الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(قَوْله: {فصل} )
{الْمَكْرُوه: ضد الْمَنْدُوب} .
الْمَكْرُوه لُغَة: من الكريهة والشدة فِي الكرب، وأصل الْكَرَاهَة لُغَة: خلاف الْإِرَادَة.
فَمَعْنَى كَرَاهَة الشَّرْع لشَيْء: إِمَّا عدم إِرَادَته، أَو إِرَادَة ضِدّه، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَلَكِن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ} [التَّوْبَة: 46] .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (الْمَكْرُوه لُغَة: ضد المحبوب، أخذا من الْكَرَاهَة، وَقيل: من الكريهة وَهِي الشدَّة فِي الْحَرْب) انْتهى وكرهته أكرهه من بَاب تَعب كرها، ضد أحببته، فَهُوَ مَكْرُوه.
والكره، بِالْفَتْح، الْمَشَقَّة، وبالضم: الْقَهْر.
وَقيل: بِالْفَتْح: الْإِكْرَاه، وبالضم: الْمَشَقَّة.
وأكرهته على الْأَمر: حَملته عَلَيْهِ قهرا، يُقَال: فعلته كرها، أَي: إِكْرَاها، وَعَلِيهِ قَوْله تَعَالَى:{طَوْعًا أَو كرها} [التَّوْبَة: 53، وفصلت: 11] ، فقابل بَين الضدين.
قَالَ الزّجاج: (كل مَا فِي الْقُرْآن من الكره - بِالضَّمِّ - فالفتح فِيهِ جَائِز، إِلَّا قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْبَقَرَة:{كتب عَلَيْكُم الْقِتَال وَهُوَ كره لكم} [الْبَقَرَة: 216] .
والكريهة: الشدَّة فِي الْحَرْب) ، ذكر ذَلِك فِي " الْبَدْر الْمُنِير ".
قَوْله: {وَهُوَ: مَا مدح تَاركه، وَلم يذم فَاعله} .
فَخرج ب (مَا مدح) : الْمُبَاح؛ فَإِنَّهُ لَا مدح فِيهِ وَلَا ذمّ.
وَخرج بقوله: (تَاركه) : الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب؛ فَإِن فاعلهما يمدح، لَا تاركهما.
وَخرج بقوله: (وَلم يذم فَاعله) : الْحَرَام، فَإِنَّهُ يذم فَاعله، لِأَنَّهُ وَإِن شَارك الْمَكْرُوه فِي الْمَدْح بِالتّرْكِ، فَإِنَّهُ يُفَارِقهُ فِي ذمّ فَاعله.
قَوْله: {وَهل يُثَاب بِفِعْلِهِ؟ ثَالِثهَا: لَا؛ إِن كره لذاته} .
فِي هَذِه الْمَسْأَلَة؛ أَعنِي: فِي حُصُول الثَّوَاب بِفعل الْمَكْرُوه، وَعدم ثَوَابه أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه لَا يُثَاب عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام كثير من الْعلمَاء.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (قَالُوا فِي الْأُصُول: الْمَكْرُوه لَا ثَوَاب فِي فعله، قَالَ: وَقد يكون المُرَاد مِنْهُم: مَا كره بِالذَّاتِ لَا بِالْعرضِ، قَالَ: وَقد يحمل قَوْلهم على ظَاهره، وَلِهَذَا لما احْتج من كره صَلَاة الْجِنَازَة فِي الْمَسْجِد بالْخبر الضَّعِيف الَّذِي رَوَاهُ أَحْمد وَغَيره:" من صلى على جَنَازَة فِي الْمَسْجِد فَلَيْسَ لَهُ من الْأجر شَيْء "، لم يقل أحد بِالْأَجْرِ مَعَ الْكَرَاهَة، لَا اعتقادا وَلَا بحثا.
- وَقَالَ أَيْضا -: وَقد يتَوَجَّه من صِحَة نفل من صلى فِي غصب إثابته
عَلَيْهِ، فيثاب على فَرْضه من الْوَجْه الَّذِي صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا فَائِدَة فِي صِحَة نفله، وَلَا ثَوَاب لبراءة ذمَّته، وَيلْزم مِنْهُ: يُثَاب على كل عبَادَة كرهت) انْتهى.
وَهَذِه الْأَقْوَال الَّتِي ذكرتها فِي الأَصْل، أَخَذتهَا من كَلَام ابْن مُفْلِح فِي " فروعه " فِي بَاب ستر الْعَوْرَة، وَلم أرها فِي غَيره.
وَمحل ذَلِك إِذا قُلْنَا: إِنَّه لَا يُثَاب على فعل عبَادَة على وَجه محرم كَمَا تقدم، وَأما إِذا قُلْنَا: إِنَّه يُثَاب عَلَيْهَا، فيثاب هُنَا قطعا.
قَوْله: {وَفِي كَونه مَنْهِيّا عَنهُ حَقِيقَة، وتكليفا، كالمندوب} .
إِن قُلْنَا: الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة - وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا تقدم - فالمكروه مَنْهِيّ عَنهُ حَقِيقَة على الصَّحِيح، وَإِن قُلْنَا: الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ مجَازًا، فالمكروه مَنْهِيّ مجَازًا.
وَإِن قُلْنَا: الْمَنْدُوب تَكْلِيف - وَهُوَ الْأَصَح دَلِيلا كَمَا تقدم - فالمكروه تَكْلِيف على الْأَصَح، وَإِن قُلْنَا: الْمَنْدُوب غير تَكْلِيف - وَعَلِيهِ الْأَكْثَر كَمَا تقدم - فالمكروه غير تَكْلِيف.
فَهُوَ على وزانه سَوَاء، لِأَنَّهُ مُقَابِله، ذكره الْعلمَاء.
قَوْله: {وَيُطلق على الْحَرَام} .
يُطلق الْمَكْرُوه وَيُرَاد بِهِ الْحَرَام، وَهُوَ كثير فِي كَلَام الإِمَام أَحْمد، وَغَيره من الْمُتَقَدِّمين.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: (أكره الْمُتْعَة) ، (وَالصَّلَاة فِي الْمَقَابِر) ، وهما محرمان.
لَكِن لَو ورد عَن الإِمَام أَحْمد الْكَرَاهَة فِي شَيْء، من غير أَن يدل دَلِيل من خَارج على التَّحْرِيم، وَلَا على التَّنْزِيه، فللأصحاب فِيهَا وَجْهَان، هَل المُرَاد التَّحْرِيم أَو التَّنْزِيه؟
أَحدهمَا: المُرَاد: التَّحْرِيم، اخْتَارَهُ الْخلال، وَصَاحبه أَبُو بكر عبد الْعَزِيز، وَابْن حَامِد، وَغَيرهم، بِدَلِيل مَا تقدم.
وَقد قَالَ الْخرقِيّ: (وَيكرهُ أَن يتَوَضَّأ فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة) ، وَهُوَ محرم، لَكِن قَالُوا عَن كَلَامه، إِنَّمَا كَانَ محرما بِدَلِيل، وَهُوَ قَوْله:
(والمتخذ آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة عَاص، وَعَلِيهِ الزَّكَاة) ، فَهَذِهِ قرينَة تدل على التَّحْرِيم.
وَالْوَجْه الثَّانِي: المُرَاد: التَّنْزِيه، اخْتَارَهُ جمَاعَة من الْأَصْحَاب.
وَفِيه وَجه ثَالِث: يرجع إِلَى الْقَرَائِن، وَهُوَ أظهر الْأَوْجه.
وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد: (أكره النفخ فِي الطَّعَام، وإدمان اللَّحْم، وَالْخبْز الْكِبَار)، وَمرَاده: كَرَاهَة التَّنْزِيه هُنَا، وَالله أعلم.
وَقد ورد الْمَكْرُوه بِمَعْنى الْحَرَام فِي الْقُرْآن، فِي قَوْله تَعَالَى:{كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها} [الْإِسْرَاء: 38] .
وَقد قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: (أكره آنِية العاج)، وَقَالَ فِي السّلم:(أكره اشْتِرَاط الأعجف والمشوي والمطبوخ) .
قَوْله: {وعَلى ترك الأولى} .
يُطلق الْمَكْرُوه على ترك الأولى، {وَهُوَ: ترك مَا فعله رَاجِح، [أَو: فعل مَا تَركه رَاجِح، وَلَو لم يكن مَنْهِيّا عَنهُ، كَتَرْكِ المندوبات] } .
قَالَ الْعَسْقَلَانِي - شَارِح الطوفي - فِي ترك الأولى: (مَا مصْلحَته راجحة، وَإِن لم يكن مَنْهِيّا عَنهُ، كَتَرْكِ المندوبات) .
وَمِنْه قَول الْخرقِيّ: (وَمن صلى بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة كرهنا لَهُ ذَلِك، وَلَا يُعِيد) .
أَي: الأولى أَن يُصَلِّي بِأَذَان وَإِقَامَة أَو بِأَحَدِهِمَا، وَإِن أخل بهما ترك الأولى.
فَترك الأولى مشارك للمكروه فِي حَده، إِلَّا أَنه مَنْهِيّ غير مَقْصُود، وَالْمَنْع من الْمَكْرُوه أقوى من الْمَنْع من خلاف الأولى.
قَالَ بَعضهم: (إِنَّمَا يُقَال: ترك الأولى مَكْرُوه، إِذا كَانَ منضبطا، كالضحى وَقيام اللَّيْل، وَمَا لَا تَحْدِيد لَهُ وَلَا ضَابِط من المندوبات لَا يُسمى تَركه مَكْرُوها، وَإِلَّا لَكَانَ الْإِنْسَان فِي كل وَقت ملابسا للمكروهات الْكَثِيرَة، من حَيْثُ أَنه لم يقم ليُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، أَو يعود مَرِيضا، وَنَحْوه) .
وَقَالَ بَعضهم: (يُطلق - أَيْضا - الْمَكْرُوه على مَا وَقعت الشُّبْهَة فِي تَحْرِيمه، كلحم السَّبع: ويسير النَّبِيذ، وَنَحْو ذَلِك من الْمسَائِل الْمُخْتَلف فِي تَحْرِيمهَا) ، وَذكره الْغَزالِيّ، والآمدي.
قَوْله: {وَلنَا وَجه: أَنه حرَام} .
ذكره ابْن حمدَان فِي " مقنعه " وَغَيره.
{ [وَهُوَ مَذْهَب مُحَمَّد] بن الْحسن} .
يَعْنِي: أَنه مرادف لِلْحَرَامِ، فَلَا يُطلق على غَيره إِلَّا بِقَرِينَة فِيمَا يظْهر.
{وَعَن أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف: هُوَ إِلَى الْحَرَام أقرب} .
لَا شكّ أَن الْمَكْرُوه وَاسِطَة بَين الْمُبَاح وَالْحرَام، فَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف قَالَا: هُوَ إِلَى الْحَرَام أقرب مِنْهُ إِلَى الْمُبَاح.
وَرَأَيْت الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع " قَالَ: (النَّقْل عَن مُحَمَّد بن الْحسن: أَن كل مَكْرُوه حرَام، وَعَن صَاحِبيهِ: أَن الْمَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه إِلَى الْحل أقرب) انْتهى.
فَهَذَا النَّقْل عَنْهُمَا مُخَالف للْأولِ عَنْهُمَا، وَقد يكون لَهما قَولَانِ، فَليُحرر من أَصْحَابهم.
قَوْله: {وَهُوَ فِي عرف الْمُتَأَخِّرين للتنزيه} .
يَعْنِي: أَن الْمُتَأَخِّرين اصْطَلحُوا على أَنهم إِذا أطْلقُوا الْكَرَاهَة فمرادهم التَّنْزِيه، لَا التَّحْرِيم، وَإِن كَانَ عِنْدهم لَا يمْتَنع أَن يُطلق على الْحَرَام، لَكِن
قد جرت عَادَتهم وعرفهم أَنهم إِذا أَطْلقُوهُ أَرَادوا التَّنْزِيه، وَهَذَا مصطلح لَا مشاحة فِيهِ.
فَائِدَة: اعْلَم أَن فِي إِطْلَاق الْكَرَاهَة على هَذِه الْأَرْبَعَة خلافًا، فِي أَنه حَقِيقَة فِي التَّنْزِيه، مجَاز فِي غَيره، أَو مُشْتَرك فِيهِ، قَولَانِ للْعُلَمَاء.
وَفِي " الْمُسْتَصْفى ": إِطْلَاق اشْتِرَاك بَين الْأَرْبَعَة، ونازعه بَعضهم.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَيُطلق فِي الشَّرْع بالاشتراك، على الْحَرَام، وعَلى ترك الأولى، وعَلى كَرَاهَة التَّنْزِيه، وَقد يُرَاد مَا فِيهِ شُبْهَة وَتردد) انْتهى.
قَوْله: {وَيُقَال لفَاعِله: مُخَالف، وَغير ممتثل، ومسيء، نصا} .
مَعَ أَنه لَا يذم فَاعله، وَلَا يَأْثَم على الْأَصَح.
قَالَ الإِمَام أَحْمد - فِيمَن زَاد على التَّشَهُّد -: (أَسَاءَ) .
وَقَالَ ابْن عقيل - فِيمَن أَمر بِحَجّ أَو عمْرَة فِي شهر فَفعله فِي غَيره -: (أَسَاءَ لمُخَالفَته) .
وَذكر غَيره فِي مَأْمُوم وَافق إِمَامًا فِي أَفعاله -: (أَسَاءَ) .
{ [وَظَاهر كَلَام بَعضهم] : ( [تخْتَص الْإِسَاءَة بالحرام] ) } .
فَلَا يُقَال: (أَسَاءَ) ، إِلَّا لفعل محرم.
{و [ذكر] القَاضِي، وَابْن عقيل: يَأْثَم بترك السّنَن أَكثر عمره) } ، لقَوْله عليه السلام:(من رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني) مُتَّفق عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مُتَّهم أَن يَعْتَقِدهُ غير سنة.
{واحتجا بقول أَحْمد - فِيمَن ترك الْوتر -: (رجل سوء) } ، مَعَ أَنه سنة، وَأخذ بَعضهم من هَذَا وُجُوبه عِنْده.
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ":(ذمه، مَعَ قَوْله: الْوتر سنة) .