الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَفِي " الصَّحِيح ": أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ -
قَالَ: " إِن الله تَعَالَى عَفا لأمتي عَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم تكلم أَو تعْمل بِهِ ".
وَقسم أهل اللِّسَان الْكَلَام إِلَى: اسْم، وَفعل، وحرف.
وَاتفقَ الْفُقَهَاء كَافَّة: على أَن من حلف لَا يتَكَلَّم، لَا يَحْنَث بِدُونِ النُّطْق، وَإِن حدثته نَفسه.
فَإِن
قيل: الْأَيْمَان مبناها على الْعرف.
قيل: الأَصْل عدم التَّغْيِير، وَأهل الْعرف يسمون النَّاطِق متكلما، وَمن عداهُ ساكتا أَو [أخرسا] .
قَالُوا: قَوْله تَعَالَى: {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد إِنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم إِنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ} [المُنَافِقُونَ: 1] ، أكذبهم الله تَعَالَى فِي شَهَادَتهم، وَمَعْلُوم صدقهم فِي النُّطْق اللساني، فَلَا بُد من إِثْبَات كَلَام فِي النَّفس لكَون الْكَذِب عَائِدًا إِلَيْهِ، [فَقَوله] تَعَالَى:{وَيَقُولُونَ فِي أنفسهم لَوْلَا يعذبنا الله بِمَا نقُول} [المجادلة: 3]، وَقَوله تَعَالَى:{استكبروا فِي أنفسهم} [الْفرْقَان: 21]، وَقَوله تَعَالَى:{وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ} [الْملك: 13]، وَقَوله تَعَالَى:{ونعلم مَا [توسوس] بِهِ نَفسه} [ق: 16] .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (أما الأول: فَلِأَن الشَّهَادَة الْإِخْبَار عَن الشَّيْء مَعَ اعْتِقَاده، فَلَمَّا لم يَكُونُوا معتقدين ذَلِك أكذبهم الله تَعَالَى.
وَعَن الثَّانِي وَجْهَان:
الأول: أَنه قَول بحروف وأصوات خُفْيَة، وَلِهَذَا فسره بِمَا بعده.
الثَّانِي: أَنه قَول مُقَيّد، فَهُوَ مجَاز، وَهُوَ الْجَواب عَن الْإِسْرَار والجهر.
وَعَن الثَّالِث: أَن الاستكبار رُؤْيَة للنَّفس، وَهُوَ خَارج عَن ذَلِك.
قَالُوا: قَول عمر: " زورت فِي نَفسِي كلَاما ".
قُلْنَا: زور: صور مَا يُرِيد النُّطْق بِهِ، أَو كَقَوْل الْقَائِل: زورت فِي نَفسِي نبأ أَو سفرا ".
قَالُوا: قَول الأخطل:
(إِن الْكَلَام لفي الْفُؤَاد
…
...
…
...
…
...
…
)
إِلَى آخِره.
قُلْنَا: الْبَيْت مَوْضُوع على الأخطل، فَلَيْسَ هُوَ فِي نسخ ديوانه، وَإِنَّمَا هُوَ لِابْنِ ضمضام، وَلَفظه: إِن الْبَيَان، وَسَيَأْتِي فِي كَلَام الشَّيْخ الْمُوفق.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: " فَإِن قيل: إِذا جعلتم الْحَقَائِق الَّتِي هِيَ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار شَيْئا وَاحِدًا، لزمكم أَن ترد الصِّفَات إِلَى معنى وَاحِد.
قُلْنَا: هُوَ سُؤال وَارِد، وَلَعَلَّ عِنْد غَيرنَا حلّه " انْتهى.
وَقَالَ أَبُو نصر السجْزِي: " قَوْلهم: لَا يَتَبَعَّض، يرد عَلَيْهِ أَن مُوسَى صلى الله عليه وسلم َ - سمع بعض كَلَام الله، وَلَا يُمكن أَن يُقَال: سمع الْكل) .
وَقَالَ ابْن درباس الشَّافِعِي: " وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {ففهمناها سُلَيْمَان} [الْأَنْبِيَاء: 79] ، مَعَ التَّصْرِيح باختصاص مُوسَى بالْكلَام ".) انْتهى كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل وَنَقله.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي فتيا لَهُ تسمى بالأزهرية: (وَمن قَالَ: إِن الْقُرْآن عبارَة عَن كَلَام الله تَعَالَى، وَقع فِي محذورات:
أَحدهَا: قَوْلهم: " إِن هَذَا لَيْسَ هُوَ كَلَام الله "، فَإِن نفي هَذَا الْإِطْلَاق خلاف مَا علم بالاضطرار من دين الْإِسْلَام، وَخلاف مَا دلّ عَلَيْهِ الشَّرْع وَالْعقل.
وَالثَّانِي: قَوْلهم: " عبارَة "، إِن أَرَادوا: أَن هَذَا الثَّانِي هُوَ الَّذِي عبر عَن كَلَام الله الْقَائِم بِنَفسِهِ، لزم أَن يكون كل تال معبر عَمَّا فِي نفس الله، والمعبر عَن غَيره هُوَ المنشيء للعبارة، فَيكون كل قاريء هُوَ المنشيء لعبارة الْقُرْآن، وَهَذَا مَعْلُوم الْفساد بِالضَّرُورَةِ.
وَإِن أَرَادوا: أَن الْقُرْآن الْعَرَبِيّ عبارَة عَن مَعَانِيه فَهَذَا حق، إِذْ كل كَلَام، فلفظه عبارَة عَن مَعْنَاهُ، لَكِن هَذَا لَا يمْنَع أَن يكون الْكَلَام متناولا للفظ.
وَالْمعْنَى الثَّالِث: أَن الْكَلَام قد قيل: إِنَّه حَقِيقَة فِي اللَّفْظ، مجَاز فِي الْمَعْنى، وَقيل: حَقِيقَة فِي الْمَعْنى مجَاز فِي اللَّفْظ، وَقيل: بل حَقِيقَة فِي كل مِنْهُمَا.
وَالصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ السّلف وَالْأَئِمَّة: أَنه حَقِيقَة فِي مجموعهما، كَمَا أَن الْإِنْسَان، قيل: هُوَ حَقِيقَة فِي الْبدن فَقَط، وَقيل: بل فِي الرّوح فَقَط، وَالصَّوَاب: أَنه حَقِيقَة فِي الْمَجْمُوع.
فالنزاع فِي النَّاطِق، كالنزاع فِي مَنْطِقه.
وَإِذا كَانَ كَذَلِك، فالمتكلم إِذا تكلم بِكَلَام لَهُ لفظ وَمعنى، وَبلغ عَنهُ بِلَفْظ وَمَعْنَاهُ، فَإِذا قيل: مَا بلغه الْمبلغ من اللَّفْظ إِن هَذَا عبارَة عَن الْقُرْآن، وَأَرَادَ بِهِ الْمَعْنى الَّذِي للمبلغ عَنهُ، نفى عَنهُ اللَّفْظ الَّذِي للمبلغ عَنهُ، وَالْمعْنَى الَّذِي قَامَ بالمبلغ، فَمن لم يثبت إِلَّا الْقُرْآن المسموع، الَّذِي هُوَ عبارَة عَن الْمَعْنى الْقَائِم بِالذَّاتِ، قيل لَهُ: فَهَذَا الْكَلَام المنظوم الَّذِي كَانَ مَوْجُودا قبل قِرَاءَة الْقُرَّاء، هُوَ مَوْجُود قطعا وثابت، فَهَل هُوَ دَاخل فِي الْعبارَة والمعبر عَنهُ أَو غَيرهمَا؟
فَإِن جعلته غَيرهمَا بَطل اقتصارك على الْعبارَة والمعبر عَنهُ، وَإِن جعلته أَحدهمَا، لزمك إِن لم تثبت إِلَّا هَذِه الْعبارَة وَالْمعْنَى الْقَائِم بِالذَّاتِ أَن تَجْعَلهُ نفس مَا يسمع من الْقُرَّاء، فَيجْعَل عين مَا يبلغهُ المبلغون هُوَ عين مَا يسمعوه، وَهُوَ الَّذِي فَرَرْت مِنْهُ.
وَأَيْضًا فَيُقَال لَهُ: القاريء الْمبلغ إِذا قَرَأَ، فَلَا بُد لَهُ فِيمَا يقوم بِهِ من لفظ وَمعنى، وَإِلَّا كَانَ اللَّفْظ الَّذِي قَامَ بِهِ عبارَة عَن الْقُرْآن، فَيجب أَن يكون عبارَة عَن الْمَعْنى الَّذِي قَامَ بِهِ لَا عَن معنى قَامَ بِغَيْرِهِ، فَقَوْلهم: هَذَا هُوَ الْعبارَة عَن الْمَعْنى الْقَائِم بِالذَّاتِ، أخطأوا من وَجْهَيْن.
أخطأوا فِي بَيَان مَذْهَبهم فَإِن حَقِيقَة قَوْلهم: إِن اللَّفْظ المسموع من القاريء حِكَايَة اللَّفْظ الَّذِي عبر بِهِ عَن معنى الْقُرْآن مُطلقًا، وَذَلِكَ أَن اللَّفْظ
عبارَة عَن الْمَعْنى الْقَائِم بِالذَّاتِ، وَلَفظه وَمَعْنَاهُ حِكَايَة عَن ذَلِك اللَّفْظ وَالْمعْنَى.
ثمَّ إِذا عرف مَذْهَبهم بَقِي خطؤهم فِي أصُول:
مِنْهَا: زعمهم: أَن مَعَاني الْقُرْآن معنى وَاحِد، هُوَ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر، وَأَن معنى التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن معنى وَاحِد، وَمعنى آيَة الْكُرْسِيّ معنى آيَة الدّين، وَفَسَاد هَذَا مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ.
وَمِنْهَا: زعمهم أَن الْقُرْآن الْعَرَبِيّ لم يتَكَلَّم الله بِهِ) .
وَأطَال فِي ذَلِك وَبرهن عَلَيْهِ بِمَا يطول هُنَا ذكره.
وَقَالَ بعد ذَلِك: (وَأول من قَالَ هَذَا فِي الْإِسْلَام عبد الله بن سعيد بن كلاب، وَجعل الْقُرْآن الْمنزل حِكَايَة عَن ذَلِك الْمَعْنى، فَلَمَّا جَاءَ الْأَشْعَرِيّ وَاتبع ابْن كلاب فِي أَكثر مقَالَته، ناقشه على قَوْله: إِن هَذَا حِكَايَة عَن ذَلِك، وَقَالَ: الْحِكَايَة تماثل المحكي، فَهَذَا اللَّفْظ يَصح من الْمُعْتَزلَة، لِأَن ذَلِك الْمَخْلُوق حُرُوف وأصوات عِنْدهم، وحكاية مثله.
وَأما على أصل ابْن كلاب فَلَا يَصح أَن يكون حِكَايَة بل يَقُول: إِنَّه عبارَة عَن الْمَعْنى، فَأول من قَالَ بالعبارة الْأَشْعَرِيّ.
وَكَانَ الباقلاني - فِيمَا ذكر عَنهُ - إِذا درس مَسْأَلَة الْقُرْآن يَقُول: هَذَا قَول الْأَشْعَرِيّ، وَلم يتَبَيَّن لي صِحَة هَذَا القَوْل، أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ.
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإِسْفِرَايِينِيّ يَقُول: (مَذْهَب الشَّافِعِي وَسَائِر الْأَئِمَّة فِي الْقُرْآن خلاف قَول الْأَشْعَرِيّ، وَقَوْلهمْ هُوَ قَول الإِمَام أَحْمد) .
وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ ذكر أَن الْأَشْعَرِيّ [خَالف] فِي مَسْأَلَة الْكَلَام قَول الشَّافِعِي وَغَيره، وَأَنه أَخطَأ فِي ذَلِك.
وَكَذَلِكَ سَائِر أَئِمَّة أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا يذكرُونَ قَوْلهم فِي حد الْكَلَام وأنواعه من الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر الْعَام وَالْخَاص وَغير ذَلِك، ويجعلون الْخلاف فِي ذَلِك مَعَ الْأَشْعَرِيّ، كَمَا هُوَ مُبين فِي أصُول الْفِقْه الَّتِي صنفها أَئِمَّة أَصْحَاب أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهم) .
ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: (وَمن قَالَ من الْمُعْتَزلَة والكلابية: " إِن الْقُرْآن الْمنزل حِكَايَة ذَلِك "، وظنوا أَن الْمبلغ حاك لذَلِك الْكَلَام، وَلَفظ الْحِكَايَة قد يُرَاد بِهِ محاكاة النَّاس فِيمَا يَقُولُونَهُ ويفعلونه اقْتِدَاء بهم وموافقة لَهُم.
فَمن قَالَ: " إِن الْقُرْآن حِكَايَة كَلَام الله تَعَالَى " بِهَذَا الْمَعْنى فقد غلط وضل ضلالا مُبينًا، فَإِن الْقُرْآن لَا يقدر النَّاس على أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ، وَلَا يقدر أحد أَن يَأْتِي بِمَا يحكيه، وَقد يُرَاد بِلَفْظ الْحِكَايَة النَّقْل والتبليغ كَمَا يُقَال: فلَان حكى عَن فلَان أَنه قَالَ كَذَا، كَمَا يُقَال عَنهُ: نقل عَنهُ، فَهُنَا بِمَعْنى التَّبْلِيغ للمعنى، وَقد يُقَال: حكى عَنهُ أَنه قَالَ كَذَا وَكَذَا، لما قَالَه بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، فالحكاية هُنَا بِمَعْنى التَّبْلِيغ للفظ وَالْمعْنَى، لَكِن يفرق بَين أَن يَقُول: حكيت كَلَامه، على وَجه الْمُمَاثلَة لَهُ وَبَين أَن يَقُول: حكيت عَنهُ كَلَامه وَبَلغت عَنهُ، أَنه قَالَ مثل قَوْله من غير تَبْلِيغ عَنهُ، وَقد يُرَاد بِهِ الْمَعْنى الآخر، وَهُوَ أَنه بلغ عَنهُ مَا قَالَه، فَإِن أُرِيد الْمَعْنى الأول جَازَ أَن يُقَال: هَذَا حِكَايَة كَلَام فلَان، وَهَذَا مثل كَلَام فلَان، وَلَيْسَ هُوَ مبلغا عَنهُ كَلَامه، وَإِن أُرِيد الْمَعْنى الثَّانِي وَهُوَ مَا إِذا حكى الْإِنْسَان عَن غَيره مَا يَقُوله وبلغه عَنهُ، فَهُنَا يُقَال: هَذَا كَلَام فلَان، وَلَا يُقَال: هَذَا حِكَايَة فلَان، كَمَا لَا يُقَال: هَذَا مثل كَلَام فلَان، بل قد يُقَال: هَذَا كَلَام فلَان بِعَيْنِه، بِمَعْنى: أَنه لم يُغير وَلم يحرف وَلم يزدْ وَلم ينقص) . وَأطَال فِي ذَلِك.
قلت: قَالَ الإِمَام أَحْمد: (الْقُرْآن كَيفَ تصرف فَهُوَ غير مَخْلُوق،
وَلَا نرى القَوْل بالحكاية والعبارة) ، وَغلط من قَالَ بهما وجهله. فَقَالَ:(من قَالَ الْقُرْآن عبارَة عَن كَلَام الله تَعَالَى فقد غلط وَجَهل) .
وَقَالَ: (النَّاسِخ والمنسوخ فِي كتاب الله دون الْعبارَة والحكاية) .
وَقَالَ: (هَذِه بِدعَة لم يقلها السّلف، وَقَوله تَعَالَى: {تكليما} ، يبطل الْحِكَايَة، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود) .
نَقله ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين "، وَفِي ذَلِك كِفَايَة فِي الرَّد على من قَالَ: هُوَ عبارَة أَو حِكَايَة.
قلت: وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: (لسنا نشك أَن الْقُرْآن فِي الْمُصحف على الْحَقِيقَة، لَا على الْمجَاز، كَمَا يَقُوله بعض أَصْحَاب الْكَلَام: إِن الَّذِي فِي الْمُصحف دَلِيل على الْقُرْآن) انْتهى.
وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام موفق الدّين ابْن قدامَة الْمَقْدِسِي فِي تصنيف مُفْرد لَهُ فِي ذَلِك: (أجمعنا على أَن الْقُرْآن كَلَام الله تَعَالَى، وَقد أخبر الله تَعَالَى بذلك