الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَسْعُود، وَعبد الله بن عَبَّاس:" الْقُرْآن كَلَام الله مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود ".
وَرُوِيَ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، قَالَ: سَمِعت عَمْرو بن دِينَار يَقُول: " أدْركْت مَشَايِخنَا وَالنَّاس مُنْذُ سبعين سنة يَقُولُونَ: الْقُرْآن كَلَام الله مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود " رَوَاهُ ابْن جرير، والحافظ هبة الله بن الْحسن بن مَنْصُور الطبريان.
وروى التِّرْمِذِيّ عَن خباب بن الْأَرَت: أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ -
قَالَ: " إِنَّكُم لن
تتقربوا إِلَى الله بِأَفْضَل مِمَّا خرج مِنْهُ "، يَعْنِي: الْقُرْآن) انْتهى نقل الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ.
وَذهب الإِمَام أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه: إِلَى أَن الْقِرَاءَة هُوَ المقروء والتلاوة هِيَ المتلو.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: (وَأما مَا نقل عَن الإِمَام أَحْمد أَنه سوى بَينهمَا فَإِنَّمَا أَرَادَ حسم الْمَادَّة لِئَلَّا يتدرج أحد إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن، كَمَا نقل عَنهُ أَنه أنكر على من قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق، أَو غير مَخْلُوق، حسما للمادة) انْتهى.
وَإِلَّا فَلَا يخفى الْفرق بَينهمَا، وَهُوَ ظَاهر.
فَإِن قيل: أَي الْمذَاهب أقرب إِلَى الْحق من هَذِه الْأَقْوَال التِّسْعَة؟
قلت: إِن صحت الْأَحَادِيث بِذكر الصَّوْت فَلَا كَلَام فِي أَنه أولى وَأَحْرَى
وَأَصَح من جَمِيع الْمذَاهب، مَعَ الِاعْتِقَاد فِيهِ بِمَا يَلِيق بِجلَال الله وعظمته وكبريائه، من غير تَشْبِيه بِوَجْه من الْوُجُوه الْبَتَّةَ، وَقد صحت الْأَحَادِيث بِحَمْد الله تَعَالَى، وصححها الْأَئِمَّة الْكِبَار الْمُعْتَمد عَلَيْهِم: كَالْإِمَامِ أَحْمد، وَالْإِمَام عبد الله بن الْمُبَارك، وَالْإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، وَالْإِمَام عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ، وَغَيرهم، حَتَّى الْحَافِظ الْعَلامَة ابْن حجر فِي زمننا قَالَ:(قد صحت الْأَحَادِيث فِي ذَلِك) - كَمَا تقدم عَنهُ - وَكَذَلِكَ [صححها غَيره] من الْمُحدثين، وَفِي ذَلِك كِفَايَة وهداية، وَلَوْلَا أَن الصَّادِق المصدوق الْمَعْصُوم قَالَ ذَلِك لما قُلْنَاهُ وَلَا حمنا حوله، كَمَا قَالَ السهروردي ذَلِك فِي " عقيدته " - كَمَا تقدم عَنهُ - فَإِن صِفَات الله سبحانه وتعالى لَا تعرف إِلَّا بِالنَّقْلِ الْمَحْض من الْكتاب الْعَزِيز، أَو من صَاحب الشَّرِيعَة - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ - وَتَصْحِيح هَؤُلَاءِ وإثباتهم للأحاديث بِذكر الصَّوْت، أولى من نفي من نفى أَنه لم يَأْتِ فِي حَدِيث وَاحِد ذكر الصَّوْت، من وُجُوه عديدة مِنْهَا:
أَن الْمُثبت مقدم على النَّافِي.
وَمِنْهَا: عظم الْمُصَحح وجلالة قدره وَكَثْرَة اطِّلَاعه، لَا سِيمَا فِي إِثْبَات صفة لله تَعَالَى مَعَ الزّهْد الْعَظِيم والورع المتين، أفيليق بِالْإِمَامِ أَحْمد، وَالْإِمَام عبد الله بن الْمُبَارك، أَو البُخَارِيّ، أَو غَيرهم من السّلف الصَّالح، أَن يثبتوا
لله تَعَالَى صفة من صِفَاته من غير دَلِيل؟ ويدينون الله بهَا، ويعتقدونها، ويهجرون من يُخَالِفهَا، من غير دَلِيل صَحَّ عِنْدهم، وَهل [يعْتَقد هَذَا مُسلم] يُؤمن بِاللَّه وباليوم الآخر؟ فضلا عَن إِمَام من أَئِمَّة الْإِسْلَام المقتدى بأقواله وأفعاله.
ثمَّ بعد هَذَا الْمَذْهَب من الْمذَاهب الْبَاقِيَة مَا ذكره الْحَافِظ ابْن حجر فِي " شَرحه " بقوله: (وَمن شدَّة اللّبْس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كثر نهي السّلف عَن الْخَوْض فِيهَا، واكتفوا باعتقاد: أَن الْقُرْآن كَلَام الله عز وجل غير مَخْلُوق، وَلم يزِيدُوا على ذَلِك شَيْئا، وَهُوَ أسلم الْأَقْوَال وَالله الْمُسْتَعَان) انْتهى.
وَالظَّاهِر - وَالله أعلم - إِنَّمَا اكْتفى السّلف بذلك حسما لمادة الْكَلَام فِي ذَلِك، وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من وُقُوع النَّاس فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة وَالَّتِي قبلهَا بِكَثِير، لإثارة شبه كَثِيرَة توجب الْخبط فِي العقائد، وسد الذريعة، كَمَا سد الإِمَام أَحْمد الْبَاب فِي أَن من قَالَ:(لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق) جهمي، وَمن قَالَ: (لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غير مَخْلُوق " مُبْتَدع.
وَإِنَّمَا أطلت الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، ونقلت كَلَام الْعلمَاء المعتبرين
فِيهَا، ليعلم ذَلِك، وَيعلم أَقْوَال الْعلمَاء، وَالْقَائِل بِكُل قَول، وَيعرف قَائِله وَقدره ومكانته فِي الْعلم وَعند الْعلمَاء، إِذْ غَالب النَّاس فِي هَذِه الْأَزْمِنَة يَقُول:(من قَالَ: إِن الله يتَكَلَّم بِصَوْت، يكون كَافِرًا) ، فَهَذَا الإِمَام أَحْمد رحمه الله وَرَضي عَنهُ - قد صرح فِي غير رِوَايَة بِأَن الله يتَكَلَّم بِصَوْت بقدرته ومشيئته إِذا شَاءَ وَكَيف شَاءَ، وهجر من قَالَ: إِنَّه لَا يتَكَلَّم بِصَوْت وبدعه.
وَهَذَا الإِمَام الْكَبِير عبد الله بن الْمُبَارك، إِمَام الدُّنْيَا على الْإِطْلَاق، الَّذِي اجْتمع فِيهِ من خِصَال الْخَيْر مَا لَا يجْتَمع غَالِبا فِي غَيره، قد قَالَ:(إِن الله يتَكَلَّم بقدرته ومشيئته بِصَوْت كَيفَ شَاءَ وَمَتى شَاءَ وَإِذا شَاءَ بِلَا كَيفَ) .
وَهَذَا الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، من أعظم أَئِمَّة الْمُسلمين بِلَا مدافعة فِي ذَلِك، قد قَالَ فِي كِتَابه:" خلق أَفعَال الْعباد ": (إِن الله يتَكَلَّم بِصَوْت، وَإِن صَوته لَا يشابه صَوت المخلوقين، وَإنَّهُ يتَكَلَّم كَيفَ شَاءَ وَمَتى شَاءَ) ، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِحَدِيث أم سَلمَة، ذكره
الْحَافِظ ابْن حجر، وَكَذَلِكَ غَيره من السّلف.
وَهَذَا الطَّحَاوِيّ، الْحَافِظ الْجَلِيل، قد قَالَ فِي " عقيدته ":(إِن الْقُرْآن كَلَام الله، مِنْهُ بَدَأَ - بِلَا كَيْفيَّة - قولا، وأنزله على رَسُوله وَحيا) - كَمَا تقدم ذَلِك عَنهُ -.
وَقَالَ ابْن أبي زيد فِي " عقيدته ": (إِن الله كلم مُوسَى بِذَاتِهِ، وأسمعه كَلَامه لَا كلَاما قَامَ فِي غَيره) .
وَهَؤُلَاء أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد فِي زَمَنه، وَإِلَى يَوْمنَا هَذَا، لم يُغَادر مِنْهُم أحد، قَالُوا كَمَا قَالَ إمَامهمْ، وصنفوا فِي ذَلِك التصانيف الْكَثِيرَة.
فَإِذا نظر الْإِنْسَان [الْمنصف] فِي كَلَام الْعلمَاء الْأَئِمَّة الْأَعْلَام المقتدى بهم، واطلع على مَا قَالُوهُ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، علم الْحق، وَعذر الْقَائِل، وأحجم [عَن] المقالات الَّتِي لَا تلِيق بِمُسلم يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر، وَعلم أَن هَذِه الْمَسْأَلَة من جملَة مسَائِل الصِّفَات.