْهِ جمَاعَة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِنْهُم زيد بن ثَابت وَعبد الله بن الزبير وَسَعِيد بن الْعَاصِ وَذكر الْعدَد الَّذِي جمعه عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من الصَّحَابَة رضي الله عنهم على كتب الْمُصحف اه
وَكَانَ من خبر نَقله إِلَى مراكش مَا ذكره ابْن رشيد فِي رحلته عَن أبي زَكَرِيَّا يحيى بن أَحْمد بن يحيى بن مُحَمَّد بن عبد الْملك بن طفيل الْمَذْكُور قَالَ وصل إِلَى عبد الْمُؤمن ابناه السيدان أَبُو سعيد وَأَبُو يَعْقُوب من الأندلس وَفِي صحبتهما مصحف عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه وَهُوَ الإِمَام الَّذِي لم يخْتَلف فِيهِ مُخْتَلف فَتلقى وُصُوله بالإجلال والإعظام وبودر إِلَيْهِ بِمَا يجب من التبجيل وَالْإِكْرَام
وَكَانَ فِي وُصُوله ذَلِك الْوَقْت من عَظِيم الْعِنَايَة وباهر الْكَرَامَة مَا هُوَ مُعْتَبر لأولي الْأَلْبَاب وَذَلِكَ أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْمُؤمن كَانَ قبل ذَلِك بأيام قد جرى ذكره فِي خاطره وتروى مَعَ نَفسه فِي كَيْفيَّة جلبه من مَدِينَة قرطبة مَحل مثواه الْقَدِيم فتوقع أَن يتَأَذَّى أهل ذَلِك الْقطر بِفِرَاقِهِ ويستوحشوا لفقدان إضاءته وإشراقه فَوقف عَن ذَلِك فأوصله الله إِلَيْهِ تحفة سبنية وهدية
هنيَّة دون أَن يكدرها من الْبشر اكْتِسَاب أَو يتقدمها استدعاء أَو اجتلاب بل أوقع الله تَعَالَى فِي نفوس أهل ذَلِك الْقطر من الْفَرح بإرساله مَا أطلع بِالْمُشَاهَدَةِ على صِحَة صدقه وعضلت مخايل برقه سواكب ودقه وعد ذَلِك من كرامات أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْمُؤمن وسعادته
ثمَّ عزم عبد الْمُؤمن على تَعْظِيم الْمُصحف الْكَرِيم وَشرع فِي انتخاب كسوته وَاخْتِيَار حليته فحشر الصناع المتقنين مِمَّن كَانَ بالحضرة وَسَائِر بِلَاد الْمغرب والأندلس فَاجْتمع لذَلِك حذاق كل صناعَة من المهندسين والصواغين والنظامين والحلائين والنقاشين والمرصعين والنجارين والزواقين والرسامين والمجلدين وعرفاء البنائين وَلم يبْق من يُوصف ببراعة أَو ينْسب إِلَى الحذق فِي صناعَة إِلَّا أحضر للْعَمَل فِيهِ والاشتغال بِمَعْنى من مَعَانِيه
وَبِالْجُمْلَةِ فقد صنعت لَهُ أغشية بَعْضهَا من السندس وَبَعضهَا من الذَّهَب وَالْفِضَّة ورصع ذَلِك بأنواع اليواقيت وأصناف الْأَحْجَار الغريبة النَّوْع والتشكل العديمة الْمِثَال وَاتخذ للغشاء محمل بديع مِمَّا يُنَاسب ذَلِك فِي غرابة الصَّنْعَة وبداعة الصبغة
وَاتخذ للمحمل كرْسِي على شاكلته ثمَّ اتخذ للْجَمِيع تَابُوت يصان فِيهِ على ذَلِك المنوال وَوصف ذَلِك يطول
وَفِي خلال هَذِه الْمدَّة أَمر عبد الْمُؤمن بِبِنَاء الْمَسْجِد الْجَامِع بِحَضْرَة مراكش حرسها الله فبدئ ببنائه وتأسيس قبلته فِي الْعشْر الأول من شهر ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة وكمل فِي منتصف شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة على أكمل الْوُجُوه وَأغْرب الصَّنَائِع وأفسح المساحة وَأحكم الْبناء والنجارة وَفِيه من شمسيات الزّجاج ودرجات الْمِنْبَر وسياج الْمَقْصُورَة مَا لَو عمل فِي السنين العديدة لاستغرب تَمَامه فَكيف فِي هَذَا الأمد الْيَسِير الَّذِي لم يتخيل أحد من الصناع أَن يتم فِيهِ تَقْدِيره وتخطيطه فضلا عَن بنائِهِ وَصليت فِيهِ صَلَاة الْجُمُعَة منتصف شعْبَان الْمَذْكُور
ونهض عبد الْمُؤمن عقب ذَلِك لزيارة رَوْضَة الْمهْدي بِمَدِينَة تينملل
فَأَقَامَ بهَا بَقِيَّة شعْبَان ومعظم رَمَضَان وَحمل فِي صحبته الْمُصحف العثماني فِي التابوت الْمَذْكُور وَمَعَهُ مصحف الْمهْدي وَختم الْقُرْآن الْعَزِيز فِي مَسْجِد الْمهْدي وَعند ضريحه ختمات كَثِيرَة وَعَاد إِلَى مراكش
وَلم يزل الموحدون يعتنون بِهَذَا الْمُصحف الْكَرِيم ويحملونه فِي أسفارهم متبركين بِهِ كتابوت بني إِسْرَائِيل إِلَى أَن حمله مِنْهُم السعيد وَهُوَ عَليّ بن إِدْرِيس بن يَعْقُوب الْمَنْصُور الملقب بالمعتضد بِاللَّه حِين توجه إِلَى تلمسان آخر سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فَقتل السعيد قَرِيبا من تلمسان وَوَقع النهب فِي الخزائن واستولت الْعَرَب وَغَيرهم على مُعظم الْعَسْكَر وَنهب الْمُصحف فِي جملَة مَا نهب مِنْهُ وعثر عَلَيْهِ مُلُوك بني عبد الواد أَصْحَاب تلمسان فَلم يزل فِي خزانتهم بهَا إِلَى أَن افتتحها السُّلْطَان الْأَعْظَم أَبُو الْحسن المريني أَوَاخِر شهر رَمَضَان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَحصل عِنْده فَكَانَ يتبرك بِهِ ويحمله فِي أَسْفَاره على الْعَادة إِلَى أَن أُصِيب فِي وقْعَة طريف وَحصل فِي بِلَاد البرتغال وأعمل أَبُو الْحسن الْحِيلَة فِي استخلاصه حَتَّى وصل إِلَى فاس سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة على يَد بعض تجار آزمور وَاسْتمرّ فِي خزانته إِلَى أَن سَافر أَبُو الْحسن سفرته الْمَعْلُومَة إِلَى إفريقية فاستولى عَلَيْهَا
وَلما كَانَت سنة خمسين وَسَبْعمائة ركب أَبُو الْحسن الْبَحْر من تونس قَافِلًا إِلَى الْمغرب وَذَلِكَ فِي إبان هيجان الْبَحْر فغرقت مراكبه وَهَلَكت نفوس تجل عَن الْحصْر وضاعت نفائس يعز وجود مثلهَا وَمن جُمْلَتهَا الْمُصحف العثماني فَكَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد بِهِ
وَمِمَّا يُنَاسب ذكره هُنَا الْمُصحف العقباني وَهُوَ مصحف عقبَة بن نَافِع الفِهري فاتح الْمغرب وَكَانَ متداولا عِنْد ملوكه ومتبركا بِهِ وَثَانِي المصحفين فِي الْمنزلَة عِنْد أهل الْمغرب
قَالَ أَبُو عبد الله اليفرني فِي كتاب النزهة إِن السُّلْطَان أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد الْمَنْصُور بِاللَّه الْمَعْرُوف بالذهبي لما جدد ولَايَة الْعَهْد لوَلَده الْمَأْمُون
بعث إِلَيْهِ بالقدوم من مَدِينَة فاس فوافاه بتامسنا وباشر الْمَنْصُور أَخذ الْبيعَة لَهُ بِنَفسِهِ وَحضر الْأَعْيَان وَأهل العقد والحل وأحضر الْمُصحف الْكَرِيم الَّذِي هُوَ مصحف عقبَة بن نَافِع الفِهري رضي الله عنه قَالَ وَهُوَ من ذخائر الْخُلَفَاء وأحضر الصحيحان لِلشَّيْخَيْنِ وَقُرِئَ ظهير الْبيعَة وَذَلِكَ فِي شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَلم يزل الْمُصحف العقباني متداولا بَين الْمُلُوك السعديين إِلَى أَن انقرضت دولتهم وَجَاءَت الدولة الشَّرِيفَة العلوية السجلماسية فانتقل الْمُصحف الْمَذْكُور إِلَيْهَا وتداولته مُلُوكهَا إِلَى أَن جَاءَ السُّلْطَان الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل بن الشريف رحمه الله فَبعث هَدِيَّة سنية مَعَ ركب الْحَاج للحرم النَّبَوِيّ وَبعث فِي جُمْلَتهَا الْمُصحف الْمَذْكُور
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَلما سَافر الركب النَّبَوِيّ يَعْنِي سنة خمس وَخمسين وَمِائَة وَألف وَجه مَعَه السُّلْطَان الْمولى عبد الله ثَلَاثَة وَعشْرين مُصحفا بَين كَبِير وصغير كلهَا محلاة بِالذَّهَب منبتة بالدر والياقوت وَمن جُمْلَتهَا الْمُصحف الْكَبِير العقباني الَّذِي كَانَ الْمُلُوك يتوارثونه بعد الْمُصحف العثماني وَهُوَ مصحف عقبَة بن نَافِع الفِهري نسخه بالقيروان من الْمُصحف العثماني فَوَقع هَذَا الْمُصحف بيد الْأَشْرَاف الزيدانيين يتداولونه بَينهم إِلَى أَن بلغ إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الله الْمَذْكُور فغربه من الْمغرب إِلَى الْمشرق وَرجع الدّرّ إِلَى صدفه والإبريز إِلَى معدنه
قَالَ الشَّيْخ المسناوي وَقد وقفت عَلَيْهِ حِين أَمر السُّلْطَان الْمولى عبد الله بتوجيهه إِلَى الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة وَظهر لي أَن تَارِيخ كثبه بالقيروان فِيهِ نظر لبعد مَا بَينهمَا
وَوجه مَعَه السُّلْطَان الْمَذْكُور ألفي حَصَاة بالتثنية وَسَبْعمائة حَصَاة من الْيَاقُوت الْمُخْتَلفَة الألوان إِلَى الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة على الْحَال بهَا أفضل الصَّلَاة وأزكى السَّلَام
وَهَذِه الْأَخْبَار وَإِن كَانَت متباعدة التَّارِيخ فَهِيَ متناسبة الْمَعْنى جمعناها هُنَا ليقف النَّاظر عَلَيْهَا فِي مَحل وَاحِد وَتحصل فائدتها متناسقة وَالله الْمُوفق