الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحذر شيوخها وكبراؤها من سطوته فحولوا الدعْوَة إِلَى الْأَمِير أبي زَكَرِيَّا الحفصي صَاحب إفريقية وَكَانَ استبد على بني عبد الْمُؤمن ورام التغلب حَتَّى على كرسيهم بمراكش فَبَايعهُ أهل مكناسة بمواطأة الْأَمِير أبي بكر بن عبد الْحق فَإِنَّهُ كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ فِي أول أمره وَكَذَا أَخُوهُ السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق من بعده ثمَّ اسْتَقل بِنَفسِهِ واستبد بأَمْره عِنْدَمَا تمّ لَهُ ملك الْمغرب حَسْبَمَا نَقصه بعد إِن شَاءَ الله
وَفِي هَذِه السّنة بعث أهل إشبيلية وَأهل سبتة بطاعتهم للأمير أبي زَكَرِيَّا الحفصي أَيْضا وَبعث أَبُو عَليّ بن خلاص صَاحب سبتة إِلَيْهِ بهدية مَعَ ابْنه فِي أسطول أنشأه لذَلِك فغرق عِنْد إقلاعه من المرسى وَقبل هَذِه الْمدَّة بِيَسِير كَانَ الْأَمِير أَبُو زَكَرِيَّا الحفصي قد تغلب على تلمسان وَبَايَعَهُ صَاحبهَا يغمراسن بن زيان العَبْد الْوَادي وَهُوَ جد ملك بني زيان أَصْحَاب تلمسان وَالْمغْرب الْأَوْسَط فَعظم قدر أبي زَكَرِيَّا بِسَبَب هَذِه البيعات الَّتِي انثالت عَلَيْهِ من سَائِر الْجِهَات وحدثته نَفسه بالتوثب على كرْسِي الْخلَافَة بمراكش وغص بَنو عبد الْمُؤمن بمكانه وَعظم عَلَيْهِم استبداده ثمَّ طمعه فِي كرسيهم وقرارة عزهم مَعَ أَنه مَا كَانَ إِلَّا جدولا من بحرهم وفرعا من دوحتهم وَالْأَمر كُله لله
نهوض السعيد من مراكش إِلَى غَزْو الثوار بالمغربين ومحاصرته يغمراسن بن زيان وَمَا آل إِلَيْهِ الْأَمر من مَقْتَله رحمه الله
لما بلغ السعيد وَهُوَ بمراكش استبداد الْأَمِير أبي زَكَرِيَّا بن أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص الهنتاتي بإفريقية ومبايعة أُمَرَاء الْجِهَات لَهُ أعمل نظره فِي الْحَرَكَة إِلَى هَؤُلَاءِ الثوار والنهوض لتدويخ هَذِه الأقطار
وَكَانَ السعيد شهما حازما يقظا بعيد الهمة فَنظر فِي أعطاف دولته وفاوض الْمَلأ من الْمُوَحِّدين فِي تثقيف أطرافها وتقويم أودها وحرك
هممهم وأثار حفائظهم وأراهم كَيفَ اقتطع عَنْهُم الْأَمر شَيْئا فَشَيْئًا فَابْن أبي حَفْص اقتطع إفريقية ويغمراسن بن زيان اقتطع الْمغرب الْأَوْسَط ثمَّ أَقَامَ فِيهِ الدعْوَة الحفصية وَابْن هود اقتطع الأندلس وَأقَام فِيهَا دَعْوَة بني الْعَبَّاس وَابْن الْأَحْمَر بالجانب الآخر مِنْهَا مُقيم للدعوة الحفصية أَيْضا وَهَؤُلَاء بَنو مرين قد تغلبُوا على ضواحي الْمغرب ثمَّ سموا إِلَى تملك أمصاره وَإِن سكتنا على هَذَا فيوشك أَن يخْتل الْأَمر وتنقرض الدولة فتذامروا وتداعوا إِلَى النهوض إِلَيْهِم فحشد السعيد الْجنُود وجهز العساكر وأزاح عللهم واستنفر عرب الْمغرب وَمَا يَلِيهِ واحتشد كَافَّة المصامدة
ونهض من مراكش آخر سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة يُرِيد مكناسة وَبني مرين أَولا ثمَّ تلمسان ويغمراسن ثَانِيًا ثمَّ إفريقية وَابْن أبي حَفْص ثَالِثا
وَلما نزل بوادي بهت أَخذ فِي عرض عساكره وتمييزها فَخرج الْأَمِير أَبُو بكر بن عبد الْحق من مكناسة لَيْلًا وَحده يتجسس الْأَخْبَار فَأَشْرَف على جموع السعيد فَرَأى مَا لَا قبل لَهُ بِهِ فَعَاد إِلَى قومه وَأَفْرج للسعيد عَن الْبِلَاد وتلاحقت بِهِ بَنو مرين من أماكنها الَّتِي كَانَ الْأَمِير أَبُو بكر أنزلهم بهَا واجتمعوا عَلَيْهِ بحصن تازا وطامن بِلَاد الرِّيف
وَتقدم السعيد إِلَى مكناسة فَخرج إِلَيْهِ أَهلهَا يطْلبُونَ مِنْهُ الْعَفو وَقدمُوا بَين أَيْديهم الشَّيْخ الصَّالح أَبَا عَليّ مَنْصُور بن حرزوز وتلقوه بالصبيان من الْمكَاتب على رؤوسهم الألواح وَبَين أَيْديهم الْمَصَاحِف وَخرج النِّسَاء حاسرات يطلبن الْعَفو فَعَفَا عَنْهُم
ثمَّ ارتحل إِلَى تازا فِي أَتبَاع بني مرين وانتقل أَبُو بكر بن عبد الْحق إِلَى بني يزناسن ثمَّ رَاجع نظره فِي مسالمة الْمُوَحِّدين وَالدُّخُول فِي أَمرهم فَبعث ببيعته إِلَى السعيد وَهُوَ يَوْمئِذٍ بتازا مَعَ جمَاعَة من وُجُوه بني مرين فقبلها السعيد وَعَفا لَهُم عَمَّا سلف فَسَأَلَهُ وفدهم أَن يستكفي بالأمير أبي بكر فِي أَمر تلمسان وصاحبها يغمراسن بن زيان وَقد كتب إِلَيْهِ الْأَمِير أَبُو بكر أَيْضا
بذلك يَقُول يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ارْجع إِلَى حضرتك وقوني بالجيش وَأَنا أكفيك أَمر يغمراسن وَافْتَحْ لَك تلمسان فَاسْتَشَارَ السعيد وزراءه فَقَالُوا لَا تفعل فَإِن الزناتي أَخُو الزناتي لَا يَخْذُلهُ وَلَا يُسلمهُ فَكتب إِلَيْهِ السعيد بِأَن يبْعَث إِلَيْهِ جمَاعَة من قومه يعسكرون مَعَه فأمده الْأَمِير أَبُو بكر بِخَمْسِمِائَة من قبائل بني مرين وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِ عَمه أبي عياد بن ابي يحيى بن حمامة وَخَرجُوا تَحت رايات السعيد ونهض من تازا يُرِيد تلمسان
وَعند ابْن أبي زرع أَن السعيد لما فرغ من أَمر مكناسة عَسْكَر بِظَاهِر فاس وهنالك أَتَتْهُ بيعَة بني مرين قَالَ ثمَّ ارتحل السعيد عَن فاس فِي الرَّابِع عشر من محرم سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَخسف الْقَمَر تِلْكَ اللَّيْلَة خسوفا كليا وَأصْبح السعيد غاديا يُرِيد تلمسان فَلَمَّا ركب فرسه انْكَسَرت لؤلؤة المنصوري فتطير وَنزل وَلم يرتحل إِلَّا فِي الْيَوْم السَّادِس عشر من الشَّهْر الْمَذْكُور
وَلما سمع يغمراسن بإقبال السعيد إِلَيْهِ خرج من تلمسان فِي عشيرته وَقَومه من سَائِر بني عبد الواد وتحملوا بأهليهم وَأَوْلَادهمْ إِلَى قلعة تامزردكت قبْلَة وَجدّة فَاعْتَصمُوا بهَا ووفد على السعيد الْفَقِيه عبدون وَزِير يغراسن مُؤديا للطاعة وساعيا فِي مَذَاهِب الْخدمَة ومتوليا من حاجات الْخَلِيفَة بتلمسان مَا يَدعُوهُ إِلَيْهِ ويصرفه فِي سَبيله ومعتذرا تخلف يغمراسن عَن الْوُصُول إِلَى حَضْرَة السعيد فلج السعيد فِي شَأْنه وَلم يعذرهُ وأبى إِلَّا مُبَاشرَة طَاعَته بِنَفسِهِ وساعده فِي ذَلِك كانون بن جرمون السفياني صَاحب الشورى بمجلسه وَمن حضر من الْمَلأ وردوا الْفَقِيه عبدون إِلَى يغمراسن ليستقدمه فتثاقل يغمراسن عَن الْقدوم خشيَة على نَفسه
وَاعْتمد السعيد الْجَبَل فِي عساكره حَتَّى أَنَاخَ بهَا فِي ساحة القلعة وَأخذ بمخنقهم ثَلَاثَة أَيَّام وَفِي الْيَوْم الرَّابِع ركب مهجرا فِي وَقت القيلولة على حِين غَفلَة من النَّاس ليتطوف بالقلعة ويتقرى مكامنها فَبَصر بِهِ فَارس من بني عبد الواد يعرف بِيُوسُف الشَّيْطَان كَانَ أَسْفَل الْجَبَل بِقصد الحراسة وَاتفقَ أَن يغمراسن بن زيان وَابْن عَمه يَعْقُوب بن جَابر كَانَا قريبين مِنْهُ
فعرفوا السعيد فَانْفَضُّوا عَلَيْهِ من بعض الشعاب أَمْثَال العقبان وطعنه يُوسُف الشَّيْطَان فكبه عَن فرسه وَعمد يَعْقُوب بن جَابر إِلَى وزيره يحيى بن عطوش فَقتله ثمَّ استحلموا لوقتهم موَالِيه ناصحا من العلوج وعنبرا من الخصيان وقائد جند النَّصَارَى وَهُوَ أَخُو القمط ووليدا يافعا من ولد السعيد وَيُقَال إِنَّمَا كَانَ ذَلِك يَوْم عبى السعيد العساكر وَصعد الْجَبَل لِلْقِتَالِ وَتقدم أَمَام النَّاس فاقتطعه بعض الشعاب المتوعرة فِي طَرِيقه فتواثب عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الفرسان وَكَانَ مَا ذَكرْنَاهُ وَذَلِكَ منسلخ صفر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
وانْتهى الْخَبَر إِلَى الْمحلة فارتجت وَمَاجَتْ وَأخذ أَهلهَا فِي الْفِرَار وبادر يغمراسن إِلَى السعيد فَنزل إِلَيْهِ وَهُوَ صريع على الأَرْض فحياه وفداه وَأقسم لَهُ على الْبَرَاءَة من دَمه والسعيد رحمه الله واجم بمصرعه يجود بِنَفسِهِ إِلَى أَن فاظ وانتهب المعسكر بجملته
وَاسْتولى بَنو عبد الواد على مَا كَانَ بِهِ من الأخبية الْحَسَنَة والفازات الرفيعة واختص يغمراسن بفسطاط السُّلْطَان فَكَانَ لَهُ خَالِصَة دون قومه وَاسْتولى على الدخيرة الَّتِي كَانَت فِيهِ مِنْهَا مصحف عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه يَزْعمُونَ أَنه أحد الْمَصَاحِف الَّتِي انتسخت لعهد خِلَافَته وَإنَّهُ كَانَ فِي خَزَائِن قرطبة عِنْد ولد عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل ثمَّ صَار فِي ذخائر لمتونة فِيمَا صَار إِلَيْهِم من ذخائر مُلُوك الطوائف بالأندلس ثمَّ صَار إِلَى خَزَائِن الْمُوَحِّدين من يَد لمتونة
قَالَ ابْن خلدون وَهُوَ لهَذَا الْعَهْد فِي خَزَائِن بني مرين فِيمَا استولوا عَلَيْهِ من ذخيرة آل زيان وَذَلِكَ عِنْد غلب السُّلْطَان أبي الْحسن المريني على تلمسان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة كَمَا نذكرهُ اه
وَقد تقدم لنا الْخَبَر عَن هَذَا الْمُصحف العثماني وَفِيه مُخَالفَة لبَعض مَا هُنَا وَسَيَأْتِي لنا فِي دولة السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني مَا يُخَالف ذَلِك كُله وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر
وَمن الذَّخَائِر الَّتِي صَارَت ليغمراسن من فسطاط السعيد العقد المنتظم