الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} (1).
وفي المواضع الثلاثة السابقة، قيض الله تعالى، من يقوم لوجه الله ناصحاً، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصبر على ما يواجهه من جحود وإنكار، وإجرام وعصيان، حتى يأتيه وعد الله، بحسن العاقبة للمؤمنين، القائمين على حراسة الفضيلة في المجتمع.
ولإعلامنا الإسلامي من قصص القرآن الكريم، ينبوع فيَّاض، بالدروس والعبر، والتوجيه والإرشاد في شتى المجالات، فقط تتجه الأبصار والعزائم، نحو الكتاب العزيز، فترجع - بإذن الله تعالى - بكل خير، وتفوز بالحسنى.
ومن الاعتماد على القصص القرآني في تقرير المفاهيم وتقويم السلوك الاجتماعي ننتقل إلى وسيلة أخرى من طرق الإعلام الاجتماعي في القرآن الكريم لتوصيل رسالته لعموم المؤمنين وهي:
2 - تنويع الخطاب
لا يفوت القارئ المتدبر - الذي يقرأ القرآن على مكث - هذا التنوع والتغير المستمر في أسلوب توجيه الخطاب؛ فالقرآن لا يجري على نسق واحد من أسلوب الخطاب؛ بل يتبدل أسلوب خطابه أولا بأول تبعا للسياق، بما يلائم المعنى وطبيعة المخاطبين والتأثير المراد.
والمتتبع للخطاب القرآني الاجتماعي، يجد أنه يأتي على أنواع عديدة منها:
استخدام أسلوب النداء في توجيه وتصحيح السلوك الاجتماعي.
يأتي النداء الإلهي للمؤمنين في القرآن الكريم ليأمرهم بما فيه خيرهم أو ينهاهم عما هو شر لهم، وسر نداء الله تعالى لعباده بوصف الإيمان، هو أنهم بإيمانهم الحق أحياء يسمعون ويعقلون، ويقدرون على الفعل والترك. وقد جاء استخدام هذا الأسلوب في مواضع كثيرة في القرآن العظيم، نورد منها مثالين أو ثلاثة فيما يأتي:
توجيه العلاقة بين المسلمين، وشركائهم في المجتمع من غير المسلمين.
(1) - سورة الأعراف. آية: 163 - 166
قال سبحانه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)} (1). وقال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)} (2).
ويقول تبارك وتعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (3). ويقول عز وجل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (4). وقال سبحانه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (5).
لهذه النداءات المتكررة أثر عظيم في أسماع أهل الإيمان، تنبيهاً، وتحفيزاً للمبادرة بالامتثال والتطبيق، وفي الآيات تحذير للمؤمنين من طاعة وموالاة بعض أهل الكتاب، أو الكفار الحاقدين على المسلمين، المغتاظين من ظهور وانتشار الإسلام، فربما جروهم للكفر بعد الإيمان، ويحرم سبحانه على المؤمنين اتخاذ بطانة من غير المسلمين يطلعونهم على بواطن الأمور، وأسرار دولتهم، فإنهم لا يدخرون جهداً في إفساد المسلمين وصرفهم عن دينهم.
ولا شك أن وضع مثل هذه الحدود في العلاقات مع غير المسلمين، يحفظ على المسلمين استقلاليتهم، ويصون مجتمعاتهم من المخططات الخبيثة، والمكر السييء.
ولا ينافي هذا أبداً، الأمر بحسن معاملتهم، والإنصاف، والعدالة معهم في المجتمع المسلم، قال الله تعالى {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (6). فإن هذا لابد منه، للتعايش بسلام، وتبادل المنافع، وحصول التراضي في المعاملات، وأدعى لقبولهم الدعوة للإسلام.
(1) - سورة آل عمران. آية: 100
(2)
- سورة آل عمران. آية: 118
(3)
- سورة آل عمران. آية: 149
(4)
- سورة المائدة. آية: 51
(5)
- سورة المائدة. آية: 57
(6)
- سورة الممتحنة. آية: 8
ومن استخدامات أسلوب النداء في توجيه السلوك الاجتماعي
آداب الاستئذان
وهو على نوعين:
أ- الاستئذان لدخول بيوت الناس في أي وقت، وفيه يقول الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)} (1).
ب_ استئذان الخدم والأطفال للدخول على أهل البيت في أوقات محددة، وفيه يقول سبحانه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)} (2).
وفي الموضعين السابقين، ينادي الله تعالى عباده بمسمى الإيمان، تشريفاً لهم وتنبيهاً إلى مقتضيات هذا الإيمان من سرعة الاستجابة والطاعة مع الانقياد والتسليم لأحكامه سبحانه، والتي تشتمل على أحكام إلهية تحفظ لهم حرماتهم، بعيداً عن الريبة والشر، وتصونها من المفاسد.
ومن استخدامات أسلوب النداء في تقويم السلوك الاجتماعي
التثبت في جميع الأمور، ومحاربة الإشاعات.
قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ
(1) - سورة النور. آية: 27 - 29
(2)
- سورة النور. آية: 58 - 59
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (1) " يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة. فإن الأمور قسمان: واضحة وغير واضحة. فالواضحة البيِّنة لا تحتاج إلى تثبت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل. وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين، ليعرف هل يقدم عليها أم لا؟
فإن التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف لشرور عظيمة، ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته" (2)، وقال سبحانه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} (3)."وهذا أيضًا، من الآداب التي على أولي الألباب، التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثم .... بل الواجب عند خبر الفاسق، التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه، عمل به وصدق، وإن دلت على كذبه، كذب، ولم يعمل به، ففيه دليل، على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب، مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه كما ذكرنا " (4). وفي مثل هذا المعنى جاء قوله تعالى {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)} (5) " هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق. وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها .... وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين
(1) - سورة النساء. آية: 94
(2)
- تفسير السعدي. ص / 243
(3)
- سورة الحجرات. آية: 6
(4)
- تفسير السعدي. ص / 1127
(5)
- سورة النساء. آية: 83
سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لافيحجم عنه؟ " (1)
ومن أنواع خطاب الإعلام الاجتماعي في القرآن الكريم
إيراد التساؤلات والإجابة عليها في مجال العلاقات الاجتماعية.
وهذا الأسلوب في الخطاب من أشدها لفتاً للانتباه، وتأثيراً في الأذهان، واستثارة لعقول السامعين، فتتطلع النفوس لمعرفة الإجابات الربانية، على التساؤلات البشرية. ومن هذه المواضع في القرآن:
بيان المواقيت المعتمدة في المجتمع المسلم
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (2)
" أي: جعلها الله تعالى بلطفه ورحمته على هذا التدبير ..... ، ليعرف الناس بذلك مواقيت عباداتهم من الصيام، وأوقات الزكاة، والكفارات .... ولما كان الحج يقع في أشهر معلومات، ويستغرق أوقاتا كثيرة قال: (وَالْحَجِّ) وكذلك تعرف بذلك، أوقات الديون المؤجلات، ومدة الإجارات، ومدة العدد والحمل، وغير ذلك مما هو من حاجات الخلق، فجعله تعالى، حسابا، يعرفه كل أحد، من صغير، وكبير، وعالم، وجاهل "(3).
…
ومن هذه المواضع في القرآن:
بيان أوجه النفقة المشروعة
(1) - تفسير السعدي. ص / 237
(2)
- سورة البقرة. آية: 189
(3)
- تفسير السعدي. ص / 98
(4)
- سورة البقرة. آية: 215
لما سألوا عن النفقة، أجابهم سبحانه فقال: " (قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي: مال قليل أو كثير، فأولى الناس به وأحقهم بالتقديم، أعظمهم حقا عليك، وهم الوالدان الواجب برهما، والمحرم عقوقهما، ومن أعظم برهما، النفقة عليهما، ومن أعظم العقوق، ترك الإنفاق عليهما، ولهذا كانت النفقة عليهما واجبة، على الولد الموسر، ومن بعد الوالدين الأقربون، على اختلاف طبقاتهم، الأقرب فالأقرب، على حسب القرب والحاجة، فالإنفاق عليهم صدقة وصلة، (وَالْيَتَامَى) وهم الصغار الذين لا كاسب لهم، فهم في مظنة الحاجة لعدم قيامهم بمصالح أنفسهم، وفقد الكاسب، فوصى الله بهم العباد، رحمة منه بهم ولطفا، (وَالْمَسَاكِينِ) وهم أهل الحاجات، وأرباب الضرورات الذين أسكنتهم الحاجة، فينفق عليهم، لدفع حاجاتهم وإغنائهم. (وَابْنَ السَّبِيلِ) أي: الغريب المنقطع به في غير بلده، فيعان على سفره بالنفقة، التي توصله إلى مقصده.
ولما خصص الله تعالى هؤلاء الأصناف، لشدة الحاجة، عمم تعالى فقال:(وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) من صدقة على هؤلاء وغيرهم، بل ومن جميع أنواع الطاعات والقربات، لأنها تدخل في اسم الخير، (فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم عليه، ويحفظه لكم، كل على حسب نيته وإخلاصه، وكثرة نفقته وقلتها، وشدة الحاجة إليها، وعظم وقعها ونفعها " (1).
ومن هذه المواضع في القرآن:
العلاقة بين الزوجين (بيان حرمة إتيان الحائض أثاء حيضتها)
يقول جلَّ وعلا {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (2). لما سألوا عن المحيض، أخبرهم تعالى أن الحيض أذى، فالواجب الامتناع عن الجماع، حَتَّى ينقطع الدم، فإذا انقطع الدم، وجب الاغتسال قبل أن يغشاها زوجها. " ولما كان هذا المنع لطفا منه تعالى بعباده، وصيانة عن الأذى قال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) أي: من ذنوبهم على الدوام (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) أي: المتنزهين عن الآثام
(1) - تفسير السعدي. ص / 109 - 110
(2)
- سورة البقرة. آية: 222
وهذا يشمل التطهر الحسي من الأنجاس والأحداث. ففيه مشروعية الطهارة مطلقا، لأن الله يحب المتصف بها، ولهذا كانت الطهارة مطلقا، شرطا لصحة الصلاة والطواف، وجواز مس المصحف، ويشمل التطهر المعنوي عن الأخلاق الرذيلة، والصفات القبيحة، والأفعال الخسيسة " (1).
ومن مواضع إيراد التساؤلات والإجابة عنها في القرآن:
بيان حِلُّ الطيبات والصيد وذبائح أهل الكتاب والزواج من نسائهم
فأحلَّ الله تعالى لهم كل ما فيه نفع أو لذة، من غير ضرر بالبدن ولا بالعقل، ويدخل في ذلك جميع الحبوب والثمار، وبهيمة الأنعام، وصيد البحر .... كما أباح لهم ما لم يذكوه مما صادته الجوارح المعلَّمة، وزادهم سبحانه بحِلِّ ذبائح أهل الكتاب، وحل التزوج من نسائهم المحصنات.
ومن أنواع خطاب الإعلام الاجتماعي في القرآن الكريم
استعمال أساليب الأمر والنهي لضبط العلاقات الاجتماعية.
وقد جاء هذا الأسلوب بكثرة ووفرة في آيات القرآن الكريم فمنه:
الأمر بالحرص والتمسك بالجماعة الواحدة قال الله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} (3)
(1) - تفسير السعدي. ص / 114
(2)
- سورة المائدة. آية: 4 - 5
(3)
- سورة آل عمران. آية: 103
ونهى عن الفرقة وحذر من تداعياتها على المجتمع فقال سبحانه {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} (1)
وقال تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} (2)
وأمر بإصلاح ذات البين ونهى عن كل ما يؤدي للخلاف وقطع العلاقات وإفساد ذات البين فقال تبارك وتعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)} (3)
ورغب القرآن في التحلي بالأخلاق الحسنة، التي تقوي علاقات الأفراد بالأفراد، والمجتمعات بمثيلاتها من التجمعات البشرية، وفي هذه المعاني يقول الحق تعالى، عن النفوس الكريمة، السخية، والحليمة {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} (4)
ويأمر سبحانه بالعفو والمعروف والإعراض عن الجاهلين فيقول تعالى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} (5)
ويسرد لنا أوصاف المهديين من عباده ويرغب في العفو والصفح والصبر والمغفرة والتسامح فيقول جل شأنه {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} (6)
(1) - سورة آل عمران. آية: 105
(2)
- سورة الأنفال. آية: 46
(3)
- سورة الأنفال. آية: 1
(4)
- سورة آل عمران. آية: 134
(5)
- سورة الأعراف. آية: 199
(6)
- سورة الشورى. آية: 38 - 43
ويمدح رسوله عليه الصلاة والسلام، الصادق المصدوق، وأبا بكر الصديق، وهما قدوة أهل الإيمان فيقول جل وعلا {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} (1)
ويأمر بالعدل والصلة والإحسان وينهى عن الآثام والفواحش فيقول تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)} (2)
وهذه وصية جامعة، ودستور شامل، يكفل الاستقرار والهناء، للأفراد والمجتمعات التي تعيش على نور من تعاليمها، وتهتدي بأخلاقها المرضية في حياتها يقول تعالى {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} (3) فتضمنت هذه الوصية التكافل الاجتماعي بين الفرد وأقاربه، والمجتمع كله، والتوجيه بترك التبذير والبخل، ونهت الآيات عن آفات سلوكية من قتل للنفس التي حرم الله إلا بالحق،
(1) - سورة الزمر. آية: 3
(2)
- سورة النحل. آية: 90 - 91
(3)
- سورة الإسراء. آية: 26 - 38
ومقاربة الزنا، وأكل أموال اليتامى ظلماً، والغش، والتطفيف في الموازين، والتعالم والكذب، والفخر والخيلاء.
النهي عن جعل اليمين مانعاً من الخير إن كان غيرها خيراً منها قوله تعالى {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1). فليس لمؤمن صادق، أن يجعل من يمينه مانعاً له عن الخير، والبر، ولكن إن حلف على شيء ثم رأى غيره خيراً منه، وأحسن في المعاملة، بادر لما هو خير وكفَّر عن يمينه. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ)(2).ولا يخفى ما في هذا الأمر من التيسير على المكلفين، والحث على العمل الصالح، والأثر الكبير على دوام علاقات الناس، وتوثيقها، ونشر للألفة والمودة، وحسم لمادة الخلاف والشقاق، والتهاجر بين أفراد المجتمع.
وفي الطلاق، وهو قطع للعلاقة الزوجية، أُحِيطَ بتوجيهات عديدة منها:
نهى المُطَلِّقين عن أخذ مال عند الفراق، وعن تعدي حدود الله {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (4).
(1) - سورة البقرة. آية: 224
(2)
- رواه البخاري. كتاب الأيمان والنذور: باب قول الله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) رقم الحديث / 6622، ورواه مسلم كتاب الأيمان: باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها. رقم الحديث / 1649
(3)
- سورة البقرة. آية: 228
(4)
- سورة البقرة آية: 229
نهى المُطَلِّقين عن الإضرار بالمرأة فقال تعالى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (1)
نهى عن إعضال المرأة وهو حبسها عن النكاح فقال تعالى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} (2)
وفي الصدقة وهي إحدى صور التكافل جاءت توجيهات عدة منها:
النهي عن المنِّ بالصدقة والأذي قال الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} (3)
النهي عن الإنفاق من الخبيث الرديء من المال قال الله تعالى {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (4)
وفي شأن المرأة، جاءت آيات متكاثرة، لضبط مكانتهن في المجتمع، منها:
(1) - سورة البقرة. آية: 231
(2)
- سورة البقرة. آية: 232
(3)
- سورة البقرة. آية: 264
(4)
- سورة البقرة. آية: 267
(5)
- سورة النور. آية: 31
التخفيف في أحكام القواعد من النساء بلا تبرج قال سبحانه {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1)
وإذ يسَّر الله لنا التعرض لبعض أدوات الأسلوب الإنشائي نقف هنيهة على الأسلوب الآخر، من أساليب البيان، وهو:
الأسلوب الخبري المعتمد على تكرار الحقائق والمبادئ
وهو في القرآن الكريم مَدَدٌ لا ينقطع من رب العالمين سبحانه لعباده المؤمنين، يمدهم فيه بالأسس، والأصول، والمفاهيم، تعليماً، وتثبيتاً، وتوجيهاً، في مختلف أوجه العلاقات الإنسانية، ومنها العلاقات الاجتماعية، والتي أورد فيما يلي ثلاثاً منها كمثال فقط.
ومن هذه الحقائق والقيم: التعددية في المجتمع المسلم، وقبول الآخر، والتعايش على حدود العدل والإنصاف يقول تعالى {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} (3){لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} (4)
(1) - سورة النور. آية: 60
(2)
- سورة الأحزاب. آية: 32 - 34
(3)
- سورة البقرة. آية: 148
(4)
- سورة المائدة. آية: 48
ومن هذه الحقائق والقيم العدالة بين الرجل والمرأة في التكاليف، والجزاء - آثرت لفظ العدالة هنا على لفظ المساواة، لاعتقادي أن الشرع المطهر لم يسوِ بينهما، بل أقام علاقتهما ومكانتهما في المجتمع، على العدل الإلهي، فلا تُظلم المرأة، أو يهضم حقها، ودليل فهمي هذا قوله جل وعلا على الرجل والمرأة عامة {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} (4). وقوله سبحانه عن العلاقة بين الرجل وزوجه {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (5)
…
. وأيضاً قوله تعالى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (6)
…
-.
وأما العدالة بين الرجل والمرأة في التكاليف، والجزاء فكثير جداً في القرآن كما في المواضع التالية:
قال الله تعالى {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (7).
وقال سبحانه {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ
(1) - سورة البقرة. آية: 62
(2)
- سورة آل عمران. آية: 64
(3)
- سورة هود. آية: 118 - 119
(4)
- سورة آل عمران. آية: 36
(5)
- سورة البقرة. آية: 228
(6)
- سورة النساء. آية: 34
(7)
- سورة النساء. آية: 32
وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (1).
وقال سبحانه {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} (3). فكل هذه الآيات تبين بجلاء، أن النساء شقائق للرجال، وشريكات لهم في العمل الصالح، لا يتعدى على حقوقهم أحد، ولا يضيع لهم عمل، ويوفون أجورهم بأحسن ما كانوا يعملون.
ومن هذه الحقائق والقيم حفظ الضروريات الخمس وتشريع الحدود:
لتشريع الحدود، حكم إلهية عظيمة، منها ردع الجاني وإصلاحه، وإقامة العدل في الأرض، والحفاظ على الضروريات الخمس (الدين والنفس والعقل العرض والمال) التي أقرتها الشريعة الإسلامية، وهذا التشريع من أعظم عوامل حفظ التوازن الاجتماعي، وضبط العلاقات بين الأفراد،.
ومن هذه الحدود لحفظ النفوس: حد قتل العمد قال الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4). وكان العرب يقولون: القتل أنفى للقتل.
(1) - سورة الأحزاب. آية: 35
(2)
- سورة التوبة. آية: 71 - 72
(3)
- سورة النحل. آية: 97
(4)
- سورة البقرة. آية: 178 - 179
فجاء القرآن الكريم بهذه الآية المعجزة البليغة، ليبين أن إيقاع القصاص على القاتل فيه حياة لباقي أفراد المجتمع، حيث يرى الناس ما حل بالقاتل من القصاص فيرتدعون، ويتوقفون عن تعديهم على النفوس البشرية، فيحيى الناس آمنون مطمئنون.
ومن هذه الحدود: حد الحرابة لضمان أمن المجتمع، بحفظ ممتلكاته، وطرقه من المفسدين يقول سبحانه {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} (1). ولا أعلم في العقوبات الشرعية المقررة على أهل الجنايات أشد من هذه العقوبات، وذلك لعظم جنايتهم على النفوس والممتلكات، وما يبثونه من حالات الترويع والفزع وعدم الاستقرار في المجتمع، فكان العقاب مقابلاً للجناية، شدةً بشدةٍ، وعِظَماً بعِظَمٍ.
ومن هذه الحدود المشروعة: حد السرقة لحفظ الأموال، والممتلكات قال جل جلاله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2). وهذه جناية أخرى تسبب الفوضى في المجتمع، وانعدام الأمن، إضافة الى كونها مصادرة لجهود الآخرين وعدواناً على حقوقهم، فأمر الربُّ جل جلاله بقطع العضو الذي صدرت منه الجناية وهو اليد، وهذا كله احتياطاً لحقوق العباد، وحفظاً للأموال.
ومن هذه الحدود المشروعة، حد الزنا حسماً للانحراف الخلقي، ولحفظ الأنساب وفيه يقول سبحانه {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} (3). فيجلد البكر مائة جلدة، ويُغَرَّب عاماً، ويرجم المحصن حتى الموت، وينفذ الحد - إن ثبت - لا يوقفه ولا يعطله شيء، ينفذ وسط شهود من الناس، إقامة لحدود الله، وردعاً وزجراً للمنحرفين، وصيانة للأعراض والأنساب.
(1) - سورة المائدة. آية: 33 - 34
(2)
- سورة المائدة. آية: 38 - 39
(3)
- سورة النور. آية: 2
ومن هذه الحدود: حد قذف المحصنات لحفظ الأعراض وفيه يقول تبارك وتعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} (1). والجلد أيضاً عقوبة أهل الفِرَى، الذين يرمون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا من الفاحشة، يجلدون قطعاً لقالة السوء عن المجتمع، وتطهيراً له من تقاذف السفهاء لأعراض الأبرياء الطاهرين.
بهذه العقوبات القرآنية، وما ثبت في السنة المطهرة من قتل المرتد حفظاً للدين، وجلد شارب الخمر، حفظاً للعقل، يتحقق حفظ الضرورات الخمس: دين الإنسان، ونفسه، وعقله، وعرضه، وماله.
وبحفظ الضرورات الخمس، يتوفر للناس خير مناخ، يستطيعون فيه بناء مجتمعاتهم، وتقوية علاقاتهم الاجتماعية، بمنأى عن هواجس الخوف والهلع من عدوان المعتدين، وأمن واطمئنان على سلامة أنفسهم وعقولهم، وعفة وطهارة مجتمعهم من فساد المفسدين، وأقوال المفترين.
وأجدني وأنا أكتب هذه الكلمات، أقول في نفسي متمنياً راجياً: أفلا يأتي يوم نحيا - وأمتنا - حياة إسلامية، قرآنية، ربانية. وأرجع أردد قول رب العالمين {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (2).
فاللهم أبرم لهذه الأمة عهد رشد، يُحْكَم فيه بكتابك العظيم، وسنة النبي الكريم، عليه أتم الصلوات والتسليم.
وبحفظ التوازن الاجتماعي، نختم - بفضل الله - هذا الفصل، ومنه ننتقل إلى الفصل الخامس عن الإعلام الاقتصادي في القرآن الكريم، ومن الله أستمد العون، وعليه اتكالي لا إله غيره.
(1) - سورة النور. آية: 4 - 5
(2)
- سورة إبراهيم. آية: 20