الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَول بَعضهم: لَو حلف لَا يقْرَأ الْقُرْآن يَحْنَث بِبَعْضِه، فَمَحْمُول على اللَّام للْجِنْس، حَتَّى يكون بِمَثَابَة (قُرْآنًا) بالتنكير.
وَالْحَاصِل: أَن النّظر إِلَى لفظ الْقُرْآن باعتبارين:
أَحدهمَا: بِاعْتِبَار جملَته وهيئته وترتيبه، فَاللَّام فِيهِ - حِينَئِذٍ - للْعهد.
وَالثَّانِي: بِاعْتِبَار حَقِيقَته من حَيْثُ هِيَ، لَا بِالنّظرِ إِلَى لَازم كمية وترتيب وَنَحْو ذَلِك، فَاللَّام فِيهِ - حِينَئِذٍ - للْجِنْس، فَإِن قصد مَعهَا استغراق، كَانَ كل حرف وَكلمَة وَجُمْلَة وَآيَة وَسورَة جزئيات لَا أَجزَاء، بِخِلَاف الِاعْتِبَار الأول فَإِنَّهَا فِيهِ أَجزَاء لَا جزئيات، وَلَعَلَّ من يَقُول فِي تَعْرِيفه: الْكَلَام الْمنزل على مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم َ -
للإعجاز بِسُورَة مِنْهُ، إِنَّمَا يقْصد مُرَاعَاة [الِاعْتِبَار] الأول، وَأما من يُرَاعِي الِاعْتِبَار الثَّانِي فَيكون: مَا أنزل للإعجاز، وَلَا حَاجَة أَن يَقُول: بِسُورَة مِنْهُ، أَو يَقُول ذَلِك، وَيُرِيد: أَن " من " فِيهِ لابتداء الْغَايَة، لَا للتَّبْعِيض.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: (هُوَ الْقَابِل
للتنزيل) .
وَقَالَ: (هُوَ الْأَقْرَب، واحترزنا بِالْأولِ عَن غَيره من الْكتب، وَعَما أنزل وَلم يتل، وَبِالثَّانِي عَن الْكَلَام النَّفْسِيّ.
وَلم نقل: الْكَلَام المعجز، لِأَن السُّورَة كَذَلِك، وَإِنَّمَا هِيَ بعض الْكتاب) .
تَنْبِيه: قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " - تبعا للغزالي -: (الْقُرْآن: مَا نقل إِلَيْنَا بَين دفتي الْمُصحف نقلا متواترا) ، وَهُوَ حد دوري، فَإِنَّهُ إِن أُرِيد بِهِ دفع مَا يتَوَهَّم أَن الْقُرْآن شَيْء آخر غير الْمَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف، فَهَذَا الْقدر يحصل، فَلَا يكون بَاطِلا.
وَإِن أُرِيد بِهِ الْحَد الْجَامِع الْمَانِع فَهُوَ تَعْرِيف دوري، وَذَلِكَ لِأَن النَّقْل والتواتر فرع تصَوره، فَهُوَ دور لتوقف تصَوره عَلَيْهِمَا، وتوقفهما عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَضعف هَذَا الْحَد: بِأَن عدم نَقله، لَا يُخرجهُ عَن حَقِيقَته، وَبِأَن النَّقْل والتواتر فرع تصَوره، فَهُوَ دور) .
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (حد الشَّيْء بِمَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ، إِذْ وجود الْمُصحف وَنَقله مُتَوَقف على تصور الْقُرْآن) .
وَأخذُوا ذَلِك من كَلَام ابْن الْحَاجِب فَإِنَّهُ قَالَ فِي " مُخْتَصره ": (وَقَوْلهمْ: مَا نقل بَين دفتي الْمُصحف تواترا، حد للشَّيْء بِمَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ، لِأَن وجود الْمُصحف وَنَقله فرع تصور الْقُرْآن) انْتهى.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (وَقد يُقَال: نَحن [بعد] مَا علمنَا أَن
هَاهُنَا مَا نقل بَين الدفتين، وَمَا لم ينْقل: كالمنسوخ وتلاوته، وَمَا نقل وَلم يتواتر نَحْو:(ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات) ، أردنَا تَخْصِيص الِاسْم بالقسم الأول دون الْأَخيرينِ، ليعلم أَن ذَلِك هُوَ الدَّلِيل، وَعَلِيهِ الْأَحْكَام من منع التِّلَاوَة، والمس مُحدثا، وَإِلَّا فَهُوَ اسْم علم شخصي، والتعريف لَا يكون إِلَّا للحقائق الْكُلية قد نبهنا على أَن ضَابِط مَعْرفَته: التَّوَاتُر [من] متون الصُّحُف وصدور الْحفاظ، دون التَّحْدِيد والتعريف، وَهُوَ الْحق) . انْتهى. فنفى الدّور الَّذِي ذَكرُوهُ.
قَوْله: {وَالْكَلَام عِنْد الأشعرية: مُشْتَرك بَين [الْحُرُوف] المسموعة وَالْمعْنَى النَّفْسِيّ، وَهُوَ: نِسْبَة بَين مفردين قَائِمَة بالمتكلم، وَعند [الإِمَام] أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهم: لَا اشْتِرَاك.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: [وَالْإِمَام عبد الله بن الْمُبَارك، وَالْإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، وأئمة الحَدِيث] : (لم يزل الله متكلما، [كَيفَ شَاءَ، وَإِذا شَاءَ] ، بِلَا كَيفَ) .
قَالَ القَاضِي: (إِذا [أَرَادَ] أَن يسمعنا) .
وَقَالَ [الإِمَام] أَحْمد - أَيْضا -: (لم يزل [الله] يَأْمر بِمَا يَشَاء وَيحكم) .} كَمَا تقدم.
هَذِه الْمَسْأَلَة من أعظم مسَائِل أصُول الدّين، وَهِي مَسْأَلَة طَوِيلَة الذيل، حَتَّى قيل: إِنَّه لم يسم علم الْكَلَام إِلَّا لأَجلهَا، وَلذَلِك اخْتلف فِيهَا أَئِمَّة الْإِسْلَام المعتبرين والمقتدى بهم اخْتِلَافا كثيرا متباينا، وَنحن نذْكر - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - أَقْوَالهم، وَالْقَائِل بِكُل قَول، وَنَذْكُر دلائلهم ومآخذهم، ونستوعب الْأَقْوَال الَّتِي فِيهَا، فَإِن غَالب المصنفين لم يستوعبها، وَرُبمَا لم يكن اطلع على بعض مَا يَأْتِي، وَإِن حصل منا بعض تكْرَار فِي نقل المقالات وأقوال الْعلمَاء، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من فَائِدَة، و - أَيْضا - الْقَصْد الْإِتْيَان بِمَا قَالَه النَّاقِل، وَإِن تكَرر بعضه مَعَ غَيره.
فَنَقُول - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَعَلِيهِ الِاعْتِمَاد، وَبِه الْعِصْمَة -: قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن سعيد بن كلاب وَأَتْبَاعه، مِنْهُم: الشَّيْخ الإِمَام
أَبُو الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل الْأَشْعَرِيّ وَأَصْحَابه، وَأَتْبَاعه: الْكَلَام مُشْتَرك بَين الْأَلْفَاظ المسموعة وَبَين الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد اسْتعْمل لُغَة وَعرفا فيهمَا، وَالْأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة، فَيكون مُشْتَركا.
أما اسْتِعْمَاله فِي الْعبارَة فكثير كَقَوْلِه تَعَالَى: {حَتَّى يسمع كَلَام الله} [التَّوْبَة: 6]، {يسمعُونَ كَلَام الله ثمَّ يحرفونه} [الْبَقَرَة: 75] .
وَيُقَال: سَمِعت كَلَام فلَان وفصاحته، يَعْنِي: أَلْفَاظه الفصيحة.
وَأما اسْتِعْمَاله فِي الْمَعْنى النَّفْسِيّ، وَهُوَ مَدْلُول الْعبارَة، فكقوله تَعَالَى:{وَيَقُولُونَ فِي أنفسهم لَوْلَا يعذبنا الله بِمَا نقُول} [المجادلة: 8] ، (وأسروا قَوْلكُم أَو
اجهروا بِهِ} [الْملك: 13]، وَقَول عمر رضي الله عنه فِي يَوْم السَّقِيفَة:(زورت فِي نَفسِي كلَاما)، وَقَول الشَّاعِر:
(إِن الْكَلَام لفي الْفُؤَاد وَإِنَّمَا
…
جعل اللِّسَان على الْفُؤَاد دَلِيلا)
وَالْأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة.
وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: (لما كَانَ سَمعه بِلَا انخراق، وَجب أَن يكون كَلَامه بِلَا حرف وَلَا صَوت) .
وَذكر الْغَزالِيّ: (أَن قوما جعلُوا الْكَلَام حَقِيقَة فِي الْمَعْنى، مجَازًا فِي الْعبارَة، وقوما عكسوا، وقوما قَالُوا بالاشتراك، فَهِيَ ثَلَاثَة أَقْوَال، ونقلت عَن الْأَشْعَرِيّ) .
وَقَوْلنَا: (نِسْبَة بَين مفردين)، نعني بِالنِّسْبَةِ بَين المفردين - أَي: بَين الْمَعْنيين المفردين -: تعلق أَحدهمَا بِالْآخرِ، أَو إِضَافَته إِلَيْهِ، على جِهَة الْإِسْنَاد الإفادي، أَي: بِحَيْثُ إِذا عبر عَن تِلْكَ النِّسْبَة بِلَفْظ يطابقها وَيُؤَدِّي مَعْنَاهَا، كَانَ ذَلِك اللَّفْظ إِسْنَادًا إفاديا.
وَمعنى قيام النِّسْبَة بالمتكلم مَا قَالَ الْفَخر الرَّازِيّ، وَهُوَ: أَن الشَّخْص إِذا قَالَ لغيره: [اسْقِنِي] مَاء، فَقبل أَن يتَلَفَّظ بِهَذِهِ الصِّيغَة قَامَ بِنَفسِهِ تصور حَقِيقَة السَّقْي، وَحَقِيقَة المَاء، وَالنِّسْبَة الطلبية بَينهمَا، فَهَذَا هُوَ الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَالْمعْنَى الْقَائِم بِالنَّفسِ، وَصِيغَة قَوْله:[اسْقِنِي] مَاء، عبارَة عَنهُ وَدَلِيل عَنهُ) .
وَقَالَ الْقَرَافِيّ: (كل عَاقل يجد فِي نَفسه الْأَمر وَالنَّهْي، وَالْخَبَر عَن كَون الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ، وَعَن حُدُوث الْعَالم، وَنَحْو ذَلِك، وَهُوَ غير مُخْتَلف فِيهِ، ثمَّ يعبر عَنهُ بعبارات ولغات مُخْتَلفَة، فالمختلف هُوَ الْكَلَام اللساني، وَغير الْمُخْتَلف [هُوَ] الْكَلَام النَّفْسِيّ الْقَائِم بِذَات الله تَعَالَى،
وَيُسمى ذَلِك الْعلم الْخَاص: سمعا؛ لِأَن إِدْرَاك الْحَواس إِنَّمَا هِيَ عُلُوم خَاصَّة أخص من مُطلق الْعلم، فَكل إحساس علم، وَلَيْسَ كل علم إحساسا، وَإِذا وجد هَذَا الْعلم الْخَاص فِي نفس مُوسَى، الْمُتَعَلّق بالْكلَام النَّفْسِيّ الْقَائِم بِذَات الله، سمي باسمه الْمَوْضُوع لَهُ فِي اللُّغَة، وَهُوَ السماع) . انْتهى.
هَذَا [حَقِيقَة] مَذْهَبهم، لَكِن الْأَشْعَرِيّ وَأَتْبَاعه قَالُوا: الْقُرْآن الْمَوْجُود عندنَا: حِكَايَة كَلَام الله.
وَابْن كلاب وَأَتْبَاعه قَالُوا: الْقُرْآن الْمَوْجُود بَين النَّاس: عبارَة عَن كَلَام الله لَا عينه.
قَالَ ابْن حجر: (وَرَأَيْت الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عكس عَنْهُمَا، فَجعل الْعبارَة عَن الْأَشْعَرِيّ، والحكاية عَن ابْن كلاب) .
وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: (كَلَام الله الْقَائِم بِذَاتِهِ يسمع عِنْد تِلَاوَة كل تال وَقِرَاءَة كل قاريء) .
وَقَالَ الباقلاني: (إِنَّمَا يسمع التِّلَاوَة دون المتلو، وَالْقِرَاءَة دون المقروء) .
وَذهب الإِمَام أَحْمد - إِمَام أهل السّنة على الْإِطْلَاق من غير مدافعة - وَأَصْحَابه، وَإِمَام أهل الحَدِيث - بِلَا شكّ - مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ،
فارغة
وَجُمْهُور الْعلمَاء، - قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " فِي الْأَمر، وَابْن قَاضِي الْجَبَل:(إِن الْكَلَام لَيْسَ مُشْتَركا بَين الْعبارَة ومدلولها، بل الْكَلَام هُوَ الْحُرُوف المسموعة من الصَّوْت) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (الْمَعْرُوف عِنْد أهل السّنة والْحَدِيث: أَن الله يتَكَلَّم بِصَوْت، وَهُوَ قَول جَمَاهِير فرق الْأمة، فَإِن جَمَاهِير الطوائف يَقُولُونَ: إِن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بِصَوْت، مَعَ تنازعهم فِي أَن كَلَامه هَل هُوَ مَخْلُوق أَو قَائِم بِنَفسِهِ؟ قديم أَو حَادث أَو مازال يتَكَلَّم إِذا شَاءَ؟ فَإِنَّهُ قَول الْمُعْتَزلَة، والكرامية، والشيعة، وَأكْثر المرجئة، والسالمية، وَغير هَؤُلَاءِ من الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، والحنبلية، والصوفية، وَلَيْسَ من طوائف الْمُسلمين من أنكر: أَن الله يتَكَلَّم بِصَوْت إِلَّا ابْن كلاب وَمن اتبعهُ، كَمَا أَن
لَيْسَ فِي طوائف الْمُسلمين من قَالَ: إِن الْكَلَام معنى وَاحِد قَائِم بالمتكلم، إِلَّا هُوَ وَمن اتبعهُ) انْتهى.
إِذا علم ذَلِك؛ فَعِنْدَ الإِمَام أَحْمد وَغَيره من أهل السّنة: أَن حَقِيقَة فِي الْعبارَة مجَاز فِي مدلولها، وَقد نَص الإِمَام أَحْمد، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهمَا: على أَن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بِصَوْت، وَقَالُوا: هَذِه الْأَحَادِيث تمر كَمَا جَاءَت، على مَا يَأْتِي، من صَرِيح نصوصهم فِي ذَلِك.
قَالَ الطوفي: (إِنَّمَا كَانَ حَقِيقَة فِي الْعبارَة مجَازًا فِي مدلولها لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن [الْمُتَبَادر] إِلَى فهم أهل اللُّغَة من إِطْلَاق الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ الْعبارَات، والمبادرة دَلِيل الْحَقِيقَة.
الثَّانِي: أَن الْكَلَام مُشْتَقّ من الْكَلم، لتأثيره فِي نفس السَّامع، والمؤثر فِي نفس السَّامع إِنَّمَا هُوَ الْعبارَات، لَا الْمعَانِي النفسية بِالْفِعْلِ، نعم هِيَ مُؤثرَة للفائدة بِالْقُوَّةِ والعبارة مُؤثرَة بِالْفِعْلِ، فَكَانَت أولى بِأَن تكون حَقِيقَة، وَمَا يكون مؤثرا بِالْقُوَّةِ مجَازًا.
قَوْلهم: اسْتعْمل لُغَة وَعرفا فيهمَا.
قُلْنَا: نعم لَكِن بالاشتراك، أَو بِالْحَقِيقَةِ فِيمَا ذَكرْنَاهُ، وَالْمجَاز فِيمَا ذكرتموه، وَالْأول مَمْنُوع.
قَوْلهم: الأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة.
قُلْنَا: وَالْأَصْل عدم الِاشْتِرَاك، ثمَّ قد تعَارض الْمجَاز والاشتراك الْمُجَرّد، وَالْمجَاز أولى، ثمَّ إِن لفظ الْكَلَام أَكثر مَا اسْتعْمل فِي الْعبارَات، وَكَثْرَة موارد الِاسْتِعْمَال تدل على الْحَقِيقَة.
وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أنفسهم} [المجادلة: 8] فمجاز، لِأَنَّهُ إِنَّمَا دلّ على الْمَعْنى النَّفْسِيّ بِالْقَرِينَةِ، وَهِي قَوْله:{فِي أنفسهم} ، وَلَو أطلق لما فهم إِلَّا الْعبارَة، وَكَذَلِكَ كل مَا جَاءَ من هَذَا الْبَاب إِنَّمَا يُفِيد مَعَ الْقَرِينَة، وَمِنْه قَول عمر رضي الله عنه:(زورت فِي نَفسِي كلَاما)، إِنَّمَا أَفَادَ ذَلِك بِقَرِينَة قَوْله:(فِي نَفسِي) .
وَأما قَوْله تَعَالَى: {وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ} [الْملك: 13] ، فَلَا حجَّة فِيهِ، لِأَن الْإِسْرَار نقيض الْجَهْر، وَكِلَاهُمَا عبارَة، إِحْدَاهمَا أرفع صَوتا من الْأُخْرَى.
وَأما الشّعْر فَهُوَ للأخطل، وَيُقَال: إِن الْمَشْهُور فِيهِ: إِن الْبَيَان
لفي الْفُؤَاد.
وَبِتَقْدِير أَن يكون كَمَا ذكرْتُمْ، فَهُوَ مجَاز عَن مَادَّة الْكَلَام، وَهُوَ التصورات المصححة لَهُ، إِذْ من لَا يتَصَوَّر معنى مَا يَقُول لَا يُوجد مِنْهُ كَلَام، ثمَّ هُوَ مُبَالغَة من هَذَا الشَّاعِر فِي تَرْجِيح الْفُؤَاد على اللِّسَان ". انْتهى كَلَام الطوفي.
وَقد نقل ابْن الْقيم فِي " النونية " أَن الشَّيْخ تَقِيّ الدّين رد كَلَام النَّفس من تسعين وَجها.
وَقَالَ الْغَزالِيّ: (من أحَال سَماع مُوسَى كلَاما لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت، فليحل يَوْم الْقِيَامَة رُؤْيَة ذَات لَيست بجسم وَلَا عرض) انْتهى.
قَالَ الطوفي: (كل هَذَا تكلّف وَخُرُوج عَن الظَّاهِر، بل عَن الْقَاطِع، من غير ضَرُورَة إِلَّا خيالات لاغية، وأوهام متلاشية، وَمَا ذكره معَارض: بِأَن الْمعَانِي لَا تقوم شَاهدا إِلَّا بالأجسام، فَإِن أَجَازُوا معنى قَامَ بِالذَّاتِ الْقَدِيمَة،
وَلَيْسَت جسما، فليجيزوا خُرُوج صَوت من الذَّات الْقَدِيمَة وَلَيْسَت جسما، إِذْ كلا الْأَمريْنِ خلاف الشَّاهِد وَمن أحَال كلَاما لفظيا من غير جسم فليحل ذاتا مرئية غير جسم وَلَا فرق) .
ثمَّ قَالَ الطوفي: (وَالْعجب من هَؤُلَاءِ الْقَوْم، مَعَ أَنهم عقلاء فضلاء، يجيزون أَن الله تَعَالَى يخلق لمن يَشَاء من عباده علما ضَرُورِيًّا، وسمعا لكَلَامه النَّفْسِيّ من غير توَسط صَوت وَلَا حرف، وَأَن ذَلِك من [خاصية] مُوسَى عليه السلام، مَعَ أَن ذَلِك قلب لحقيقة السّمع فِي الشَّاهِد، إِذْ حَقِيقَة السّمع فِي
فِي الشَّاهِد [اتِّصَال] الْأَصْوَات بحاسته، ثمَّ يُنكرُونَ علينا القَوْل بِأَن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بِصَوْت وحرف من فَوق السَّمَاء لكَون ذَلِك مُخَالفا للشَّاهِد، فَإِن جَازَ قلب حَقِيقَة السّمع شَاهدا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَلَامه، فَلم لَا تجوز مُخَالفَة الشَّاهِد بِالنِّسْبَةِ إِلَى استوائه وَكَلَامه على مَا قُلْنَاهُ.
فَإِن قَالُوا: لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل وجود حرف وَصَوت لَا من [جسم] ، وَوُجُود فِي جِهَة لَيْسَ بجسم.
قُلْنَا: إِن عنيتم استحالته بِالْإِضَافَة إِلَى الشَّاهِد، فسماع كَلَام بِدُونِ توَسط صَوت وحرف كَذَلِك أَيْضا، وَإِن عنيتم استحالته مُطلقًا، فَلَا يسلم، إِذْ الْبَارِي جل جلاله على خلاف الْمُشَاهدَة والمعقول فِي ذَاته وَصِفَاته، وَقد وَردت النُّصُوص بِمَا قُلْنَا، فَوَجَبَ القَوْل بِهِ) انْتهى.
فارغة
فارغة
فارغة
فارغة
فارغة
قَالَ الْحَافِظ أَبُو نصر عبيد الله بن سعيد بن حَاتِم السجسْتانِي - عَن
قَول الْأَشْعَرِيّ: (لما كَانَ سَمعه بِلَا انخراق، وَجب أَن يكون كَلَامه بِلَا حرف وَلَا صَوت) -: (هَذَا غير مُسلم، وَلَا يَقْتَضِي مَا قَالَه، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَن سَمعه لما كَانَ بِلَا انخراق، وَجب أَن يكون كَلَامه من غير لِسَان وشفتين وحنك، وَأَيْضًا لَو كَانَ الْكَلَام غير حرف، وَكَانَت الْحُرُوف عبارَة عَنهُ، لم يكن بُد من أَن يحكم لتِلْك الْعبارَة بِحكم، إِمَّا أَن يكون أحدثها فِي صدر أَو لوح، أَو أنطق بهَا بعض عبيده، فَتكون منسوبة إِلَيْهِ، فَيلْزم من يَقُول ذَلِك أَن يفصح بِمَا عِنْده فِي السُّور والآي والحروف، أَهِي عبارَة جِبْرِيل أَو مُحَمَّد - عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام -؟ وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى:{إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون} [النَّحْل: 40] و " كن " حرفان، وَلَا يَخْلُو الْأَمر من أحد وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يكون المُرَاد بقوله: " كن "، التكوين كالمعتزلة، أَو أَن يكون المُرَاد بِهِ ظَاهره، وَأَن الله تَعَالَى إِذا أَرَادَ إنجاز شَيْء قَالَ لَهُ: كن - على الْحَقِيقَة - فَيكون.
وَقد قَالَ الْأَشْعَرِيّ: (إِنَّه على ظَاهره، لَا بِمَعْنى التكوين) ، فَيكون على ظَاهره، وَهُوَ حرفان، وَهُوَ مُخَالف لمذهبه، وَإِن قَالَ: لَيْسَ بِحرف، صَار بِمَعْنى التكوين كالمعتزلة) انْتهى.
قلت: قَالَ الْحَافِظ شهَاب الدّين ابْن حجر فِي شرح البُخَارِيّ فِي بَاب