الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَفَاة يَعْقُوب الْمَنْصُور رحمه الله
قَالَ ابْن أبي زرع لما رَجَعَ الْمَنْصُور من الأندلس إِلَى مراكش أَخذ الْبيعَة لوَلَده أبي عبد الله مُحَمَّد الملقب بالناصر لدين الله فَبَايعهُ كَافَّة الْمُوَحِّدين وَسَائِر أهل الْأَمْصَار والأقطار فَلَمَّا تمت الْبيعَة للناصر الْمَذْكُور وَجلسَ فِي مَحل الْخلَافَة وَجَرت الْأَحْكَام والأوامر باسمه وعَلى يَدَيْهِ فِي حَيَاة أَبِيه دخل الْمَنْصُور قصره فَلَزِمَهُ
وَقَالَ ابْن خلكان لما وصل الْمَنْصُور إِلَى مراكش يَعْنِي بعد قدومه من الأندلس أَمر باتخاذ الأحواض والروايا وآلات السّفر للتوجه إِلَى بِلَاد إفريقية فَاجْتمع إِلَيْهِ مَشَايِخ الْمُوَحِّدين وَقَالُوا لَهُ يَا سيدنَا قد طَالَتْ غيبتنا بالأندلس فمنا من لَهُ خمس سِنِين وَغير ذَلِك فتنعم علينا بالمهلة هَذَا الْعَام وَتَكون الْحَرَكَة فِي أول سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة فأجابهم إِلَى سُؤَالهمْ وانتقل إِلَى مَدِينَة سلا وَشَاهد مَا فِيهَا من المنتزهات الْمعدة لَهُ
وَكَانَ قد بنى بِالْقربِ من الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة مَدِينَة عَظِيمَة سَمَّاهَا رِبَاط الْفَتْح على هَيْئَة الْإسْكَنْدَريَّة فِي الإتساع وَحسن التَّقْسِيم وإتقان الْبناء وتحصينه وتحسينه وبناها على الْبَحْر الْمُحِيط الَّذِي هُنَاكَ وَهِي على نهر سلا مُقَابلَة لَهَا من الْبر القبلي واطاف تِلْكَ الْبِلَاد وتنزه فِيهَا ثمَّ رَجَعَ إِلَى مراكش
قَالَ ابْن خلكان وَبعد هَذَا اخْتلفت الرِّوَايَات فِي أمره فَمن النَّاس من يَقُول إِنَّه ترك مَا كَانَ فِيهِ وتجرد وساح فِي الأَرْض حَتَّى انْتهى إِلَى بِلَاد الشرق وَهُوَ مستخف لَا يعرف وَمَات خاملا وَمِنْهُم من يَقُول إِنَّه لما رَجَعَ إِلَى مراكش كَمَا ذَكرْنَاهُ توفّي فِي غرَّة جُمَادَى الأولى وَقيل فِي ربيع الْآخِرَة فِي سَابِع عشرَة وَقيل فِي غرَّة صفر وَلم ينْقل شَيْء من أَحْوَاله بعد ذَلِك إِلَى حِين وَفَاته وَقيل توفى بِمَدِينَة سلا
قَالَ ابْن خلكان ثمَّ حكى لي جمع كثير بِدِمَشْق أَن بِالْقربِ من
المجدل البليدة الَّتِي من أَعمال الْبِقَاع العزيزي قَرْيَة يُقَال لَهُ حمارة وَإِلَى جَانبهَا مشْهد يعرف بِقَبْر الْأَمِير يَعْقُوب ملك الْمغرب وكل أهل تِلْكَ النواحي متفقون على ذَلِك وَلَيْسَ عِنْدهم فِيهِ خلاف وَهَذَا الْقَبْر بَينه وَبَين المجدل مِقْدَار فرسخين من جِهَتهَا الْقبلية بغرب قَالَ وَكَانَ أوصى أَن يدْفن على قَارِعَة الطَّرِيق ليترحم عَلَيْهِ من يمر بِهِ
قَالَ الْمقري فِي نفخ الطّيب هَذِه عامية لَا يتبتها عُلَمَاء الْمغرب وَسبب هَذِه الْمقَالة تولع الْعَامَّة بِهِ فكذبوا فِي مَوته وَقَالُوا إِنَّه ترك الْملك وحكوا مَا شاع إِلَى الْآن وذاع مِمَّا لَيْسَ لَهُ أصل ثمَّ نقل عَن الشريف الغرناطي مثل ذَلِك فَانْظُرْهُ
قَالَ مُؤَلفه عَفا الله عَنهُ وَعِنْدِي أَن إِنْكَار مَا حَكَاهُ ابْن خلكان لَيْسَ بجيد وهب أَن أهل الْمغرب قَالُوا ذَلِك تولعا بِهِ فَمَا بَال أهل الْمشرق يتولعون بِهِ ويتخذون لَهُ المشهد ثمَّ يتَّفق كَبِيرهمْ وصغيرهم على أَنه قبر يَعْقُوب ملك الْمغرب من غير اصل وَلَا مُسْتَند هَذَا بعيد فِي الْعَادة بل لَا بُد أَن يكون لذَلِك أصل وَالله أعلم بحقيقته نعم مَا تزعمه عَامَّة الْمغرب فِي حمة أبي يَعْقُوب الَّتِي بِقرب مَدِينَة فاس أَنَّهَا منسوبة ليعقوب الْمَنْصُور هَذَا وَأَنه رصد لَهَا عفريتين يوقدان عَلَيْهَا إِلَى الْأَبَد وَأَن حرارة مَائِهَا بِسَبَب ذَلِك الإيقاد وَأَن الشِّفَاء الَّذِي حصل للمستحمين إِنَّمَا هُوَ ببركة يَعْقُوب الْمَنْصُور
وَجعلُوا لَهُ زَوْجَة أَو بِنْتا اسْمهَا شافية اشتقاقا من لفظ الشِّفَاء الْحَاصِل بِتِلْكَ الْعين كُله بَاطِل وَإِنَّمَا حرارة الْعين لخاصية أودعها الله فِي أَصْلهَا ومنبعها وَكَذَا الشِّفَاء الْحَاصِل بهَا إِنَّمَا هُوَ بخاصية فِي ذَلِك المَاء ولعلها مَا فِيهِ من الكريتية فَإنَّا نرى أَصْحَاب الجرب يتلطخون بالكبريت المعالج فيشفون وَكم من عين على وَجه الأَرْض فِي الْمشرق وَالْمغْرب وبلاد الْمُسلمين وَالْكفَّار على هَذِه الْحَالة كَمَا أخبر بذلك غير وَاحِد
وَقَالَ الْجَوْهَرِي فِي الصِّحَاح الْحمة الْعين الحارة يستشفي بهَا الأعلاء والمرضى وَفِي الحَدِيث الْعَالم كالحمة اه وَمثله فِي الْقَامُوس بل ذكر فِيهِ مَدِينَة تفليس وَهِي قَصَبَة كرجستان عَلَيْهَا سوران قَالَ وحمامتها تنبع مَاء حارا بِغَيْر نَار
وَقد ذكر ابْن أبي زرع فِي القرطاس حمة أبي يَعْقُوب هَذِه وَذكر مَعهَا حمتين أُخْرَيَيْنِ فَقَالَ وبالقرب أَيْضا من مَدِينَة فاس على ميسرَة أَرْبَعَة أَمْيَال مِنْهَا حمة عَظِيمَة تعرف بحمة خولان مَاؤُهَا فِي أَشد مَا يكون من السخونة وبالقرب أَيْضا مِنْهَا حمة وشنانة وحمة أبي يَعْقُوب وَهِي من الحمات الْمَشْهُورَة بالمغرب اه كَلَامه فقد ذكر أَبَا يَعْقُوب بِلَفْظ الكنية فَهُوَ غير يَعْقُوب الْمَنْصُور قطعا وَلَعَلَّه أَبُو يَعْقُوب الْأَشْقَر الْآتِي ذكره فِي أَحْدَاث الْمِائَة السَّابِعَة
ولنرجع إِلَى الْكَلَام على وَفَاة الْمَنْصُور عِنْد عُلَمَاء الْمغرب فَنَقُول قَالَ ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل توفّي يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحْمَة الله فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَدفن بِمَجْلِس سكناهُ من مراكش وَكذب الْعَامَّة بِمَوْتِهِ ولوعا وتمسكا بِهِ فَادعوا أَنه ساح فِي الأَرْض اه
وَقَالَ ابْن أبي زرع لما حضرت الْمَنْصُور الْوَفَاة قَالَ مَا نَدِمت على شَيْء فعلته فِي خلافتي إِلَّا على ثَلَاث وددت أَنِّي لم أَفعَلهَا الأولى إِدْخَال الْعَرَب من إفريقية إِلَى الْمغرب مَعَ إِنِّي أعلم أَنهم أهل فَسَاد وَالثَّانيَِة بِنَاء
رِبَاط الْفَتْح أنفقت فِيهِ بَيت المَال وَهُوَ بعد لَا يعمر وَالثَّالِثَة إطلاقي أُسَارَى الأرك وَلَا بُد لَهُم أَن يطلبوا بثأرهم
قلت مَا ذكره رحمه الله فِي رِبَاط الْفَتْح من أَنه لَا يعمر قد تخلف ظَنّه فِيهِ فَهُوَ الْيَوْم من أعمر أَمْصَار الْمغرب وأحضرها حرسه الله وحرس سَائِر أَمْصَار الْمُسلمين من آفَاق النُّقْصَان وطوارق الْحدثَان
ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث فَنَقُول فِي سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة هدم عَليّ بن عِيسَى بن مَيْمُون وَكَانَ من رُؤَسَاء الْبَحْر فِي دولة اللمتونيين صنم قادس وقادس هَذِه هِيَ الجزيرة الْمُسَمَّاة فِي لِسَان الْعَامَّة الْيَوْم بقالص وَكَانَ بهَا صنم عظميم على صُورَة رجل وَبِيَدِهِ مِفْتَاح يُقَال إِن حكماء اليونان انخذوه طلسما هُنَاكَ كَانَ من خاصيته أَن يمْنَع هبوب الرّيح فِيمَا جاوره من الْبَحْر الْمُحِيط فَكَانَت السفن لَا تجْرِي هُنَاكَ على مَا قيل فَلَمَّا ثار ابْن مَيْمُون الْمَذْكُور بالجزيرة الْمَذْكُورَة ظن أَن تَحت الصَّنَم مَالا فهدمه فَلم يجد شَيْئا
وَفِي السّنة الْمَذْكُورَة توفّي أَبُو عَليّ مَنْصُور بن إِبْرَاهِيم المساطسي دَفِين آزمور وَكَانَ كَبِير الشَّأْن من أهل الْعلم وَالْعَمَل وَمن اشياخ أبي شُعَيْب السارية
وَفِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة توفّي الإِمَام الْهمام الْحَافِظ البارع أَبُو الْفضل عِيَاض بن مُوسَى الْيحصبِي قَالَ ابْن خلكان توفّي بمراكش يَوْم الْجُمُعَة سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة وَقيل فِي شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن بِبَاب آيلان دَاخل الْمَدِينَة وَذَلِكَ فِي دولة عبد الْمُؤمن بن عَليّ
وَفِي سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن عبد الله بن حرزهم يَنْتَهِي نسبه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه وَهُوَ من أهل مَدِينَة فاس وَبهَا توفّي أخريات شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ فَقِيها زاهدا صوفيا قَالَ أَبُو الْحسن
الْمَذْكُور اعتكفت على قِرَاءَة الْإِحْيَاء سنة فجردت الْمسَائِل الَّتِي تنتقد عَلَيْهِ وعزمت على إحراق الْكتاب فَنمت فَرَأَيْت قَائِلا يَقُول جردوه واضربوه حد الْفِرْيَة فَضربت ثَمَانِينَ سَوْطًا فَلَمَّا استيقظت جعلت أقلب ظَهْري وَوجدت الْأَلَم الشَّديد من ذَلِك فتبت إِلَى الله ثمَّ تَأَمَّلت تِلْكَ الْمسَائِل فَوَجَدتهَا مُوَافقَة للْكتاب وَالسّنة وَقد تقدم لنا مَا اتّفق لَهُ مَعَ السُّلْطَان فِي جَنَازَة أبي الْحَكِيم بن برجان
وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ أَبُو شُعَيْب أَيُّوب بن سعيد الصنهاجي الملقب بِسَارِيَة من أهل مَدِينَة آزمور وَبهَا توفّي يَوْم الثُّلَاثَاء عَاشر ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ رضي الله عنه شَدِيد المراقبة والورع وَالْخَوْف من الله تَعَالَى وَكَانَ إِذا وقف فِي صلَاته يُطِيل الْقيام فَلذَلِك لقب بالسارية ونقلت عَنهُ فِي الْوَرع وَالْخَوْف حكايات انْظُر التشوف
قَالَ مُؤَلفه عَفا الله عَنهُ كنت زرت ضريح هَذَا الشَّيْخ سنة ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف ومدحته بقصيدة سلكت فِيهَا مَسْلَك الأدباء من النّسَب وَغَيره وأنشدتها عِنْد ضريحه فَرَأَيْت لَهَا بركَة وَالْحَمْد لله فَأَحْبَبْت أَن أذكرها هُنَا وَهِي هَذِه
(لله يَا ربع مَا هيجت من شجن
…
على الْفُؤَاد وَمن ضنى على الْبدن)
(وقفت فِيك ركابا طالما وقفت
…
على الْقُصُور على الأطلال والدمن)
(أَيَّام فِيك حسان مَا أشبههَا
…
بالشمس حسنا وَلَا فِي اللين بالغصن)
(وفيك أَسد من الْمُلُوك عَادَتهَا
…
بذل النضار وصون الْبيض والحصن)
(يحْمُونَ مِنْك عراصا كنت أعهدها
…
مأوى السرُور فَعَادَت موقف الْحزن)
(عاثت يَد الدَّهْر فيهم مُنْذُ أزمنة
…
كَأَن بأسهم الْمَحْذُور لم يكن)
(قوم عرفت نداهم قبل معرفتي
…
نَفسِي وفاجأني فِي المهد بِالْمَتْنِ)
(ومذ ترعرعت لم أعلق بغيرهم
…
حَتَّى كَأَنِّي رضعت الْحبّ فِي اللَّبن)
(قضيت حق الشَّبَاب فِي مَنَازِلهمْ
…
أَيَّام عَيْش لنا أحلى من الوسن)
(من ظن بالدهر خيرا فَهُوَ منخدع
…
فوده هدنة تبنى على دخن)
(لَا أنتحي منهلا إِلَّا شرفت بِهِ
…
وَلَا احل مَكَانا لَيْسَ بالخشن)
(وَلَا أصَاحب من هَذَا الورى بشرا
…
إِلَّا حصلت على رزق من الإحن)
(حَتَّى توهمت أنني جنيت لَهُم
…
حَرْب البسوس وأنني أَبُو الْفِتَن)
(وَمَا لذِي الْفضل من ذَنْب يلام بِهِ
…
سوى فضيلته فِي دهره الزَّمن)
(فعد يَا قلب عَن شكوى أضيق بهَا
…
ذرعا فشكواك لي ضرب من الوهن)
(وَلست أَحسب هَذَا الدَّهْر مرعويا
…
وَلَو تعلّقت مِنْهُ بِابْن ذِي يزن)
(حلا لقد علقت يَدي بِمن علقت
…
أَيدي العفاة بِهِ فِي الشَّام واليمن)
(بأعظم النَّاس منزلا ومنزلة
…
وأسمح النَّاس كفا بالندى الهتن)
(وأشمخ النَّاس قدرا فِي الورى وَعلا
…
وَأحكم النَّاس للفروض وَالسّنَن)
(ذَاك الْوَلِيّ الَّذِي كل الْأَنَام غَدا
…
يَتْلُو مناقبه فِي السِّرّ والعلن)
(أَبُو شُعَيْب الَّذِي من بحره انشعبت
…
جداول الْيمن فِي الْأَحْيَاء والمدن)
(بدر غَدا فِي سَمَاء الْمجد مكتملا
…
بِهِ علا ذكر آزمور فِي الوطن)
(أَرض إِذا الضَّرع المحروم يممها
…
ألفى بهَا بدل الأهلين والسكن)
(أود من أجل ثاويها حجارتها
…
وَاجعَل الترب لي مسكا بِلَا ثمن)
(كَيفَ لَا تطبي قلبِي منَازِل من
…
بِهِ أكون من الْأَحْدَاث فِي جنن)
(مجلي الغياهب مبذول الْمَوَاهِب مقفو
…
الْمَذْهَب بالجنيد والقرني)
(بَحر الْحَقِيقَة والغوث الَّذِي لهجت
…
بِهِ الْقَبَائِل فِي الْمقَام والظعن)
(مَا زَالَ يرقى الذرى من كل صَالِحَة
…
حَتَّى اكتسى شهرة النيرَان فِي القنن)
(يَا خير من أمه الْعَافِي ولاذ بِهِ
…
أهل الجرائم والأوزار والمحن)
(إِنِّي خدمتك فِي شعر عنيت بِهِ
…
وَلَيْسَ لَوْلَا حلاك الزهر بالْحسنِ)
(أَشْكُو إِلَيْك سقاما أَنْت مبرئه
…
وَلست أَرْجُو سواك مِنْهُ ينعشني)
(وَشد أزري فَإِنِّي كنت مُعْتَقدًا
…
إِذا بلغتك قدت الدَّهْر بالرسن)
(وَانْظُر بِفَضْلِك من وافك معتفيا
…
فَإِن نظرت فَكل الْخَيْر يشملني)
(وَأعظم السُّؤَال مِنْك النَّفس تصلحها
…
وطهر الْقلب مَا لأمراض والدرن)
(وامنحه نورا وتوفيقا وَمَعْرِفَة
…
أرى بهَا علمي وَالْبر فِي قرن)
(فجد بِمَا رمت من جداوك يَا أملي
…
فبحر جودك عذب لَيْسَ بالأجن)
(سقى ضريحك غيث مَا يزَال بِهِ
…
بُسْتَان أنسك وَهُوَ مُورق الفنن)
(بجاه أفضل خلق الله كلهم
…
مُحَمَّد ذِي المزايا الغر والمنن)
(عَلَيْهِ أزكى صَلَاة الله مَا تليت
…
صحف وَمَا نسج القريض ذُو لسن)
(والآل والصحب والأزواج قاطبة
…
وَمن قفا نهجهم فِي كل مَا زمن)
وَاعْلَم أَن التَّعَلُّق بأولياء الله رضي الله عنهم يجب أَن يكون مَعَ استحضار أَن الله تَعَالَى هُوَ الْمَطْلُوب على الْحَقِيقَة وَالْفَاعِل للأشياء كلهَا لَا معبود غَيره وَلَا مرجو سواهُ وَإِنَّمَا التَّمَسُّك بِأَهْل الله لأجل التَّبَرُّك بهم والاستشفاع بهم إِلَى الله تَعَالَى لأَنهم أَبْوَاب الله والدالون عَلَيْهِ نفعنا الله بهم وأفاض علينا من مددهم آمين
وَفِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه الْعَالم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن يُوسُف الْمَعْرُوف بِابْن قرقول صَاحب كتاب مطالع الْأَنْوَار الَّذِي وَضعه على مِثَال كتاب مَشَارِق الْأَنْوَار للْقَاضِي عِيَاض كَانَ من الأفاضل وَصَحب جمَاعَة من عُلَمَاء الأندلس وَتُوفِّي بِمَدِينَة فاس يَوْم الْجُمُعَة أول وَقت الْعَصْر سادس شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ قد صلى الْجُمُعَة فِي الْجَامِع ذَلِك الْيَوْم فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة تلى سُورَة الْإِخْلَاص وَجعل يكررها بِسُرْعَة ثمَّ تشهد ثَلَاث مَرَّات وَسقط على وَجهه سَاجِدا فَوَقع مَيتا رحمه الله
وَفِي سنة سبعين بعْدهَا توفّي الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ الْمَعْرُوف بالمتيطي ومتيطية قَرْيَة بأحواز الجزيرة الخضراء وَهُوَ الموثق الْمَشْهُور لَازم بِمَدِينَة فاس خَاله أَبَا الْحجَّاج المتيطي وَبَين يَدَيْهِ تعلم عقد الشُّرُوط وَله كتاب كَبِير فِي الوثائق سَمَّاهُ النِّهَايَة والتمام فِي معرفَة الوثائق وَالْأَحْكَام ثمَّ انْتقل إِلَى سبتة فاستوطنها ولازم مجَالِس علمائها بالمناظرة والتفقه وَمهر فِي كِتَابه الشُّرُوط واشتغل بهَا حَتَّى لم يكن فِي وقته أقدر مِنْهُ عَلَيْهَا وَكَانَ لَهُ فِي السجلات الْيَد الطُّولى وطبع
عَلَيْهَا حَتَّى كَاد طبعه لَا يواتيه فِي سواهَا بل كَانَ طبعه فِي ذَلِك أَكثر من فقهه ثمَّ ولي الْقَضَاء بشريش وأصابه خضر لَازمه نَحْو السنتين ثمَّ توفّي مستهل شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة توفّي وحيد عصره وأعجوبة دهره الْوَلِيّ الْعَارِف الشَّيْخ أَبُو يعزى يلنور بن مَيْمُون قَالَ قوم إِنَّه من هزميرة إيرجان وَقيل من بني صبيح من هسكورة مَاتَ وَقد نَيف على الْمِائَة بِنَحْوِ الثَّلَاثِينَ سنة وَدفن بجبل إيرجان فِي أَوَائِل شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة كَانَ الشَّيْخ أَبُو مَدين رضي الله عنه يَقُول رَأَيْت أَخْبَار الصَّالِحين من زمن أويس الْقَرنِي إِلَى زَمَاننَا هَذَا فَمَا رَأَيْت أعجب من أَخْبَار أبي يعزى قَالَ وَنظرت فِي كتب التصوف فَمَا رَأَيْت مثل الْإِحْيَاء للغزالي وَكَانَ لِبَاس الشَّيْخ أبي يعزى برنسا أسود مرقوعا إِلَى أَسْفَل من رُكْبَتَيْهِ وجبة من تليس مطرف وشاشية من عزف وَكَانَ يتعيش من نَبَات الأَرْض وَلَا يُشَارك النَّاس فِي مَعَايشهمْ وَكَانَ طَويلا رَقِيقا أسود اللَّوْن وَكَانَ إِذا جنه اللَّيْل دخل غيضة كَثِيرَة السبَاع يتعبد فِيهَا فَإِذا قرب الْفجْر أعلم أَصْحَابه بِهِ وأحواله رضي الله عنه وكراماته كَثِيرَة
وَفِي سنة ثَلَاث وَسبعين بعْدهَا توفّي الشَّيْخ الْعَارِف أَبُو الْحسن عَليّ بن خلف بن غَالب الْقرشِي دَفِين قصر كتامة نَشأ بشلب من بِلَاد الأندلس وَقَرَأَ بقرطبة وَاسْتقر آخرا بقصر كتامة وَبِه توفّي فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَقيل إِن وَفَاته كَانَت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ قبل هَذَا التَّارِيخ وَالله أعلم وَكَانَ رضي الله عنه مُتَمَكنًا فِي عُلُوم الْقَوْم وَكَانَ الْأَوْلِيَاء يحْضرُون مَجْلِسه وَهُوَ من تلامذة أبي الْعَبَّاس بن العريف الْمُتَقَدّم الذّكر
وَفِي سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ أَبُو عبد الله التاودي الْعلم من أهل مَدِينَة فاس وَمن أَصْحَاب الشَّيْخ أبي يعزى وَكَانَ يعلم الصّبيان فَيَأْخُذ الْأجر من أَوْلَاد الْأَغْنِيَاء فَيردهُ على أَوْلَاد الْفُقَرَاء وَمَات بفاس فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَهَذِه النِّسْبَة إِلَى بني تاودي وَهِي قَبيلَة بِقرب فاس
وَفِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ بعْدهَا توفّي الإِمَام الْمَشْهُور أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن الْخَطِيب أبي مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد السُّهيْلي الْخَثْعَمِي صَاحب كتاب الرَّوْض الْأنف وَغَيره من التآليف الحسان وَصَاحب الأبيات الْمَشْهُورَة فِي الدُّعَاء وَهِي
(يَا من يرى مَا فِي الضَّمِير وَيسمع
…
أَنْت الْمعد لكل مَا يتَوَقَّع)
(يَا من يُرْجَى للشدائد كلهَا
…
يَا من إِلَيْهِ المشتكى والمفزع)
(يَا من خَزَائِن رزقه فِي قَول كن
…
أمنن فَإِن الْخَيْر عنْدك أجمع)
(مَا لي سوى فقري إِلَيْك وَسِيلَة
…
فبالافتقار إِلَيْك فقري أدفَع)
(مَا لي سوى قرعي لبابك حِيلَة
…
فلئن رددت فَأَي بَاب أَقرع)
(وَمن الَّذِي أَدْعُو وأهتف باسمه
…
إِن كَانَ فضلك عَن فقيرك يمْنَع)
(حاشى لجودك أَن تقنط عَاصِيا
…
الْفضل أجزل والمواهب أوسع)
كَانَ ببلدته سُهَيْل وَهِي قَرْيَة بِالْقربِ من مالقة يتسوغ بالعفاف ويتبلغ بالكفاف حَتَّى نمى خَبره إِلَى السُّلْطَان بمراكش فَطَلَبه إِلَيْهِ وَأحسن إِلَيْهِ وَأَقْبل بِوَجْهِهِ غَايَة الإقبال عَلَيْهِ فَأَقَامَ بهَا نَحْو ثَلَاث سِنِين ثمَّ توفّي بهَا يَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن وَقت الظّهْر خَارج بَاب الرب أحد أَبْوَاب مراكش وَكَانَ رحمه الله ضريرا نفعنا الله تَعَالَى بِهِ
وَفِي سنة تسعين وَخَمْسمِائة توفّي ولي الله تَعَالَى أَبُو مُحَمَّد عبد الْحَلِيم بن عبد الله المراسي الْمَعْرُوف بالغماد من صلحاء سلا كَانَ رحمه الله عبدا صَالحا يَدُور على الْمكَاتب ويستوهب الدُّعَاء من الصّبيان ويبكي على نَفسه وَله كرامات وَتُوفِّي بِبَلَدِهِ الْمَذْكُور وقبره مَعْرُوف ملاصق لِلْمَسْجِدِ الْأَعْظَم قرب بَابه الْكَبِير من جِهَة الْقبْلَة
وَفِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن عَليّ الْمُبْتَلى الْمَعْدُود فِي سَبْعَة رجال من صلحاء مراكش كَانَ رَضِي الله
عَنهُ كَبِير الشَّأْن فَاضلا صَابِرًا رَاضِيا على ربه فِيمَا ابتلاه بِهِ من دَاء الجذم سقط بعد جسده ذَات يَوْم فَصنعَ طَعَاما كثيرا للْفُقَرَاء شكرا لله تَعَالَى على ذَلِك وَكَانَ يسكن بحارة الجذمي العتيقة قبلي مراكش وَبهَا مَاتَ فِي شهر رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن خَارج بَاب أغمات عِنْد رابطة الْغَار واحتفل النَّاس لجنازته رضي الله عنه
وَفِي سنة أَربع وَتِسْعين بعْدهَا توفّي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبُو مَدين شُعَيْب بن الْحسن الْأنْصَارِيّ الْوَلِيّ الْكَبِير الْمَشْهُور أَصله من حصن قطنيانة من عمل إشبيلية ثمَّ انْتقل إِلَى العدوة فَأخذ عَن الشَّيْخ أبي الْحسن بن حزرهم وَعَن الشَّيْخ أبي يعزى وَبِه انْتفع وَعَلِيهِ تخرج وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو مَدين رضي الله عنه من العارفين الراسخين قد خَاضَ من الْأَحْوَال بحارا وَمن المعارف أسرارا وجال فِي حَدَاثَة سنه فِي بِلَاد الْمغرب من سبتة ومراكش وفاس ولازم بفاس الشَّيْخ ابْن حرزهم كَمَا قُلْنَا ثمَّ سمع بِخَبَر الشَّيْخ أبي يعزى فقصده وَأخذ عَنهُ وَظَهَرت عَلَيْهِ بركته
قَالَ الشَّيْخ أَبُو مَدين لما قدمت فاسا لقِيت بهَا الْأَشْيَاخ فَسمِعت رِعَايَة المحاسبي على أبي الْحسن بن حرزهم وَكتاب السّنَن لِلتِّرْمِذِي على أبي الْحسن بن غَالب وَأخذت طَريقَة التصوف على أبي عبد الله الدقاق وَأبي الْحسن السلاوي قَالَ وَكنت أَزور الشَّيْخ أبي يعزى مرَارًا فَقَالَ لي جمَاعَة من الْفُقَهَاء المجاورين لأبي يعزى قد ثبتَتْ عندنَا ولَايَة أبي يعزى وَلَكنَّا نشاهده يلمس بطُون النِّسَاء وصدورهن ويتفل عَلَيْهِنَّ فيبرأن وَنحن نرى أَن لمسهن حرَام فَإِن تكلمنا فِي هَذَا هلكنا وَإِن سكتنا حرنا فَقلت لَهُم أَرَأَيْتُم لَو أَن ابْنة أحدكُم أَو أُخْته أَصَابَهَا دَاء لَا يطلع عَلَيْهِ إِلَّا الزَّوْج وَلم يُوجد من يعانيه إِلَّا طَبِيب يَهُودِيّ أَو نَصْرَانِيّ ألستم تجيزون ذَلِك مَعَ أَن دواءه مظنون ودواء أبي يعزى أَنْتُم على يَقِين مِنْهُ فَبلغ كَلَامي أبي يعزى فَاسْتَحْسَنَهُ
قَالَ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ خرج الشَّيْخ أَبُو مَدين ألف تلميذ وجاءه رجل ليعترض عَلَيْهِ فَجَلَسَ فِي الْحلقَة فَقَالَ لَهُ أَبُو مَدين لم جِئْت قَالَ لأقتبس من نورك فَقَالَ لَهُ مَا الَّذِي فِي كمك فَقَالَ لَهُ مصحف فَقَالَ لَهُ افتحه واقرأ أول سطر يخرج لَك فَفعل فَخرج لَهُ قَوْله تَعَالَى {الَّذين كذبُوا شعيبا كَانُوا هم الخاسرين} فَقَالَ لَهُ ابو مَدين أما يَكْفِيك هَذَا فاعترف الرجل وَتَابَ وكراماته رضي الله عنه كَثِيرَة
وَكَانَ استوطن فِي آخر عمره بجاية وَكثر عَلَيْهِ النَّاس وَظَهَرت على يَده كرامات فوشى بِهِ بعض عُلَمَاء الظَّاهِر عِنْد يَعْقُوب الْمَنْصُور وَقَالَ لَهُ إِنَّا نَخَاف مِنْهُ على دولتكم فَإِن لَهُ شبها بِالْإِمَامِ الْمهْدي وَأَتْبَاعه كَثِيرُونَ بِكُل بلد فَوَقع مِنْهُ ذَلِك فَكتب لصَاحب بجاية يَبْعَثهُ إِلَيْهِ وأوصاه بالاعتناء بِهِ وَأَن يحملهُ إِلَيْهِ خير محمل فَفعل
وَلما كَانَ الشَّيْخ أَبُو مَدين رضي الله عنه بِالطَّرِيقِ مرض مرض مَوته فَلَمَّا وصل وَادي يسر قرب تلمسان اشْتَدَّ بِهِ مَرضه فنزلوا بِهِ هُنَالك فَكَانَ آخر كَلَامه الله الْحق فَتوفي وَدفن برابطة الْعباد قرب تلمسان وَسمع أهل تلمسان بجنازته فحضروها وَكَانَت من الْمشَاهد الْعَظِيمَة
وَفِي سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه الصَّالح أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْمَهْدَوِيّ صَاحب كتاب الْهِدَايَة أَقَامَ نَحْو أَرْبَعِينَ سنة لم تفته صَلَاة فِي جمَاعَة إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا لعذر عاقه عَن ذَلِك دخل مَدِينَة فاس وَمَعَهُ نَحْو من أَرْبَعِينَ ألفا من المَال فَمَا زَالَ ينفقها فِي سَبِيل الْخَيْر حَتَّى لم يبْق لَهُ إِلَّا دَار سكناهُ فَبَاعَهَا من بعض أهل فاس وأعمره المُشْتَرِي لَهَا فَلَمَّا خرجت مِنْهَا جنَازَته حازها المُشْتَرِي الْمَذْكُور وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة
وَاعْلَم أَنا قد قدمنَا أَن الشَّيْخ أَبَا مَدين كَانَ تلميذا للشَّيْخ أبي يعزى وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو يعزى تلميذا للشَّيْخ أبي شُعَيْب السارية وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو