الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَاعْلَم أَنه قد يُوجد هُنَا لبَعض المؤرخين حط من رُتْبَة أَمِير الْمُسلمين وغض عَلَيْهِ إِمَّا فِي كَونه كَانَ بربريا من أهل الصَّحرَاء بَعيدا عَن مناحي الْملك وَالْأَدب ورقة الْحَاشِيَة وَإِمَّا فِي كَونه تحامل على مُلُوك الأندلس حَتَّى فعل بهم مَا فعل وَذَلِكَ حِين عاين حسن بِلَادهمْ ورفاهية عيشهم
وَاعْلَم أَن هَذَا الْكَلَام جدير بِالرَّدِّ وَأَصله من بعض أدباء الأندلس الَّذين كَانُوا ينادمون مُلُوكهَا ويستظلون بظلهم ويغدون وَيَرُوحُونَ فِي نعمتهم فحين فعل أَمِير الْمُسلمين بسادتهم وَرُؤَسَائِهِمْ مَا فعل أَخذهم من ذَلِك مَا يَأْخُذ النُّفُوس البشرية من الذب عَن الصّديق والمحاماة عَن الْقَرِيب حَتَّى بِاللِّسَانِ وَإِلَّا فقد كَانَ أَمِير الْمُسلمين رحمه الله من الدّين والورع على مَا قد علمت وَمن ركُوب الجادة وتحري طَرِيق الْحق على الْوَصْف الَّذِي سَمِعت
وَهَذَا ابْن خلدون إِمَام الْفَنّ ومتحري الصدْق قد نقل أَن مُلُوك الأندلس كَانُوا يظْلمُونَ رعاياهم بِضَرْب المكوس وَغَيرهَا ثمَّ وصلوا أَيْديهم بالطاغية وبذلوا لَهُ الْأَمْوَال فِي مظاهرته إيَّاهُم على أَمِير الْمُسلمين ثمَّ لم يقدم على قِتَالهمْ واستنزالهم عَن سَرِير ملكهم حَتَّى تعدّدت لَدَيْهِ فَتَاوَى الْأَئِمَّة الْأَعْلَام من أهل الْمشرق وَالْمغْرب بذلك فَافْهَم هَذَا واعرفه وَالله تَعَالَى يُقَابل الْجَمِيع بِالْعَفو والصفح الْجَمِيل بمنه وَكَرمه
بَقِيَّة أَخْبَار أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين سوى مَا تقدم
قَالَ ابْن خلكان كَانَ أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين حازما سائسا للأمور ضابطا لمصَالح مَمْلَكَته مؤثرا لأهل الْعلم وَالدّين كثير المشورة لَهُم قَالَ وَبَلغنِي أَن الإِمَام حجَّة الْإِسْلَام أَبَا حَامِد الْغَزالِيّ رحمه الله لما سمع مَا هُوَ عَلَيْهِ من الْأَوْصَاف الحميدة وميله إِلَى أهل الْعلم عزم إِلَى
التَّوَجُّه إِلَيْهِ فوصل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَشرع فِي تجهيز مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فجَاء إِلَيْهِ الْخَبَر بوفاته فَرجع عَن ذَلِك الْعَزْم قَالَ وَكنت وقفت على هَذَا الْفَصْل فِي بعض الْكتب وَقد ذهب عني فِي هَذَا الْوَقْت من أَيْن وجدته
وَكَانَ أَمِير الْمُسلمين يُوسُف معتدل الْقَامَة أسمر اللَّوْن نحيف الْجِسْم خَفِيف العارضين دَقِيق الصَّوْت
وَكَانَ يخْطب لبني الْعَبَّاس وَهُوَ أول من تسمى بأمير الْمُسلمين وَلم يزل على حَاله وعزه وسلطانه إِلَى أَن توفّي يَوْم الِاثْنَيْنِ لثلاث خلون من الْمحرم سنة خَمْسمِائَة وعاش سبعين سنة ملك مِنْهَا مُدَّة خمسين سنة رحمه الله
وَقَالَ ابْن خلدون تسمى يُوسُف بن تاشفين بأمير الْمُسلمين وخاطب الْخَلِيفَة لعهده بِبَغْدَاد وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد المستظهر بِاللَّه العباسي وَبعث إِلَيْهِ عبد الله بن مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ الْمعَافِرِي الإشبيلي وَولده القَاضِي أَبَا بكر بن الْعَرَبِيّ الإِمَام الْمَشْهُور فتلطفا فِي القَوْل وأحسنا فِي الإبلاغ وطلبا من الْخَلِيفَة أَن يعْقد لأمير الْمُسلمين بالمغرب والأندلس فعقد لَهُ وتضمن ذَلِك مَكْتُوب من الْخَلِيفَة مَنْقُول فِي أَيدي النَّاس وانقلبا إِلَيْهِ بتقليد الْخَلِيفَة وَعَهده على مَا إِلَى نظره من الأقطار والأقاليم وخاطبه الإِمَام الْغَزالِيّ وَالْقَاضِي أَبُو بكر الطرطوشي يحضانه على الْعدْل والتمسك بِالْخَيرِ ثمَّ أجَاز يُوسُف بن تاشفين الْجَوَاز الرَّابِع إِلَى الأندلس سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة اه كَلَام ابْن خلدون
وَإِنَّمَا احْتَاجَ أَمِير الْمُسلمين إِلَى التَّقْلِيد من الْخَلِيفَة المستظهر بِاللَّه مَعَ أَنه كَانَ بَعيدا عَنهُ وَأقوى شوكته مِنْهُ لتَكون ولَايَته مستندة إِلَى الشَّرْع وَهَذَا من ورعه رحمه الله
وَإِنَّمَا تسمى بأمير الْمُسلمين دون أَمِير الْمُؤمنِينَ أدبا مَعَ الْخَلِيفَة حَتَّى لَا يُشَارِكهُ فِي لقبه لِأَن لقب أَمِير الْمُؤمنِينَ خَاص بالخليفة والخليفة من قُرَيْش كَمَا فِي الحَدِيث فَافْهَم
وَمن أَخْبَار يُوسُف بن تاشفين أَيْضا مَا نَقله غير وَاحِد من الْأَئِمَّة أَن أَمِير الْمُسلمين طلب من أهل الْبِلَاد المغربية والأندلسية المعاونة بِشَيْء من المَال على مَا هُوَ بصدده من الْجِهَاد وَأَنه كَاتب إِلَى قَاضِي المرية أبي عبد الله مُحَمَّد بن يحيى عرف بِابْن الْبَراء يَأْمُرهُ بِفَرْض مَعُونَة المرية وَيُرْسل بهَا إِلَيْهِ فَامْتنعَ مُحَمَّد بن يحيى من فَرضهَا وَكتب إِلَيْهِ يُخبرهُ بِأَنَّهُ لَا يجوز لَهُ ذَلِك فَأَجَابَهُ أَمِير الْمُسلمين بِأَن الْقُضَاة عِنْدِي وَالْفُقَهَاء قد أباحوا فَرضهَا وَأَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه قد فَرضهَا فِي زَمَانه فَرَاجعه القَاضِي عَن ذَلِك بِكِتَاب يَقُول فِيهِ الْحَمد لله الَّذِي إِلَيْهِ مآبنا وَعَلِيهِ حسابنا وَبعد فقد بَلغنِي مَا ذكره أَمِير الْمُسلمين من اقْتِضَاء المعونة وتأخري عَن ذَلِك وَإِن أَبَا الْوَلِيد الْبَاجِيّ وَجَمِيع الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء بالعدوة والأندلس أفتوه بِأَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه اقتضاها فالقضاة وَالْفُقَهَاء إِلَى النَّار دون زَبَانِيَة فَإِن كَانَ عمر اقتضاها فقد كَانَ صَاحب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ووزيره وضجيعه فِي قَبره وَلَا يشك فِي عدله وَلَيْسَ أَمِير الْمُسلمين بِصَاحِب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلَا بوزيره وَلَا بضجيعه فِي قَبره وَلَا مِمَّن لَا يشك فِي عدله فَإِن كَانَ الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء أنزلوك مَنْزِلَته فِي الْعدْل فَالله تَعَالَى سائلهم وحسيبهم عَن تقلدهم فِيك وَمَا اقتضاها عمر رضي الله عنه حَتَّى دخل مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَحضر من كَانَ مَعَه من الصَّحَابَة رضي الله عنهم وَحلف أَن لَيْسَ عِنْده فِي بَيت مَال الْمُسلمين دِرْهَم وَاحِد يُنْفِقهُ عَلَيْهِم فَلْيدْخلْ أَمِير الْمُسلمين الْمَسْجِد الْجَامِع بِحَضْرَة من هُنَاكَ من أهل الْعلم وليحلف أَن لَيْسَ عِنْده فِي بَيت مَال الْمُسلمين دِرْهَم يُنْفِقهُ عَلَيْهِم وَحِينَئِذٍ تجب معونته وَالله تَعَالَى على ذَلِك كُله وَالسَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته فَلَمَّا بلغ كِتَابه إِلَى أَمِير الْمُسلمين وعظه الله بقوله وَلم يعد عَلَيْهِ فِي ذَلِك قولا والأعمال بِالنِّيَّاتِ
وَكَانَ أَمِير الْمُسلمين حِين ورد عَلَيْهِ التَّقْلِيد من الْخَلِيفَة ضرب السِّكَّة
باسمه وَنقش على الدِّينَار لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله وَتَحْت ذَلِك أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين وَكتب على الدائرة {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} وَكتب على الصفحة الْأُخْرَى عبد الله أَحْمد أَمِير الْمُؤمنِينَ العباسي وعَلى الدائرة تَارِيخ ضربه وَمَوْضِع سكته
وَكَانَ ملكه قد انْتهى إِلَى مَدِينَة أفراغه من قاصية شَرق الأندلس وَإِلَى مَدِينَة أشبونة على الْبَحْر الْمُحِيط من بَحر الأندلس وَذَلِكَ مسيرَة ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا طولا وَفِي الْعرض مَا يقرب من ذَلِك
وَملك بعدوة الْمغرب من جزائر بني مذغنة إِلَى طنجة إِلَى آخر السوس الْأَقْصَى إِلَى جبال الذَّهَب من بِلَاد السودَان
وَلم ير فِي بلد من بِلَاده وَلَا عمل من أَعماله على طول أَيَّامه رسم مكس وَلَا خراج لَا فِي حَاضِرَة وَلَا فِي بادية إِلَّا مَا أَمر الله بِهِ وأوجبه حكم الْكتاب وَالسّنة من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذِّمَّة وأخماس الْغَنَائِم
وَقد جبى فِي ذَلِك من الْأَمْوَال على وَجههَا مَا لم يجِيبه أحد قبله يُقَال إِنَّه وجد فِي بَيت مَاله بعد وَفَاته ثَلَاثَة عشر ألف ربع من الْوَرق وَخَمْسَة آلَاف وَأَرْبَعُونَ ربعا من مطبوع الذَّهَب
وَكَانَ رحمه الله زاهدا فِي زِينَة الدُّنْيَا وزهرتها ورعا متقشفا لِبَاسه الصُّوف لم يلبس قطّ غَيره ومأكله الشّعير وَلُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا مُقْتَصرا على ذَلِك لم ينْقل عَنهُ مُدَّة عمره على مَا منحه الله من سَعَة الْملك وخوله من نعْمَة الدُّنْيَا وَقد رد أَحْكَام الْبِلَاد إِلَى الْقُضَاة وَأسْقط مَا دون الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَكَانَ يسير فِي أَعماله بِنَفسِهِ فيتفقد أَحْوَال الرّعية فِي كل سنة وَكَانَ محبا للفقهاء وَأهل الْعلم وَالْفضل مكرما لَهُم صادرا عَن رَأْيهمْ يجْرِي عَلَيْهِم أَرْزَاقهم من بَيت المَال وَكَانَ مَعَ ذَلِك حسن الْأَخْلَاق متواضعا كثير الْحيَاء جَامعا لخصال الْخَيْر رَحمَه الله تَعَالَى وَرَضي عَنهُ