الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غَزْو إفريقية ثَانِيًا وَفتح المهدية وَغَيرهَا من الثغور
كَانَت بِلَاد إفريقية بيد بني زيري بن مُنَاد الصنهاجيين من لدن الدولة العبيدية بهَا وَفِي هَذَا التَّارِيخ كَانَت دولتهم قد أشرفت على الْهَرم وَكثر التَّنَازُع بَينهم وزاحمتهم الثوار من الْعَرَب وَغَيرهم بِتِلْكَ الأقطار فانتهز الفرنج أَصْحَاب صقلية الفرصة فيهم وملكوا مِنْهُم عدَّة ثغور مثل صفاقس وَسْوَسَة وَغَيرهمَا ثمَّ ملكوا بعد ذَلِك المهدية وَهِي يَوْمئِذٍ دَار ملك الْحسن بن عَليّ الصنهاجي آخر مُلُوك بني زيري بن مُنَاد ففر الْحسن عَنْهَا إِلَى ابْن عَمه يحيى بن الْعَزِيز صَاحب بجاية فأنزله بالجزائر
وَلما طرق عبد الْمُؤمن ثغر الجزائر فِي غزوته الأولى إِلَى إفريقية خرج إِلَيْهِ الْحسن بن عَليّ هَذَا وَصَحبه وَصَارَ فِي جملَته فَكَانَ الْحسن يغريه بغزو إفريقية واستنقاذها من يَد الْعَدو
وَكَانَ عبد الْمُؤمن يحب ذَلِك ويرغب فِيهِ إِلَّا أَنه كَانَ ينْتَظر إبان الفرصة فاتفق أَن فرنج صقلية أوقعوا بِأَهْل زويلة وَهِي مَدِينَة بَينهَا وَبَين المهدية نَحْو ميدان وقْعَة شنيعة حَتَّى أَنهم قتلوا النِّسَاء والأطفال ففر جمَاعَة مِنْهُم إِلَى عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَهُوَ بمراكش يستغيثونه ويستنصرونه على الْعَدو
فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ أكْرمهم وَأَخْبرُوهُ بِمَا جرى على الْمُسلمين وَأَنه لَيْسَ فِي مُلُوك الْإِسْلَام من يقْصد سواهُ وَلَا يكْشف هَذَا الكرب غَيره فَدَمَعَتْ عَيناهُ وأطرق ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ أَبْشِرُوا لأنصرنكم وَلَو بعد حِين وَأمر بإنزالهم وَأطلق لَهُم ألفي دِينَار
ثمَّ أَمر بِعَمَل الروايا والقرب وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْعَسْكَر فِي السّفر وَكتب إِلَى جَمِيع نوابه فِي الْمغرب وَكَانَ قد ملك العدوتين الأندلس وَالْمغْرب واتسعت خطة مَمْلَكَته إِلَى قرب مَدِينَة تونس فَكتب إِلَى من بطريقه من النواب يَأْمُرهُم بِحِفْظ جَمِيع مَا يتَحَصَّل من الغلات وَأَن يتْرك الزَّرْع فِي سنبله
ويخزن فِي موَاضعه وَأَن يحفروا الْآبَار فِي الطّرق فَفَعَلُوا جَمِيع مَا أَمرهم بِهِ وجمعوا غلات الْحبّ ثَلَاث سِنِين ونقلوها إِلَى الْمنَازل الَّتِي على الطَّرِيق وطينوا عَلَيْهَا فَصَارَت كَأَنَّهَا تلال
فَلَمَّا كَانَ صفر من سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة سَار عبد الْمُؤمن من مراكش يؤم بِلَاد إفريقية
وَقَالَ ابْن خلدون كَانَ عبد الْمُؤمن فِي هَذِه السفرة قد عزم على العبور إِلَى الأندلس لما بلغه من اضْطِرَاب أحوالها واستطالة الطاغية بهَا فَنَهَضَ يُرِيد الْجِهَاد واحتل بسلا فَبَلغهُ انْتِقَاض إفريقية وأهمه شَأْن النَّصَارَى بالمهدية فَلَمَّا توافرت العساكر بسلا اسْتخْلف الشَّيْخ أَبَا حَفْص الهنتاتي على الْمغرب وَعقد ليوسف بن سُلَيْمَان على مَدِينَة فاس ونهض يغد السّير إِلَى إفريقية وَاجْتمعَ عَلَيْهِ من العساكر مائَة ألف مقَاتل وَمن الأتباع والسوقة أمثالهم وَكَانَ هَذَا الْجند يَمْتَد أميالا
وَبلغ من حفظه وَضَبطه أَنهم كَانُوا يَمْشُونَ بَين الزروع فَلَا تتأذى بهم سنبلة وَإِذا نزلُوا صلوا بِإِمَام وَاحِد بتكبيرة وَاحِدَة لَا يتَخَلَّف مِنْهُم أحد كَائِنا من كَانَ
وَقدم بَين يَدَيْهِ الْحسن بن عَليّ الصنهاجي صَاحب المهدية وَكَانَ قد اتَّصل بِهِ كَمَا قُلْنَا فَلم يزل يسير إِلَى أَن وصل إِلَى مَدِينَة تونس فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة وَبهَا صَاحبهَا أَحْمد بن خُرَاسَان وَأَقْبل أسطوله فِي الْبَحْر فِي سبعين شينا وطريدة وشلندا
فَلَمَّا نازلها راسل أَهلهَا يَدعُوهُم إِلَى الطَّاعَة فامتنعوا فَقَاتلهُمْ من الْغَد أَشد قتال وَلما جن اللَّيْل نزل سَبْعَة عشر رجلا من أَعْيَان أَهلهَا إِلَى عبد الْمُؤمن يسألونه الْأمان لأهل بلدهم فأجابهم عبد الْمُؤمن بِأَن لَهُم الْأمان فِي أنفسهم وأهليهم وَأَمْوَالهمْ لمبادرتهم إِلَى الطَّاعَة وَأما من عداهم من سَائِر أهل الْبَلَد فيؤمنهم فِي أنفسهم وأهليهم ويقاسمهم على أَمْوَالهم وأملاكهم نِصْفَيْنِ وَأَن يخرج صَاحب الْبَلَد هُوَ وَأَهله فاستقر الْأَمر على
ذَلِك وتسلم الْبَلَد وَبعث إِلَيْهِم من يمْنَع العساكر من الدُّخُول عَلَيْهِم وَبعث أمناءه ليقاسموا النَّاس على أَمْوَالهم وأملاكهم وَأقَام أهل تونس بهَا على أُجْرَة تُؤْخَذ عَن نصف مساكنهم وَعرض عبد الْمُؤمن الْإِسْلَام على من بهَا من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَمن أسلم سلم وَمن أَبى قتل
وَأقَام عَلَيْهَا ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ سَار إِلَى المهدية وأسطوله يحاذيه فِي الْبَحْر فوصل إِلَيْهَا ثامن عشر رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ بالمهدية يَوْمئِذٍ خَواص الفرنج من أَوْلَاد مُلُوكهَا وأبطال فرسانها وَقد أخلوا مَدِينَة زويلة الْمُجَاورَة للمهدية فَدَخلَهَا عبد الْمُؤمن وامتلأت بالعساكر والسوقة فَصَارَت مَدِينَة معمورة فِي سَاعَة وَاحِدَة وَمن لم يكن لَهُ مَوضِع من الْعَسْكَر نزل بظاهرها وانضاف إِلَيْهِ من صنهاجة وَالْعرب وَأهل إفريقية مَا يخرج عَن الإحصاء وَأَقْبلُوا يُقَاتلُون المهدية مُدَّة أَيَّام فَلَا يُؤثر فِيهَا لحصانتها وَقُوَّة سورها وضيق محَال الْقِتَال عَلَيْهَا لِأَن الْبَحْر دائر بأكثرها فَكَأَنَّهَا كف فِي الْبَحْر وزندها مُتَّصِل بِالْبرِّ وَكَانَت الفرنج تخرج شجعانها إِلَى أَطْرَاف الْعَسْكَر فتنال مِنْهُ ويعودون سَرِيعا فَأمر عبد الْمُؤمن بِبِنَاء سور غربي الْمَدِينَة يمنعهُم من الْخُرُوج وأحاط الأسطول بهَا فِي الْبَحْر وَركب عبد الْمُؤمن شينيا وَمَعَهُ الْحسن بن عَليّ الَّذِي كَانَ صَاحبهَا وَتَطوف بهَا فِي الْبَحْر فهاله مَا رأى من حصانتها وَعلم أَنَّهَا لَا تفتح بِقِتَال برا وَلَا بحرا وَلَيْسَ لَهَا إِلَّا المطاولة وَقَالَ لِلْحسنِ كَيفَ نزلت عَن مثل هَذَا الْحصن فَقَالَ لقلَّة من يوثق بِهِ وَعدم الْقُوت وَحكم الْقدر فَقَالَ صدقت
وَعَاد عبد الْمُؤمن من الْبَحْر وَأمر بِجمع الغلات والأقوات وَترك الْقِتَال فَلم يمض غير قَلِيل حَتَّى صَار فِي المعسكر مثل الجبلين من الْحِنْطَة وَالشعِير فَكَانَ من يصل إِلَى المعسكر من بعيد يَقُول مَتى حدثت هَذِه الْجبَال فَيُقَال هِيَ حِنْطَة وشعيرا فيتعجب من ذَلِك وَتَمَادَى الْحصار
وَفِي مُدَّة هَذَا الْحصار استولى عبد الْمُؤمن على طرابلس وصفاقص وَسْوَسَة وجبل نفوسة وقصور إفريقية وَمَا والاها وَفتح مَدِينَة قابس بِالسَّيْفِ وسير ابْنه السَّيِّد أَبَا مُحَمَّد من مَكَان حصاره للمهدية فِي جَيش فَفتح بلادا أُخْرَى
ثمَّ أطاعه أهل مَدِينَة قفصة وَقدم عَلَيْهِ صَاحبهَا فوصله بِأَلف دِينَار وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ استخلص فِي هَذِه الْمدَّة جَمِيع بِلَاد إفريقية من أَيدي القائمين بهَا
وَلما كَانَ الثَّانِي وَالْعشْرُونَ من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة جَاءَ أسطول صَاحب صقلية فِي مائَة وَخمسين شينيا غير الطرائد مُمِدًّا لأهل المهدية وَكَانَ هَذَا الأسطول قد قدم من جَزِيرَة يابسة من بِلَاد الأندلس وَقد سبى أَهلهَا وأسرهم وَحَملهمْ مَعَه فَأرْسل إِلَيْهِم ملك الفرنج يَأْمُرهُم بِالْمَسِيرِ إِلَى المهدية ليمدوا إخْوَانهمْ الَّذين بهَا فقدموا فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور فَلَمَّا قاربوا الْمَدِينَة حطوا شرعهم ليدخلوا الميناء فَخرج إِلَيْهِم أسطول عبد الْمُؤمن وَركب الْعَسْكَر جَمِيعه ووقفوا على جَانب الْبَحْر فاستعظم الفرنج مَا رَأَوْا من كَثْرَة العساكر وداخل الرعب قُلُوبهم
وَنزل عبد الْمُؤمن إِلَى الأَرْض فَجعل يمرغ وَجهه ويبكي وَيَدْعُو للْمُسلمين بالنصر واقتتلوا فِي الْبَحْر فانهزمت شواني الفرنج وأعادوا القلوع وَسَارُوا وتبعهم الْمُسلمُونَ فَأخذُوا مِنْهُم سبع شواني وَكَانَ أمرا عجيبا وفتحا غَرِيبا
وَعَاد أسطول الْمُسلمين مظفرا منصورا وَفرق فيهم عبد الْمُؤمن الْأَمْوَال ويئس أهل المهدية حِينَئِذٍ من النجَاة وَمَعَ ذَلِك فقد صَبَرُوا على الْحصار أَرْبَعَة أشهر أُخْرَى إِلَى أخر ذِي الْحجَّة من السّنة فَنزل حِينَئِذٍ من فرسَان الفرنج إِلَى عبد الْمُؤمن عشرَة وسألوا الْأمان لمن فِيهَا من الفرنج على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ لِيخْرجُوا مِنْهَا إِلَى بِلَادهمْ وَكَانَ قوتهم قد فنى حَتَّى أكلُوا الْخَيل فَعرض عَلَيْهِم عبد الْمُؤمن الْإِسْلَام ودعاهم إِلَيْهِ فَقَالُوا مَا جِئْنَا لهَذَا وَإِنَّمَا جِئْنَا نطلب فضلك وترددوا إِلَيْهِ أَيَّامًا
وَكَانَ من جملَة مَا استعطفوه بِهِ أَن قَالُوا أَيهَا الْخَلِيفَة مَا عَسى أَن تكون المهدية وَمن بهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ملكك الْعَظِيم وأمرك الْكَبِير وَإِن أَنْعَمت علينا كُنَّا أرقاء لَك فِي أَرْضنَا فَعَفَا عَنْهُم وَكَانَ الْفضل شيمته وَأَعْطَاهُمْ سفنا ركبُوا فِيهَا وَسَارُوا وَكَانَ الزَّمن شتاء فغرق أَكْثَرهم وَلم يصل مِنْهُم إِلَى صقلية إِلَّا النَّفر الْيَسِير