الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم َ -: "
كل [كَلَام] ابْن آدم عَلَيْهِ لَا لَهُ
…
" الحَدِيث، وَقَالَ
صلى الله عليه وسلم َ -: " من كثر كَلَامه كثر سقطه ".
وَأما الْإِجْمَاع: فَإِن النَّاس فِي أشعارهم، ومنثور كَلَامهم، وعرفهم، وأحكامهم، على أَن الْكَلَام: النُّطْق، وَأَجْمعُوا: أَنه إِذا حلف: لَا يتَكَلَّم، لَا يَحْنَث إِلَّا بالنطق.
قَالَ: وَاعْترض الْقَائِل بِكَلَام النَّفس على ذَلِك بِوُجُوه:
أَحدهَا: قَول الأخطل:
(إِن الْكَلَام [لفي] الْفُؤَاد
…
...
…
...
…
...
…
)
إِلَى آخِره.
الثَّانِي: سلمنَا أَن كَلَام الْآدَمِيّ صَوت وحرف، وَلَكِن كَلَام الله تَعَالَى بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ صفته، فَلَا يشبه صِفَات الْآدَمِيّين، وَلَا كَلَامه كَلَامهم.
الثَّالِث: أَن مذهبكم فِي الصِّفَات أَن لَا تفسر، فَكيف فسرتم كَلَام الله بِمَا ذكرْتُمْ؟
الرَّابِع: أَن الْحُرُوف لَا تخرج إِلَّا من مخارج وأدوات، وَالصَّوْت لَا يكون إِلَّا من جسم، وَالله تَعَالَى يتعالى عَن ذَلِك.
الْخَامِس: أَن الْحُرُوف يدخلهَا التَّعَاقُب، فالباء تسبق السِّين، وَالسِّين تسبق الْمِيم، وكل مَسْبُوق مَخْلُوق.
السَّادِس: أَن هَذَا يدْخلهُ التجزؤ والتعداد، وَالْقَدِيم لَا يتَجَزَّأ وَلَا يَتَعَدَّد.
قَالَ شيخ الْإِسْلَام الْمُوفق: الْجَواب عَن الأول من وُجُوه:
الأول: أَن هَذَا شَاعِر نَصْرَانِيّ عَدو لله وَرَسُوله وَدينه، أفيجب اطراح كَلَام الله وَرَسُوله وَسَائِر الْخلق تَصْحِيحا لكَلَامه، وَحمل كَلَامهم على الْمجَاز صِيَانة لكلمته هَذِه عَن الْمجَاز.
وَأَيْضًا فتحتاجون إِلَى إِثْبَات هَذَا الشّعْر بِبَيَان إِسْنَاده، وَنقل الثِّقَات لَهُ، وَلَا يقتنع بشهرته، وَقد يشْتَهر الْفَاسِد، وَقد سَمِعت شَيخنَا أَبَا مُحَمَّد بن الخشاب - إِمَام أهل الْعَرَبيَّة فِي زَمَانه - يَقُول:(قد فتشت دواوين الأخطل العتيقة فَلم أجد هَذَا الْبَيْت فِيهَا) .
الثَّانِي: لَا نسلم أَن لَفظه هَكَذَا إِنَّمَا قَالَ:
(إِن الْبَيَان من الْفُؤَاد
…
...
…
...
…
...
…
)
فحرفوه وَقَالُوا: الْكَلَام.
الثَّالِث: أَن هَذَا مجَاز أَرَادَ بِهِ: أَن الْكَلَام من عقلاء النَّاس - فِي الْغَالِب - إِنَّمَا يكون بعد التروي فِيهِ، واستحضار مَعَانِيه فِي الْقلب، كَمَا قيل:(لِسَان الْحَكِيم من وَرَاء قلبه، فَإِن كَانَ لَهُ قَالَ، وَإِن لم يكن لَهُ سكت، وَكَلَام الْجَاهِل على طرف لِسَانه) .
وَالدَّلِيل على أَن هَذَا مجَاز وُجُوه كَثِيرَة:
أَحدهَا: مَا ذكرنَا، وَمَا تَرَكْنَاهُ أَكثر مِمَّا ذكرنَا مِمَّا يدل على أَن الْكَلَام هُوَ النُّطْق، وَحمله على حَقِيقَته بِحمْل كلمة الأخطل على مجازها، أولى من الْعَكْس.
الثَّانِي: أَن الْحَقِيقَة يسْتَدلّ عَلَيْهَا بسبقها إِلَى الذِّهْن وتبادر الأفهام إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا يفهم من إِطْلَاق الْكَلَام مَا ذَكرْنَاهُ.
الثَّالِث: تَرْتِيب الْأَحْكَام على مَا ذكرنَا دون مَا ذَكرُوهُ.
الرَّابِع: قَول أهل الْعَرَبيَّة، الَّذين هم أهل اللِّسَان، وهم أعرف بِهَذَا الشَّأْن.
الْخَامِس: الِاشْتِقَاق الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
السَّادِس: لَا يَصح إِضَافَة مَا ذَكرُوهُ إِلَى الله تَعَالَى، فَإِنَّهُ جعل الْكَلَام فِي
الْفُؤَاد، وَالله تَعَالَى لَا يُوصف بذلك، وَجعل اللِّسَان دَلِيلا عَلَيْهِ، وَلِأَن الَّذِي عبر عَنهُ الأخطل بالْكلَام هُوَ: التروي والفكر واستحضار الْمعَانِي، وَحَدِيث النَّفس ووسوستها، وَلَا يجوز إِضَافَة شَيْء من ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى، بِلَا خلاف بَين الْمُسلمين.
قَالَ: وَمن أعجب الْأُمُور: أَن خصومنا ردوا على الله وعَلى رَسُوله، وخالفوا جَمِيع الْخلق من الْمُسلمين وَغَيرهم، فِرَارًا من التَّشْبِيه على زعمهم، ثمَّ صَارُوا إِلَى تَشْبِيه أقبح وأفحش من كل تَشْبِيه، وَهَذَا نوع من التغفيل، وَمن أدل الْأَشْيَاء على فَسَاد قَوْلهم: تَركهم قَول الله تَعَالَى وَقَول رَسُوله، وَمَا لَا يُحْصى من الْأَدِلَّة، وتمسكوا بِكَلِمَة قَالَهَا هَذَا الشَّاعِر النَّصْرَانِي، جعلوها أساس مَذْهَبهم، وَقَاعِدَة عقدهم، وَلَو أَنَّهَا انْفَرَدت عَن مُبْطل وخلت عَن معَارض لما جَازَ أَن يبْنى عَلَيْهَا هَذَا الأَصْل الْعَظِيم، فَكيف وَقد عارضها مَا لَا يُمكن رده، فمثلهم كَمثل رجل بنى قصرا على أَعْوَاد الكبريت فِي مجْرى [النّيل] .
وَأما قَوْلهم: عَن كَلَام الله يجب أَن لَا يكون حروفا يشبه كَلَام الْآدَمِيّين، قُلْنَا: جَوَابه من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن الِاتِّفَاق فِي أصل الْحَقِيقَة لَيْسَ بتشبيه كَمَا أَن اتِّفَاق الْبَصَر فِي أَنه أدْرك المبصرات، والسمع فِي أَنه أدْرك المسموعات، وَالْعلم فِي أَنه أدْرك المعلومات لَيْسَ بتشبيه، كَذَلِك هَذَا.
الثَّانِي: أَنه لَو كَانَ ذَلِك تَشْبِيها، كَانَ تشبيههم أقبح وأفحش على مَا ذكرنَا.
الثَّالِث: أَنهم إِن نفوا هَذِه الصّفة، لكَون هَذَا تَشْبِيها، يَنْبَغِي أَن ينفوا سَائِر الصِّفَات من الْوُجُود والحياة والسمع وَالْبَصَر وَغَيرهَا.
الرَّابِع: أَنا - نَحن - لم نفسر هَذَا، إِنَّمَا فسره الْكتاب وَالسّنة.
أما قَوْلهم: أَنْتُم فسرتم هَذِه الصّفة.
قُلْنَا: إِنَّمَا لَا يجوز تَفْسِير الْمُتَشَابه الَّذِي سكت السّلف عَن تَفْسِيره، وَلَيْسَ كَذَلِك الْكَلَام، فَإِنَّهُ من الْمَعْلُوم بَين الْخلق لَا تَشْبِيه فِيهِ، وَقد فسره الْكتاب وَالسّنة.
الثَّانِي: أننا - نَحن - فسرناه بِحمْلِهِ على حَقِيقَته، تَفْسِيرا جَاءَ بِهِ الْكتاب وَالسّنة، وهم فسروه بِمَا لم يرد بِهِ كتاب وَلَا سنة، وَلَا يُوَافق الْحَقِيقَة، وَلَا يجوز نسبته إِلَى الله تَعَالَى.
وَأما قَوْلهم: إِن الْحُرُوف تحْتَاج إِلَى مخارج وأدوات.
قُلْنَا: احتياجها إِلَى ذَلِك فِي حَقنا، لَا يُوجب ذَلِك فِي كَلَام الله تَعَالَى، تَعَالَى الله عَن ذَلِك.
فَإِن قَالُوا: بل يحْتَاج الله كحاجتنا، قِيَاسا لَهُ علينا، أخطأوا من وُجُوه:
أَحدهَا: أَنه يلْزمهُم فِي سَائِر الصِّفَات الَّتِي سلموها: كالسمع، وَالْبَصَر، وَالْعلم، والحياة، لَا يكون ذَلِك فِي حَقنا إِلَّا فِي جسم، وَلَا يكون الْبَصَر إِلَّا فِي حدقة، وَلَا السّمع إِلَّا من انخراق، وَالله تَعَالَى بِخِلَاف ذَلِك.