الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلما وقف عَلَيْهِ الْمَنْصُور وَرَأى تجافيهم فِيهِ عَن خطابه بأمير الْمُؤمنِينَ لم يُعجبهُ ذَلِك وأسرها فِي نَفسه وَحمل الرَّسُول على مناهج الْبر والكرامة ورده إِلَى مرسله وَلم يجبهُ إِلَى حَاجته وَيُقَال إِنَّه جهز لَهُ بعد ذَلِك مائَة وَثَمَانِينَ أسطولا وَمنع النَّصَارَى من سواحل الشَّام وَالله تَعَالَى أعلم
قَالَ ابْن خلدون وَفِي هَذَا دَلِيل على اخْتِصَاص مُلُوك الْمغرب يَوْمئِذٍ بالأساطيل الجهادية وَعدم عناية الدول بِمصْر وَالشَّام لذَلِك الْعَهْد بهَا وَكَانَ ابْن منقذ الْمَذْكُور قد مدح الْمَنْصُور بقصيدة يَقُول فِيهَا
(سأشكر بحرا ذَا عباب قطعته
…
إِلَى بَحر جود مَا لأخراه سَاحل)
(إِلَى مَعْدن التَّقْوَى إِلَى كعبة الندى
…
إِلَى من سمت بِالذكر مِنْهُ الْأَوَائِل)
(إِلَيْك أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلم تزل
…
إِلَى بابك المأمول تزجي الرَّوَاحِل)
(قطعت إِلَيْك الْبر وَالْبَحْر موقنا
…
بِأَن نداك الْغمر بالنجح كافل)
(وحزت بقصديك العلى فبلغتها
…
وَأدنى عطاياك العلى والفواضل)
(فَلَا زلت للعلياء والجود بانيا
…
تبلغك الآمال مَا أَنْت آمل)
وعدتها أَرْبَعُونَ بَيْتا فَأعْطَاهُ بِكُل بَيت ألفا وَقَالَ لَهُ إِنَّمَا أعطيناك لفضلك ولبيتك يَعْنِي لَا لأجل صَلَاح الدّين
عود الْمَنْصُور إِلَى إفريقية وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما قدم الْمَنْصُور من الأندلس إِلَى فاس وَفرغ من شَأْن ابْن منقذ تَوَاتَرَتْ إِلَيْهِ الْأَخْبَار بِأَن ابْن غانية قد ظهر بإفريقية فَنَهَضَ إِلَيْهَا من فاس فِي ثامن شعْبَان من تِلْكَ السّنة فَدخل تونس فِي أول ذِي الْقعدَة مِنْهَا فَألْقى بِلَاد
إفريقية سَاكِنة وَقد فر ابْن غانية عَنْهَا إِلَى الصَّحرَاء حِين سمع بقدومه
وَفِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة استولى الفرنج على مَدِينَة شلب وباجة ويابورة من غرب الأندلس وَذَلِكَ لما علمُوا أَن الْمَنْصُور قد أبعد عَنْهُم واشتغل بِأَمْر إفريقية فاغتنموا الفرصة فِيهَا واتصل الْخَبَر بالمنصور فَغَاظَهُ ذَلِك وأعظمه وَكتب إِلَى قواد الأندلس يوبخهم وَيَأْمُرهُمْ بغزو بِلَاد الفرنج وَيُعلمهُم أَنه قادم عَلَيْهِم فِي أثر كِتَابه فَاجْتمع قواد الأندلس إِلَى مُحَمَّد بن يُوسُف وَالِي قرطبة فَخرج بهم فِي جَيش كثيف من الْمُوَحِّدين وَالْعرب وَأهل الأندلس حَتَّى نزل على شلب فَشدد عَلَيْهَا الْحصار وتابع عَلَيْهَا الْقِتَال حَتَّى فتحهَا وَفتح قصر أبي دانس ومدينة باجة ويابورة وَرجع إِلَى قرطبة فَدَخلَهَا بِخَمْسَة عشر ألفا من السَّبي وَثَلَاثَة آلَاف أَسِير قدمهم بَين يَدَيْهِ فِي القطائن خَمْسُونَ علجا فِي كل قطينة وَذَلِكَ فِي شَوَّال سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَفِي هَذَا الشَّهْر رَجَعَ الْمَنْصُور من إفريقية فَانْتهى إِلَى تلمسان فَأَقَامَ بهَا إِلَى آخر السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي فاتح محرم من سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَهِي سنة آكرواو خرج الْمَنْصُور من تلمسان إِلَى فاس وَهُوَ مَرِيض فَكَانَ يركب فِي آكرواو فَدخل فاسا وَأقَام بهَا مَرِيضا سَبْعَة أشهر حَتَّى أبل من علته ثمَّ نَهَضَ إِلَى مراكش فَأَقَامَ بهَا إِلَى سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة ثمَّ نَهَضَ مِنْهَا إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد وَكَانَ مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
الْغَزْوَة الْكُبْرَى بالأرك من بِلَاد الأندلس
قَالَ ابْن خلكان كَانَ يَعْقُوب الْمَنْصُور رحمه الله قد خافه الفنش صَاحب طليطلة وَسَأَلَهُ الصُّلْح فَصَالحه إِلَى خمس سِنِين فَلَمَّا انْقَضتْ مُدَّة الْهُدْنَة وَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيل خرجت طَائِفَة من الفرنج فِي جَيش كثيف إِلَى بِلَاد الْمُسلمين فنهبوا وَسبوا وعاثوا عيثا فظيعا فَانْتهى الْخَبَر إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور وَهُوَ بمراكش فتجهز لقصدهم فِي جَيش عَرَمْرَم من قبائل الْمُوَحِّدين وَالْعرب واحتفل فِي ذَلِك وَعبر الْبَحْر إِلَى الأندلس سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة واتصل بالفرنج عبوره إِلَيْهِم فَجمعُوا خلقا كثيرا من أقْصَى بِلَادهمْ وأدانيها وَأَقْبلُوا نَحوه
قَالَ ابْن خلكان وَقد رَأَيْت بِدِمَشْق جُزْء بِخَط الشَّيْخ الْحَافِظ تَاج الدّين عبد الله بن حموية السَّرخسِيّ وَكَانَ قد سَافر إِلَى مراكش وَأقَام بهَا مُدَّة وَكتب فصولا تتَعَلَّق بِتِلْكَ الدولة فَمن ذَلِك فصل يتَعَلَّق بِهَذِهِ الْوَقْعَة فَيَنْبَغِي ذكره هَهُنَا
قَالَ لما انْقَضتْ الْهُدْنَة بَين أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور وَبَين الأذفونش الفرنجي صَاحب غرب جَزِيرَة الأندلس وَقَاعِدَة مَمْلَكَته يَوْمئِذٍ طليطلة وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر سنة تسعين وَخَمْسمِائة عزم يَعْقُوب الْمَنْصُور وَهُوَ يَوْمئِذٍ بمراكش على التَّوَجُّه إِلَى جَزِيرَة الأندلس لمحاربة الفرنج وَكتب إِلَى وُلَاة الْأَطْرَاف وقواد الجيوش بالحضور وَخرج إِلَى مَدِينَة سلا ليَكُون اجْتِمَاع العساكر بظاهرها فاتفق أَنه مرض مَرضا شَدِيدا حَتَّى يئس مِنْهُ أطباؤه فتوقف الْحَال عَن تَدْبِير تِلْكَ الجيوش وَحمل يَعْقُوب الْمَنْصُور إِلَى مراكش وَهُوَ مَرِيض فطمع المجاورون لَهُ من الْعَرَب وَغَيرهم فِي الْبِلَاد وعاثوا فِيهَا وأغاروا على النواحي والأطراف وَكَذَلِكَ فعل الأذفونش فِيمَا يَلِيهِ من بِلَاد الْمُسلمين بالأندلس وَاقْتضى الْحَال تَفْرِقَة الجيوش الَّتِي جمعهَا يَعْقُوب الْمَنْصُور شرقا وغربا وَاشْتَغلُوا بالمدافعة والممانعة فَكثر طمع الأذفونش
فِي الْبِلَاد وَبعث رَسُولا إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور يهدد ويتوعد وَيطْلب بعض الْحُصُون المتاخمة لَهُ من بِلَاد الأندلس وَكتب إِلَيْهِ رِسَالَة من إنْشَاء وَزِير لَهُ من ضعفاء الْمُسلمين يعرف بِابْن الفخار وَهِي بِاسْمِك اللَّهُمَّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض وَصلى الله على السَّيِّد الْمَسِيح روح الله وكلمته الرَّسُول الفصيح أما بعد فَإِنَّهُ لَا يخفى على ذِي ذهن ثاقب وَلَا ذِي عقل لازب إِنَّك أَمِير الْملَّة الحنيفية كَمَا أَنِّي أَمِير الْملَّة النَّصْرَانِيَّة وَقد علمت الْآن مَا عَلَيْهِ رُؤَسَاء الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال أَمر الرّعية وإخلادهم إِلَى الرَّاحَة وَأَنا أسومهم بِحكم الْقَهْر وخلاء الديار وأسبي الذَّرَارِي وأمثل بِالرِّجَالِ وَلَا عذر لَك فِي التَّخَلُّف عَن نَصرهم إِذا أمكنتك يَد الْقُدْرَة وَأَنْتُم تَزْعُمُونَ أَن الله فرض عَلَيْكُم قتال عشرَة منا بِوَاحِد مِنْكُم فَالْآن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا وَنحن الْآن نُقَاتِل عشرَة مِنْكُم بِوَاحِد منا لَا تَسْتَطِيعُونَ دفاعا وَلَا تَمْلِكُونَ امتناعا وَقد حُكيَ لي عَنْك أَنَّك أخذت فِي الاحتفال وأشرفت على ربوة الْقِتَال وتماطل نَفسك عَاما بعد عَام تقدم رجلا وتؤخر أُخْرَى فَلَا أَدْرِي أَكَانَ الْجُبْن قد أَبْطَأَ بك أم التَّكْذِيب بِمَا وعد رَبك ثمَّ قيل لي إِنَّك لَا تَجِد إِلَى جَوَاز الْبَحْر سَبِيلا لعِلَّة لَا يسوغ لَك التقحم مَعهَا وَهَا أَنا أَقُول لَك مَا فِيهِ الرَّاحَة لَك وأعتذر لَك وعنك على أَن تفي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرِّهَان وَترسل إِلَيّ جملَة من عبيدك بالمراكب والشواني والطرائد والمسطحات وأجوز بجملتي إِلَيْك فأقاتلك فِي أعز الْأَمَاكِن لديك فَإِن كَانَت لَك فغنيمة كَبِيرَة جلبت إِلَيْك وهدية عَظِيمَة مثلت بَين يَديك وَإِن كَانَت لي كَانَت يَدي الْعليا عَلَيْك واستحققت إِمَارَة الملتين وَالْحكم على البرين وَالله تَعَالَى يوفق للسعادة ويسهل الْإِرَادَة لَا رب غَيره وَلَا خير إِلَّا خَيره
فَلَمَّا وصل كِتَابه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور مزقه وَكتب على ظهر قِطْعَة مِنْهُ وَكَانَ الْمَنْصُور يضْرب بِهِ الْمثل فِي حسن التوقيع كَمَا يَأْتِي فِي بَقِيَّة أخباره {ارْجع إِلَيْهِم فلنأتينهم بِجُنُود لَا قبل لَهُم بهَا ولنخرجنهم مِنْهَا أَذِلَّة}
وهم صاغرون) ثمَّ كتب الْجَواب مَا ترى لَا مَا تسمع فَهُوَ أول من تكلم بِهِ فَأرْسلهُ مثلا وَأنْشد متمثلا
(وَلَا كتب إِلَّا المشرفية والقنى
…
وَلَا رسل إِلَّا الْخَمِيس العرمرم)
ثمَّ أَمر بالإستنفار واستدعاء الجيوش من الْأَمْصَار وَضرب السرادقات بِظَاهِر الْبَلَد من يَوْمه وَجمع العساكر وَسَار إِلَى الْبَحْر الْمَعْرُوف بزقاق سبتة يُرِيد الأندلس
وَقَالَ ابْن أبي زرع خرج أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور من حَضْرَة مراكش يَوْم الْخَمِيس الثَّامِن عشر من جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة يولي السّير ويطوي المناهل وَلَا يلوي على فَارس وَلَا راجل والجيوش تتَابع فِي أَثَره من سَائِر الأقطار فَلَمَّا انْتهى إِلَى قصر الْمجَاز أَخذ فِي إجَازَة الجيوش الْوَارِدَة عَلَيْهِ لَا يفرغ من طَائِفَة إِلَّا وَقد لحقت بهَا أُخْرَى فَأجَاز أَولا قبائل الْعَرَب ثمَّ زناتة ثمَّ المصامدة ثمَّ غمارة ثمَّ المتطوعة من قبائل الْمغرب ثمَّ الأغزاز وَالرُّمَاة ثمَّ الموحدون ثمَّ العبيد ثمَّ أجَاز أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي أَثَرهم فِي موكب عَظِيم من أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين وَأهل النجدة والزعامة وَمَعَهُ فُقَهَاء الْمغرب وصلحاؤه وَاسْتقر بالجزيرة الخضراء بعد صَلَاة الْجُمُعَة الموفي عشْرين من رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة فَأَقَامَ بهَا يَوْمًا وَاحِدًا
ثمَّ نَهَضَ إِلَى الْعَدو قبل أَن تخمد قرائح الْمُجَاهدين وتضعيف نياتهم فَسَار حَتَّى بَقِي بَينه وَبَين حصن الأرك الَّذِي كَانَ الْعَدو نازلا بإزائه نَحْو مرحلَتَيْنِ فَنزل هُنَالك وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس ثَالِث شعْبَان من السّنة فَجمع النَّاس ذَلِك الْيَوْم وفاوضهم ووعظهم ثمَّ اخْتصَّ أهل الأندلس بمزيد المشورة وَقَالَ لَهُم إِن جَمِيع من استشرته وَإِن كَانُوا أولي بَأْس وَمَعْرِفَة بِالْحَرْبِ لكِنهمْ لَا يعْرفُونَ من قتال الفرنج مَا تعرفونه أَنْتُم لتمرسكم بهم وتمرسهم بكم فأحالوه فِي الرَّأْي على الْقَائِد أبي عبد الله بن صَنَادِيد فعول الْمَنْصُور رحمه الله فِي ذَلِك على رَأْيه
وَقَالَ ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور رحمه الله عرض جَيْشه وَأخذ فِي تقريب الْقرب الى الله تَعَالَى بَين يَدي جهاده فسرح السجون وأدر الأرزاق وَعين الصَّدقَات ورحل فَنزل الأرك وَقد خيمت بأحوازه محلات الْعَدو يضيق عَنْهَا المتسع وَقَامَ الْمَنْصُور بعد أَن اجْتمع النَّاس فتحلل من الْمُسلمين وَقَالَ أَيهَا النَّاس اغفروا لي فِيمَا عَسى أَن يكون صدر مني فبكي النَّاس وَقَالُوا مِنْكُم يطْلب الرضى والغفران وخطب الخطباء بَين يَدَيْهِ محرضين ومذكرين فنشط النَّاس وَطَابَتْ النُّفُوس وَمن الْغَد صدع الْمَنْصُور بالنداء وَأمر بِأخذ السِّلَاح والبروز إِلَى اللِّقَاء فَكَانَت التعبئة تَحت الْغَلَس
وَحكى ابْن أبي زرع أَن الْمَنْصُور بَات تِلْكَ اللَّيْلَة عاكفا بمصلاه على الرُّكُوع وَالسُّجُود وَإنَّهُ أغفى إغفاءه فَرَأى ملكا نزل من السَّمَاء فِي صُورَة بشر وَبِيَدِهِ راية خضراء وبشره بِالْفَتْح وأنشده فِي ذَلِك أبياتا بقيت على ذكر الْمَنْصُور إِلَى أَن اسْتَيْقَظَ وقص رُؤْيَاهُ على وُجُوه الْجند فازداد النَّاس طمأنينة وبصيرة
فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت خَامِس شعْبَان جلس الْمَنْصُور فِي قُبَّته الْحَمْرَاء الْمعدة للْجِهَاد ثمَّ دَعَا بكبير وزرائه الشَّيْخ أبي يحيى بن أبي حَفْص وَقدمه على ذَلِك الْجَيْش وَعقد لَهُ رايته وَقدمه بَين يَدَيْهِ فرفرفت على رَأسه الرَّايَات وقرعت بَين يَدَيْهِ الطبول وَسَار فِي قبيل هنتاتة وَبَين يَدَيْهِ الْقَائِد ابْن صَنَادِيد فِي جَيش الأندلس ثمَّ عقد الْمَنْصُور لجرمون بن ريَاح على قبائل الْعَرَب ولمنديل بن عبد الرَّحْمَن المغراوي على قبائل مغراوة ولمحيو بن أبي بكر بن حمامة المريني جد الْمُلُوك المرينيين على قبائل بني مرين ولجابر بن يُوسُف العَبْد الْوَادي على قبائل بني عبد الواد ولعباس بن عَطِيَّة التوجيني على قبائل بني توجين ولتلجين بن عَليّ على قبائل هسكورة وَسَائِر المصامدة ولمحمد بن منغفاد على قبائل غمارة وَعقد للفقيه الصَّالح أبي خزر يخلف بن خزر الأوربي على المتطوعة
وَقَالَ ابْن خلدون إِن الَّذِي كَانَ على المتطوعة يَوْمئِذٍ هُوَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص وَالْكل إِلَى نظر الشَّيْخ أبي يحيى بن أبي حَفْص وَبَقِي الْمَنْصُور رحمه الله فِي جَيش الْمُوَحِّدين وَالْعَبِيد وَأمر الشَّيْخ أَبَا يحيى بالرحيل والتقدم أَمَامه إِلَى جِهَة الْعَدو
وَكَانَ الْمَنْصُور قد ضفر مَعَ ابْن صَنَادِيد من الرَّأْي أَن يبْقى هُوَ مُتَأَخِّرًا فِي الْمُوَحِّدين وَالْعَبِيد والجشم على مَسَافَة يخفى بهَا عَن أعين الْعَدو وَيقدم الشَّيْخ أَبَا يحيى بِبَعْض الرَّايَات والطبول فِي هَيْئَة السُّلْطَان فَيلقى الْعَدو فَإِن كَانَت للْمُسلمين فَهُوَ الْمَطْلُوب وَإِن كَانَت عَلَيْهِم كَانَ الْمَنْصُور ردأ لَهُم ثمَّ يسْتَأْنف الْقِتَال مَعَ الْعَدو وَقد انفل حَده ولانت شوكته
فَسَار الشَّيْخ أَبُو يحيى على هَذَا التَّرْتِيب وَابْن صَنَادِيد أَمَامه فِي فرسَان الأندلس وحماتها فَكَانَ الشَّيْخ أَبُو يحيى إِذا أقلع بجيشه عَن مَوضِع صباحا خَلفه الْمَنْصُور فِيهِ بجيشه مسَاء حَتَّى أشرف الشَّيْخ أَبُو يحيى على جموع الفرنج وَهِي يَوْمئِذٍ إِلَى جنب حصن الأرك وَيُقَال الأركو بِزِيَادَة الْوَاو فِي آخِرَة قد ضربت أخبيتها على ربوة عالية ذَات مهاو وأحجار كبار قد مَلَأت السهل والوعر وَنزل الشَّيْخ أَبُو يحيى بجيشه فِي الْبَسِيط ضحوة يَوْم الْأَرْبَعَاء التَّاسِع من شعْبَان سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَعند ابْن خلكان أَن ذَلِك كَانَ يَوْم الْخَمِيس قَالَ واقتفى الْمَنْصُور فِي ذَلِك طَريقَة أَبِيه وجده فَإِنَّهُم أَكثر مَا كَانُوا يصافون يَوْم الْخَمِيس ومعظم حركاتهم فِي صفر فعبأ الشَّيْخ أَبُو يحيى عساكره تعبئة الْحَرْب وَعقد الرَّايَات لأمراء الْقَبَائِل وأوقف كل قَبيلَة فِي مركزها الَّذِي عين لَهَا فَجعل عَسْكَر الأندلس فِي الميمنة وَجعل زناتة والمصامدة وَالْعرب وَسَائِر قبائل الْمغرب فِي المسيرة وَجعل المتطوعة والأغزاز وَالرُّمَاة فِي الْمُقدمَة وَبَقِي هُوَ فِي الْقلب فِي قَبيلَة هنتاتة
وَلما أَخذ النَّاس مراكزهم من حومة الْقِتَال خرج جرمون بن ريَاح يمشي فِي صُفُوف الْمُسلمين ويحضهم على الثَّبَات وَالصَّبْر وبينما النَّاس
على ذَلِك إِذْ انفصلت من جيوش الْعَدو كَتِيبَة عَظِيمَة من نَحْو عشرَة آلَاف فَارس كلهم مدجج فِي الْحَدِيد وَكَانَت هَذِه الكتيبة هِيَ شَوْكَة ذَلِك الْجَيْش وَحده كَانَ الفنش لَعنه الله قد انتخبهم وصلت أقسته عَلَيْهِم صَلَاة النَّصْر ورشوهم بِمَاء المعمودية وتحالفوا عِنْد الصلبان أَن لَا يبرحوا حَتَّى يقتلُوا الْمُسلمين أَو يهْلكُوا دونهم فَلَمَّا برزت هَذِه الكتيبة نَادَى مُنَادِي الشَّيْخ أبي يحيى معشر الْمُسلمين اثبتوا فِي مَصَافكُمْ وَأَخْلصُوا لله تَعَالَى ينتكم وأذكروا الله عز وجل فِي قُلُوبكُمْ وبرز عَامر الزعيم من أُمَرَاء الْعَرَب فحض النَّاس على الصَّبْر وثبتهم وحملت كَتِيبَة الْعَدو حَتَّى اندقت رماح الْمُسلمين فِي صُدُور خيلها أَو كَادَت ثمَّ تقهقرت قَلِيلا ثمَّ عاودت الحملة فَكَانَت كالأولى ثمَّ تهيأت للحملة الثَّالِثَة فَدفعت حَتَّى خالطت صُفُوف الْمُسلمين وخلص الْبَعْض مِنْهَا إِلَى الشَّيْخ أبي يحيى يطنونه الْمَنْصُور فاستشهد رحمه الله بعد مَا أحسن الْبلَاء وَقَاتل قتالا شَدِيدا وَاسْتشْهدَ مَعَه جمَاعَة من الْمُسلمين من هنتاتة والمتطوعة وَغَيرهم وَسمي بَنو الشَّيْخ أبي يحيى ببني الشَّهِيد وَعرفُوا بِهِ من يَوْمئِذٍ وأظلم الجو بالغبار واختلطت الرِّجَال بِالرِّجَالِ وَانْفَرَدَ كل قرن بقرنه وَأَقْبَلت الْعَرَب والمتطوعة فأحاطوا بالكتيبة الَّتِي دفعت إِلَى الشَّيْخ أبي يحيى وزحفت زناتة والمصامدة وغمارة إِلَى الربوة الَّتِي فِيهَا الفنش وجموعه وَكَانَت على مَا قيل تنيف على ثَلَاثمِائَة ألف بَين فَارس وراجل فتوغل الْمُسلمُونَ فِي تِلْكَ الأوعار إِلَيْهِم وخالطوهم بهَا وَاشْتَدَّ الْقِتَال واستحر الْقَتْل فِي الكتيبة الَّتِي دفعت أَولا وَانْقَضَت عَلَيْهِم الْعَرَب والمتطوعة وهنتاتة فطحنوهم طحنا وانكسرت شَوْكَة الفنش بهلاكهم إِذْ كَانَ اعْتِمَاده ومعوله عَلَيْهِم
وأسرعت خيل من الْعَرَب إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور فأعلموه بِأَن الله تَعَالَى قد فل شَوْكَة الْعَدو وأشرف على الإنهزام فَعندهَا أَمر الْمَنْصُور بالرايات فَرفعت وبالطبول فقرعت وَرفع الْمُسلمُونَ أَصْوَاتهم بِالتَّكْبِيرِ وتسابقوا لقِتَال الْعَدو وخفقت البنود وزحف أَمِير الْمُؤمنِينَ نَحْو المعركة
فَلم يرع الفنش اللعين إِلَّا الرَّايَات قد أَقبلت تخفق من كل جِهَة وزعقات الطبول والأبواق وأصوات الْمُجَاهدين بِالتَّكْبِيرِ قد زلزلت الأَرْض فَقَالَ مَا هَذَا فَقيل هَذَا الْمَنْصُور قد أقبل فِي جَيْشه وَمَا قَاتلك سَائِر الْيَوْم إِلَّا طلائعه ومقدماته فقذف الله الرعب فِي قلبه وخشعت نفوس جموعه وزلزلت بهم الأَرْض زِلْزَالهَا فَوَلوا الأدبار لَا يلوون على شَيْء وأسعدهم يَوْمئِذٍ من وجد فِي فرسه بَقِيَّة تنجيه وأتبعهم الْمُسلمُونَ يقتلُون وَيَأْسِرُونَ وأحاط بَعضهم بحصن الْأَرَاك يظنون أَن الفنش قد تحصن بِهِ وَكَانَ عَدو الله قد دخل على بَاب وَخرج على آخر من النَّاحِيَة الْأُخْرَى واقتحم الْمُسلمُونَ الْحصن عنْوَة وأضرموا النيرَان فِي أبوابه واحتووا على جَمِيع مَا كَانَ فِيهِ وَفِي محلّة الْعَدو من الْأَمْوَال والذخائر وأنواع السِّلَاح الَّتِي تفوت الْحصْر
وقلا ابْن خلدون كَانَ مُلُوك الفرنج الَّذين قَاتلُوا الْمَنْصُور يَوْمئِذٍ ثَلَاثَة ابْن أذفونش وَابْن الرند والبيبوج قَالَ واعتصم فَلهم بحصن الأرك وَكَانُوا خَمْسَة آلَاف من زعمائهم فاستنزلهم الْمَنْصُور على حكمه حَتَّى فودي بهم عَددهمْ من الْمُسلمين
وَفِي القرطاس أَن عدد أُسَارَى الأرك كَانُوا أَرْبَعَة وَعشْرين ألفا فَمن عَلَيْهِم الْمَنْصُور وأطلقهم قَالَ فعز ذَلِك على جَمِيع الْمُوَحِّدين وَسَائِر الْمُسلمين وعدت للمنصور سقطة من سقطات الْمُلُوك
وَقَالَ ابْن الْأَثِير كَانَت الدائرة يَوْم الأرك أَولا على الْمُسلمين ثمَّ عَادَتْ على الفرنج وانهزموا أقبح هزيمَة وَكَانَ عدد من قتل من الفرنج أَزِيد من مائَة ألف وغنم الْمُسلمُونَ مِنْهُم شَيْئا كثيرا فَمن الْخيام مائَة ألف وَثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ ألفا وَمن الْخَيل سِتَّة وَأَرْبَعُونَ ألفا وَقيل ثَمَانُون ألفا وَمن البغال مائَة ألف وَمن الْحمير أَرْبَعمِائَة ألف
قَالَ فِي نفح الطّيب جَاءَ بهَا الْكفَّار لحمل أثقالهم لأَنهم لَا إبل لَهُم قَالَ وَأما الْجَوَاهِر وَالْأَمْوَال فَلَا تحصى وَبيع الْأَسير بدرهم وَالسيف
بِنصْف دِرْهَم وَالْفرس بِخَمْسَة دَرَاهِم وَالْحمار بدرهم وَقسم الْمَنْصُور الْغَنَائِم بَين الْمُسلمين بِمُقْتَضى الشَّرْع كَذَا فِي نفح الطّيب
وَفِي كَامِل ابْن الْأَثِير أَن يَعْقُوب الْمَنْصُور رحمه الله نَادَى فِي عسكره من غنم شَيْئا فَهُوَ لَهُ سوى السِّلَاح وأحصى مَا حمل إِلَيْهِ مِنْهُ فَكَانَ زِيَادَة على سبعين ألف لبس وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين نَحْو عشْرين ألفا
ثمَّ تقدم الْمَنْصُور بجيوشه إِلَى بِلَاد الفرنج وَأخذ يخرب المدن والقرى وَيفتح الْحُصُون والمعاقل وَيقتل وَيَسْبِي ويأسر حَتَّى وصل إِلَى جبل سُلَيْمَان ثمَّ ثنى عنانة رَاجعا وَقد أمتلأت أَيدي الْمُسلمين من الْغَنَائِم وَلم يُعَارضهُ من الفرنج معَارض حَتَّى وصل الى إشبيلية فاستقر بهَا
وَأما الفنش فَإِنَّهُ لما انهزم وصل إِلَى طليطلة فِي أَسْوَأ حَال فحلق رَأسه ولحيته ونكس صليبه وَركب حمارا وَأقسم أَن لَا يركب فرسا وَلَا بغلا وَلَا ينَام على فرَاش وَلَا يقرب النِّسَاء حَتَّى تنصر النَّصْرَانِيَّة فَجمع جموعا عَظِيمَة وَبلغ الْخَبَر بذلك الى الْمَنْصُور فَبعث الى بِلَاد الْمغرب مراكش وَغَيرهَا يستنفر النَّاس من غير إِكْرَاه فَأَتَاهُ من المتطوعة والمرتزقة جمع عَظِيم ثمَّ نَهَضَ إِلَى الفنش فَالْتَقوا فِي ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة فَانْهَزَمَ الفرنج هزيمَة قبيحة وغنم الْمُسلمُونَ مَا مَعَهم من الْأَمْوَال وَالسِّلَاح وَالدَّوَاب وَغَيرهَا
ثمَّ تقدم الْمَنْصُور إِلَى مَدِينَة طليطلة فحاصرها وقاتلها قتالا شَدِيدا وَقطع أشجارها وَشن الغارات على مَا حولهَا من الْبِلَاد وَفتح فِيهَا عدَّة حصون مثل قلعة رَبَاح ووادي الْحِجَارَة ومجريط وجبل سُلَيْمَان وأفليج وَكثير من أحواز طليطلة
ثمَّ ارتحل عَن طليطلة إِلَى مَدِينَة طلمنكة فَدَخلَهَا عنْوَة بِالسَّيْفِ فَقتل الْمُقَاتلَة وسبا النِّسَاء والذرية وغنم أموالها وَهدم أسوارها وأضرم النيرَان فِي جوانبها وَتركهَا قاعا صفصفا
وثنى عنانه إِلَى إشبيلية فَدَخلَهَا غرَّة صفر سنة ثَلَاث وَتِسْعين
وَخَمْسمِائة فَرفع إِلَيْهِ فِي القَاضِي أبي الْوَلِيد بن رشد الْمَعْرُوف بالحفيد مقالات نسب فِيهَا إِلَى الْمَرَض فِي دينه ومعتقده وَكَانَ أحد فلاسفة الْإِسْلَام وَرُبمَا ألفى بَعْضهَا بِخَط يَده فحبس ثمَّ أطلق وأشخص إِلَى مراكش وَبهَا كَانَت وَفَاته رحمه الله
ثمَّ خرج الْمَنْصُور من إشبيلة غازيا بِلَاد ابْن أذفونش فَسَار حَتَّى احتل بِسَاحَة طليطلة وبغله أَن صَاحب برشلونة قد أمد ابْن أذفونش بعساكره وَأَنَّهُمْ جَمِيعًا بحصن مجريط فَنَهَضَ إِلَيْهِم وَلما أطل عَلَيْهِم انفضت جموع ابْن أذفونش من قبل الْقِتَال ثمَّ انكفأ الْمَنْصُور رَاجعا إِلَى إشبيلية
ثمَّ اجْتمع مُلُوك الفرنج وَأَرْسلُوا يطْلبُونَ الصُّلْح فأجابهم إِلَيْهِ وصالحهم على مُدَّة خمس سِنِين بعد أَن كَانَ عَازِمًا على الِامْتِنَاع مرِيدا لملازمة الْجِهَاد إِلَى أَن يفرغ مِنْهُم فَأَتَاهُ خبر عَليّ بن إِسْحَاق المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية وَأَنه دخل إفريقية وَأَرَادَ الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا ففت ذَلِك فِي عزمه وصالحهم على الْمدَّة الَّتِي ذكرنَا
وَعقد على إشبيلية للسَّيِّد أبي زيد بن الْخَلِيفَة وعَلى مَدِينَة بطليوس للسَّيِّد أبي الرّبيع ابْن السَّيِّد أبي حَفْص وعَلى الْمغرب للسَّيِّد أبي عبد الله بن السَّيِّد أبي حَفْص ثمَّ عبر الْبَحْر إِلَى الْمغرب فوصل إِلَى مراكش فِي شعْبَان سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
وَفِي نفح الطّيب أَن يَعْقُوب الْمَنْصُور لما حاصر طليطلة وضيق عَلَيْهَا وَلم يبْق إِلَّا فتحهَا خرجت إِلَيْهِ وَالِدَة الأذفونش وَبنَاته ونساؤه وبكين بَين يَدَيْهِ وسألنه إبْقَاء الْبَلَد عَلَيْهِنَّ فرق لَهُنَّ وَمن عَلَيْهِنَّ بِهِ ووهب لَهُنَّ من الْأَمْوَال والجواهر مَا جلّ وردهن مكرمات وَعَفا بعد الْقُدْرَة وَالله تَعَالَى أعلم
لَطِيفَة قَالَ الشَّيْخ محيي الدّين بن عَرَبِيّ الْحَاتِمِي رحمه الله فِي كتاب الفتوحات المكية مَا نَصه وَلَقَد كنت بِمَدِينَة فاس سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وعساكر الْمُوَحِّدين قد عبرت إِلَى الأندلس لقِتَال الْعَدو حِين