الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموحدون إِلَى الْبَقِيَّة الكائنة فِيهِ يتناولون قَتلهمْ طَعنا وَضَربا ويلقونهم بامر الله تَعَالَى هولا عَظِيما وكربا حَتَّى انبسطت مراقات الدِّمَاء على صفحات المَاء وحكت حمرتها على زرقته حمرَة الشَّفق على زرقة السَّمَاء وجزت الْعبْرَة للمعتبر فِي جري ذَلِك الدَّم جري الأبحر
وَبِالْجُمْلَةِ فَهِيَ رِسَالَة بليغة وَهِي الَّتِي أورثت منشئها الرُّتْبَة الْعلية والمنزلة السّنيَّة فَإِن عبد الْمُؤمن لما وقف عَلَيْهَا استحسنها وَوَقعت مِنْهُ موقعا كَبِيرا فاستكتبه أَولا ثمَّ استوزره ثَانِيًا ثمَّ نكبه وَقَتله ثَالِثا كَمَا سَيَأْتِي
وَلما انْصَرف الشَّيْخ أَبُو حَفْص من غَزْوَة ماسة أراح بمراكش أَيَّامًا ثمَّ خرج غازيا بِلَاد القائمين بدعوة مُحَمَّد بن هود بجبال درن فأوقع بِأَهْل نَفِيس وهيلانة وأثخن فيهم بِالْقَتْلِ والسبي حَتَّى أذعنوا للطاعة وَرجع
ثمَّ خرج إِلَى هسكورة فأوقع بهم وافتتح معاقلهم وحصونهم
ثمَّ نَهَضَ إِلَى سجلماسة فاستولى عَلَيْهَا وَرجع إِلَى مراكش
ثمَّ خرج ثَالِثَة إِلَى برغواطة فحاربوه مُدَّة ثمَّ هزموه واضطرمت نَار الْفِتْنَة بالمغرب وَكَانَ مَا نذكرهُ
انْتِقَاض أهل سبتة على الْمُوَحِّدين وَخبر القَاضِي عِيَاض رحمه الله مَعَهم
قد تقدم لنا أَن عبد الْمُؤمن كَانَ غزا سبتة فِي غزوته الطَّوِيلَة وَأَن القَاضِي عياضا رحمه الله دافعه عَنْهَا وَأَنه لما قتل تاشفين بن عَليّ وَفتحت تلمسان وفاس واستفحل أَمر عبد الْمُؤمن بَايع أهل سبتة فِي جملَة من بَايع من أَمْصَار الْمغرب
قَالُوا وبادر القَاضِي عِيَاض إِلَى لِقَاء عبد الْمُؤمن فَاجْتمع بِهِ بِمَدِينَة سلاحين كَانَ ذَاهِبًا لفتح مراكش فأجزل صلته وَولى على سبتة يُوسُف بن
مخلوف التينمللي وَسَاكن الموحدون أهل سبتة فِي دِيَارهمْ واطمأنوا إِلَيْهِم
فَلَمَّا انْتقض الْمغرب على عبد الْمُؤمن بِسَبَب قيام مُحَمَّد بن هود وَمَا نَشأ عَن ذَلِك من الْفِتَن انْتقض أهل سبتة أَيْضا وَكَانَ انتقاضهم كَمَا فِي القرطاس بِرَأْي القَاضِي عِيَاض رحمه الله فَقتلُوا عَامل الْمُوَحِّدين وَمن كَانَ مَعَه من أَصْحَابه وحاميته وحرقهم بالنَّار
وَركب القَاضِي عِيَاض الْبَحْر إِلَى يحيى بن عَليّ المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية وَكَانَ معتصما بقرطبة متمسكا بدعوة المرابطين فَلَقِيَهُ وَأدّى إِلَيْهِ الْبيعَة وَطلب مِنْهُ واليا على سبتة فَبعث مَعَه يحيى بن أبي بكر الصحراوي الَّذِي كَانَ معتصما بفاس أَيَّام حِصَار عبد الْمُؤمن لَهَا ففر وَلحق بِابْن غانية كَمَا قُلْنَا وَبَقِي فِي جملَته إِلَى أَن بَعثه مَعَ القَاضِي عِيَاض فِي هَذِه الْمرة فَدخل يحيى سبتة وَقَامَ بأمرها
وَلما اتَّصَلت بِعَبْد الْمُؤمن هَذِه الْأَخْبَار مَعَ مَا تقدم من هزيمَة برغواطة للشَّيْخ أبي حَفْص خرج من مراكش قَاصِدا بِلَاد برغواطة أَولا ثمَّ من بعدهمْ ثَانِيًا فَتَسَامَعَتْ برغواطة بِخُرُوج عبد الْمُؤمن إِلَيْهِم فَكَتَبُوا إِلَى يحيى بن أبي بكر بمكانه من سبتة يستنصرونه عَلَيْهِم فَأَتَاهُم وَبَايَعُوهُ واجتمعوا عَلَيْهِ وقاتلوا عبد الْمُؤمن فهزموه ثمَّ كَانَت لَهُ الكرة عَلَيْهِم فَهَزَمَهُمْ وَحكم السَّيْف فيهم واستأصل شأفتهم حَتَّى انقادوا للطاعة وتبرؤوا من يحيى الصحراوي ولمتونة وفر الصحراوي إِلَى منجاته ثمَّ طلب الْأمان من عبد الْمُؤمن وَتشفع إِلَيْهِ بأشياخ الْقَبَائِل فَأَمنهُ ووفد عَلَيْهِ فَبَايعهُ وَحسنت طَاعَته لَدَيْهِ وَكَانَ ذَلِك سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وَلما رأى أهل سبتة ذَلِك كُله سقط فِي أَيْديهم وندموا على صنيعهم وَكَتَبُوا بيعتهم إِلَى عبد الْمُؤمن وَقدم بهَا أَشْيَاخ سبتة وطلبتها تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم وَعَن القَاضِي عِيَاض وَأمره بسكنى مراكش وَالصَّحِيح أَنه ولاه الْقَضَاء بتادلا ثمَّ دخل مراكش قيل دَخلهَا مَرِيضا مرض مَوته وَقيل مَاتَ بِالطَّرِيقِ
وَحمل إِلَيْهَا وَأمر عبد الْمُؤمن مَعَ ذَلِك بهدم سور سبتة فهدم وَكَذَلِكَ فعل بفاس وسلا
وَأعلم أَن مَا صدر من القَاضِي عِيَاض رحمه الله فِي جَانب الْمُوَحِّدين دَلِيل على أَنه كَانَ يرى أَن لَا حق لَهُم فِي الْأَمر والإمامة وَإِنَّمَا هم متغلبون وَهَذَا أَمر لَا خَفَاء بِهِ كَمَا هُوَ وَاضح وَلما كَانَت شَوْكَة عبد الْمُؤمن لَا زَالَت ضَعِيفَة وتاشفين بن عَليّ أَمِير الْوَقْت لَا زَالَ قَائِم الْعين امْتنع القَاضِي عِيَاض رحمه الله من مبايعة عبد الْمُؤمن ودافعه عَن سبتة إِذْ لَا مُوجب لذَلِك لِأَن بيعَة تاشفين فِي أَعْنَاقهم وَهُوَ لَا زَالَ حَيا فَلَا يعدل عَن بيعَته إِلَى غَيره بِلَا مُوجب
وَأما مَا غالط بِهِ الْمهْدي رحمه الله من أَن المرابطين مجسمة وَأَن جهادهم أوجب من جِهَاد الْكفَّار فضلا عَن أَن تكون طاعتهم وَاجِبَة فسفسطة مِنْهُ عَفا الله عَنَّا وَعنهُ
وَلما قتل تاشفين وَفتحت تلمسان وفاس وقويت شَوْكَة عبد الْمُؤمن بَايعه القَاضِي عِيَاض حِينَئِذٍ وَقبل صلته لِأَن من قويت شوكته وَجَبت طَاعَته
ثمَّ لما ضعف أمره ثَانِيًا بِسَبَب قيام الماسي عَلَيْهِ وَإِجْمَاع قبائل الْمغرب على التَّمَسُّك بدعوته رَجَعَ القَاضِي بِأَهْل سبتة عَن بيعَته إِلَى طَاعَة المرابطين الَّذين لَهُم الْحق فِي الْإِمَامَة بطرِيق الْأَصَالَة وَلم يَأْخُذ بدعوة الماسي لِأَنَّهُ ثَائِر أَيْضا هَذَا مَعَ مَا كَانَ ينْقل عَن الْمهْدي من أَنه غلبت نَزعَة خارجية عَلَيْهِ وَأَنه يَقُول بعصمة الإِمَام وَذَلِكَ بِدعَة كَمَا لَا يخفى فَتكون إِمَامَته وإمامة أَتْبَاعه مقدوحا فِيهَا من هَذِه الْحَيْثِيَّة لَكِن حَيْثُ حصل التغلب والإستيلاء وَجَبت الطَّاعَة فَالْحَاصِل أَن مَا فعله القَاضِي عِيَاض أَولا وَثَانِيا وثالثا كُله صَوَاب مُوَافق للْحكم الشَّرْعِيّ فَهَكَذَا يَنْبَغِي أَن تفهم أَحْوَال أَئِمَّة الدّين وأعلام الْمُسلمين رضي الله عنهم ونفعنا بعلومهم