الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(قَوْله: {فصل} )
الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر: أَن الْوُجُوب إِذا نسخ بَقِي الْجَوَاز فِي الْجُمْلَة.
قَالَ الْفَخر ابْن تَيْمِية فِي " التَّلْخِيص " فِي بَاب الْحِوَالَة: (الْأَصَح عِنْد أَصْحَابنَا بَقَاؤُهُ) .
وَذهب أَكثر الْحَنَفِيَّة، والتميمي من أَصْحَابنَا، وَالْغَزالِيّ، وَهُوَ رِوَايَة عَن الإِمَام أَحْمد: أَن الْأَمر يعود إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، أَو الْإِبَاحَة، أَو التَّحْرِيم، فَكَأَن الْوُجُوب بعد نسخه لم يكن، وَحَكَاهُ الزَّرْكَشِيّ - شَارِح " جمع الْجَوَامِع " - عَن أَكثر الشَّافِعِيَّة الأقدمين.
فعلى القَوْل الأول - الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر - اخْتلفُوا: مَا المُرَاد بِالْجَوَازِ؟
فَقيل: هُوَ الْجَوَاز الْمُشْتَرك بَين الْإِبَاحَة وَالنَّدْب، فَيبقى الْفِعْل، إِمَّا مُبَاحا أَو مَنْدُوبًا؛ لِأَن الْمَاهِيّة الْحَاصِلَة بعد النّسخ مركبة من قيدين:
أَحدهمَا: زَوَال الْحَرج عَن الْفِعْل، وَهُوَ مُسْتَفَاد من الْأَمر.
وَالثَّانِي: زَوَال الْحَرج عَن التّرْك، وَهُوَ مُسْتَفَاد من النَّاسِخ، وَهَذِه الْمَاهِيّة صَادِقَة على الْمَنْدُوب والمباح، فَلَا يتَعَيَّن أَحدهمَا بِخُصُوصِهِ.
وَهَذَا القَوْل اخْتَارَهُ الْأَكْثَر، مِنْهُم: الْمجد وَغَيره، وَرجحه
الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه، والمتأخرون، وَحكي عَن الْأَكْثَر.
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَابْن حمدَان فِي " الْمقنع ":(يبْقى النّدب) ؛ لِأَن النّدب عِنْدهم بعض الْوُجُوب، فَإِذا زَالَ الْوُجُوب، بَقِي النّدب، لِأَن الْمُرْتَفع التحتم بِالطَّلَبِ، فَإِذا زَالَ التحتم بَقِي أصل الطّلب، وَهُوَ النّدب، فَيبقى الْفِعْل مَنْدُوبًا.
قَالَ أَبُو الْخطاب، وَغَيره من أَصْحَابنَا:(هِيَ من فَوَائِد الْأَمر هَل هُوَ حَقِيقَة فِي النّدب؟) ، فَيُؤْخَذ مِنْهُ بَقَاء النّدب لَا الْإِبَاحَة، على مَا سبق، لِأَن الصُّورَة: أَنه رفع الْوُجُوب وَحده، بِأَن يَقُول الشَّارِع: نسخت الْوُجُوب، أَو حُرْمَة التّرْك، أَو رفعت الْوُجُوب، كَانَ مركبا من
جزئين: أَحدهمَا: هَذَا، وَالثَّانِي: جَوَاز الْفِعْل، فَإِذا رفع أَحدهمَا بَقِي الآخر. انْتهى.
وَمنع الشَّيْخ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " - فِي مَسْأَلَة الْأَمر الْمُطلق للْوُجُوب - أَن الْوُجُوب ندب وَزِيَادَة، لدُخُول جَوَاز التّرْك فِي حد النّدب.
وَقَالَهُ الْغَزالِيّ - قبله - فَإِنَّهُ قَالَ: (هَذَا بِمَنْزِلَة قَول الْقَائِل: كل وَاجِب فَهُوَ مَنْدُوب وَزِيَادَة، فَإِذا نسخ الْوُجُوب بَقِي النّدب، وَلَا قَائِل بِهِ) انْتهى.
وَقَالَهُ - أَيْضا - ابْن الْقشيرِي.
وَقيل: تبقى الْإِبَاحَة فَقَط.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (قيل المُرَاد بِالْجَوَازِ: التَّخْيِير بَين الْأَمريْنِ.
وَصرح بِهِ الْغَزالِيّ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه، [لِأَنَّهُ] بِهَذَا الْمَعْنى وَإِن لم يكن جِنْسا للْوَاجِب، لَكِن يخلف عِنْد النّسخ قيد الْمَنْع من
التّرْك - الَّذِي هُوَ فصل الْإِيجَاب - فصل رفع الْحَرج عَن التّرْك، فَيكون كالجنس الَّذِي هُوَ قدر مُشْتَرك بَين الْإِيجَاب وَالْإِبَاحَة، وَلَو سلما أَنه لَا بُد من فصل يتقوم بِهِ وَلَا يتقوم بِنَفسِهِ) .
قَالَ الْبرمَاوِيّ - أَيْضا -: (وَقيل: هُوَ رفع الْحَرج عَن الْفِعْل، لَا الْإِبَاحَة الَّتِي هِيَ رفع الْحَرج عَن الْفِعْل وَعَن التّرْك مَعًا، لِأَن هَذِه لَيست هِيَ جنس الْوُجُوب، إِنَّمَا جنسه الْجَوَاز [بِمَعْنى] رفع الْحَرج عَن الْفِعْل) انْتهى.
وَلَعَلَّه يَعْنِي بِهَذِهِ الْمقَالة: أَنه يبْقى النّدب كَمَا تقدم عَن جمَاعَة.
تَنْبِيهَات:
الأول: ذهب طَائِفَة إِلَى أَن الْخلاف الْمَذْكُور لَفْظِي، مِنْهُم: ابْن التلمساني، والهندي، لأَنا إِن فسرنا الْجَوَاز بِنَفْي الْحَرج فَلَا شكّ أَنه جنس للْوَاجِب، وَإِذا رفع الْوُجُوب وَحده فَلَا يلْزم ارتفاعه، وَإِن فسرناه بِالْإِبَاحَةِ، أَو بالأعم، أَو بالندب، [فخاصيتها تنَافِي خاصية] الْوُجُوب، فَلَيْسَ شَيْء مِنْهَا جِنْسا للْوُجُوب، فَإِذا رفع الْوُجُوب لَا تُوجد إِلَّا بِدَلِيل يَخُصهَا، فَلَا نزاع؛ لِأَن الْأَقْوَال لم تتوارد على مَحل وَاحِد.
وَأجِيب عَن ذَلِك: بِأَن الَّذِي يُعِيد الْحَال إِلَى مَا كَانَ قبل الْإِيجَاب من إِبَاحَة أَو تَحْرِيم أَو كَرَاهَة، غير الَّذِي يَأْخُذ من حُدُوث الْإِيجَاب بعد ذَلِك أَن تبقى إِبَاحَة شَرْعِيَّة أَو ندب كَمَا قرر، حَتَّى يسْتَدلّ أَنه مُبَاح أَو مَنْدُوب بذلك الْأَمر الَّذِي نسخت خَاصَّة التحتم [مِنْهُ] ، وَبَقِيَّة مَا تضمنه بَاقِيَة، فَلَا يكون الْخلاف لفظيا، بل معنويا، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ قبل مَجِيء أَمر الْإِيجَاب حَرَامًا، وأعيد الْحَال إِلَى ذَلِك كَانَ حَرَامًا، وَمن يَقُول: يبْقى الْجَوَاز، لَا يكون حَرَامًا.
الثَّانِي: إِذا كَانَ أَمر الْإِيجَاب متضمنا لشيئين: أَعم، وأخص، فَإِذا رفع الْأَخَص وَبَقِي الْأَعَمّ، كَيفَ يكون نسخا وَلم يرفع الْكل وَإِنَّمَا خصصه؟
وَجَوَابه: أَن رفع أحد الجزئين من الْمركب لَا يكون تَخْصِيصًا، إِنَّمَا التَّخْصِيص: إِخْرَاج جزئي من كلي.
الثَّالِث: اخْتِلَاف أهل الْأُصُول فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، نَظِير اخْتِلَاف الْفُقَهَاء فِي قَوْلهم: إِذا بَطل الْخُصُوص هَل يبْقى الْعُمُوم؟
وَلنَا مسَائِل كَثِيرَة فروعية من هَذَا الْقَبِيل، ذكرهَا القَاضِي عَلَاء الدّين البعلي فِي قَوَاعِده الْأُصُولِيَّة فِي الْقَاعِدَة الثَّالِثَة وَالسِّتِّينَ، فليعاودها من أرادها.
لَكِن نذْكر هُنَا مِنْهَا بعض مسَائِل لِئَلَّا يَخْلُو كتَابنَا مِنْهَا.
فَمِنْهَا: لَو انْتقل فِي أثْنَاء فرض الصَّلَاة إِلَى فرض صَلَاة أُخْرَى، بطلت الأولى، وانقلبت الثَّانِيَة نفلا فِي الْأَصَح.
وَمِنْهَا: أَن كل مَا يفْسد الْفَرْض فَقَط إِذا وجد فِيهِ، كَذَلِك، كَمَا لَو نوى صَلَاة مَفْرُوضَة، وصلاها وَهُوَ قَاعد، قَادِرًا على الْقيام، فَإِن الْفَرِيضَة لَا تصح، تصح نفلا على الْأَصَح.
وَكَذَا لَو صلى الْفَرِيضَة فِي الْكَعْبَة، صحت نفلا فِي الْأَصَح.
وَكَذَا لَو ائتم بمنتفل أَو بصبي فِي فَرِيضَة، إِن اعْتقد جَوَازه فِيهِنَّ، صَحَّ نفلا على الْمَذْهَب.
وَمِنْهَا: لَو أحرم بفائتة فَلم تكن عَلَيْهِ، أَو أحرم بِفَرْض فَبَان أَن الْوَقْت لم يدْخل، انْقَلب نفلا لبَقَاء أصل النِّيَّة، وَهَذَا أصح الرِّوَايَتَيْنِ.
وَمِنْهَا: لَو ظن رب المَال أَن عَلَيْهِ زَكَاة فأخرجها، ثمَّ بَان أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِ، لم يرجع بهَا على الْمَسَاكِين لوقوعها نفلا، قَالَه القَاضِي، وَذكره الْمجد مَحل وفَاق.
وَمِنْهَا: حَيْثُ قُلْنَا: تبطل الْجُمُعَة بِخُرُوج الْوَقْت، أَو نُقْصَان الْعدَد وَنَحْوه، فَهَل تنْقَلب ظهرا، أَو يستأنفونها ظهرا؟ فِيهِ وَجْهَان، وَإِذا قُلْنَا: يستأنفونها، فَإِنَّهَا تنْقَلب نفلا، ذكره صَاحب " التَّلْخِيص " فِي المزحوم.
قَوْله: {وَلَو صرف النَّهْي عَن التَّحْرِيم [بقيت] الْكَرَاهَة حَقِيقَة، [عِنْد] ابْن عقيل، وَغَيره} .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": (إِذا قَامَ دَلِيل على أَن النَّهْي لَيْسَ للْفَسَاد، لم يكن مجَازًا؛ لِأَنَّهُ لم ينْتَقل عَن جَمِيع مُوجبه، وَإِنَّمَا انْتقل عَن بعض مُوجبه: كالعموم الَّذِي خرج بعضه، بَقِي حَقِيقَة فِيمَا بَقِي، قَالَه ابْن عقيل.
قَالَ: وَكَذَا إِذا قَامَت الدّلَالَة على نَقله عَن التَّحْرِيم، فَإِنَّهُ يبْقى نهيا حَقِيقَة على التَّنْزِيه، كَمَا إِذا قَامَت دلَالَة الْأَمر على أَن الْأَمر لَيْسَ على الْوُجُوب.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - بعد كَلَامه هَذَا - قلت: الأول مَبْنِيّ على أَن الْفساد مَدْلُول عَلَيْهِ بِلَفْظ النَّهْي، وَإِلَّا فَإِن كَانَ مَعْلُوما بِالْعقلِ أَو بِالشَّرْعِ لم يكن انتفاؤه مجَازًا، وَلَا إِخْرَاج [بعض مَدْلُول] اللَّفْظ، وَهَكَذَا كل دلَالَة لزومية، فَإِن [تخلفها] هَل يَجْعَل اللَّفْظ مجَازًا؟ وَهل يكون بِمَنْزِلَة التَّخْصِيص) انْتهى.