الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَلَام الرب مَعَ جِبْرِيل: (وَالْمَنْقُول عَن السّلف اتِّفَاقهم على أَن الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق، تَلقاهُ جِبْرِيل عَن الله عز وجل،
وبلغه
جِبْرِيل إِلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم َ -، وبلغه صلى الله عليه وسلم َ - إِلَى أمته) انْتهى.
وَصَحَّ عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره من السّلف أَنهم قَالُوا عَن الْقُرْآن: (مِنْهُ [خرج] وَإِلَيْهِ يعود) .
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (تنَازع الْعلمَاء فِي أَن الرب تَعَالَى هَل يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته أم لَا؟ على قَوْلَيْنِ:
فَابْن كلاب وَمن وَافقه قَالُوا: لَا يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، بل كَلَامه لَازم لذاته كحياته.
ثمَّ من [هَؤُلَاءِ] من عرف أَن الْحُرُوف والأصوات لَا تكون قديمَة الْعين، فَلم يُمكنهُ أَن يَقُول: إِن الْقَدِيم هُوَ الْحُرُوف والأصوات، لِأَنَّهَا لَا تكون إِلَّا متعاقبة، وَالصَّوْت لَا يبْقى زمانين، فضلا عَن أَن يكون قَدِيما،
فَقَالَ: الْقَدِيم معنى وَاحِد، لِامْتِنَاع معَان لَا نِهَايَة لَهَا، وَامْتِنَاع التَّخْصِيص بِعَدَد دون عدد.
فَقَالُوا: هُوَ معنى وَاحِد، وَقَالُوا: إِن الله تَعَالَى لَا يتَكَلَّم بالْكلَام الْعَرَبِيّ والعبري، وَقَالُوا: إِن معنى التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَسَائِر كَلَام الله معنى وَاحِد، وَمعنى آيَة الْكُرْسِيّ وَآيَة الدّين معنى وَاحِد، إِلَى غير ذَلِك من اللوازم الَّذِي يَقُول جُمْهُور الْعُقَلَاء: إِنَّهَا معلولة الْفساد بضرورة الْعقل.
وَمن هَؤُلَاءِ من عرف أَن الله تكلم بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيّ، والتوراة العبرية، وَأَنه نَادَى مُوسَى بِصَوْت، وينادي عباده بِصَوْت، وَأَن الْقُرْآن كَلَام الله حُرُوفه ومعانيه، لَكِن اعتقدوا مَعَ ذَلِك أَنه قديم وَأَن الله تَعَالَى لم يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، فالتزموا: أَنه حُرُوف وأصوات قديمَة الْأَعْيَان لم تزل وَلَا تزَال، وَقَالُوا: إِن الْبَاء لم تسبق السِّين، وَإِن السِّين لم تسبق الْمِيم، وَإِن جَمِيع الْحُرُوف مقترنة بَعْضهَا بِبَعْض اقترانا [قَدِيما] أزليا، لم يزل وَلَا يزَال، وَقَالُوا: هِيَ مترتبة فِي حَقِيقَتهَا وماهيتها، غير مترتبة فِي وجودهَا، وَقَالَ كثير مِنْهُم، إِنَّهَا مَعَ ذَلِك شَيْء وَاحِد، إِلَى غير ذَلِك من اللوازم الَّتِي يَقُول جُمْهُور الْعُقَلَاء: إِنَّهَا مَعْلُومَة الْفساد بضرورة الْعقل.
وَمن هَؤُلَاءِ من يَقُول: هُوَ قديم، وَلَا يفهم معنى الْقَدِيم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، مَعَ أَنه غير مَخْلُوق، وَهَذَا قَول جَمَاهِير أهل السّنة وَالنَّظَر، وأئمة أهل السّنة والْحَدِيث.
لَكِن من هَؤُلَاءِ من اعْتقد: أَن الله لم يُمكنهُ أَن يتَكَلَّم فِي الْأَزَل بمشيئته، كَمَا لم يُمكنهُ - عِنْدهم - أَن يفعل فِي الْأَزَل شَيْئا.
فالتزموا: أَنه تكلم بمشيئته بعد أَن لم يكن متكلما، كَمَا أَنه فعل بعد أَن لم يكن فَاعِلا، وَهَذَا قَول كثير من أهل الْكَلَام والْحَدِيث وَالسّنة.
وَأما السّلف وَالْأَئِمَّة فَقَالُوا: إِن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، وَإِن كَانَ مَعَ ذَلِك قديم النَّوْع، بِمَعْنى أَنه لم يزل متكلما إِذا شَاءَ، فَإِن الْكَلَام صفة كَمَال، وَمن يتَكَلَّم أكمل مِمَّن لَا يتَكَلَّم، وَمن يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، أكمل مِمَّن لَا يكون متكلما بمشيئته وَقدرته، وَمن لَا يزَال متكلما بمشيئته وَقدرته، أكمل مِمَّن يكون مُمكنا لَهُ بعد أَن يكون مُمْتَنعا مِنْهُ، أَو قدر أَن ذَلِك مُمكن، فيكف إِذا كَانَ مُمْتَنعا، لِامْتِنَاع أَن يصير الرب قَادِرًا بعد أَن لم يكن، وَأَن يكون التَّكَلُّم وَالْفِعْل مُمكنا بعد أَن كَانَ غير مُمكن) انْتهى نقل الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله " فِي الْأَمر: (الْأَمر قسم من أَقسَام الْكَلَام، وَالْكَلَام: الْأَلْفَاظ المنتظمة لمعانيها، وَالْإِنْسَان قبل تلفظه يقوم بِقَلْبِه طلب فَيفزع إِلَى اللَّفْظ، كَمَا إِذا قَالَ:" أسقني مَاء "، كَأَنَّهُ يجد طلبا قَائِما بِقَلْبِه، فيقصد اللَّفْظ.
وَاخْتلف النَّاس فِي حَقِيقَة ذَلِك الطّلب، فَقَالَت طَائِفَة: هُوَ قسم من أَقسَام الْعلم، وَقَالَت أُخْرَى: إِرَادَة الْفِعْل، وَقَالَت الأشعرية: هُوَ كَلَام النَّفس، وَهُوَ مُغَاير للْعلم والإرادة.
وَأنْكرت الجماهير والمعتزلة قيام معنى بِالنَّفسِ غير الْعلم والإرادة، وَقَالُوا: الْقَائِم بِالْقَلْبِ هُوَ صُورَة مَا يُرِيد النُّطْق بِهِ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ: (الَّذِي يجده الْإِنْسَان فِي نَفسه قبل أَن يتَكَلَّم هُوَ استحضار صور الْكَلَام، وَالْعلم بِمَا يَقُوله شَيْئا فَشَيْئًا، والعزم على إِيرَاده بِاللِّسَانِ، كَمَا يستحضر صُورَة الْكِتَابَة قبل أَن يكْتب، وَلَا مُقْتَضى لإِثْبَات أَمر غير مَا ذَكرْنَاهُ) .
قَالَ: (وَلَو ثَبت لم يكن كلَاما فِي اللُّغَة، وَلَا يُسمى الْإِنْسَان لأَجله متكلما، وَلذَلِك يَقُول أهل اللُّغَة للساكت: (إِنَّه غير مُتَكَلم) ، وَإِن جَازَ أَن يقوم بِهِ ذَلِك الْمَعْنى، وَلَا يَقُولُونَ للساكت:(إِنَّه غير مُرِيد وَلَا عَالم) .
قَالَ: وَقَول أهل اللُّغَة: (فِي نَفسِي كَلَام) ، مجَاز، وَالْمرَاد بذلك: عزم على الْكَلَام، كَقَوْلِهِم:(فِي نَفسِي السّفر) .
قَالَ: (وَلَو ثَبت فِي النَّفس معنى هُوَ الْكَلَام عَن الاعتقادات والعزم، لَكَانَ مُحدثا، لِأَن الَّذِي يشيرون إِلَيْهِ مُرَتّب يَتَجَدَّد فِي النَّفس بعضه بعد بعض، ومرتب حسب تَرْتِيب الْكَلَام المسموع، فَإِن كَانَ كَلَام الله معنى مَا فِي النَّفس من الْكَلَام فِي الشَّاهِد، اسْتَحَالَ قدمه، وَإِن لم يكن مَعْنَاهُ بَطل
قَوْلهم: إِن مَا أَثْبَتْنَاهُ مَعْقُول فِي الشَّاهِد) .
وَقَالَت الأشاعرة: ذَلِك الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ هُوَ الْكَلَام، والحروف والأصوات دلالات عَلَيْهِ ومعرفات، وَإنَّهُ حَقِيقَة وَاحِدَة هِيَ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار، وَإِنَّهَا صِفَات لَهُ لَا أَنْوَاع، إِن عبر عَنهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ عَرَبيا، أَو السريانية كَانَ سريانيا، وَكَذَلِكَ فِي سَائِر اللُّغَات، وَإنَّهُ لَا يَتَبَعَّض وَلَا يتَجَزَّأ.
ثمَّ اخْتلفُوا، فَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره:(الْكَلَام الْمُطلق حَقِيقَة، هُوَ مَا فِي النَّفس شَاهدا أَو غَائِبا، وَإِطْلَاق الْكَلَام على الْحُرُوف والأصوات مجَاز) .
وَقَالَ جمهورهم: يُطلق على كل مِنْهُمَا بالاشتراك اللَّفْظِيّ.
وَقَالَ بَعضهم: هُوَ حَقِيقَة فِي اللساني، مجَاز فِي النَّفْسِيّ، وَلَيْسَ
الْخلاف [جَارِيا] فِي نفس الْكَلَام، بل مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والتصديق والتكذيب، وَنَحْو ذَلِك من عوارض الْكَلَام.
قَالَ الرَّازِيّ فِي " الْأَرْبَعين ": (مَاهِيَّة ذَلِك الطّلب مُغَايرَة لذَلِك اللَّفْظ، وَيدل عَلَيْهِ وُجُوه:
أَحدهَا: أَن مَاهِيَّة هَذَا الْمَعْنى لَا تتبدل باخْتلَاف الْأَمْكِنَة والأزمنة، والألفاظ الدَّالَّة على هَذَا الْمَعْنى تخْتَلف باخْتلَاف الْأَزْمِنَة والأمكنة.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قيل: عَلَيْهِ وَجْهَان:
أَحدهمَا: إِن أردْت اخْتِلَاف أجناسها، فَهَذَا مُسلم وَلَا ينفعك، وَإِن أردْت اخْتِلَاف قدرهَا وصفتها فَمَمْنُوع، لأَنا لَا نسلم أَن الطّلب الْحَاصِل بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيّ الفصيح مَعَ الصَّوْت الجهوري مماثل للطلب بِاللَّفْظِ الأعجمي مَعَ الصَّوْت الضَّعِيف، وَهَذَا لِأَن الْقَائِم بِالنَّفسِ قد يتَفَاوَت، فَيكون طلب أقوى من غَيره وأكمل.
الثَّانِي: هَب أَن الْمَدْلُول مُتحد، وَالدَّال مُخْتَلف، لَكِن لم لَا جيوز وجود الْمَدْلُول مَشْرُوطًا بِالدَّلِيلِ، فَهُوَ وَإِن غايره لَكِن لَا يُوجد إِلَّا بِوُجُودِهِ، أَلا ترى أَن كَون الْإِنْسَان مخبرا لغيره لَا بُد فِيهِ من أَمر ظَاهر، يدل على مَا فِي بَاطِنه من الْمَعْنى، وَذَلِكَ الْأَمر الظَّاهِر وَإِن اخْتلف، لَكِن لَا يكون مخبرا إِلَّا بِهِ، وَإِذا لَاحَ لَك ذَلِك، لم يكن مُجَرّد كَون الْمَعْنى مغايرا كَافِيا فِي مَطْلُوبه، وَهَذَا كَمَا أَن الْمَعْنى قَائِم بِالروحِ، وَاللَّفْظ قَائِم بِالْبدنِ، ثمَّ إِن وجود الرّوح فِي هَذَا
الْعَالم لَا يُمكن إِلَّا مَعَ الْبدن، و - أَيْضا - فَكل من المتلازمين دَلِيل على الآخر، لَا يَقْتَضِي ذَلِك وجود الْمَدْلُول بِدُونِ الدَّلِيل: كالأمور المتضايفة كالأبوة والبنوة) .
قَالَ الرَّازِيّ: (الْوَجْه الثَّانِي: أَن جَمِيع الْعُقَلَاء يعلمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَن قَول الْقَائِل: افْعَل، دَلِيل على ذَلِك الطّلب [الْقَائِم] بِالْقَلْبِ، وَالدَّلِيل مُغَاير للمدلول) .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هَب أَن الْأَمر كَذَلِك، لَكِن لم يجمعوا على أَنه يُوجد الْمَدْلُول دون دَلِيله) .
قَالَ الرَّازِيّ: (الْوَجْه الثَّالِث: أَن جَمِيع الْعُقَلَاء يعلمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَن قَول الْقَائِل: افْعَل، لَا يكون طلبا وأمرا إِلَّا عِنْد اصْطِلَاح النَّاس على هَذَا الْوَضع.
وَأما كَون ذَلِك الْمَعْنى الْقَائِم بِالْقَلْبِ طلبا، فَإِنَّهُ أَمر ذاتي حَقِيقِيّ لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الْوَضع والاصطلاح) .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قيل: مَا ذكرت مَمْنُوع، فَإِن أَكثر النَّاس لَا يجْعَلُونَ اللُّغَات اصطلاحية، بل إِمَّا توقيفية بإلهام أَو بِغَيْر إلهام، والنزاع فِي ذَلِك مَشْهُور.
وَلَو سلم، فَلم قلت بِإِمْكَان وجوده بِدُونِ اللَّفْظ) .
قَالَ الرَّازِيّ: (الْوَجْه الرَّابِع: هُوَ أَنهم قَالُوا: إِن قَوْلنَا: " ضرب
يضْرب "، إِخْبَار، وَقَوْلنَا: " اضْرِب وَلَا تضرب "، أَمر وَنهي، وَلَو أَن الواضعين قلبوا الْأَمر وَقَالُوا بِالْعَكْسِ، لَكَانَ جَائِزا، أما لَو قَالُوا: إِن حَقِيقَة الطّلب يُمكن أَن تقلب خَبرا، أَو حَقِيقَة الْخَبَر يُمكن أَن تقلب طلبا، لَكَانَ ذَلِك محالا) .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قيل: لَو سلم، لم يلْزم أَن لَا يكون وجود أَحدهمَا مَشْرُوطًا بِالْآخرِ، و - أَيْضا - أَنْتُم ادعيتم: أَن حَقِيقَة الطّلب وَحَقِيقَة الْخَبَر شَيْء وَاحِد، بل ادّعى الرَّازِيّ: أَن حَقِيقَة الطّلب دَاخِلَة فِي حَقِيقَة الْخَبَر، فَقَالَ فِي كَون كَلَام الله وَاحِدًا أَمر وَنهي وَخبر: إِنَّه يرجع إِلَى حرف وَاحِد، وَهُوَ الْكَلَام كُله خبر؛ لِأَن الْأَمر عبارَة عَن تَعْرِيف [الْغَيْر] أَنه لَو فعله لصار مُسْتَحقّا [للمدح، وَلَو تَركه صَار] مُسْتَحقّا للذم، وَكَذَا القَوْل فِي النَّهْي، وَإِذا كَانَ مرجع الْكل إِلَى شَيْء وَاحِد، وَهُوَ الْخَبَر، صَحَّ أَن كَلَام الله وَاحِد) .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: احْتج الْجُمْهُور بِالْكتاب وَالسّنة واللغة وَالْعرْف.
أما الْكتاب: فَقَوله تَعَالَى: {آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال سويا (10) فَخرج على قومه من الْمِحْرَاب فَأوحى إِلَيْهِم أَن سبحوا بكرَة وعشيا} [مَرْيَم: 10 - 11] ، فَلم يسم الْإِشَارَة كلَاما.
وَقَالَ لِمَرْيَم: {فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما فَلَنْ أكلم الْيَوْم إنسيا} [مَرْيَم: 26] .