الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(قَوْله: {فصل} )
{الْمُبَاح لُغَة: الْمُعْلن والمأذون} .
وَالْإِبَاحَة مَأْخُوذَة من مَادَّة (الاتساع)، وَمِنْه: باحة الدَّار، أَي: ساحتها.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (الْمُبَاح لُغَة: المعن والمأذون، أخذا من الْإِبَاحَة، وَهِي الْإِظْهَار والإعلان، وَمِنْه: باح بسره) انْتهى.
وَمِنْه: أبحت لَهُ الشَّيْء، أَي:[أطلقهُ] لَهُ.
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (هُوَ مُشْتَقّ من الْإِبَاحَة، وَهِي: الْإِظْهَار، وَقيل: من باحة الدَّار، وَهِي: ساحتها، وَفِيه معنى السعَة وَانْتِفَاء العائق) انْتهى.
وَفِي " الْقَامُوس ": (أبحتك الشَّيْء: أحللته لَك، وباح: ظهر بسره، كأباحه) انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (باح الشَّيْء بوحا - من بَاب قَالَ -: ظهر، وَيَتَعَدَّى بالحرف فَيُقَال: باح بِهِ صَاحبه، وبالهمزة - أَيْضا - فَيُقَال: أَبَاحَهُ، وأباح الرجل مَاله: أذن فِي الْأَخْذ وَالتّرْك، وَجعله مُطلق الطَّرفَيْنِ، واستباحه النَّاس: أقدموا عَلَيْهِ) انْتهى.
قَوْله: {وَشرعا: مَا خلا من مدح [وذم] لذاته} .
فقولنا: (مَا خلا من مدح وذم) ، أخرج بِهِ الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب وَالْحرَام وَالْمَكْرُوه، وخروجها بذلك وَاضح، لِأَن كلا من الْأَرْبَعَة لَا يَخْلُو من مدح أَو ذمّ، إِمَّا فِي الْفِعْل، وَإِمَّا فِي التّرْك.
وَلَا يبطل طرد [خِصَال] الْكَفَّارَة، وَلَا الصَّلَاة أول الْوَقْت، لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْء من الْخِصَال على التَّعْيِين، وَلَا من الْأَوْقَات وَاجِبا.
لَكِن لَا بُد فِيهِ من الْإِذْن، لِأَنَّهُ مُتَعَلق الْإِبَاحَة، فَيخرج حكم الْأَشْيَاء قبل وجود الشَّرْع، وَفعل غير الْمُكَلف، وَلذَلِك قُلْنَا:{ [وَلَيْسَ مِنْهُ فعل غير الْمُكَلف، قَالَه القَاضِي وَغَيره] } ، فَإِنَّهُ
قَالَ: (الْمُبَاح هُوَ كل فعل مَأْذُون فِيهِ لفَاعِله، لَا ثَوَاب لَهُ على فعله، وَلَا عِقَاب فِي تَركه) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (فِيهِ احْتِرَاز من فعل الصّبيان والمجانين والبهائم) .
وَسَيَأْتِي كَلَام جده.
نعم؛ المُرَاد بِكَوْنِهِ لَا مدح فِيهِ وَلَا ذمّ: الَّذِي شَأْنه ذَلِك، أَو يُقَال: لذاته، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَتْن، ليخرج مَا ترك بِهِ حَرَامًا؛ فَإِنَّهُ يُثَاب عَلَيْهِ من تِلْكَ الْجِهَة، وَيكون وَاجِبا على رَأْي الكعبي وَأَتْبَاعه كَمَا يَأْتِي، فَإِن ذَلِك لَا يخْتَص بالمباح، وَمَا لَو ترك بِهِ وَاجِبا، فَإِنَّهُ - أَيْضا - يذم من تِلْكَ الْجِهَة.
وَالْمرَاد بالمدح والذم: أَن يرد مَا يدل على ذَلِك بطرِيق من الطّرق، كمدح الْفَاعِل أَو ذمه، أَو وعده أَو وعيده، أَو غير ذَلِك.
قَوْله: {وَيُسمى: طلقا وحلالا} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَمن أَسْمَائِهِ: الْمُطلق والحلال) .
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي نظمه وَشَرحه: (يُسمى: مُطلقًا وحلالا) انْتهى.
وَالَّذِي رَأَيْته فِي " الْمُنْتَخب " للرازي، وَغَيره:(أَنه يُسمى حَلَالا وطلقا) ، بِلَا مِيم فِي طلقا.
وَفِي بعض نسخ " الْمُنْتَخب ": (حَلَالا طلقا) بِلَا وَاو.
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الطلق: الْحَلَال) .
وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ": (وَشَيْء طلق - وزان حمل - أَي: حَلَال، وَافْعل هَذَا طلقا لَك، أَي: حَلَالا، وَيُقَال: الطلق: الْمُطلق الَّذِي يتَمَكَّن صَاحبه [فِيهِ] من جَمِيع التَّصَرُّفَات، فَيكون " فعل " بِمَعْنى: مفعول، مثل: الذّبْح، بِمَعْنى: الْمَذْبُوح، وأعطيته من طلق مَالِي، أَي: من حلّه، أَو من مطلقه) انْتهى.
فيتبين بِهَذَا أَن قَول من قَالَ: مُطلقًا، تَصْحِيف.
أما مَا قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل، فَيمكن أَن يكون من الْكَاتِب، وَهُوَ الظَّاهِر، وَيحْتَمل أَن يكون تصحف عَلَيْهِ.
وَأما مَا قَالَه الْبرمَاوِيّ فَلَا يحْتَمل إِلَّا الِاشْتِبَاه عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي " منظومته ":
(وَذُو الْإِبَاحَة مُبَاح جَائِز
…
موسع وَمُطلق وَجَائِز)
فَلَا يُمكن هُنَا التَّصْحِيف من الْكَاتِب؛ لِأَن النّظم لَا يَسْتَقِيم إِلَّا بإتيان الْمِيم، فَعلمنَا أَنه قصد ذَلِك، وَصرح بذلك فِي شَرحه، وَالله أعلم.
وَأما قَوْلهم: يُقَال للطلق مُطلق، فإطلاق مِنْهُم الْمُطلق على الطلق، لَا أَنهم سموا الْمُبَاح مُطلقًا، إِلَّا إِذا ارتكبوا الْمجَاز بدرجتين، وَمَا الَّذِي اضْطر إِلَى ذَلِك، خُصُوصا للمصنفين، ولعلهم أَرَادوا: الْمُطلق من كل قيد، فَتخرج الْأَحْكَام الْأَرْبَعَة وَيبقى الْمُبَاح، وَهُوَ بعيد، وَالْأولَى اتِّبَاع اللُّغَة فِي ذَلِك.
قَوْله: {وَيُطلق هُوَ والحلال على [غير] الْحَرَام} .
{ [فَيعم] } الْأَحْكَام { [الْأَرْبَعَة] } ، وَهِي: الْوَاجِب، وَالْمَنْدُوب، وَالْمَكْرُوه، والمباح، لَكِن الْمُبَاح يُطلق على الثَّلَاثَة، والحلال على الْأَرْبَعَة.
فَيُقَال للْوَاجِب وَالْمَنْدُوب وَالْمَكْرُوه: مُبَاح.
وَيُقَال لهَذِهِ الثَّلَاثَة وللمباح: حَلَال.
لَكِن إِطْلَاق الْمُبَاح على مَا اسْتَوَى طرفاه هُوَ الأَصْل، وَقد قَالَ الله تَعَالَى:{فجعلتم مِنْهُ حَرَامًا وحلالا} [يُونُس: 59] .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وسلك بعض الْعلمَاء ذَلِك فِي تَقْسِيم الحكم، فَقَالَ: الحكم قِسْمَانِ: تَحْرِيم، وَإِبَاحَة.
وَفِي " تَعْلِيقه " الشَّيْخ أبي حَامِد فِي كتاب النِّكَاح: (إِنَّهَا ثَلَاثَة: إِيجَاب، وحظر، وَإِبَاحَة) انْتهى، وَيَأْتِي حكم الْجَائِز.
قَوْله: {وَلَيْسَ جِنْسا للْوَاجِب - فِي الْأَصَح - بل هما نَوْعَانِ للْحكم} .
اخْتلفُوا فِي الْمُبَاح: هَل هُوَ جنس للْوَاجِب، أم نَوْعَانِ للْحكم؟
فَذهب طَائِفَة إِلَى الأول، وَذهب طَائِفَة أُخْرَى إِلَى الثَّانِي، وَهُوَ الصَّحِيح.
فَالْوَاجِب والمباح نَوْعَانِ مندرجان تَحت جنس، وَهُوَ فعل الْمُكَلف الَّذِي تعلق بِهِ الحكم الشَّرْعِيّ، وتسميته بالحكم مجَازًا.
وَدَلِيله: أَنه لَو كَانَ الْمُبَاح جِنْسا للْوَاجِب؛ لاستلزام النَّوْع - أَعنِي: الْوَاجِب - التَّخْيِير بَين فعله وَتَركه، والتالي ظَاهر الْفساد، فالمقدم مثله.
بَيَان الْمُلَازمَة: أَن الْمُبَاح مُسْتَلْزم للتَّخْيِير، وَإِذا كَانَ الْجِنْس مستلزما للتَّخْيِير، فَيكون الْوَاجِب - وَهُوَ نَوعه - مستلزما للتَّخْيِير.
الْقَائِلُونَ بِكَوْن الْمُبَاح جِنْسا للْوَاجِب قَالُوا: الْمُبَاح وَالْوَاجِب مَأْذُون فيهمَا، واختص بفصل: الْمَنْع من التّرْك، والمأذون الَّذِي هُوَ حَقِيقَة الْمُبَاح مُشْتَرك بَين الْوَاجِب وَغَيره، فَيكون جِنْسا لَهُ.
أُجِيب: بأنكم تركْتُم فصل الْمُبَاح، لِأَن الْمُبَاح لَيْسَ هُوَ الْمَأْذُون فَقَط، بل الْمَأْذُون مَعَ عدم الْمَنْع من التّرْك، والمأذون بِهَذَا الْقَيْد، لَا يكون مُشْتَركا بَين الْوَاجِب وَغَيره، بل يكون مباينا للْوَاجِب.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ": (وَالْحق أَن النزاع لَفْظِي؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِن أُرِيد بالمباح الْمَأْذُون فَقَط، فَلَا شكّ أَنه مُشْتَرك بَين الْوَاجِب وَغَيره، فَيكون جِنْسا، وَإِن أُرِيد بالمباح الْمَأْذُون مَعَ عدم الْمَنْع من التّرْك، فَلَا شكّ أَنه يكون نوعا مباينا للْوَاجِب، فَلم يكن جِنْسا) انْتهى.
وَأَخذه من كَلَام الْآمِدِيّ، فَإِنَّهُ اخْتَار:(أَن الْمُبَاح لَيْسَ دَاخِلا فِي مُسَمّى الْوَاجِب، وَأَنَّهَا لفظية، فَإِن أُرِيد مَا أذن فِيهِ مُطلقًا فجنس للْوَاجِب وَالْمَنْدُوب والمباح بِالْمَعْنَى الْأَخَص، وَإِن أُرِيد مَا أذن فِيهِ وَلَا ذمّ فَلَيْسَ بِجِنْس) انْتهى.
وَظَاهر كَلَام كثير من الْعلمَاء: أَن الْخلاف معنوي.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هِيَ لفظية، لِأَن من قَالَ: الْمُبَاح مَا خير فِيهِ بَين فعله وَتَركه من غير تَرْجِيح، قَالَ: لَيْسَ جِنْسا وَإِلَّا لاستلزم النَّوْع لاستلزام الْخَاص الْعَام، وَهُوَ منَاف للْوُجُوب.
وَمن قَالَ: الْمُبَاح: مَا أذن فِيهِ، قَالَ: هُوَ جنس للْوَاجِب لاشْتِرَاكهمَا وَغَيرهمَا كالمندوب وَالْمَكْرُوه فِي الْمَعْنى، واختصاص الْوَاجِب بامتناع التّرْك، وَالْمَنْدُوب بمرجوحيته، وَالْمَكْرُوه برجحانه) انْتهى.
قَوْله: {وَلَا مَأْمُورا بِهِ عِنْد الْأَرْبَعَة [وَغَيرهم] ، وَخَالف الكعبي وَأَصْحَابه} .
وَنقل الباقلاني وَالْغَزالِيّ عَنهُ: (أَنه مَأْمُور بِهِ دون الْمَنْدُوب، كمرتبة الْمَنْدُوب إِلَى الْوَاجِب) .
دَلِيل الأول - وَهُوَ قَول الْأَئِمَّة -: الْأَمر يسْتَلْزم تَرْجِيح الْفِعْل،
وَلَا تَرْجِيح فِي الْمُبَاح، وَلِأَن فِي الشَّرِيعَة مُبَاحا غير مَأْمُور بِهِ إِجْمَاعًا.
قَالَ الكعبي: كل مُبَاح ترك حرَام، وَترك الْحَرَام وَاجِب، وَلَا يتم إِلَّا بِأحد أضداده، وَمَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَاجِب.
وَتَأَول الْإِجْمَاع بِالنّظرِ إِلَى ذَات الْفِعْل دون تعلق الْأَمر بِهِ، بِسَبَب توقف ترك الْحَرَام عَلَيْهِ، جمعا بَين الْأَدِلَّة.
ورد: بِأَن الْمُبَاح لَيْسَ ترك الْحَرَام، بل شَيْء يتْرك بِهِ الْحَرَام مَعَ إِمْكَان تَركه بِغَيْرِهِ، فَلَا يجب.
ورد: بِأَن فِيهِ تَسْلِيم وجوب أحد مَا يتْرك بِهِ الْحَرَام، غَايَته أَنه غير معِين، وَيتَعَيَّن بِفِعْلِهِ.
وألزم الكعبي - أَيْضا - بِوُجُوب الْمحرم، إِذا ترك بِهِ محرم، وَتَحْرِيم الْوَاجِب إِذا ترك بِهِ وَاجِب.
فَأجَاب: لَا مَانع من اتصاف الْفِعْل بهما: كَالصَّلَاةِ فِي الْغَضَب.
وَلنَا: مَنعه على أصلنَا.
وَذكر ابْن عقيل الْمَسْأَلَة فِي النّسخ، وَأجَاب:(بِأَن الْعَمَل الشاغل لأذوات الْمُكَلف وأبعاضه يمْتَنع مَعَه فعل آخر للتضاد والتنافي، فَلَا يُسمى متروكا وَلَا تَارِكًا حَقِيقَة، وَلَا قَادِرًا عَلَيْهِ، فَمن هُنَا دهي الكعبي، لم يفصل بَين التّرْك وتعدد الْفِعْل للتنافي) .
وَذكر الْآمِدِيّ أَن قَوْله غَايَة الغوص والإشكال، وَأَنه لَا ملخص إِلَّا بِمَنْع وجوب مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ.
وجنح - أَيْضا - إِلَى هَذَا ابْن برهَان.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (وَمن الْعجب مَا حَكَاهُ عَنهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَابْن برهَان، والآمدي من إِنْكَار الْمُبَاح فِي الشَّرِيعَة، وَأَنه [لَا] وجود لَهُ أصلا، وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع) .
قَوْله: {وَالْخلف فيهمَا لَفْظِي} .
أَي: فِي كَونه لَيْسَ جِنْسا الْخلف فِيهِ لَفْظِي، كَمَا تقدم فِي كَلَام الْأَصْفَهَانِي، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَكَذَلِكَ الْآمِدِيّ.
وَفِي كَونه مَأْمُورا بِهِ أم لَا، الْخلف فِيهِ لَفْظِي، نَص عَلَيْهِ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع ".
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شَرحه ": (لما نفى المُصَنّف أَنه مَأْمُور بِهِ قيد ذَلِك بقوله: من حَيْثُ هُوَ، أَي: بِالنّظرِ إِلَى ذَاته، أَي: أما بِالنّظرِ إِلَى غَيره، وَهُوَ أَنه يحصل بِهِ ترك الْحَرَام كَمَا يحصل [بِغَيْرِهِ] فَهُوَ مَأْمُور بِهِ أَو بِغَيْرِهِ، فَمن الْوَاجِب الْمُخَير، وَلذَلِك قَالَ: إِن الْخلاف فِي ذَلِك لَفْظِي) انْتهى.
قَوْله: {وعَلى الأول، إِن أُرِيد بِالْأَمر الْإِبَاحَة، فمجاز عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} .
وَاخْتَارَهُ أَكثر أَصْحَابنَا، لِأَن الْحَقِيقَة تَرْجِيح، وَلَا تَرْجِيح فِي الْمُبَاح، [والعلاقة] المشابهة المعنوية، لِأَن كلا مِنْهُمَا مَأْذُون فِيهِ.
{وَقَالَ أَبُو الْفرج} الْمَقْدِسِي - من أَئِمَّة أَصْحَابنَا - {وَبَعض الشَّافِعِيَّة: حَقِيقَة، وللقاضي [قَولَانِ] } .
أَعنِي: أَنه قَالَ مرّة: إِنَّه مجَاز، وَمرَّة قَالَ: حَقِيقَة.
قَوْله: { [وَالْإِبَاحَة] شَرْعِيَّة إِن أُرِيد بهَا خطاب الشَّرْع،
وَإِلَّا عقلية} .
لتحققها قبل الشَّرْع، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء.
وَخَالف بعض الْمُعْتَزلَة فَقَالُوا: الْمُبَاح: مَا انْتَفَى الْحَرج فِي فعله وَتَركه، وَذَلِكَ ثَابت قبل الشَّرْع وَبعده.
وَنحن ننكر أَن ذَلِك إِبَاحَة شَرْعِيَّة، بل الْإِبَاحَة خطاب الشَّرْع بذلك فَافْتَرقَا.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (اخْتلف فِي أَن الْإِبَاحَة حكم شَرْعِي أَو لَا؟ فَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة بِالثَّانِي، لتفسيره بِنَفْي الْحَرج، وَالْخلاف إِذن لَفْظِي) انْتهى.
وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي: (وَالْحق أَن النزاع فِيهِ لَفْظِي، فَإِن أُرِيد بِالْإِبَاحَةِ: عدم الْحَرج عَن الْفِعْل فَلَيْسَ حكما شَرْعِيًّا، لِأَنَّهُ قبل الشَّرْع مُتَحَقق، وَلَا حكم قبل، وَإِن أُرِيد بهَا الْخطاب الْوَارِد من الشَّرْع بِانْتِفَاء [الْحَرج] من الطَّرفَيْنِ، فَهِيَ من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة) انْتهى.
قَوْله: {وَتسَمى شَرْعِيَّة، بِمَعْنى: [التَّقْرِير] } .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (تسمى شَرْعِيَّة، بِمَعْنى: التَّقْرِير.
{و} الْإِبَاحَة - {بِمَعْنى الْإِذْن} - شَرْعِيَّة {إِلَّا أَن نقُول: الْعقل [يُبِيح] } ) .
{و} قَالَ الْمُوفق {فِي " الرَّوْضَة "} - لما قسم الْأَفْعَال -: {وَقسم لم يتَعَرَّض الشَّرْع لَهُ بِدَلِيل من أَدِلَّة السّمع، فَيحْتَمل أَن يُقَال: قد دلّ السّمع على أَن مَا لم يردهُ [فِيهِ] طلب فعل وَلَا ترك فالمكلف [فِيهِ] مُخَيّر، وَيحْتَمل أَن يُقَال: لَا حكم لَهُ} . انْتهى.
قَوْله: {وَلَيْسَت بتكليف عِنْد الْأَرْبَعَة [وَغَيرهم] ، وَخَالف الْأُسْتَاذ} أَبُو إِسْحَاق
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
الأسفراييني.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه " وَغَيره: (وَالْخلاف لَفْظِي، إِذْ من قَالَ: لَيست تكليفا، [نظر] إِلَى أَنه لَيْسَ فِيهَا مشقة جازمة، كمشقة الْوَاجِب والمحظور، وَلَا غير جازمة كَمَا بَينا فِي مشقة الْمَنْدُوب وَالْمَكْرُوه، وَهِي مشقة فَوَات الْفَضِيلَة، إِذْ لَا فَضِيلَة فِي الْمُبَاح لذاته يشق على الْمُكَلف [فَوَاتهَا] بِتَرْكِهِ.
وَمن قَالَ: هِيَ تَكْلِيف، أَرَادَ أَنه يجب اعْتِقَاد كَونه مُبَاحا، وَهَذَا لَا يمنعهُ الأول، والأستاذ لَا يمْنَع أَن لَا مشقة فِي الْمُبَاح، فَتبين أَن النزاع لَفْظِي لعدم وُرُوده على مَحل وَاحِد، إِذْ الأول يَقُول: الْإِبَاحَة لَا مشقة [فِيهَا]، والأستاذ يَقُول: يجب اعْتِقَاد أَن الْمُبَاح لَيْسَ وَاجِبا وَلَا مَحْظُورًا وَلَا مَنْدُوبًا وَلَا مَكْرُوها) . انْتهى.
{و} ذكر الْمُوفق {فِي " الرَّوْضَة " كَالْأولِ} .
يَعْنِي: أَنَّهَا لَيست بتكليف، {وعدها} - أَيْضا - { [من] أَحْكَام التَّكْلِيف} ، وَقَالَ:(من قَالَ: التَّكْلِيف مَا كلف اعْتِقَاد كَونه من الشَّرْع، فَهِيَ تَكْلِيف) ، وَضَعفه بِلُزُوم جَمِيع الْأَحْكَام.
{وَقَالَ الْمجد} فِي " المسودة ": { (وَالتَّحْقِيق فِي ذَلِك عِنْدِي: أَن الْمُبَاح من أَحْكَام التَّكْلِيف، بِمَعْنى: أَنه يخْتَص بالمكلفين} ، أَي: أَن الْإِبَاحَة والتخيير لَا يَصح إِلَّا لمن يَصح إِلْزَامه الْفِعْل أَو التّرْك، فَأَما النَّاسِي والنائم وَالْمَجْنُون، فَلَا إِبَاحَة فِي حَقهم كَمَا لَا حظر وَلَا إِيجَاب، فَهَذَا معنى جعلهَا من أَحْكَام التَّكْلِيف، لَا بِمَعْنى: أَن الْمُبَاح مُكَلّف بِهِ) .
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: الْجَائِز لُغَة العابر} .
قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْجَائِز: الْمَار) .
وَقَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (جَازَ الْمَكَان يجوزه جوزا وجوازا: سَار فِيهِ، وَأَجَازَهُ - بِالْألف -: قطعه، وَأَجَازَهُ: أنفذه، [قَالَه] ابْن فَارس، وَجَاز العقد وَغَيره: نفذ وَمضى على الصِّحَّة، وأجزت العقد: أمضيته، وَجَعَلته جَائِزا نَافِذا) . انْتهى.
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا} : مَا وَافق الشَّرِيعَة، قَالَه الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَغَيره: ( {يُطلق} الْجَائِز اصْطِلَاحا {على الْمُبَاح، وعَلى مَا لَا يمْتَنع شرعا، [وَمَا لَا يمْتَنع] عقلا - فَيعم الْوَاجِب [والممكن الْخَاص - وعَلى مَا لَا يمْتَنع وجوده وَعَدَمه - وَهُوَ مُمكن خَاص، أخص مِمَّا قبله - شرعا وعقلا على مَا يشك أَنه لَا يمْتَنع، وعَلى مَا يشك أَنه اسْتَوَى وجوده وَعَدَمه] } ) . انْتهى.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (هَذِه الْمسَائِل تتَعَلَّق بالمباح، وَمن أَسْمَائِهِ
الْجَائِز، وَأَنه [كَمَا] يُطلق على الْمُبَاح، يُطلق على مَا لَا يمْتَنع شرعا، مُبَاحا كَانَ أَو وَاجِبا أَو مَنْدُوبًا أَو مَكْرُوها، وعَلى مَا لَا يمْتَنع عقلا، وَاجِبا كَانَ، أَو راجحا، أَو [متساوي] الطَّرفَيْنِ، أَو مرجوحا، وعَلى مَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فِيهِ، سَوَاء اسْتَويَا شرعا كالمباح، أَو عقلا [كَفعل] الصَّبِي، وعَلى الْمَشْكُوك فِيهِ فِي الشَّرْع أَو الْعقل [بالاعتبارين [وهما] : اسْتِوَاء الطَّرفَيْنِ، وَعدم الِامْتِنَاع.
يَعْنِي: أَنه كَمَا يُقَال الْمَشْكُوك فِيهِ لما يستوى طرفاه فِي النَّفس، يُقَال لما لَا يمْتَنع فِي النَّفس، أَي: لَا يجْزم بِعَدَمِهِ، كَمَا يُقَال فِي] النقليات وَإِن غلبت على الظَّن بعد فِيهِ شكّ، أَي: احْتِمَال، وَلَا يُرَاد بِهِ تَسَاوِي الطَّرفَيْنِ، كَذَلِك يُقَال: هُوَ جَائِز، وَالْمرَاد أَحدهمَا) انْتهى.
وتابعناه على ذَلِك فِي الأَصْل.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (يُطلق الْجَائِز على الْمُبَاح، وعَلى مَا لَا يمْتَنع شرعا أَو عقلا، أَي: على مَا لَا يحرم، وَيدخل فِيهِ غير الْحَرَام من الْأَحْكَام،
وَيُطلق فِي عرف المنطقيين: على مَا لَا يمْتَنع عقلا، وَهُوَ الْمُسَمّى بالممكن الْعَام.
قلت: وَهَذَا اصْطِلَاح بَاطِل، عقلا، وَشرعا.
وَيدخل فِيهِ الْوَاجِب والممكن الْخَاص، وَقد يحد بِحَدّ الْمُمكن الْعَام، وَهُوَ:(سلب مَا فِيهِ الضَّرُورَة من الْجَانِب الْمُخَالف للْحكم) ، وعَلى مَا اسْتَوَى فِي الْأَمْرَانِ، أَي: وجوده وَعَدَمه عقلا، وَهُوَ الْمُسَمّى بالممكن الْخَاص فِي عرفهم، وَيُطلق على مَا اسْتَوَى فِيهِ الْأَمْرَانِ، وعَلى الْمَشْكُوك فِيهِ شرعا أَو عقلا.
وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْخَمْسَة لَهَا نَظَائِر من الْأَحْكَام الْعَقْلِيَّة.
فنظير الْوَاجِب الشَّرْعِيّ: ضَرُورِيّ الْوُجُود، وَهُوَ الْوَاجِب عقلا.
وَنَظِير الْمحرم: الْمُمْتَنع.
وَنَظِير الْمَنْدُوب: الْمُمكن الأكثري.
وَنَظِير الْمَكْرُوه: الْمُمكن الأقلي.
وَنَظِير الْمُبَاح: الْمُمكن المتساوي الطَّرفَيْنِ) . انْتهى.
قَوْله: {الثَّانِيَة: الْمُمكن: مَا جَازَ وُقُوعه حسا، أَو وهما، أَو شرعا} .
إِذا قلت: هَذَا مُمكن، صَحَّ حَيْثُ أمكن وُقُوعه فِي الْحس، أَو الْوَهم، أَو فِي الشَّرْع، فَمَتَى أمكن وُقُوعه فِي الْوُجُود قيل لَهُ: مُمكن.