الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس:
الحوار والجدال
(1)
يلتقي الحوار والجدال في كونهما مراجعة للكلام بين طرفين، ويفترقان في أن الجدال فيه لدد وخصومة وشدة في الكلام، مع التمسك بالرأي والتعصب له، وأما الحوار فهو مجرد مراجعة للكلام بين الطرفين، دون وجود خصومة بالضرورة، بل الغالب عليه الهدوء والبعد عن التعصب ونحوه، فالحوار أعم من الجدل من هذا النحو.
والاختلاف والتعددية بين البشر قضية واقعية، وحقيقة فطرية، وقضاء إلهي أزلي قال تعالى {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} (2)، وآلية تعامل الإنسان مع هذه القضية هي الحوار، من خلال كشفه عن مواطن الاتفاق ومثارات الاختلاف؛ لتكون محل النقاش والجدل بالتي هي أحسن لمعرفة ما هو أقوم للجميع.
وقد تعرضت آيات القرآن في مواضع شتى وبأساليب مختلفة لهذه الوسيلة الفعالة، فجاء في بعضها الدعوة إلى الحوار أو شيء من مستلزماته وأصوله، وفي أخرى حث على الالتزام بآداب عامة للحوار، وفي قسم منها بيان لآداب خاصة للحوار، وفي بعضها أمثلة ونماذج للحوار.
ومن هذه النصوص الجامعة قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)} (3)، آية عظيمة وموعظة كريمة، من عمل بها قادته للصواب، والحق الذي لا شك فيه. وقد اشتملت هذه الاية على عدة مقومات أساسية للحوار:
- {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} ، والقيام لله هو الإخلاص والتجرد في طلب الحق، وهو شرط أساسي لكل عمل، وبدونه يصبح العمل عناءً وهباءً، وهذا العامل الأساسي يجمع للمُحَاوِر عدة أمور منها:
(1) - الحوار وآدابه في ضوء الكتاب والسنة، رسالة ماجستير للباحث يحيى بن محمد زمزمي. . ص: 19 - 26 جامعة أم القرى كلية الدعوة وأصول الدين1413هـ. طبعة دار التربية والتراث. مكة المكرمة، الدعوة الإسلامية (الوسائل والأساليب). ص 114 - 120. بتصرف واختصار.
(2)
- سورة المائدة. آية: 48.
(3)
- سورة سبأ. آية: 46.
تصحيح النية، وحسن الاستماع، والتسليم بالخطأ، والتواضع، والإنصاف، والأمانة، والعدل، والرجوع للحق، وتجنب المراوغة والكذب، وغير ذلك.
- {مَثْنَى وَفُرَادَى} ، مراجعة النفس على انفراد أو مع مقربين، وهذا من أدعى الأمور لحسن التفكر وقبول الحق بالبعد عن الأجواء المشحونة والغوغائية، وهذا العامل الأساسي يجمع للمُحَاوِر عدة أمور منها:
مراعاة الجو المحيط بالحوار، والتعارف بين الطرفين، والمحافظة على هدف الحوار والوصول لنتائج.
- {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} النظر فيما يقول المخالف هو الوسيلة الأساسية للوصول للحق مع الشرطين السابقين، والمقصود بالتفكر البحث عن الأدلة، والتحقق من ثبوتها ودلالتها على المراد، وهذا العامل الأساسي يجمع للمُحَاوِر عدة أمور منها:
حسن العرض والبيان مع التثبت والتوثيق، والبدء بمواطن الاتفاق، وطلب الدليل، والتسليم بالحق والبدْء بالأهم (1).
وقريب من معنى هذه الآية الجامعة قوله تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2)، فقد قال فيها الطبري رحمه الله {(ادْعُ) يا محمد من أرسلك إليه ربك بالدعاء إلى طاعته (إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ) يقول: إلى شريعة ربك التي شرعها لخلقه، وهو الإسلام (بِالْحِكْمَةِ) يقول بوحي الله الذي يوحيه إليك وكتابه الذي ينزله عليك (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) يقول: وبالعبر الجميلة التي جعلها الله حجة عليهم في كتابه، وذكّرهم بها في تنزيله، كالتي عدّد عليهم في هذه السورة من حججه، وذكّرهم فيها ما ذكرهم من آلائه (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يقول: وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها أن تصفح عما نالوا به عرضك من الأذى، ولا تعصه في القيام بالواجب عليك من تبليغهم رسالة ربك} (3).
(1) - الحوار وآدابه في ضوء الكتاب والسنة. ص: 48 - 54.
(2)
- سورة النحل. آية: 125.
(3)
- تفسير ابن جرير الطبري. 14/ 435.
فالحوار الذي أسسه القرآن وشادت دعائمه آيات الرحمن، هو حوار متجرد، بناء، هادف، غايته الحقيقة الثابتة بالأدلة والبراهين {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1)، بلا تنازل أو تزحزح أو تفريط في الحق {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} (2).
والحوار هو قاعدة الإسلام الأساسية في دعوته الناس إلى الإيمان بالله وعبادته، وقد أكَّدَ القرآن هذا المبدأ بطرق عديدة، فعرض القرآن لحوار الله مع خلقه بواسطة الرسل، وكذا مع الملائكة ومع إبليس، كما أنَّ دعوات الرسل كلها كانت محكومة بالحوار مع أقوامهم، وقد أطال القرآن الكريم في عرض هذه الحوارات بين الرسل وأقوامهم، ولم يشجب القرآن في هذا الباب موقفاً كما شجب موقف رفض الحوار والإصرار على عدم ممارسته:{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)} (3).
ومن أعظم منطلقات الحوار في القرآن التسليم بإمكانية صواب الخصم:
فبعد مناقشة طويلة في الأدلة على وحدانية الله تأتي هذه الآية من سورة سبأ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)} (4)، فيجعل اختياره هو بمرتبة الإجرام على الرغم من أنه هو الصواب، ولا يصف اختيار الخصم بغير مجرد العمل، ليقرر في النهاية أن الحكم النهائي لله:{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)} (5).
(1) - سورة الأحقاف. آية: 4.
(2)
- سورة الأنعام. آية: 148.
(3)
- سورة الجاثية. آية: 7 - 8.
(4)
- سورة سبأ. آية: 24 - 25.
(5)
- سورة سبأ. آية: 26.
ومن منطلقات الحوار في القرآن التعهد والالتزام باتباع الحق: هذا ولا يكفي مجرد
التسليم الجدلي بإمكانية صواب الخصم، بل لا بد من التعهد والالتزام باتباع الحق إن ظهر على يديه، حتى ولو كان التعهد باتباع ما هو باطل أو خرافة إذا افتُرِض أنه ثبت وتبين أنه حق:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (1).
ومن منطلقات الحوار في القرآن تحديد المرجعية: وهي الجهة التي يسلم لحكمها المتحاورون عند الاختلاف والنزاع، وهي أمر لابد منه لكي يتوفر الحزم والحسم في الاختلاف، وكي ينضبط الحوار ويتحدد مساره. قال سبحانه {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2)، وقال سبحانه
…
الحوار مع المشركين نموذجاً:
- وصف القرآن حالة المشركين النفسية تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان موقفهم انفعالياً فجعلوا يردون بالتُّهَمِ والتعجب؛ ليريحوا أنفسهم من عناء التفكير فيما جاهم به صلى الله عليه وسلم {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} (4).
- فقابلهم الرسول بكل هدوء، وطلب منهم إبداء الدليل على ما هم عليه من شرك {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (5).
(1) - سورة الزخرف. آية: 81.
(2)
- سورة الشورى. آية: 10.
(3)
- سورة النساء. آية: 5.
(4)
- سورة الأنبياء. آية: 5.
(5)
- سورة الأحقاف. آية: 4.
- ولما عجز المشركون عن إقامة الدليل، إذ مستندهم التقليد واتباع الظن أقام الدليل عليهم:{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)} (1).
- ولما لم يُجدِ الدليل العلمي العقلي على بطلان مُدَّعَاهم، أتاهم بأدلة حسية مادية من الواقع تثبت بطلان ألوهية الأصنام:" {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)} (2).
فهذه بعض معالم الحوار مع المشركين تجلّت فيها الاستقلالية التامة والحرية المطلقة التي أُعْطِيَتْ للمشركين؛ حيث قُوبل توترهم وردهم العنيف بالدعوة إلى إبداء الدليل العلمي، وإذ عجزوا عنه أقيم عليهم الدليل العلمي والواقعي على بطلان دعواهم دون أن يتعدى ذلك إلى أي شائبة من شوائب الإكراه المادي أو النفسي.
خلاصة
ونخلص مما سبق إلى أن الحوار وفق المنهج القرآني لا ينطلق من منطق الوصاية على الآخر، أو مجرد التعريف بما عند المحاور، إنما هي قضية بحث عن الحق أين كان، وهذا لا يعني أن المسلم عندما يدخل في حوار مع الآخرين قد تخلّى عن تصوراته، إنما الموضوعية تتجلّى في الاستعداد التام للتخلي عن جميع التصورات، وتبني نقيضها إذا ما اتضح أنَّ الحق مع الرأي
(1) - سورة الأنبياء. آية: 21 - 24.
(2)
- سورة الأعراف. آية: 191 - 195.
الآخر، وهذا الاستعداد ليس مجاملة إنما هو تَعَهُّدٌ يعبر عن مصداقية المسلم في اتباع الحق، وهو تكليف إلهي صريح في محاورة الآخر {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)} (1).
"وإذا عرفنا هذه الأسس القرآنية لنجاح الحوار، أو على الأقل عدم تحوله إلى الضد من أهدافه السامية، عرفنا أسباب التردي والفشل، في مختلف الحوارات التي تجري في واقعنا بين المسلمين أنفسهم، أو بين المسلمين وغيرهم، فهي حوارات يغلب عليها منطق الوصاية، وإثبات الوجود؛ لذا فهي أبعد ما تكون عن القصد إلى الحق، وهذا طبيعي إذا فقد المحاور أهم أسس الحوار، وهو الحرية الفكرية، التي يستطيع الفرد من خلالها اتخاذ قراره الفكري"(2).
وبهذا العرض لخصائص وأساليب الإعلام في القرآن الكريم يتبقى لنا التعرف على ألفاظ القرآن ذات الدلالات الإعلامية، وهي موضوع مبحثنا التالي والأخير في هذا الفصل
(1) - سورة القصص. آية: 49.
(2)
- منهج الحوار في القرآن الكريم. مقال للأستاذ عبد الرحمن حللي. على موقع الشبكة الإسلامية، بتصرف. وهذا رابطه: http://www.islamweb.net/ver2/archive/readArt.php?id=1375.