الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: وَكَذَا نقُول: إِنَّه قد ثَبت وَصَحَّ عَن الصَّادِق المصدوق صلى الله عليه وسلم َ -
ذكر الصَّوْت، وَصَححهُ الْحفاظ المقتدى بهم، فَلَا يتَصَرَّف فِيهِ بتشبيه وَلَا تَعْطِيل، فقد صحت أَحَادِيث كَثِيرَة عَن النَّبِي
صلى الله عليه وسلم َ - بِإِضَافَة الصَّوْت إِلَى الله تَعَالَى.
وَقد خرج ابْن شكر الْمصْرِيّ - وَهُوَ من فضلاء أهل الحَدِيث ونقادهم - فِيهِ أَرْبَعَة عشر حَدِيثا، وَذكر أَنَّهَا ثَابِتَة عِنْد الْمُحدثين. نَقله الطوفي فِي " شَرحه ".
قلت: وَكَذَلِكَ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
وَغَيره، جمع الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي ذكر الصَّوْت الْمُضَاف إِلَى الله تَعَالَى، وسأذكرها - إِن شَاءَ الله - بعد على حِدة.
وَالْقُرْآن مَمْلُوء بِنَحْوِ ذَلِك، قَالَ الله تَعَالَى:{فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} [التَّوْبَة: 6]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَكَلمه ربه} [الْأَعْرَاف: 143]، وَقَالَ تَعَالَى:{يَا مُوسَى إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي} [الْأَعْرَاف: 144]، وَقَالَ تَعَالَى:{وناديناه من جَانب الطّور الْأَيْمن} [مَرْيَم: 52]، {إِذْ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس طوى} [النازعات: 16] ، {وَإِذ نَادَى رَبك مُوسَى} [الشُّعَرَاء: 10] فِي آي كَثِيرَة، وَقَالَ الله تَعَالَى، وَيَقُول الله تَعَالَى فِي غير مَا آيَة فالقرآن مَمْلُوء بذلك، وَكَذَلِكَ السّنة الصَّحِيحَة، وَمن المستبعد جدا أَن يكون هَذَا الْخطاب كُله مجَازًا، لَا حَقِيقَة فِيهِ وَلَو فِي مَوضِع وَاحِد، وبموضع وَاحِد مِنْهُ يحصل الْمَطْلُوب.
قَالَ الطوفي: (فَإِن قيل: هُوَ حَقِيقَة، وَلَكِن - كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْكَلَام النَّفْسِيّ - بالاشتراك، كَمَا قُلْتُمْ: إِن الصِّفَات الْوَارِدَة فِي الشَّرْع لله تَعَالَى حَقِيقَة، لَكِن مُخَالفَة للصفات الْمُشَاهدَة، وَهِي مقولة بالاشتراك.
قُلْنَا: نَحن اضطرنا إِلَى القَوْل بالاشتراك فِي الصِّفَات وُرُود نُصُوص الشَّرْع الثَّابِتَة بهَا، فَأنْتم [مَا اضطركم] إِلَى إِثْبَات الْكَلَام النَّفْسِيّ؟
فَإِن قيل: دَلِيل الْعقل الدَّال: أَنه لَا صَوت إِلَّا من جسم.
قُلْنَا: فَمَا أفادكم إثْبَاته شَيْئا، لِأَن الْكَلَام النَّفْسِيّ الَّذِي أثبتموه لَا يخرج فِي الْحَقِيقَة عَن أَن يكون علما أَو تصورا - على مَا سبق تَقْرِيره عَن أئمتكم -، فَإِن كَانَ علما، فقد رجعتم معتزلة، ونفيتم الْكَلَام بِالْكُلِّيَّةِ، وموهتم على النَّاس بتسميتكم الْعلم كلَاما، وَإِن كَانَ تصورا، فالتصور فِي الشَّاهِد: حُصُول صُورَة الشَّيْء فِي الْعقل، وَإِنَّمَا يعقل فِي الْأَجْسَام، وَإِن عنيتم تصورا مُخَالفا للتصور فِي الشَّاهِد [لائقا بِجلَال] الله، فأثبتوا كلَاما [هُوَ عبارَة على] خلاف الشَّاهِد، لائقة بِجلَال الله تَعَالَى) انْتهى.
وَهُوَ كَلَام متين لَا محيد عَنهُ [للنمصف] .
وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام الْحَافِظ ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": (قَالَ ابْن حزم فِي " الْملَل والنحل ": " أجمع أهل الْإِسْلَام: على أَن الله تَعَالَى كلم مُوسَى عليه السلام، وعَلى أَن الْقُرْآن كَلَام الله، وَكَذَا غَيره من الْكتب الْمنزلَة والصحف، ثمَّ اخْتلفُوا.
فَقَالَت الْمُعْتَزلَة: إِن كَلَام الله تَعَالَى صفة فعل مخلوقة، وَإنَّهُ كلم مُوسَى بِكَلَام أحدثه فِي الشَّجَرَة.
وَقَالَ أَحْمد وَمن تبعه: كَلَام الله هُوَ علمه لم يزل، وَلَيْسَ بمخلوق.
وَقَالَت الأشعرية: كَلَام الله صفة ذَات لم تزل، وَلَيْسَ بمخلوق، وَهُوَ غير علم الله تَعَالَى، وَلَيْسَ لله إِلَّا كَلَام وَاحِد.
وَاحْتج لِأَحْمَد بِأَن الدَّلَائِل القاطعة قَامَت على أَن الله تَعَالَى لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه بِوَجْه من الْوُجُوه، فَلَمَّا كَانَ كلامنا غَيرنَا، وَكَانَ مخلوقا، وَجب أَن يكون كَلَام الله لَيْسَ غَيره، وَلَيْسَ مخلوقا، وَأطَال فِي الرَّد على الْمُخَالفين لذَلِك.
وَقَالَ [غَيره] : اخْتلفُوا:
فَقَالَت الْجَهْمِية، والمعتزلة، وَبَعض الزيدية والإمامية، وَبَعض الْخَوَارِج: كَلَام الله مَخْلُوق، خلقه بمشيئته وَقدرته فِي بعض الْأَجْسَام: كالشجرة حِين كلم مُوسَى.
وَحَقِيقَة قَوْلهم: أَن الله تَعَالَى لَا يتَكَلَّم، [وَإِن] نسب إِلَيْهِ ذَلِك فبطريق الْمجَاز.
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: يتَكَلَّم حَقِيقَة، لَكِن يخلق ذَلِك الْكَلَام فِي غَيره.
وَقَالَت الْكلابِيَّة: الْكَلَام صفة وَاحِدَة، قديمَة الْعين، لَازِمَة لذات الله كالحياة، وَإنَّهُ لَا يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، وتكليمه من كَلمه إِنَّمَا هُوَ خلق إِدْرَاك لَهُ يسمع بِهِ الْكَلَام، ونداؤه لمُوسَى لم يزل، لكنه أسمعهُ ذَلِك النداء حِين [ناداه] .
ويحكى عَن أبي مَنْصُور الماتريدي من الْحَنَفِيَّة نَحوه، لَكِن قَالَ: خلق صَوتا حِين ناداه فأسمعه كَلَامه.
وَزعم بَعضهم: أَن هَذَا مُرَاد السّلف الَّذين قَالُوا: إِن الْقُرْآن لَيْسَ بمخلوق.
[وَأخذ بقول ابْن كلاب القلانسي، والأشعري، وأتباعهما، وَقَالُوا: إِذا كَانَ الْكَلَام قَدِيما لعَينه، لَازِما لذات الرب، وَثَبت أَنه لَيْسَ بمخلوق] ، فالحروف لَيست قديمَة لِأَنَّهَا متعاقبة، وَمَا كَانَ مَسْبُوقا لغيره لم يكن قَدِيما، وَالْكَلَام الْقَدِيم معنى قَائِم بِالذَّاتِ لَا يَتَعَدَّد وَلَا يتَجَزَّأ، بل
هُوَ معنى وَاحِد، إِن عبر عَنهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فقرآن، أَو بالعبرانية فتوراة مثلا.
وَذهب بعض الْحَنَابِلَة وَغَيرهم: إِلَى أَن الْقُرْآن الْعَرَبِيّ كَلَام الله، وَكَذَا التَّوْرَاة، وَأَن الله تَعَالَى لم يزل متكلما إِذا شَاءَ، وَأَنه تكلم بحروف الْقُرْآن، وأسمع من شَاءَ من الْمَلَائِكَة والأنبياء صَوته.
وَقَالُوا: إِن هَذِه الْحُرُوف والأصوات قديمَة لَازِمَة الذَّات، لَيست متعاقبة، بل لم تزل قَائِمَة بِذَات مقترنة لَا تسبق، والتعاقب إِنَّمَا يكون فِي حق الْمَخْلُوق بِخِلَاف الْخَالِق.
وَذهب أَكثر هَؤُلَاءِ: إِلَى أَن الْأَصْوَات والحروف هِيَ المسموعة من القارئين، وأبى ذَلِك كثير مِنْهُم فَقَالُوا: لَيست هِيَ المسموعة من القارئين.
وَذهب بَعضهم: إِلَى أَنه مُتَكَلم بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيّ بمشيئته وَقدرته، بالحروف والأصوات الْقَائِمَة بِذَاتِهِ، وَهُوَ غير مَخْلُوق، لكنه فِي الْأَزَل لم يتَكَلَّم؛ لِامْتِنَاع وجود الحادثات فِي الْأَزَل، فَكَلَامه حَادث فِي ذَاته لَا مُحدث.
وَذَهَبت الكرامية: إِلَى أَنه حَادث فِي ذَاته ومحدث.
وَذكر الْفَخر الرَّازِيّ فِي " المطالب الْعَالِيَة ": (أَن قَول من قَالَ: إِنَّه تَعَالَى مُتَكَلم بِكَلَام يقوم بِذَاتِهِ بمشيئته واختياره هُوَ أصح الْأَقْوَال نقلا وعقلا) ، وَأطَال فِي تَقْرِير ذَلِك.
وَالْمَحْفُوظ عَن جُمْهُور السّلف ترك الْخَوْض فِي ذَلِك والتعمق فِيهِ، والاقتصار على القَوْل بِأَن الْقُرْآن كَلَام الله تَعَالَى، وَأَنه غير مَخْلُوق، ثمَّ
السُّكُوت عَمَّا وَرَاء ذَلِك) ، انْتهى كَلَام الْحَافِظ ابْن حجر.
وَقَالَ - أَيْضا - بعد ذَلِك: (وَاخْتلف أهل الْكَلَام فِي أَن كَلَام الله تَعَالَى هَل هُوَ بِحرف وَصَوت أم لَا؟
فَقَالَت الْمُعْتَزلَة: لَا يكون الْكَلَام [إِلَّا بِحرف] وَصَوت، وَالْكَلَام الْمَنْسُوب إِلَى الله تَعَالَى قَائِم بِالشَّجَرَةِ.
وَقَالَت الأشاعرة: كَلَام الله لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت، وأثبتت الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَحَقِيقَته: معنى قَائِم بِالنَّفسِ، وَإِن اخْتلفت عَنهُ الْعبارَة: كالعربية والعجمية، واختلافها لَا يدل على اخْتِلَاف الْمعبر عَنهُ، وَالْكَلَام النَّفْسِيّ هُوَ ذَلِك الْمعبر عَنهُ.
وأثبتت الْحَنَابِلَة: أَنه الله تَعَالَى مُتَكَلم بِحرف وَصَوت، أما الْحُرُوف فللتصريح بهَا فِي ظَاهر الْقُرْآن، وَأما الصَّوْت فَمن منع قَالَ: إِن الصَّوْت هُوَ الْهَوَاء الْمُنْقَطع المسموع من الحنجرة.
وَأجَاب من أثْبته: بِأَن الصَّوْت الْمَوْصُوف بذلك هُوَ الْمَعْهُود من الْآدَمِيّين: كالسمع، وَالْبَصَر، وصفات الرب بِخِلَاف ذَلِك، فَلَا يلْزمه الْمَحْذُور الْمَذْكُور مَعَ اعْتِقَاد التَّنْزِيه وَعدم التَّشْبِيه، وَأَنه يجوز أَن يكون من غير الحنجرة فَلَا يلْزم التَّشْبِيه.
وَقد قَالَ عبد الله بن أَحْمد فِي " كتاب السّنة ": (سَأَلت أبي عَن قوم يَقُولُونَ: لما كلم الله مُوسَى لم يتَكَلَّم بِصَوْت. فَقَالَ لي أبي: [بلَى] تكلم بِصَوْت، هَذِه الْأَحَادِيث تروى كَمَا جَاءَت، وَذكر حَدِيث ابْن مَسْعُود وَغَيره) .
وَقَالَ الْحَافِظ ابْن حجر - أَيْضا - فِي مَكَان آخر: (و [مُحَصل] مَا نقل عَن أهل الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة خَمْسَة أَقْوَال:
الأول: قَول الْمُعْتَزلَة: أَنه مَخْلُوق.
وَالثَّانِي: قَول الْكلابِيَّة: أَنه قديم قَائِم بِذَات الرب، لَيْسَ بحروف وَلَا أصوات، وَالْكَلَام الَّذِي بَين النَّاس عبارَة عَنهُ.
وَالثَّالِث: قَول السالمية: أَنه حُرُوف وأصوات قديمَة الْأَعْين، وَهُوَ عين هَذِه الْحُرُوف الْمَكْتُوبَة والأصوات المسموعة.
وَالرَّابِع: قَول الكرامية: أَنه مُحدث لَا مَخْلُوق.
وَالْخَامِس: أَن كَلَام الله غير مَخْلُوق، وَأَنه لم يزل متكلما إِذا شَاءَ، نَص على ذَلِك أَحْمد فِي كتاب " الرَّد على الْجَهْمِية "، وافترق أَصْحَابه فرْقَتَيْن:
مِنْهُم من قَالَ هُوَ لَازم لذاته، والحروف والأصوات مقترنة لَا متعاقبة، وَيسمع كَلَامه من شَاءَ.
وَأَكْثَرهم قَالَ: إِنَّه يتَكَلَّم بِمَا شَاءَ، مَتى شَاءَ، وَإنَّهُ نَادَى مُوسَى حِين كَلمه، وَلم يكن ناداه من قبل.
وَالَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ قَول الأشعرية: أَن الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق، مَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف، مَحْفُوظ فِي الصُّدُور، مقروء بالألسنة، قَالَ الله تَعَالَى:{فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} [التَّوْبَة: 6]، وَقَالَ تَعَالَى:{بل هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم} [العنكبوت: 49]، وَفِي " الصَّحِيح ":" لَا تسافروا بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو كَرَاهِيَة أَن يَنَالهُ الْعَدو "، وَلَيْسَ المُرَاد مَا فِي الصُّدُور، بل مَا فِي الْمُصحف.
وَأجْمع السّلف على [أَن] الَّذِي بَين الدفتين كَلَام الله.
وَقَالَ بَعضهم: الْقُرْآن يُطلق وَيُرَاد بِهِ المقروء، وَهُوَ الصّفة الْقَدِيمَة، وَيُطلق وَيُرَاد بِهِ الْقِرَاءَة، وَهِي الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على ذَلِك، وبسبب ذَلِك وَقع الِاخْتِلَاف.
وَأما قَوْلهم: إِنَّه منزه عَن الْحُرُوف والأصوات، فمرادهم الْكَلَام النَّفْسِيّ الْقَائِم بِالذَّاتِ المقدسة، فَهُوَ من الصِّفَات الْمَوْجُودَة الْقَدِيمَة، وَأما الْحُرُوف، فَإِن كَانَت حركات أَو أدوات: كاللسان والشفتين فَهِيَ أَعْرَاض، وَإِن كَانَت كِتَابَة فَهِيَ أجسام، وَقيام الْأَجْسَام والأعراض بِذَات الله محَال، وَيلْزم من [أثبت ذَلِك] ، أَن يَقُول بِخلق الْقُرْآن وَهُوَ يَأْبَى ذَلِك ويفر مِنْهُ،
فألجأ ذَلِك [بَعضهم إِلَى] ادِّعَاء قدم الْحُرُوف كَمَا التزمته السالمية.
وَمِنْهُم من الْتزم قيام ذَلِك بِذَاتِهِ، وَمن شدَّة اللّبْس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كثر نهي السّلف عَن الْخَوْض، واكتفوا باعتقاد: أَن الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق، وَلم يزِيدُوا على ذَلِك شَيْئا وَهُوَ أسلم الْأَقْوَال، وَالله الْمُسْتَعَان) انْتهى.
وَقد جمع أَكثر أَقْوَال الْعلمَاء فِي ذَلِك.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية فِي " الرَّد على الرافضي ": (هَذِه الْمَسْأَلَة - وَهِي كَلَام الله تَعَالَى - اضْطربَ النَّاس فِيهَا، وَعَامة الْكتب المصنفة فِي الْكَلَام وأصول الدّين لم يذكر أَصْحَابهَا جَمِيع الْأَقْوَال، بل مِنْهُم من يذكر قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُم من يذكر ثَلَاثَة أَقْوَال، وَمِنْهُم من يذكر أَرْبَعَة، وَمِنْهُم من يذكر خَمْسَة، وَأَكْثَرهم لَا يعْرفُونَ قَول السّلف، وَقد بلغت أَقْوَالهم إِلَى تِسْعَة:
أَحدهَا: أَن كَلَام الله تَعَالَى: هُوَ مَا يفِيض على النُّفُوس من الْمعَانِي، إِمَّا من الْعقل الفعال عِنْد بَعضهم، أَو من غَيره، وَهُوَ قَول الصابئة والمتفلسفة، وَمِنْهُم: ابْن سينا وَأَمْثَاله.
وَالثَّانِي: أَنه مَخْلُوق خلقه الله تَعَالَى مُنْفَصِلا عَنهُ، وَهُوَ قَول الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم.
وَالثَّالِث: معنى وَاحِد قَائِم بِذَات الله تَعَالَى، [هُوَ] الْأَمر وَالنَّهْي
وَالْخَبَر والاستخبار، [إِن] عبر عَنهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا، وَإِن عبر عَنهُ بالعبرية كَانَ توراة، وَهُوَ قَول ابْن كلاب وَمن وَافقه كالأشعري وَغَيره.
الرَّابِع: أَنه حُرُوف وأصوات أزلية، مجتمعة فِي الْأَزَل: وَهُوَ قَول طَائِفَة من أهل الْكَلَام والْحَدِيث، وَذكره الْأَشْعَرِيّ عَن طَائِفَة، وَهُوَ الَّذِي يذكر عَن السالمية وَنَحْوهم.
الْخَامِس: أَنه حُرُوف وأصوات، لَكِن تكلم الله بهَا بعد أَن لم يكن متكلما، وَهُوَ قَول الكرامية وَغَيرهم.
السَّادِس: أَن كَلَامه يرجع إِلَى مَا يحدث من علمه، وإرادته الْقَائِم بِذَاتِهِ، وَهُوَ قَول صَاحب " الْمُعْتَبر "، ويميل إِلَيْهِ الرَّازِيّ فِي " المطالب ".
السَّابِع: أَن كَلَامه يتَضَمَّن معنى قَائِما بِذَاتِهِ، هُوَ مَا خلقه [فِي] غَيره، وَهُوَ قَول أبي مَنْصُور الماتريدي.
الثَّامِن: أَنه مُشْتَرك بَين الْمَعْنى الْقَدِيم الْقَائِم بِالذَّاتِ، وَبَين مَا يخلقه فِي غَيره من الْأَصْوَات، وَهَذَا قَول أبي الْمَعَالِي وَمن تبعه.
التَّاسِع: [أَن يُقَال] : لم يزل الله متكلما إِذا شَاءَ، وَمَتى شَاءَ، وَكَيف شَاءَ، بِكَلَام يقوم بِهِ، وَهُوَ يتَكَلَّم بِهِ بِصَوْت يسمع، وَأَن نوع الْكَلَام قديم، وَإِن لم يكن الصَّوْت الْمعِين قَدِيما، وَهَذَا القَوْل هُوَ الْمَأْثُور عَن أَئِمَّة الحَدِيث وَالسّنة) انْتهى مُلَخصا.
وَمن أعظم [الْقَائِلين] بِهَذَا القَوْل الْأَخير الإِمَام أَحْمد، فَإِنَّهُ قَالَ:(لم يزل الله تَعَالَى متكلما كَيفَ شَاءَ بِلَا تكييف)، وَفِي لفظ:(إِذا شَاءَ) .
قَالَ القَاضِي: (إِذا شَاءَ أَن يسمعنا) .
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد - أَيْضا -: (لم يزل الله تَعَالَى يَأْمر بِمَا شَاءَ وَيحكم) .
وَقَالَ: (الْقُرْآن كَيفَ تصرف فَهُوَ غير مَخْلُوق، وَلَا نرى القَوْل بالحكاية والعبارة، وَمن قَالَ: الْقُرْآن عبارَة عَن كَلَام الله تَعَالَى، فقد غلط وَجَهل) .
وَقَالَ - أَيْضا -: (الْعبارَة والحكاية بِدعَة لم يقلها السّلف، وَقَوله: " تكليما " يبطل الْحِكَايَة، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود) .
كَمَا تقدم فِي الْكَلَام على الْعبارَة والحكاية.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - أَيْضا -: (لم يكن فِي كَلَام الإِمَام أَحْمد، وَلَا الْأَئِمَّة: أَن الصَّوْت الَّذِي تكلم بِهِ قديم، بل يَقُولُونَ: لم يزل الله متكلما إِذا شَاءَ بِمَا شَاءَ، كَمَا يَقُوله الإِمَام أَحْمد، وَابْن الْمُبَارك، وَغَيرهمَا) .
وَقَالَ فِي " الرَّد على الرافضي ": (من الْعلمَاء من يَقُول لم يزل الله متكلما إِذا شَاءَ وَكَيف شَاءَ، كَمَا يَقُول أَئِمَّة السّنة والْحَدِيث: كَعبد الله بن الْمُبَارك، وَأحمد بن حَنْبَل، وَغَيرهمَا من أَئِمَّة السّنة) .
وَقَالَ: (قد تنَازع النَّاس فِي معنى كَون الْقُرْآن غير مَخْلُوق، هَل المُرَاد بِهِ أَن نفس الْكَلَام قديم أزلي كَالْعلمِ، أَو أَن الله تَعَالَى لم يزل مَوْصُوفا بِأَنَّهُ مُتَكَلم يتَكَلَّم إِذا شَاءَ؟ على قَوْلَيْنِ، ذكرهمَا الْحَارِث المحاسبي عَن أهل السّنة، وَأَبُو بكر عبد الْعَزِيز فِي كتاب [الشافي] عَن أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد،
وذكرهما أَبُو عبد الله بن حَامِد فِي كِتَابه الْأُصُول) . انْتهى كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
وَقَالَ الْحَافِظ زين الدّين ابْن رَجَب الْحَنْبَلِيّ فِي كتاب مَنَاقِب الإِمَام أَحْمد ": (وَمن الْبدع الَّتِي أنكرها الإِمَام أَحْمد فِي الْقُرْآن: قَول من قَالَ: إِن الله تكلم بِغَيْر صَوت، فَأنْكر هَذَا القَوْل وبدع قَائِله.
قَالَ: وَقد قيل: إِن الْحَارِث المحاسبي إِنَّمَا هجره الإِمَام أَحْمد لأجل ذَلِك) انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَهَذَا سَبَب تحذير الإِمَام أَحْمد من الْحَارِث المحاسبي وَنَحْوه من الْكلابِيَّة) .
وَقَالَ: (إِنَّمَا أَمر الإِمَام أَحْمد بهجر الْحَارِث المحاسبي وَغَيره من أَصْحَاب ابْن كلاب لما أظهرُوا ذَلِك.
كَمَا أَمر السّري السَّقطِي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
[الْجُنَيْد] أَن يَتَّقِي بعض كَلَام الْحَارِث، فَذكرُوا أَن الْحَارِث رحمه الله تَابَ من ذَلِك، وَكَانَ لَهُ من الْعلم وَالْفضل والزهد وَالْكَلَام فِي الْحَقَائِق مَا هُوَ مَشْهُور عَنهُ.
وَحكى عَنهُ أَبُو بكر الكلاباذي صَاحب " مقالات الصُّوفِيَّة ": أَنه كَانَ يَقُول: إِن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بِصَوْت، وَهَذَا يُوَافق قَول من قَالَ: إِنَّه رَجَعَ عَن قَول ابْن كلاب.
قَالَ أَبُو بكر الكلاباذي: (وَقَالَ طَائِفَة من الصُّوفِيَّة: كَلَام الله حُرُوف وأصوات، وَإنَّهُ لَا يعرف كَلَام إِلَّا كَذَلِك. مَعَ إقرارهم أَنه صفة لله فِي ذَاته، وَأَنه غير مَخْلُوق.
- قَالَ: - وَهُوَ الْحَارِث المحاسبي، وَمن الْمُتَأَخِّرين ابْن سَالم) . انْتهى.