الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غَزْوَة الْعقَاب الَّتِي محص الله فِيهَا الْمُسلمين
ثمَّ اتَّصَلت الْأَخْبَار بالناصر وَهُوَ بمراكش أَن الفنش لَعنه الله قد استطال على ثغور الْمُسلمين بالأندلس وَأَنه يُغير على قراها وينهب الْأَمْوَال وَيَسْبِي النِّسَاء والذرية فأهمه ذَلِك وأقلقه وَكتب إِلَى الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص صَاحب إفريقية يستشيره فِي الْغَزْو فَأبى عَلَيْهِ فخالفه وَأخذ فِي الْحَرَكَة للْجِهَاد
وَكَانَ النَّاصِر معجبا بِرَأْيهِ مستبدا بأموره فَفرق الْأَمْوَال على القواد والأجناد وَكتب إِلَى جَمِيع بِلَاد إفريقية وَالْمغْرب وبلاد الْقبْلَة يستنفر الْمُسلمين لغزو الْكفَّار فَأَجَابَهُ خلق كثير وألزم كل قَبيلَة من قبائل الْعَرَب بِحِصَّة من الْخَيل وَالرجل تخرج للْجِهَاد فتقدمت عَلَيْهِ الجيوش من سَائِر الأقطار وتسارع النَّاس إِلَيْهِ خفافا وثقالا من الْبَوَادِي والأمصار
فَلَمَّا تكاملت لَدَيْهِ الحشود وتوافت بِحَضْرَتِهِ الْجنُود خرج من مراكش فِي تَاسِع عشر شعْبَان سنة سبع وسِتمِائَة فَانْتهى إِلَى قصر الْمجَاز فَأَقَامَ بِهِ وَشرع فِي إجَازَة الجيوش من أَوَائِل شَوَّال إِلَى أَوَاخِر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة فَتَلقاهُ هُنَالك قواد الأندلس وفقهاؤها ورؤساؤها وَأقَام بطريف ثَلَاثًا ثمَّ نَهَضَ إِلَى إشبيلية فِي أُمَم لَا تحصى وجيوش لَا تستقصى قد مَلَأت السهل والوعر
حكى بعض الثِّقَات من مؤرخي الْمغرب أَنه اجْتمع مَعَ النَّاصِر فِي هَذِه الْغَزْوَة من أهل الْمغرب والأندلس سِتّمائَة ألف مقَاتل وَكَانَ النَّاصِر رحمه الله قد أعجبه مَا رأى من كَثْرَة جُنُوده وأيقن بالظفر فقسم النَّاس على خمس فرق فَجعل الْعَرَب فرقة وزناتة وصنهاجة والمصامدة وغمارة وَسَائِر أَصْنَاف قبائل الْمغرب فرقة وَجعل المتطوعة فرقة وَجعل جند الأندلس فرقة والموحدين فرقة وَأمر كل فرقة أَن تنزل نَاحيَة واهتزت جَمِيع بِلَاد
الفرنج لجوازه وَتمكن رعبه فِي قُلُوبهم فَأخذُوا فِي تحصين بِلَادهمْ وإخلاء مَا قرب من الْمُسلمين من قراهم وحصونهم وَكتب إِلَيْهِ أَكثر أمرائهم يسألونه السّلم وَيطْلبُونَ مِنْهُ الْعَفو ووفد عَلَيْهِ مِنْهُم ملك ينبلونة مستسلما خاضعا طَالبا للصلح فَيُقَال إِنَّه قدم بَين يَدَيْهِ كتاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم الَّذِي كتبه إِلَى هِرقل ملك الرّوم يستشفع بِهِ وَقد كَانَ هَذَا الْكتاب وَقع إِلَيْهِ وراثة من بعض سلفه فاحتفل النَّاصِر لقدومه وصف لَهُ الجيوش من بَاب مَدِينَة قرمونة إِلَى بَاب إشبيلية أَرْبَعِينَ ميلًا ثمَّ عقد لَهُ الصُّلْح مَا دَامَت دولة الْمُوَحِّدين وَصَرفه إِلَى بِلَاده مكرما مسعفا بِجَمِيعِ مطالبه
وَعند ابْن خلدون أَن الَّذِي وَفد على النَّاصِر فِي هَذِه الْغَزْوَة هُوَ البيبوج أحد الْمُلُوك الثَّلَاثَة الَّذين شهدُوا وقْعَة الْأَرَاك قَالَ وَهُوَ الَّذِي مكر بالناصر يَوْم الْعقَاب قدم عَلَيْهِ وَأظْهر لَهُ التنصح وبذل لَهُ أَمْوَالًا ثمَّ غدر بِهِ وجر عَلَيْهِ الْهَزِيمَة وَالله أعلم
ثمَّ خرج النَّاصِر من إشبيلية غازيا بِلَاد قشتالة فِي أَوَائِل صفر سنة ثَمَان وسِتمِائَة فَسَار حَتَّى نزل حصن سلبطرة وَهُوَ حصن منيع وضع على قمة جبل وَقد تعلق بِأَكْنَافِ السَّحَاب لَيْسَ لَهُ مَسْلَك إِلَّا من طَرِيق وَاحِد فِي مضائق وأوعار فَنزل عَلَيْهِ لناصر وأدار بِهِ الجيوش وَنصب عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ منجنيقا فهتك أرباضه وَلم يقدر مِنْهُ على شَيْء
قَالُوا وَكَانَ وزيره أَبُو سعيد بن جَامع قد تمكن من النَّاصِر فأقصى شُيُوخ الْمُوَحِّدين وأعيانهم وَذَوي الحنكة والرأي مِنْهُم عَن بساطه وَانْفَرَدَ هُوَ بِهِ فَكَانَ يُشِير على النَّاصِر فِي غزوته هَذِه بآراء كَانَت سَبَب الضعْف والوهن وجلبت الكرة على الْمُسلمين من ذَلِك أَن النَّاصِر لما أعياه أَمر الْحصن عزم على النهوض عَنهُ إِلَى غَيره فَأَشَارَ عَلَيْهِ ابْن جَامع بِأَن لَا يتجاوزه حَتَّى يَفْتَحهُ فَيُقَال إِنَّه أَقَامَ على ذَلِك الْحصن ثَمَانِيَة اشهر فنيت فِيهَا أزواد النَّاس وَقلت علوفاتهم وكلت عزائمهم وفسدت نياتهم وانقطعت الأمداد عَن
الْمحلة فغلت بهَا الأسعار وَدخل فصل الشتَاء فَاشْتَدَّ الْبرد وَأصَاب الْمُسلمين كل ضرّ وَيُقَال إِنَّه من طول مقَام النَّاصِر على ذَلِك الْحصن عشش الخطاف فِي جَانب خبائه وباض وأفرخ وطارت فِرَاخه وَهُوَ مُقيم على حَاله
واتصل بالفنش لَعنه الله مَا آل إِلَيْهِ أَمر الْمُسلمين من الضجر وَقلة الْمَادَّة وتشوش البواطن وَاخْتِلَاف الرَّأْي فاغتنم الفرصة وَبعث الحاشرين فِي مدائنه ودعا كل من قدر على حمل السِّلَاح من رَعيته فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك مَا لَا حصر لَهُ
ثمَّ خَالف النَّاصِر إِلَى قلعة ريَاح فنازلها وَبهَا يَوْمئِذٍ أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن قادس من قواد الأندلس وزعمائها كَانَ قد ترَتّب فِي ذَلِك الْحصن فِي جمَاعَة من الْخَيل لحمايته وَضَبطه فحاصره الفنش وَبَالغ فِي التَّضْيِيق عَلَيْهِ فَكَانَ ابْن قادس يكْتب لأمير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر يُعلمهُ بِحَالهِ ويستمده على عدوه وَهُوَ على حصن سلبطرة فَكَانَ الْوَزير ابْن جَامع إِذا وصلت إِلَيْهِ كتب ابْن قادس أخفاها عَن النَّاصِر لِئَلَّا يرحل عَن الْحصن قبل فَتحه فَلَمَّا طَال الْحصار على ابْن قادس وفنى مَا عِنْده من الأقوات وَالسِّلَاح ويئس من إمداد النَّاصِر إِيَّاه وخشي على من فِي الْحصن من النِّسَاء والذرية صَالح الفنش على تَسْلِيم الْحصن لَهُ وَخُرُوج الْمُسلمين آمِنين على أنفسهم فَفعل وَاسْتولى الفنش على قلعة رَبَاح
وَسَار ابْن قادس إِلَى النَّاصِر ليجتمع بِهِ ويعلمه بِالْأَمر على وَجهه وَسَار مَعَه صهر لَهُ بعد أَن عزم ابْن قادس عَلَيْهِ أَن يرجع فَأبى وَقَالَ إِن قتلت قتلت مَعَك وَلما وصل إِلَى الْوَزير ابْن جَامع أَمر بحبسه وَحبس صهره مَعَه ثمَّ دخل على النَّاصِر فَقَالَ لَهُ إِن ابْن قادس قد دفع الْحصن إِلَى الْعَدو ثمَّ قدم عَلَيْك وَأَرَادَ الدُّخُول عَلَيْك
وَكَانَ النَّاصِر قد تغير بَاطِنه على أهل الأندلس واتهمهم بكتمان أَمر الْعَدو عَنهُ حِين كَانَ بمراكش فَلَمَّا قدم ابْن قادس فِي هَذِه الْمرة وَقَالَ لَهُ ابْن
جَامع مَا قَالَ أَمر بقتْله هُوَ وصهره قطعا بِالرِّمَاحِ رحمهمَا الله
فحقدت جيوش الأندلس على ابْن جَامع وفسدت نياتهم على النَّاصِر وأحس ابْن جَامع بذلك فَأمر بإحضار قوادهم فَحَضَرُوا بَين يَدَيْهِ فَقَالَ اعتزلوا جَيش الْمُوَحِّدين فَلَا حَاجَة لنا بكم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إِلَّا خبالا} وسننظر بعد هَذَا فِي أَمر كل فَاجر
وَلما علم النَّاصِر بِحَال الفنش وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من الْقُوَّة وَكَثْرَة الجموع واستيلائه على قلعة ريَاح الَّتِي هِيَ أمنع ثغور الْمُسلمين شقّ ذَلِك عَلَيْهِ وَامْتنع من الطَّعَام وَالشرَاب حَتَّى مرض من شدَّة الوجد ثمَّ شدد فِي قتال سلبطرة وبذل الْأَمْوَال الجليلة حَتَّى فتحهَا صلحا وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر ذِي الْحجَّة من سنة ثَمَان وسِتمِائَة ثمَّ زحف الفنش إِلَى النَّاصِر ونهض النَّاصِر إِلَيْهِ فَالتقى الْجَمْعَانِ بِموضع يعرف بحصن العقبان فَضرب المصاف وَضرب للناصر قُبَّته الْحَمْرَاء الْمعدة لِلْقِتَالِ على رَأس ربوة وَقعد أمامها على درقته وفرسه قَائِم بإزائه ودارت العبيد بالقبة من كل نَاحيَة وَمَعَهُمْ السِّلَاح التَّام ووقفت الساقات والبنود والطبول أَمَام العبيد مَعَ الْوَزير ابْن جَامع وَأَقْبَلت جموع الفرنج على مصافها كَأَنَّهَا الْجَرَاد المنشر فتقدمت إِلَيْهِم المتطوعة وحملوا عَلَيْهِم أَجْمَعُونَ وَكَانُوا مائَة وَسِتِّينَ ألفا فغابوا فِي صفوفهم وانطبقت عَلَيْهِم الفرنج فَاقْتَتلُوا قتالا شَدِيدا فاستشهد المتطوعة عَن آخِرهم هَذَا وعساكر الْمُوَحِّدين وَالْعرب والأندلس ينظرُونَ إِلَيْهِم لم يُحَرك إِلَيْهِم مِنْهُم أحد
وَلما فرغ الفرنج من المتطوعة حملُوا بأجمعهم على عَسَاكِر الْمُوَحِّدين وَالْعرب حَملَة مُنكرَة فَلَمَّا انتشب الْقِتَال بَين الْفَرِيقَيْنِ فرقت قواد الأندلس وجيوشها لما كَانُوا قد حقدوه على ابْن جَامع فِي قتل ابْن قادس أَولا وتهديدهم وطرده لَهُم ثَانِيًا فجروا الْهَزِيمَة على الْمُسلمين وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وتبعهم قبائل البربر والموحدون الْعَرَب وركبتهم الفرنج بِالسَّيْفِ وكشفوهم عَن النَّاصِر حَتَّى انْتَهوا إِلَى الدائرة الَّتِي دارت عَلَيْهِ من العبيد
والحشم فألفوها كالبنيان المرصوص لم يقدروا مِنْهَا على شَيْء وَدفع الفرنج بخيلهم المدرعة على رماح العبيد وَهِي مشرعة إِلَيْهِم فَدَخَلُوا فِيهَا والناصر قَاعد على درقته أَمَام خبائه يَقُول صدق الرَّحْمَن وَكذب الشَّيْطَان حَتَّى كَانَت الفرنج تصل إِلَيْهِ وَحَتَّى قتل حوله من عبيد الدائرة نَحْو عشرَة آلَاف ثمَّ أقبل إِلَيْهِ بعض فرسَان الْعَرَب على فرس لَهُ أُنْثَى فَقَالَ لَهُ إِلَى مَتى قعودك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَقد نفذ حكم الله وَتمّ أمره وفنى الْمُسلمُونَ فَعِنْدَ ذَلِك قَامَ النَّاصِر إِلَى جواد لَهُ سَابق كَانَ إِمَامه فَأَرَادَ أَن يركبه فترجل الْعَرَبِيّ عَن فرسه وَقَالَ لَهُ اركب هَذِه الْحرَّة فَإِنَّهَا لَا ترْضى بِعَارٍ فَلَعَلَّ الله ينجيك عَلَيْهَا فَإِن فِي سلامتك الْخَيْر كُله فركبها النَّاصِر وَركب الْعَرَبِيّ جَوَاده وَتقدم أَمَامه فِي كوكبة عَظِيمَة من العبيد مُحِيطَة بهم والفرنج فِي أَعْقَابهم تقتلهم ونادى مُنَادِي الفنش يَوْمئِذٍ أَلا لَا أسر إِلَّا الْقَتْل وَمن أَتَى بأسير قتل هُوَ وأسيره فحكمت سيوف الفرنج فِي الْمُسلمين إِلَى اللَّيْل
وَكَانَت هَذِه الرزية الْعَظِيمَة يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس عشر صفر سنة تسع وسِتمِائَة فَذَهَبت قُوَّة الْمُسلمين بالمغرب ولأندلس من يَوْمئِذٍ وَلم تنصر لَهُم بعْدهَا راية مَعَ الفرنج إِلَى أَن تدارك الله رَمق الأندلس بالسلطان الْمَنْصُور بِاللَّه يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني رحمه الله كَمَا سنقص خبر ذَلِك مُسْتَوفى عِنْد الْوُصُول إِلَيْهِ إِن شَاءَ الله
قَالَ ابْن الْخَطِيب لما لحق النَّاصِر بإشبيلية حمل السَّيْف على طَائِفَة كَبِيرَة مِمَّن تَوَجَّهت إِلَيْهِم الظنة وَقَالَ ابْن خلدون ثمَّ رجعت الفرنج إِلَى ألأندلس بعد الكائنة للإغارة على بِلَاد الْمُسلمين فَلَقِيَهُمْ السَّيِّد أَبُو زَكَرِيَّا بن أبي حَفْص بن عبد الْمُؤمن قَرِيبا من إشبيلية فَهَزَمَهُمْ وانتعش الْمُسلمُونَ بهَا واتصلت الْحَال على ذَلِك