الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجود أَسبَابهَا وشروطها، وَانْتِفَاء موانعها، وَعَكسه) انْتهى.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره: (وَالْفرق بَين خطاب الْوَضع وخطاب التَّكْلِيف من حَيْثُ الْحَقِيقَة: أَن الحكم فِي خطاب الْوَضع هُوَ قَضَاء الشَّرْع على الْوَصْف بِكَوْنِهِ سَببا أَو شرطا أَو مَانِعا، وخطاب التَّكْلِيف لطلب أَدَاء مَا تقرر بالأسباب والشروط والموانع) انْتهى.
قَالَ الطوفي: (خطاب الْوَضع يسْتَلْزم خطاب التَّكْلِيف، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يعلم بِهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى:{وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38]، و {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا} [النُّور: 2] ، وَقَوله صلى الله عليه وسلم َ -: "
من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ "، وَنَحْو ذَلِك من الْأَلْفَاظ المفيدة للْأَحْكَام الوضعية، بِخِلَاف خطاب التَّكْلِيف؛ فَإِنَّهُ لَا يسْتَلْزم خطاب الْوَضع، كَمَا لَو قَالَ الشَّارِع: توضؤوا لَا عَن حدث، فَإِن هَذَا خطاب تكليفي بِفعل مُجَرّد عَن سَبَب مَوْضُوع أَو غَيره) انْتهى
.
وَقَالَ - أَيْضا -: (الصَّوَاب فِي الْقِسْمَة أَن يُقَال: خطاب الشَّرْع إِمَّا لَفْظِي أَو وضعي، أَي: إِمَّا ثَابت بالألفاظ نَحْو: {أقِيمُوا الصَّلَاة} [الْأَنْعَام: 72] ، أَو عِنْد الْأَسْبَاب وَنَحْوهَا، كَقَوْلِه: إِذا زَالَت الشَّمْس وَجَبت عَلَيْكُم الظّهْر، فاللفظ أثبت وجوب الصَّلَاة، والوضع عين وَقت وُجُوبهَا) .
قلت: تقدّمت هَذِه الْمَسْأَلَة وَالْخلاف فِيهَا، فِي أول خطاب التَّكْلِيف - بعد قَوْلنَا:(ثمَّ الْخطاب إِمَّا أَن يرد)، بعد قَوْله:(وَإِلَّا فوضعي) - وَذكرنَا كَلَام الْقَرَافِيّ هُنَاكَ محررا فليعاود.
قَوْله: { [وَهُوَ] خبر} .
تقدم أَن خطاب التَّكْلِيف إنْشَاء، وخطاب الْوَضع خبر، وَقدمنَا قَرِيبا [أَن] الْفرق بَين خطاب الْوَضع وخطاب التَّكْلِيف من حَيْثُ الْحَد والحقيقة، وَالْفرق بَينهمَا الْآن من حَيْثُ الحكم: أَن خطاب الشَّرْع يشْتَرط
فِيهِ: علم الْمُكَلف، وَقدرته على الْفِعْل، وَكَونه من كَسبه: كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْم، وَالْحج، وَنَحْوهَا، على مَا سبق فِي شُرُوط التَّكْلِيف.
وَأما خطاب الْوَضع فَلَا يشْتَرط فِيهِ شَيْء من ذَلِك إِلَّا مَا اسْتثْنِي.
أما عدم اشْتِرَاط الْعلم: فكالنائم يتْلف شَيْئا حَال نَومه، والرامي إِلَى صيد فِي ظلمَة، أَو من وَرَاء حَائِل، فَيقْتل إنْسَانا، فَإِنَّهُمَا يضمنَانِ وَإِن لم يعلمَا، وكالمرأة تحل بِعقد وَليهَا عَلَيْهَا، وَتحرم بِطَلَاق زَوجهَا، وَإِن كَانَت غَائِبَة لَا تعلم ذَلِك.
وَأما عدم اشْتِرَاط الْقُدْرَة وَالْكَسْب: فكالدابة تتْلف شَيْئا، وَالصَّبِيّ أَو الْبَالِغ يقتل خطأ، فَيضمن صَاحب الدَّابَّة، والعاقلة، وَإِن
لم يكن الْقَتْل والإتلاف مَقْدُورًا وَلَا [مكتسبا] لَهُم، وَطَلَاق الْمُكْره عِنْد من يوقعه، وَهُوَ غير مَقْدُور لَهُ بِمُطلق الْإِكْرَاه، أَو مَعَ الإلجاء.
وَأما الْمُسْتَثْنى من عدم اشْتِرَاط الْعلم وَالْقُدْرَة، فقاعدتان: إِحْدَاهمَا: أَسبَاب الْعُقُوبَات: كَالْقصاصِ لَا يجب على مخطيء فِي الْقَتْل، لعدم الْعلم، وحد الزِّنَا لَا يجب على من وطيء أَجْنَبِيَّة يَظُنهَا زَوجته، لعدم الْعلم أَيْضا، وَلَا على من أكره على الزِّنَا، لعدم الْقُدْرَة على الِامْتِنَاع، إِذا الْعُقُوبَات تستدعي وجود الْجِنَايَات الَّتِي تنتهك بهَا حُرْمَة الشَّرْع، زجرا عَنْهَا وردعا، والانتهاك إِنَّمَا يتَحَقَّق مَعَ الْعلم، وَالْقُدْرَة، وَالِاخْتِيَار، و [الْقَادِر] الْمُخْتَار هُوَ: الَّذِي إِن شَاءَ فعل، وَإِن شَاءَ ترك، وَالْجَاهِل وَالْمكْره قد انْتَفَى ذَلِك فِيهِ - وَهُوَ شَرط تحقق الانتهاك - لانْتِفَاء شَرطه، فتنتفي الْعقُوبَة، لانْتِفَاء سَببهَا.
الْقَاعِدَة الثَّانِيَة: [الْأَسْبَاب] الناقلة للأملاك: كَالْبيع، وَالْهِبَة، وَالْوَصِيَّة، وَنَحْوهَا يشْتَرط فِيهَا الْعلم وَالْقُدْرَة، فَلَو تلفظ بِلَفْظ ناقل للْملك وَهُوَ لَا يعلم مُقْتَضَاهُ، لكَونه أعجميا بَين الْعَرَب، أَو عَرَبيا بَين الْعَجم، أَو أكره على ذَلِك، لم يلْزمه مُقْتَضَاهُ.
وَالْحكمَة فِي اسْتثِْنَاء هَاتين القاعدتين: الْتِزَام الشَّرْع قانون الْعدْل فِي الْخلق، والرفق بهم، [وإعفاؤه] عَن تَكْلِيف المشاق، أَو التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق، وَهُوَ [حَكِيم] .
قَوْله: {وَهُوَ أَقسَام} . أَي: خطاب الْوَضع أَقسَام.
{أَحدهَا} . أَي: أحد الْأَقْسَام.
{الْعلَّة} .
وَقد اخْتلف فِيهَا، هَل هِيَ من خطاب الْوَضع، أم لَا؟ على مَا يَأْتِي آخر أَحْكَام الْوَضع محررا.
فَنحْن تابعنا بذكرها هُنَا: الشَّيْخ فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي، وَابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَوْله: {وَهِي [فِي] الأَصْل: الْعرض الْمُوجب لخُرُوج الْبدن الحيواني عَن الِاعْتِدَال الطبيعي} .
أَي: الْعلَّة فِي أصل الْوَضع اللّغَوِيّ أَو الاصطلاحي هِيَ: الْعرض الْمُوجب لخُرُوج الْبدن الحيواني عَن الِاعْتِدَال الطبيعي.
وَذَلِكَ لِأَن الْعلَّة فِي اللُّغَة: هِيَ الْمَرَض، وَالْمَرَض: هُوَ هَذَا الْعرض الْمَذْكُور، وَهُوَ فِي اللُّغَة: الظَّاهِر بعد أَن لم يكن.
قَالَ الْجَوْهَرِي: (عرض لَهُ كَذَا يعرض، أَي: ظهر) .
وَفِي اصْطِلَاح الْمُتَكَلِّمين: مَا لَا يقوم بِنَفسِهِ: كالألوان، والطعوم، والحركات، والأصوات.
وَهُوَ كَذَلِك عِنْد الْأَطِبَّاء؛ لِأَنَّهُ عِنْدهم: عبارَة عَن حَادث مَا، إِذا قَامَ بِالْبدنِ أخرجه عَن الِاعْتِدَال.
وَقَوْلنَا: (الْمُوجب لخُرُوج [الْبدن] )، هُوَ إِيجَاب حسي: كإيجاب الْكسر للانكسار، والتسويد للاسوداد، فَكَذَلِك الْأَمْرَاض الْبَدَنِيَّة مُوجبَة لاضطراب الْبدن إِيجَابا محسوسا.
قَوْلنَا: (الْبدن الحيواني) ، احْتِرَاز عَن النباتي والجمادي، فَإِن الْأَعْرَاض المخرجة لَهَا عَن حَال [اعْتِدَال] مَا من شَأْنه الِاعْتِدَال مِنْهَا، لَا يُسمى فِي الِاصْطِلَاح [عللا] .
وَقَوْلنَا: (عَن الِاعْتِدَال الطبيعي) ، هُوَ إِشَارَة إِلَى حَقِيقَة المزاج، وَهُوَ: الْحَال المتوسطة الْحَاصِلَة عَن تفَاعل كيفيات العناصر بَعْضهَا فِي بعض، فَتلك الْحَال هِيَ الِاعْتِدَال الطبيعي، فَإِذا انحرفت عَن التَّوَسُّط [بِغَلَبَة] الْحَرَارَة أَو غَيرهَا، كَانَ ذَلِك هُوَ انحراف المزاج، وَهُوَ الْعلَّة، وَالْمَرَض، والسقم.
قَوْله: {ثمَّ استعيرت عقلا لما أوجب الحكم الْعقلِيّ لذاته، كالكسر للانكسار} .
استعيرت الْعلَّة من الْوَضع اللّغَوِيّ، فَجعلت فِي التَّصَرُّفَات الْعَقْلِيَّة لما أوجب الحكم الْعقلِيّ لذاته، كالكسر للانكسار، والتسويد الْمُوجب - أَي الْمُؤثر - للسواد.
لذاته، أَي: لكَونه كسرا أَو تسويدا، لَا لأمر خَارج من وضعي أَو اصطلاحي.
وَهَكَذَا الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، هِيَ مُؤثرَة لذواتها، بِهَذَا الْمَعْنى: كالتحرك الْمُوجب للحركة، والتسكين الْمُوجب للسكون.
قَوْله: {ثمَّ شرعا} .
أَي: ثمَّ استعيرت شرعا، أَي: استعيرت الْعلَّة من التَّصَرُّف الْعقلِيّ إِلَى التَّصَرُّف الشَّرْعِيّ، فَجعلت فِيهِ {لمعان} ثَلَاثَة.
{أَحدهَا: مَا أوجب الحكم الشَّرْعِيّ} .
أَي: مَا وجد عِنْده {لَا محَالة} ، أَي: يُوجد عِنْده قطعا، {وَهُوَ الْمَجْمُوع الْمركب من مقتضي الحكم، وَشَرطه، وَمحله، وَأَهله} ، تَشْبِيها بأجزاء الْعلَّة الْعَقْلِيَّة.
وَذَلِكَ لِأَن الْمُتَكَلِّمين وَغَيرهم قَالُوا: كل حَادث لَا بُد لَهُ من عِلّة، لَكِن الْعلَّة، إِمَّا مادية: كالفضة للخاتم، والخشب للسرير، أَو صورية: كاستدارة الْخَاتم، وتربيع السرير، أَو فاعلية: كالصائغ، أَو النجار، أَو غائية: كالتحلي بالخاتم، وَالنَّوْم على السرير.
فَهَذِهِ أَجزَاء الْعلَّة الْعَقْلِيَّة، مجموعها الْمركب من أَجْزَائِهَا هُوَ الْعلَّة التَّامَّة، فَلذَلِك اسْتعْمل الْفُقَهَاء لَفْظَة (الْعلَّة) بِإِزَاءِ الْمُوجب للْحكم الشَّرْعِيّ، والموجب - لَا محَالة - ومقتضية، وَشَرطه، وَمحله، وَأَهله.
مِثَاله: وجوب الصَّلَاة، حكم شَرْعِي، ومقتضيه: أَمر الشَّارِع بِالصَّلَاةِ، وَشَرطه: أَهْلِيَّة الْمُصَلِّي لتوجه الْخطاب إِلَيْهِ، بِأَن يكون عَاقِلا، بَالغا، وَمحله: الصَّلَاة، وَأَهله: الْمُصَلِّي.
وَكَذَلِكَ حُصُول الْملك فِي البيع وَالنِّكَاح، حكم شَرْعِي، ومقتضيه: حكم الْحَاجة إِلَيْهِمَا، والإيجاب وَالْقَبُول فيهمَا، وَشَرطه: مَا ذكر من شُرُوط صِحَة البيع وَالنِّكَاح فِي كتب الْفِقْه، وَمحله: هُوَ الْعين الْمَبِيعَة، وَالْمَرْأَة الْمَعْقُود عَلَيْهَا، وَأَهله: كَون الْعَاقِد صَحِيح الْعبارَة وَالتَّصَرُّف.
وافرض ذَلِك فِي غَيره.
قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق: (لَا فرق بَين الْمُقْتَضِي، وَالشّرط، وَالْمحل، والأهل، بل الْعلَّة الْمَجْمُوع، والأهل وَالْمحل وصفان من أوصافها) .
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (قلت: الأولى أَن يُقَال: هما ركنان من أَرْكَانهَا، لِأَنَّهُ قد ثَبت أَنَّهُمَا جزءان من أَجْزَائِهَا، وركن الشَّيْء هُوَ: جزؤه الدَّاخِل فِي حَقِيقَته.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة مجموعها يُسمى: عِلّة، ومقتضي الحكم هُوَ: الْمَعْنى الطَّالِب لَهُ، وَشَرطه يَأْتِي، وَأَهله هُوَ: الْمُخَاطب بِهِ، وَمحله: مَا تعلق بِهِ، وَقد ظهر بالمثال) .
قَوْله: {الثَّانِي مقتضي الحكم، وَإِن تخلف لفَوَات شَرط، أَو وجود مَانع} .
أَي: وَإِن تخلف عَنهُ الحكم لفَوَات شَرطه، أَو وجود مانعه.
مِثَاله: الْيَمين، هِيَ الْمُقْتَضِي لوُجُوب الْكَفَّارَة، فتسمى عِلّة لَهُ، وَإِن كَانَ وجوب الْكَفَّارَة إِنَّمَا يتَحَقَّق بِوُجُود أَمريْن: الْحلف الَّذِي هُوَ الْيَمين، والحنث فِيهَا، لَكِن الْحِنْث شَرط فِي الْوُجُوب، وَالْحلف هُوَ السَّبَب الْمُقْتَضِي لَهُ، فَقَالُوا: عِلّة.
فَإِذا حلف الْإِنْسَان على فعل شَيْء، أَو تَركه، قيل: قد وجدت مِنْهُ عِلّة وجوب الْكَفَّارَة، وَإِن كَانَ الْوُجُوب لَا يُوجد حَتَّى يَحْنَث، وَإِنَّمَا هُوَ بِمُجَرَّد [الْحلف] انْعَقَد سَببه.
وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي مُجَرّد ملك النّصاب وَنَحْوه، وَلِهَذَا لما انْعَقَدت أَسبَاب الْوُجُوب بِمُجَرَّد هَذِه المقتضيات، جَازَ فعل الْوَاجِب بعد وجودهَا، وَقبل وجود شَرطهَا عندنَا، كالتكفير قبل الْحِنْث، وَإِخْرَاج الزَّكَاة قبل الْحول.
وَقَوله: (وَإِن تخلف لفَوَات شَرط) .
كَالْقَتْلِ الْعمد الْعدوان، يُسمى عِلّة لوُجُوب الْقصاص، وَإِن تخلف وُجُوبه لفَوَات الْمُكَافَأَة، وَهِي شَرط لَهُ، بِأَن يكون الْمَقْتُول عبدا، أَو كَافِرًا.
أَو لوُجُود مَانع، مثل: أَن يكون الْقَاتِل أَبَا، فَإِن الإيلاد مَانع من [وجوب] الْقصاص.
وَكَذَا النّصاب يُسمى عِلّة لوُجُوب الزَّكَاة، وَإِن تخلف الْوُجُوب لفَوَات شَرط كحولان الْحول، أَو لوُجُود مَانع كَالدّين.
قَوْله: {الثَّالِث: الْحِكْمَة، [وَهِي] : الْمَعْنى الْمُنَاسب الَّذِي ينشأ عَنهُ الحكم} .
الْحِكْمَة، أَي: حِكْمَة الحكم.
وَالْحكمَة هِيَ: الْمَعْنى الْمُنَاسب الَّذِي نَشأ عَنهُ الحكم: {كمشقة السّفر للقصر وَالْفطر، وَالدّين لمنع الزَّكَاة، والأبوة لمنع الْقصاص} .
وَبَيَان الْمُنَاسبَة فِي هَذِه الْأَمْثِلَة: أَن حُصُول الْمَشَقَّة على الْمُسَافِر معنى مُنَاسِب لتخفيف الصَّلَاة عَنهُ بقصرها، وَالتَّخْفِيف عِنْد بِالْفطرِ، وافتقاره مَالك النّصاب بِالدّينِ الَّذِي عَلَيْهِ، معنى مُنَاسِب لإِسْقَاط وجوب الزَّكَاة عَنهُ، وَكَون الْأَب سَببا لوُجُود الابْن، معنى مُنَاسِب لسُقُوط الْقصاص عَنهُ، لِأَنَّهُ لما كَانَ سَببا لإيجاده لم تقتض الْحِكْمَة أَن يكون الْوَلَد سَببا لإعدامه وهلاكه، لمحض حَقه.
واحترزنا بِهَذَا عَن وجوب رجمه إِذا زنى بابنته، فَهِيَ إِذن سَبَب
إعدامه، مَعَ كَونه سَبَب إيجادها، لَكِن ذَلِك لمحض حق الله تَعَالَى، حَتَّى لَو قَتلهَا لم يجب قَتله بهَا لِأَن [الْحق] لَهَا.
وَسَيَأْتِي فِي الْقيَاس حد الْعلَّة، وَهل هِيَ معرفَة، أَو مُؤثرَة؟
قَوْله: {الْقسم الثَّانِي: السَّبَب، وَهُوَ لُغَة: مَا توصل بِهِ إِلَى غَيره} .
كالطريق وَنَحْوهَا.
قَالَ الْجَوْهَرِي: (السَّبَب: الْحَبل، وكل شَيْء يتَوَصَّل بِهِ إِلَى غَيره) .
قَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (السَّبَب: الْحَبل، وَهُوَ: مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الاستعلاء، ثمَّ استعير لكل شَيْء يتَوَصَّل بِهِ إِلَى أَمر من الْأُمُور، فَقيل: هَذَا سَبَب، وَهَذَا مسبب عَن هَذَا.
قَوْله: {وَشرعا: مَا يلْزم من وجود الْوُجُود، وَمن عَدمه الْعَدَم لذاته، فيوجد الحكم عِنْده، لَا بِهِ} .
اشْتهر هَذَا الْحَد فِي كتب كثير من الْأُصُولِيِّينَ.
فَالْأول: احْتِرَاز من الشَّرْط، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من وجود الْوُجُود.
وَالثَّانِي: احْتِرَاز من الْمَانِع، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من عَدمه وجود وَلَا عدم.
وَالثَّالِث: احْتِرَاز مِمَّا لَو قَارن السَّبَب فقدان الشَّرْط، أَو وجود الْمَانِع: كالنصاب قبل تَمام الْحول، أَو مَعَ وجود الدّين، فَإِنَّهُ لَا يلْزم من وجوده الْوُجُود، لَكِن لَا لذاته، بل لأمر خَارج عَنهُ، وَهُوَ انْتِفَاء الشَّرْط، وَوُجُود الْمَانِع.
فالتقييد بِكَوْن ذَلِك لذاته، للاستظهار على مَا لَو تخلف وجود الْمُسَبّب مَعَ وجدان السَّبَب لفقد شَرط، أَو مَانع: كالنصاب قبل الْحول كَمَا تقدم، وَمن فِيهِ سَبَب الْإِرْث وَلكنه قَاتل، أَو رَقِيق، أَو نَحْوهمَا.
وعَلى مَا لَو وجد الْمُسَبّب مَعَ فقدان السَّبَب، لَكِن لوُجُود سَبَب آخر: كالردة الْمُقْتَضِيَة للْقَتْل، إِذا فقدت وَوجد قتل يُوجب الْقصاص، أَو زنى
مُحصن، فَتخلف هَذَا التَّرْتِيب عَن السَّبَب لَا لذاته، بل لِمَعْنى خَارج كَمَا تقدم.
إِذا علم ذَلِك؛ فالسبب هُوَ: الَّذِي يُضَاف إِلَيْهِ الحكم، كَقَوْلِه تَعَالَى:{أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} [الْإِسْرَاء: 78]، و {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا} [النُّور: 2] .
إِذْ لله تَعَالَى فِي دلوك الشَّمْس حكمان:
أَحدهمَا: كَون الدلوك سَببا.
وَالْآخر: وجوب الصَّلَاة عِنْده.
وَكَذَلِكَ لله تَعَالَى فِي الزَّانِي حكمان:
أَحدهمَا: وجوب الرَّجْم.
وَالثَّانِي: كَون الزِّنَى سَببا.
وَلَا شكّ أَن الْأَسْبَاب معرفات، إِذْ الممكنات مستندة إِلَى الله تَعَالَى
ابْتِدَاء عِنْد أهل الْحق، وَبَين الْمُعَرّف الَّذِي هُوَ السَّبَب، وَالْحكم الَّذِي نيط بِهِ ارتباط ظَاهر، فالإضافة إِلَيْهِ وَاضِحَة.
وَأما عِنْد من يَجْعَل الْوَصْف مؤثرا بِذَاتِهِ فَلَا خَفَاء عِنْده؛ إِذْ الْأَثر يُضَاف إِلَى الْمُؤثر قطعا.
فَإِذا حفر شخص بِئْرا، وَدفع آخر إنْسَانا فتردى فِيهَا فَهَلَك، فَالْأول - وَهُوَ الْحَافِر - متسبب إِلَى هَلَاكه، وَالثَّانِي - وَهُوَ الدَّافِع - مبَاشر، فَأطلق الْفُقَهَاء السَّبَب على مَا يُقَابل الْمُبَاشرَة، فَقَالُوا: إِذا اجْتمع المتسبب والمباشر، غلبت الْمُبَاشرَة، وَوَجَب الضَّمَان على الْمُبَاشر، وَانْقطع حكم التَّسَبُّب.
وَمن أمثلته: لَو أَلْقَاهُ من شَاهِق، فَتَلقاهُ آخر بِسيف فَقده، فَالضَّمَان على المتلقي بِالسَّيْفِ، وَلَو أَلْقَاهُ فِي مَاء مغرق، فَتَلقاهُ حوت فابتلعه،
فَالضَّمَان على الملقي، لعدم قبُول الْحُوت الضَّمَان، وَكَذَا لَو أَلْقَاهُ فِي زبية أَسد فَقتله.
قَوْله: {الثَّانِي: عِلّة الْعلَّة: كالرمي هُوَ سَبَب الْقَتْل، وَهُوَ} - أَعنِي: الرَّمْي - {عِلّة الْإِصَابَة، [والإصابة] عِلّة [لزهوق النَّفس] } الَّذِي هُوَ الْقَتْل، فالرمي هُوَ عِلّة عِلّة الْقَتْل، وَقد سموهُ سَببا لَهُ.
قَوْله: {الثَّالِث: الْعلَّة بِدُونِ شَرطهَا: كالنصاب بِدُونِ الْحول} ، أَعنِي: الثَّالِث من الْمعَانِي الَّتِي استعير لَهَا لفظ السَّبَب: الْعلَّة بِدُونِ شَرطهَا: كالنصاب بِدُونِ حولان الْحول، يُسمى سَببا لوُجُوب الزَّكَاة كَمَا تقدم فِي تَسْمِيَته عِلّة، فاستعيرت الْعلَّة وَسميت سَببا.
قَوْله: {الرَّابِع: الْعلَّة الشَّرْعِيَّة كَامِلَة} .
وَهِي الْمَجْمُوع الْمركب من: مُقْتَضى الحكم، وَشَرطه، وَانْتِفَاء الْمَانِع، وَوُجُود الْأَهْل وَالْمحل.
سمي سَببا - أَيْضا - اسْتِعَارَة؛ لِأَنَّهُ لم يتَخَلَّف عَنهُ فِي حَال من الْأَحْوَال: كالكسر للانكسار.
وَسميت الْعلَّة الشَّرْعِيَّة الْكَامِلَة سَببا؛ لِأَن عليتها لَيست لذاتها، بل
بِنصب الشَّارِع لَهَا أَمارَة على الحكم بِهِ، بِدَلِيل وجودهَا دونه: كالإسكار قبل التَّحْرِيم، وَلَو كَانَ الْإِسْكَار عِلّة للتَّحْرِيم لذاته لم يتَخَلَّف عَنهُ فِي حَال، كالكسر للانكسار فِي الْعَقْلِيَّة، فَأَشْبَهت لذَلِك السَّبَب، وَهُوَ مَا يحصل الحكم عِنْده لَا بِهِ، فَهُوَ معرف للْحكم، لَا مُوجب لَهُ لذاته، وَإِلَّا لوَجَبَ قبل الشَّرْع.
السَّبَب قِسْمَانِ: أَحدهمَا: وقتي، وَالْآخر: معنوي.
والوقتي: هُوَ مَا لَا يسْتَلْزم فِي تَعْرِيفه للْحكم حِكْمَة باعثة: كزوال الشَّمْس، فَإِنَّهُ يعرف وَقت وجوب الظّهْر، وَلَا يكون مستلزما لحكمة باعثة.
والمعنوي: مَا يسْتَلْزم حِكْمَة باعثة فِي تَعْرِيفه للْحكم الشَّرْعِيّ: كالإسكار، فَإِنَّهُ أَمر معنوي جعل عِلّة للتَّحْرِيم، وَالْملك، فَإِنَّهُ جعل سَببا لإباحة الِانْتِفَاع، وَالضَّمان، فَإِنَّهُ جعل سَببا لمطالبة الضَّامِن بِالدّينِ، والعقوبات، فَإِنَّهَا جعلت سَببا لوُجُوب الْقصاص أَو الدِّيَة.
قَالَ الْآمِدِيّ: (السَّبَب عبارَة عَن وصف ظَاهر منضبط، دلّ الدَّلِيل الشَّرْعِيّ على كَونه مُعَرفا لثُبُوت حكم شَرْعِي)، طرديا كَانَ: كجعل زَوَال الشَّمْس سَببا للصَّلَاة، أَو غير طردي: كالشدة المطربة، سَوَاء اطرد الحكم مَعَه أَو لم يطرد؛ لِأَن السَّبَب الشَّرْعِيّ يجوز تَخْصِيصه، وَهُوَ الْمُسَمّى تَخْصِيص الْعلَّة، إِذْ لَا معنى لتخصيص الْعلَّة، إِلَّا وجود حكمهَا فِي بعض صور وجودهَا دون بعض، وَهُوَ عدم الاطراد.
قَوْله: {الْقسم الثَّالِث: الشَّرْط، وَهُوَ لُغَة: الْعَلامَة} ، لِأَنَّهُ عَلامَة على الْمَشْرُوط، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى:{فَهَل ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة أَن تأتيهم بَغْتَة فقد جَاءَ أشراطها} [مُحَمَّد: 18]، أَي: علامتها، قَالَه الْمُوفق وَغَيره.
قَالَ الْجَوْهَرِي: (بِالسُّكُونِ، مَعْرُوف، وبالتحريك: الْعَلامَة، وأشراط السَّاعَة: علاماتها) .
وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (الشَّرْط - مخفف من الشَّرْط بِفَتْح الرَّاء - هُوَ: الْعَلامَة، وَجمعه: أَشْرَاط، وَجمع الشَّرْط - بِالسُّكُونِ -: شُرُوط، وَيُقَال لَهُ: شريطة، وَجمعه: شَرَائِط) .
وَقَالَ فِي " المطلع ": (الشَّرْط - بِسُكُون الرَّاء - يجمع على شُرُوط وعَلى شَرَائِط، والأشراط وَاحِدهَا شَرط - بِفَتْح الرَّاء والشين -) انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الشَّرْط - بِالتَّحْرِيكِ -: الْعَلامَة، جمعه: أَشْرَاط، وَالشّرط: إِلْزَام الشَّيْء والتزامه فِي البيع وَنَحْوه، كالشريطة، وَجمعه شُرُوط) انْتهى.
قَوْله: {وَشرعا: مَا يلْزم من عَدمه الْعَدَم، وَلَا يلْزم من وجوده وجود وَلَا عدم لذاته} .
فَالْأول: احْتِرَاز من الْمَانِع؛ لِأَنَّهُ لَا يلْزم من عَدمه وجود وَلَا عدم.
وَالثَّانِي: احْتِرَاز من السَّبَب، وَالْمَانِع أَيْضا.
أما من السَّبَب؛ فَلِأَنَّهُ يلْزم من وجوده الْوُجُود لذاته كَمَا سبق.
وَأما من الْمَانِع؛ فَلِأَنَّهُ يلْزم من وجوده الْعَدَم.
وَالثَّالِث: احْتِرَاز من مُقَارنَة الشَّرْط وجود السَّبَب، فَيلْزم الْوُجُود، أَو قيام الْمَانِع، فَيلْزم الْعَدَم، لَكِن [لَا] لذاته - وَهُوَ كَونه شرطا - بل لأمر خَارج، وَهُوَ مُقَارنَة السَّبَب، أَو قيام الْمَانِع.
إِذا علم ذَلِك؛ فللشرط [ثَلَاثَة] إطلاقات.
الأول: مَا يذكر فِي الْأُصُول هُنَا، مُقَابلا للسبب وَالْمَانِع، وَفِي نَحْو قَول الْمُتَكَلِّمين: شَرط الْعلم [الْحَيَاة]، وَقَول الْفُقَهَاء: شَرط الصَّلَاة الطَّهَارَة، شَرط صِحَة البيع كَذَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يذكر هُنَا تَعْرِيفه.
الثَّانِي: الشَّرْط اللّغَوِيّ، وَالْمرَاد بِهِ: صِيغ التَّعْلِيق ب " إِن " وَنَحْوهَا من أدوات الشَّرْط، وَهُوَ مَا يذكر فِي أصُول الْفِقْه فِي المخصصات للْعُمُوم، نَحْو:{وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ} [الطَّلَاق: 6]، وَمِنْه قَوْلهم فِي الْفِقْه: الطَّلَاق وَالْعِتْق الْمُعَلق بِشَرْط، وَنَحْوهمَا، نَحْو: إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق، أَو حرَّة، وَقَوْلهمْ: لَا يجوز تَعْلِيق البيع على شَرط وَنَحْوه، فَإِن دُخُول الدَّار لَيْسَ شرطا لوُقُوع الطَّلَاق شرعا وَلَا عقلا، بل من الشُّرُوط الَّتِي وَضعهَا أهل اللُّغَة.
وَهَذَا - كَمَا قَالَ الْقَرَافِيّ وَغَيره -: (يرجع إِلَى كَونه سَببا يوضع للمعلق، حَتَّى يلْزم من وجوده الْوُجُود، وَمن عَدمه الْعَدَم لذاته) .
وَوهم من فسره - هُنَاكَ تَفْسِير الشَّرْط الْمُقَابل للسبب وَالْمَانِع، كَمَا وَقع لكثير من الْأُصُولِيِّينَ، وَسَيَأْتِي - هُنَاكَ - بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الثَّالِث: جعل شَيْء قيدا فِي شَيْء: كَشِرَاء الدَّابَّة بِشَرْط كَونهَا حَامِلا، وَبيع العَبْد بِشَرْط الْعتْق، وَهُوَ المُرَاد بِحَدِيث:" نهى عَن بيع وَشرط "، و " مَا بَال رجال يشترطون شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله "، وَنَحْو ذَلِك.
وَهَذَا الثَّالِث يحْتَمل أَن يُعَاد إِلَى الأول، بِسَبَب مواضعة الْمُتَعَاقدين، كَأَنَّهُمَا قَالَا: جَعَلْنَاهُ مُعْتَبرا فِي عَقدنَا، يعْدم بِعَدَمِهِ، وَإِن ألغاه الشَّرْع لغى العقد، وَإِن اعْتَبرهُ لَا يلغى العقد، بل يثبت الْخِيَار إِن أخلف، كَمَا نقل ذَلِك فِي الْفِقْه.
وَيحْتَمل أَن يُعَاد إِلَى الثَّانِي، كَأَنَّهُمَا قَالَا: إِن كَانَ كَذَا فَالْعقد صَحِيح، وَإِلَّا فَلَا.
إِذا عرفت ذَلِك؛ فالمقصود هُنَا هُوَ الْقسم الأول، وَقد اشْتهر تَعْرِيفه بِمَا ذَكرْنَاهُ أَولا.
هَذَا الشَّرْط على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا: مَا يُسمى شَرط السَّبَب، وَالثَّانِي: يُسمى شَرط الحكم.
فَالْأول: مَا يكون عَدمه مخلا بحكمة السَّبَب: كالقدرة على تَسْلِيم الْمَبِيع وَنَحْوه، فَإِنَّهَا شَرط البيع، الَّذِي هُوَ سَبَب ثُبُوت الْملك، الْمُشْتَمل على مصلحَة، وَهُوَ حَاجَة الِانْتِفَاع بِالْمَبِيعِ، وَهِي متوقفة على الْقُدْرَة على التَّسْلِيم، فَكَانَ عَدمه مخلا بحكمة الْمصلحَة الَّتِي شرع لَهَا البيع.
وَالثَّانِي: مَا اشْتَمَل عَدمه على [حِكْمَة] تَقْتَضِي نقيض حِكْمَة السَّبَب، مَا بَقَاء حِكْمَة السَّبَب: كالطهارة فِي بَاب الصَّلَاة، فَإِن عدم الطَّهَارَة حَال الْقُدْرَة عَلَيْهَا مَعَ الْإِتْيَان بِالصَّلَاةِ يَقْتَضِي نقيض حِكْمَة الصَّلَاة، وَهُوَ الْعقَاب، فَإِنَّهُ نقيض وُصُول الثَّوَاب.
قَوْله: {وَهُوَ عَقْلِي: كالحياة للْعلم} .
تقدم لنا أَن للشّرط إطلاقات مِنْهَا مَا هُوَ للمتكلمين، وَهُوَ قَوْلنَا: عَقْلِي: كالحياة للْعلم؛ لِأَن من شَرط الْعلم الْحَيَاة، فَإِذا انْتَفَت الْحَيَاة، انْتَفَى الْعلم، وَلَا يلْزم من وجود الْحَيَاة الْعلم.
{ولغوي: كَأَنْت طَالِق إِن [دخلت الدَّار] } وَنَحْوه، كَمَا تقدم.
{ [وشرعي: كالطهارة للصَّلَاة] } وَنَحْوه.
وَزَادُوا رَابِعا {و} هُوَ { [العادي] : كالغذاء للحيوان} ، إِذْ الْغَالِب فِيهِ أَنه يلْزم من انْتِفَاء الْغذَاء انْتِفَاء الْحَيَاة، وَمن وجوده وجودهَا، إِذْ لَا يتغذى إِلَّا حَيّ، وكالسلم للصعود. فعلى هَذَا يكون الشَّرْط العادي كالشرط اللّغَوِيّ فِي أَنه مطرد منعكس، ويكونان من قبيل الْأَسْبَاب لَا من قبيل الشُّرُوط، كَمَا تقدم فِي الشَّرْط اللّغَوِيّ، بِخِلَاف الشُّرُوط الْعَقْلِيَّة.
وَقَوله: { [وَمَا جعل قيدا فِي شَيْء لِمَعْنى كَشَرط فِي عقد فكالشرعي لَا اللّغَوِيّ فِي الْأَصَح] } .
تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِطْلَاق الثَّالِث فِي إطلاقات الشَّرْط فليعاود.
قَوْله: {واللغوي} - أَي: وَالشّرط اللّغَوِيّ - {أغلب اسْتِعْمَاله فِي السَّبَبِيَّة الْعَقْلِيَّة} ، نَحْو: إِذا طلعت الشَّمْس فالعالم مضيء، { [و] الشَّرْعِيَّة} ، كَقَوْلِه تَعَالَى:{وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} [الْمَائِدَة: 6] وَنَحْوه.
فَإِن طُلُوع الشَّمْس سَبَب ضوء الْعَالم عقلا، والجنابة سَبَب لوُجُود التَّطْهِير شرعا، {وَاسْتعْمل لُغَة فِي شَرط لم يبْق للمسبب سواهُ [أَي] } يسْتَعْمل { [فِي الشَّرْط الْأَخير] } ، وَذَلِكَ مثل قَوْلك: إِن تأتني أكرمك، فَإِن الْإِتْيَان شَرط لم يبْق للإكرام سواهُ، لِأَنَّهُ إِذا أَدخل الشَّرْط اللّغَوِيّ عَلَيْهِ، علم أَن أَسبَاب الْإِكْرَام حَاصِلَة، لَكِن متوقفة على حُصُول الْإِتْيَان.
الْمَانِع اسْم فَاعل من الْمَنْع، وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاح مَا ذكرنَا.
فَالْأول: احْتِرَاز من السَّبَب؛ لِأَنَّهُ يلْزم من وجوده الْوُجُود.
وَالثَّانِي: احْتِرَاز من الشَّرْط؛ لِأَنَّهُ يلْزم من عَدمه الْعَدَم.
وَالثَّالِث: - وَهُوَ قَوْلنَا: لذاته -: احْتِرَاز من مُقَارنَة الْمَانِع لوُجُود سَبَب آخر، فَإِنَّهُ يلْزم الْوُجُود لَا لعدم الْمَانِع، بل لوُجُود السَّبَب: كَالْأَبِ الْقَاتِل فِي الْمِثَال الْآتِي [إِذا ارْتَدَّ زمن] قَتله وَلَده، فَإِنَّهُ يقتل بِالرّدَّةِ وَإِن لم يقتل قصاصا؛ لِأَن الْمَانِع إِنَّمَا هُوَ لأحد السببين.
{ [وَالْمَنْع] إِمَّا للْحكم} ، وَهُوَ وصف وجودي ظَاهر منضبط مُسْتَلْزم لحكمة تَقْتَضِي نقيض حكم السَّبَب، مَعَ بَقَاء [حِكْمَة السَّبَب] :{كالأبوة فِي الْقصاص مَعَ الْقَتْل الْعمد} الْعدوان، وَهُوَ كَون الْأَب سَببا لوُجُود الْوَلَد، فَلَا يحسن كَونه سَببا لعدمه، فَيَنْتَفِي الحكم مَعَ وجود مقتضيه وَهُوَ الْقَتْل.
{ [وَإِمَّا] لسَبَب الحكم} ، وَهُوَ وصف يخل وجوده بحكمة السَّبَب:{كَالدّين فِي الزَّكَاة مَعَ ملك [النّصاب] } ، وَوجه ذَلِك: أَن حِكْمَة وجوب الزَّكَاة فِي النّصاب - الَّذِي هُوَ السَّبَب - كثرته كَثْرَة تحْتَمل الْمُوَاسَاة مِنْهُ، شكرا على نعْمَة ذَلِك، لَكِن لما كَانَ الْمَدِين مطالبا بِصَرْف الَّذِي يملكهُ فِي الدّين، صَار كَالْعدمِ.
وَسمي الأول: مَانع الحكم؛ لِأَن سَببه مَعَ بَقَاء حكمته [لَا] يُؤثر.
وَالثَّانِي: مَانع السَّبَب؛ لِأَن حكمته فقدت مَعَ وجود صورته فَقَط.
فالمانع يَنْتَفِي الحكم لوُجُوده، وَالشّرط يَنْتَفِي الحكم لانتفائه.
فَوَائِد: إِحْدَاهَا: قد يلتبس السَّبَب بِالشّرطِ، من حَيْثُ إِن الحكم يتَوَقَّف وجوده على وجودهما، وينتفي بانتفائها، وَإِن كَانَ السَّبَب؛ يلْزم من وجوده وجوده بِخِلَاف الشَّرْط، فَإِذا شكّ فِي وصف، أهوَ سَبَب أَو شَرط؟ نظر، إِن كَانَت كلهَا مُنَاسبَة للْحكم فَالْكل سَبَب، أَو كل مِنْهَا مُنَاسِب فَكل وَاحِد سَبَب.
فَالْأول: كَالْقَتْلِ الْعمد الْمَحْض الْعدوان.
وَالثَّانِي: كأسباب الْحَدث.
وَإِن ناسب الْبَعْض فِي ذَاته، وَالْبَعْض فِي غَيره، فَالْأول سَبَب، وَالثَّانِي شَرط: كالنصاب والحول فالنصاب يحمل على الْغنى ونعمة الْملك فِي نَفسه، فَهُوَ السَّبَب والحول مكمل لنعمة الْملك بالتمكن من التنمية فِي مدَّته فَهُوَ شَرط، قَالَه الْقَرَافِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَلَكِن هَذَا لَا يكون إِلَّا فِي السَّبَب الْمَعْنَوِيّ الَّذِي يكون عِلّة، لَا فِي السَّبَب الزماني وَنَحْوه.
فَالصَّوَاب أَن يُقَال: إِن كَانَ الْوَصْف هُوَ المتوقف عَلَيْهِ الشَّيْء فِي تَعْرِيفه، أَو تَأْثِيره - على الْخلاف - فالسبب، وَإِلَّا فَالشَّرْط) انْتهى.
الثَّانِيَة: الشَّرْط وَعدم الْمَانِع كِلَاهُمَا يعْتَبر فِي [ترَتّب] الحكم، فقد يلتبسان، حَتَّى أَن بعض الْفُقَهَاء جعله إِيَّاه، كَمَا عد الفوراني وَالْغَزالِيّ من شَرَائِط الصَّلَاة ترك المناهي، من الْأَفْعَال، وَالْكَلَام، وَالْأكل، وَنَحْوه، وتبعهما الرَّافِعِيّ فِي " شرح الْوَجِيز "، وَفِي " الْمُحَرر "، وَالنَّوَوِيّ فِي " الرَّوْضَة "، وَلَكِن قَالَ فِي " شرح الْمُهَذّب ":(الصَّوَاب أَنَّهَا لَيست شُرُوطًا، وَإِن سميت بذلك فمجاز، وَإِنَّمَا هِيَ مبطلات) .
وَقَالَ فِي " التَّحْقِيق ": (غلط من عدهَا شُرُوطًا) انْتهى.
وَالْفرق بَينهمَا - على تَقْدِير التغاير -: أَن الشَّرْط لَا بُد أَن يكون وَصفا وجوديا، وَأما عدم الْمَانِع فعدمي.
وَيظْهر أثر ذَلِك فِي أَن عدم الْمَانِع يكْتَفى فِيهِ بِالْأَصْلِ، وَالشّرط لَا بُد من تحَققه، فَإِذا شكّ فِي شَيْء يرجع لهَذَا الأَصْل.
وَلذَلِك عدت الطَّهَارَة شرطا؛ لِأَن الشَّك فِيهَا مَعَ تَيَقّن ضدها المستصحب يمْنَع انْعِقَاد الصَّلَاة.
قَالُوا: وَيلْزم من ادّعى اتحادهما اجْتِمَاع النقيضين، فِيمَا إِذا شككنا فِي طريان الْمَانِع؛ لأَنا - حِينَئِذٍ - نشك فِي عَدمه، وَالْفَرْض أَن عَدمه شَرط، فَمن حَيْثُ إِنَّه شَرط لَا يُوجد الْمَشْرُوط، وَمن حَيْثُ إِن الشَّك فِي طريان الْمَانِع لَا أثر لَهُ، فيوجد الْمَشْرُوط وَهُوَ تنَاقض.
الثَّالِثَة: سَبَب السَّبَب ينزل منزلَة السَّبَب، لِأَن مَا توقف على المتوقف عَلَيْهِ مُتَوَقف عَلَيْهِ: كالإعتاق فِي الْكَفَّارَة سَبَب للسقوط عَن الذِّمَّة،
وَالْإِعْتَاق يتَوَقَّف على اللَّفْظ المحصل لَهُ.
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (الشَّرْط، وجزؤه، وجزء الْعلَّة، كل مِنْهَا يلْزم من عَدمه الْعَدَم وَلَا يلْزم من وجوده وجود وَلَا عدم فَهِيَ تَلْتَبِس.
وَالْفرق: أَن مُنَاسبَة الشَّرْط وجزئه فِي غَيره، ومناسبة جُزْء الْعلَّة فِي نَفسه.
مِثَاله: الْحول، مناسبته فِي السَّبَب الَّذِي هُوَ النّصاب، لتكملته الْغنى الْحَاصِل بِهِ التنمية، وجزء الْعلَّة الَّذِي هُوَ النّصاب مناسبته من نَفسه، من حَيْثُ إِنَّه مُشْتَمل على بعض الْغنى، فالعلة وجزؤها مؤثران، وَالشّرط مكمل لتأثير الْعلَّة.
وَمن ثمَّ عرف بَعضهم الشَّرْط: بِمَا توقف عَلَيْهِ تَأْثِير الْمُؤثر.
قَالَ: وَمِنْهَا: الحكم، كَمَا يتَوَقَّف على وجود سَببه، يتَوَقَّف على وجود شَرطه، فَمَا الْفرق؟
وَالْجَوَاب: بِمَا سبق، من كَون السَّبَب مؤثرا مناسبا فِي نَفسه، وَالشّرط مكمل مُنَاسِب فِي غَيره.
قَالَ: وَمِنْهَا: أَن أَجزَاء الْعلَّة يَتَرَتَّب عَلَيْهَا الحكم، والعلل المتعددة إِذا وجدت ترَتّب الحكم، فَمَا الْفرق؟
وَالْجَوَاب: أَن جُزْء الْعلَّة إِذا انْفَرد لَا يَتَرَتَّب [عَلَيْهِ] الحكم، بل لَا بُد من وجود بَقِيَّة أَجْزَائِهَا: كأوصاف الْقَتْل الْعمد الْعدوان، إِذا اجْتمعت وَجب الْقود، وَلَو انْفَرد بَعْضهَا كَالْقَتْلِ خطأ أَو عمدا فِي حد أَو قصاص، أَو قتل الْعَادِل الْبَاغِي، لم يجب الْقود، بِخِلَاف الْعِلَل المتعددة، فَإِن بَعْضهَا إِذا انْفَرد اسْتَقل بالحكم: كمن لمس ونام وبال، وَجب الْوضُوء بجميعها، وَبِكُل وَاحِد مِنْهَا.
نعم، إِذا اجْتمعت كَانَ حكما ثَابتا بعلل كَمَا يَأْتِي) انْتهى.
وَهُوَ معنى مَا تقدم من كَلَام الْقَرَافِيّ، وَلكنه نقحه.
وَيَأْتِي فِي الْعلَّة الْفرق بَين الْعلَّة وَالسَّبَب.
الرَّابِعَة: الْمَوَانِع الشَّرْعِيَّة، مِنْهَا: مَا يمْنَع ابْتِدَاء الحكم واستمراره: كالرضاع يمْنَع ابْتِدَاء النِّكَاح واستمراره إِذا طَرَأَ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: مَا يمْنَع ابتداءه فَقَط: كالعدة تمنع ابْتِدَاء النِّكَاح، وَلَا تبطل استمراره.
وَمِنْهَا: مَا اخْتلف فِيهِ: كالإحرام، يمْنَع ابْتِدَاء الصَّيْد، فَإِن طَرَأَ على الصَّيْد إِحْرَام، فَهَل تجب إِزَالَة الْيَد عَنهُ؟ وَالصَّحِيح: أَنه يجب.
وكالطول، يمْنَع ابْتِدَاء نِكَاح الْأمة، فَإِن طَرَأَ عَلَيْهِ فَهَل يُبطلهُ؟ وَالصَّحِيح: أَنه لَا يُبطلهُ.
وكوجود المَاء، يمْنَع ابْتِدَاء التَّيَمُّم فَلَو طَرَأَ وجود المَاء عَلَيْهِ فِي الصَّلَاة، هَل يبطل؟ وَالصَّحِيح: أَنه يُبطلهُ، وَمَا ذَاك إِلَّا لتردد هَذَا الْقسم بَين الْقسمَيْنِ قبله، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَنصب هَذِه الْأَشْيَاء مفيدة مقتضياتها، حكم شَرْعِي} .
هَذِه الْأَشْيَاء، إِشَارَة إِلَى مَا سبق من أَصْنَاف الْعلم الْمَنْصُوب لتعريف الحكم الشَّرْعِيّ الوضعي، وَهِي: الْعلَّة، وَالسَّبَب، وَالشّرط، وَالْمَانِع.
وَقَوله: (مفيدة) ، مَنْصُوب على الْحَال، أَي: نصبها حَال إفادتها، أَو معدة لإفادتها.
وَمعنى الْكَلَام: أَن نصب هَذِه الْأَشْيَاء لتفيد مَا اقتضته من الْأَحْكَام هُوَ حكم شَرْعِي، أَي: قَضَاء من الشَّارِع بذلك، ومقتضاها - أَيْضا - حكم شَرْعِي، فَجعل الزِّنَى سَببا لوُجُوب الْحَد حكم شَرْعِي، وَوُجُوب الْحَد حكم آخر.
وَذَلِكَ أَن لله تَعَالَى فِي الزَّانِي حكمين: وجوب الْحَد، وَهُوَ حكم لَفْظِي، وسببية الزِّنَى، أَي: كَون الزِّنَى سَببا لوُجُوب الْحَد حكم آخر.
وَكَذَلِكَ وجوب حد الْقَذْف، مَعَ جعل الْقَذْف سَببا لَهُ، وَوُجُوب الْقطع، مَعَ نصب السّرقَة سَببا لَهُ، وَوُجُوب الْقَتْل بِالرّدَّةِ وَالْقصاص، مَعَ نصب الرِّدَّة وَالْقَتْل سَببا لَهما، ونظائره كَثِيرَة.
وَتقدم أَن خطاب الْوَضع وخطاب التَّكْلِيف مجتمعان، وَهل يتَصَوَّر انفكاك أَحدهمَا عَن الآخر؟ عِنْد تَقْسِيم الْخطاب.
قَوْله: {وَالصِّحَّة وَالْفساد مِنْهُ} .
أَي: من خطاب الْوَضع، هَذَا الصَّحِيح، وَاخْتَارَهُ أَصْحَابنَا وَغَيرهم، لِأَنَّهُمَا من الْأَحْكَام، وليسا داخلين فِي الِاقْتِضَاء والتخيير، لِأَن الحكم بِصِحَّة الْعِبَادَة وبطلانها، وبصحة الْمُعَامَلَة وبطلانها، لَا يفهم مِنْهُ اقْتِضَاء وَلَا تَخْيِير، فَكَانَا من خطاب الْوَضع.
{ [وَقَالَ جمَاعَة] : معنى الصِّحَّة: الْإِبَاحَة، و} معنى {الْبطلَان: الْحُرْمَة
و [ذهب] ابْن الْحَاجِب وَجمع: [إِلَى أَن الصِّحَّة والبطلان] أَمر عَقْلِي} ، غير مُسْتَفَاد من الشَّرْع، فَلَا يكون دَاخِلا فِي الحكم الشَّرْعِيّ.
وَإِنَّمَا قَالُوا إنَّهُمَا أَمر عَقْلِي، لِأَن الصِّحَّة فِي الْعِبَادَة، إِمَّا لكَون الْفِعْل مسْقطًا للْقَضَاء، كَمَا هُوَ مَذْهَب الْفُقَهَاء، أَو لموافقة الْأَمر الشَّرِيعَة، كَمَا هُوَ مَذْهَب الْمُتَكَلِّمين.
فَصَلَاة من ظن الطَّهَارَة ثمَّ تبين خَطؤُهُ، غير [صَحِيحَة] على الأول، لعدم سُقُوط الْقَضَاء، وصحيحة على الثَّانِي، لكَونهَا مُوَافقَة لأمر الشَّارِع.
وَلَا شكّ أَن الْعِبَادَة إِذا اشْتَمَلت على أَرْكَانهَا وشرائطها حكم الْعقل بِصِحَّتِهَا بِكُل من التفسيرين، سَوَاء حكم الشَّارِع بهَا، أَو لَا.
قَالَ الْآمِدِيّ: (يبعد أَن يكون الحكم بهما شَرْعِيًّا، لِأَن كَون الْفِعْل مُوَافقا للشَّرْع، أَو غير مُوَافق، مدرك بِالْعقلِ) .
وَلَكِن رد: بِأَن الشَّرْع إِذا كَانَ لَهُ فِي ذَلِك مدْخل، كَيفَ يكون عقليا؟
وَزعم القطب الشِّيرَازِيّ: إِنَّمَا ذَلِك فِي الْعِبَادَات فَقَط، وَأما ترَتّب آثَار الْعُقُود عَلَيْهَا فشرعي قطعا.
وَهُوَ مَرْدُود بِعَدَمِ الْفرق؛ لِأَن التَّرْتِيب فيهمَا مَعًا مدرك بِالْعقلِ، وَإِنَّمَا حكم بالْقَوْل الرَّاجِح بِأَنَّهُ شَرْعِي لكَون الشَّرْع لَهُ فِيهِ مدْخل، وَلذَلِك يحكم القَاضِي فِي الْعُقُود بِالصِّحَّةِ وَالْفساد، وَهُوَ لَا يحكم إِلَّا بِأَمْر شَرْعِي لَا عَقْلِي.
قَوْله: {فالصحة فِي الْعِبَادَة: سُقُوط الْقَضَاء بِالْفِعْلِ، عِنْد الْفُقَهَاء،
وَعند الْمُتَكَلِّمين وَغَيرهم: مُوَافقَة الْأَمر} ، وَجب الْقَضَاء أم لَا.
ورد ذَلِك: بِأَن وجوب الْقَضَاء إِنَّمَا يتَحَقَّق بعد خُرُوج الْوَقْت، لَا سِيمَا إِذا قُلْنَا: بِأَمْر جَدِيد لَا بِالْأَمر الأول، وَإِذا لم يجب فَكيف يسْقط؟ ثمَّ إِن هَذَا قَاصِر على مُؤَقّت يدْخلهُ الْقَضَاء، والبحث فِي صِحَة الْعِبَادَة مُطلقًا.
قولهن: {فَصَلَاة من ظن الطَّهَارَة صَحِيحَة على الثَّانِي فَقَط} .
يَعْنِي: وعَلى الأول غير صَحِيحَة، كَأَن الْمُتَكَلِّمين نظرُوا لظن الْمُكَلف، وَالْفُقَهَاء لما فِي نفس الْأَمر.
لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: (اللَّائِق بقواعد الْفَرِيقَيْنِ الْعَكْس.
وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: " هَذَا الْبناء فِيهِ نظر، لِأَن من قَالَ: مُوَافقَة الْأَمر، إِن أَرَادَ الْأَمر الْأَصْلِيّ فَلم يسْقط، أَو الْأَمر بِالْعَمَلِ بِالظَّنِّ، فقد تبين فَسَاد الظَّن، فَيلْزم أَن لَا يكون صَحِيحا، من حَيْثُ عدم مُوَافقَة الْأَمر الْأَصْلِيّ، وَلَا الْأَمر بِالْعَمَلِ بِالظَّنِّ ".
وَمَا قَالَه ظَاهر) .
وَقَالَ بَعضهم: (النَّقْل عَن الْفُقَهَاء فِيهِ نظر؛ لأَنهم لَهُم فروعا تدل على خلاف ذَلِك) .
قَوْله: {وَالْقَضَاء وَاجِب، عَلَيْهِمَا} - أَي: على الْقَوْلَيْنِ: قَول الْفُقَهَاء وَقَول الْمُتَكَلِّمين - {عِنْد الْأَكْثَر} ، وَقَطعُوا بِهِ، وَهُوَ الصَّحِيح، { [وَيكون الْخلاف بَين الْفَرِيقَيْنِ لفظيا] } .
وَقد صرح الْغَزالِيّ والقرافي: أَن الْخلاف الْمَذْكُور فِي الْغَايَة للصِّحَّة لَفْظِي، لِاتِّفَاق الْفَرِيقَيْنِ على أَنه إِن لم يتَبَيَّن الْحَدث فقد أدّى مَا عَلَيْهِ، ويثاب، وَإِلَّا فَيجب الْقَضَاء.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (لَكِن دَعْوَى الِاتِّفَاق فِي الْحَالة الثَّانِيَة على الْقَضَاء مَرْدُود، فقد حكى ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره " فِي مَسْأَلَة الْإِجْزَاء: أَنه لَا قَضَاء) .
قَالَه تبعا للآمدي، ورده ابْن مُفْلِح على مَا يَأْتِي.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَكَأن المُرَاد: أَن الْمُتَكَلِّمين إِنَّمَا لم يوجبوا الْقَضَاء، على تَقْدِير اسْتِمْرَار الْحَال لَو لم يرد نَص بِلُزُوم الْقَضَاء، لكنه ورد بِأَمْر جَدِيد، كَمَا حَكَاهُ الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى " عَنْهُم) .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَعِنْدنَا قَول مثله، فِيمَا إِذا صلى بِنَجس لم يُعلمهُ، أَو مَكْشُوف الْعَوْرَة سَاهِيا، أَنَّهَا صَحِيحَة، وَلَا قَضَاء، نظرا لموافقة الْأَمر حَال التَّلَبُّس) .
قلت: وَهُوَ قَول لنا قوي، فِيمَا إِذا صلى بِنَجس سَاهِيا أَو جَاهِلا.
قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيص ": (إِنَّمَا صَار الْفُقَهَاء إِلَى هَذَا فِي أصل، وَهُوَ أَن الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة صَحِيحَة، مَعَ كَونهَا على خلاف مُقْتَضى الشَّرْع، يدل على أَن الصَّحِيح: مَا لم يجب قَضَاؤُهُ، وَلَو خَالف مُقْتَضى الشَّرْع) .
وَقَالَ الْغَزالِيّ: (يتَخَرَّج على الْخلاف فِيمَا قطع صلَاته لأجل غريق، فَهِيَ صَحِيحَة عِنْد الْمُتَكَلِّمين، بَاطِلَة عِنْد الْفُقَهَاء) .
قَوْله: {وَفِي الْمُعَامَلَة: ترَتّب أَحْكَامهَا الْمَقْصُودَة بهَا عَلَيْهَا} .
وَذَلِكَ لِأَن العقد لم يوضع إِلَّا لإِفَادَة مَقْصُود كَمَال النَّفْع فِي البيع، وَملك الْبضْع فِي النِّكَاح، فَإِذا أَفَادَ مَقْصُوده فَهُوَ صَحِيح، وَحُصُول مَقْصُوده: هُوَ ترَتّب حكمه عَلَيْهِ، لِأَن العقد مُؤثر لحكمه وَمُوجب لَهُ.
قَالَ الْآمِدِيّ: (وَلَا بَأْس بتفسير الصِّحَّة فِي الْعِبَادَات بِهَذَا) .
قَالَ الطوفي: (لِأَن مَقْصُود الْعِبَادَة، رسم التَّعَبُّد، وَبَرَاءَة ذمَّة العَبْد مِنْهَا، فَإِذا أفادت ذَلِك، كَانَ هُوَ معنى قَوْلنَا: إِنَّهَا كَافِيَة فِي سُقُوط الْقَضَاء، فَتكون صَحِيحَة) انْتهى.
قَوْله: { [ويجمعهما: ترَتّب الْأَثر الْمَطْلُوب من الْفِعْل عَلَيْهِ] } .
أَكثر الْأُصُولِيِّينَ يفرد كل وَاحِد من الصِّحَّة فِي الْعِبَادَات، وَالصِّحَّة فِي الْمُعَامَلَات بِحَدّ، لِأَن جمع الْحَقَائِق الْمُخْتَلفَة فِي حد وَاحِد لَا يُمكن.
صرح بِهِ ابْن الْحَاجِب فِي تَقْسِيم الِاسْتِثْنَاء إِلَى مُنْقَطع ومتصل، لَكِن ذَلِك مَخْصُوص بِمَا إِذا أُرِيد تَمْيِيز الْحَقِيقَة عَن الْأُخْرَى بالذاتيات، وَأما غَيره فَيجوز، فَلذَلِك جَمعنَا بَينهمَا فِي تَعْرِيف وَاحِد، لصدقه عَلَيْهِمَا، تبعا للكوراني فِي ذَلِك لما يَأْتِي فِي كَلَامه، وجمعهما فِي " جمع الْجَوَامِع "، والبرماوي وَغَيرهمَا بِحَدّ وَاحِد فَقَالُوا: (رسم الصِّحَّة: مُوَافقَة ذِي الْوَجْهَيْنِ الشَّرْع سَوَاء كَانَ ذَلِك الْمُوَافق عبَادَة أَو مُعَاملَة. فَمَا لَيْسَ لَهُ وَجْهَان لَا يُوصف بِصِحَّة وَلَا فَسَاد: كمعرفة الله تَعَالَى، ورد الْوَدِيعَة، فَإِنَّهُ إِمَّا أَن