الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(قَوْله: {فصل} )
اخْتلف الْعلمَاء - رَحِمهم الله تَعَالَى - فِي الْمُحكم والمتشابه، فِي قَوْله تَعَالَى:{مِنْهُ آيَات محكمات هن أم الْكتاب وَأخر متشابهات} [آل عمرَان: 7] ، على أَقْوَال كَثِيرَة.
وَلَفظ الْمُحكم مفعل، من أحكمت الشَّيْء، أحكمه، إحكاما، فَهُوَ مُحكم: إِذا أتقنته فَكَانَ فِي غَايَة مَا يَنْبَغِي من الْحِكْمَة.
وَمِنْه: بِنَاء مُحكم، أَي: ثَابت متقن يبعد انهدامه.
والمتشابه: متفاعل من الشّبَه، والشبهة، والشبيهة: هُوَ مَا بَينه وَبَين غَيره أَمر مُشْتَرك، يشْتَبه ويلتبس بِهِ.
وَأما مَعْنَاهُ: فأجود مَا قيل فِيهِ: أَن الْمُحكم: المتضح الْمَعْنى، كالنصوص والظواهر، لِأَنَّهُ من الْبَيَان فِي غَايَة الإحكام والإتقان.
والمتشابه: مُقَابِله، وَهُوَ غير المتضح الْمَعْنى، فتشتبه بعض محتملاته بِبَعْض، للاشتراك وَعدم اتضاح مَعْنَاهُ.
فالاشتراك - مثلا - كَالْعَيْنِ، والقرء، وَنَحْوه من المشتركات.
والإجمال كإطلاق اللَّفْظ بِدُونِ بَيَان المُرَاد مِنْهُ: كالمتواطيء، كَقَوْلِه تَعَالَى:{إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} [الْبَقَرَة: 67]، وَكَقَوْلِه تَعَالَى:{وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} [الْأَنْعَام: 141] ، وَلم يبين مِقْدَار الْحق، وَسَيَأْتِي فِي الْمُجْمل.
أَو لظُهُور تَشْبِيه فِي صِفَات الله تَعَالَى، كآيات الصِّفَات وأخبارها،
فَاشْتَبَهَ المُرَاد مِنْهُ على النَّاس، فَلذَلِك قَالَ قوم بِظَاهِرِهِ فشبهوا وجسموا، وفر قوم من التَّشْبِيه فتأولوا وحرفوا فعطلوا، وتوسط قوم فَسَلمُوا فأمروه كَمَا جَاءَ مَعَ اعْتِقَاد التَّنْزِيه فَسَلمُوا، وهم أهل السّنة وأئمة السّلف الصَّالح.
وَقيل: الْمُحكم: مَا عرف المُرَاد بِهِ، إِمَّا بالظهور، وَإِمَّا بالتأويل.
والمتشابه: مَا اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ: كقيام السَّاعَة، وَخُرُوج الدَّجَّال وَالدَّابَّة، والحروف الْمُقطعَة فِي أَوَائِل السُّور.
وَقيل: الْمُحكم: مَا وضح مَعْنَاهُ، والمتشابه: نقيضه.
وَقيل: الْمُحكم: مَا لَا يحْتَمل من التَّأْوِيل إِلَّا وَجها وَاحِدًا، والمتشابه: مَا احْتمل أوجها.
وَقيل: الْمُحكم: مَا كَانَ مَعْقُول الْمَعْنى، والمتشابه: بِخِلَافِهِ: كأعداد
الصَّلَوَات، واختصاص الصّيام برمضان دون شعْبَان، قَالَه الْمَاوَرْدِيّ.
وَقيل: الْمُحكم: مَا اسْتَقل بِنَفسِهِ، والمتشابه: مَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ إِلَّا برده إِلَى غَيره.
وَقيل: الْمُحكم: مَا تَأْوِيله تَنْزِيله، والمتشابه: مَا لَا يدرى إِلَّا بالتأويل.
وَقيل: الْمُحكم: مَا لم تَتَكَرَّر أَلْفَاظه، وَمُقَابِله الْمُتَشَابه.
وَقيل: الْمُحكم: الْفَرَائِض، والوعد، والوعيد، والمتشابه، الْقَصَص، والأمثال.
وَعَن عِكْرِمَة، وَقَتَادَة، وَغَيرهمَا: أَن الْمُحكم: الَّذِي يعْمل بِهِ، والمتشابه: الَّذِي يُؤمن بِهِ وَلَا يعْمل بِهِ.
وَقيل غير ذَلِك.
قَوْله: {وَلَيْسَ فِيهِ مَا لَا معنى لَهُ} .
وَهَذَا مِمَّا يقطع بِهِ كل عَاقل، مِمَّن شم رَائِحَة الْعلم، وَلَا يُخَالف فِي ذَلِك إِلَّا جَاهِل أَو معاند، لِأَن مَا لَا معنى لَهُ هذيان، وَلَا يَلِيق النُّطْق بِهِ من عَاقل، فَكيف بالباري سبحانه وتعالى.
ثمَّ رَأَيْت جمَاعَة من الْعلمَاء صَرَّحُوا: بِأَن هَذَا لم يقلهُ أحد من الْأمة،
وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة الْآتِيَة بعد هَذِه، وَلَكِن الرَّازِيّ، وَقَبله عبد الْجَبَّار، وَأَبُو الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد "، أثبتوا الْخلاف فِي ذَلِك، وتبعهم كثير من الْمُتَأَخِّرين، ومدرك الْمَانِع: التحسين والتقبيح العقليين.
وَقَالُوا: (وَجوزهُ الحشوية، بل قَالُوا بِوُقُوعِهِ فِي الْحُرُوف الْمُقطعَة [فِي أَوَائِل] السُّور، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {كَأَنَّهُ رُؤُوس الشَّيَاطِين} [الصافات: 65] ، وَقَوله تَعَالَى: {تِلْكَ عشرَة كَامِلَة} [الْبَقَرَة: 196] ، وَقَوله: {نفخة وَاحِدَة} [الحاقة: 13] ، {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النَّحْل: 51] وَنَحْوه) .
وَأجَاب الْجُمْهُور: بِأَن الْحُرُوف الْمُقطعَة، إِمَّا أَسمَاء السُّور، أَو أَسمَاء الله، أَو سر الله فِي كِتَابه مِمَّا اسْتَأْثر بِعِلْمِهِ، أَو غَيرهَا مِمَّا هُوَ مَذْكُور فِي التفاسير.
وَبِأَن رُؤُوس الشَّيَاطِين مثل فِي الاستقباح، على عَادَة الْعَرَب فِي ضرب الْأَمْثَال بِمَا يتخيلونه قبيحا.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (ورؤوس الشَّيَاطِين اسْتَقر قبحها فِي الْأَنْفس، فَشبه بهَا، كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(أيقتلني والمشرفي مضاجعي
…
ومسنونة زرق كأنياب أغوال)
فَشبه بأنياب الأغوال لقبحها المستقر، وَإِن لم يكن لَهَا حَقِيقَة) .
كَذَلِك ذكره الْمَازرِيّ.
وَقَوله: {عشرَة كَامِلَة} [الْبَقَرَة: 196]، فِيهِ شَيْئَانِ: الْجمع والتأكيد بالكمال.
وَجَوَاب الْجمع: رفع الْمجَاز المتوهم فِي الْوَاو العاطفة، إِذْ يجوز اسْتِعْمَالهَا بِمَعْنى (أَو) مجَازًا، كَقَوْلِه تَعَالَى:{أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث وَربَاع} [فاطر: 1] .
والتأكيد أَفَادَ عدم النَّقْص فِي الذَّات، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{حَوْلَيْنِ كَامِلين} [الْبَقَرَة: 233] ، أوعدم النَّقْص فِي الْأجر، دفعا لتوهم النَّقْص بِسَبَب التَّأْخِير.