الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمعنى ذَلِك: أَن نفي الْإِجْزَاء كنفي الْقبُول فِيمَا ذكر، فَيُقَال: لَا يجزيء، كَمَا يُقَال: لَا يقبل، كَقَوْلِه صلى الله عليه وسلم َ -: "
لَا تجزيء صَلَاة لَا يقْرَأ فِيهَا بِأم الْقُرْآن " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَوله
صلى الله عليه وسلم َ -: " أَربع لَا تجزيء فِي الضَّحَايَا " وَنَحْوه، وَاخْتلف فِي كَيْفيَّة الْخلاف على طَرِيقين:
أَحدهمَا: الْقطع بِأَن نفي الْإِجْزَاء كنفي الْقبُول، فَكلما لَا يقبل يُقَال فِيهِ: لَا يجزيء، وَكلما يُقَال فِيهِ: يقبل، يُقَال فِيهِ: يجزيء.
وَالطَّرِيق الثَّانِيَة: أَن فِيهِ الْخلاف السَّابِق فِي نفي الْقبُول، وَأولى باقتضائه الْفساد، لِأَن الصِّحَّة قد تُوجد حَيْثُ لَا قبُول، بِخِلَاف الْإِجْزَاء مَعَ الصِّحَّة، وَسبق الْفرق بَين الصِّحَّة والإجزاء بِمَا يخدش مَا ذكرنَا هُنَا.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (أما نفي الْإِجْزَاء فَالْمَشْهُور أَنه كنفي الصِّحَّة، فَيَعُود فِيهِ مَا سبق.
وَالثَّانِي: أَنه أولى بِالْفَسَادِ، فَيَعُود فِيهِ الْخلاف بالترتيب؛ لِأَن الصِّحَّة قد تُوجد حَيْثُ لَا قبُول، بِخِلَاف الْإِجْزَاء مَعَ الصِّحَّة) انْتهى.
للصِّحَّة [ثَلَاثَة] معَان:
أَحدهَا: كَونهَا عقلية، وَهِي إِمْكَان الشَّيْء، وقبوله للوجود والعدم.
وَالثَّانِي: كَونهَا عَادِية: كالمشي يَمِينا، وَشمَالًا، وأماما، وخلفا، دون الصعُود فِي الْهَوَاء.
الثَّالِث: كَونهَا شَرْعِيَّة، وَهِي الْإِذْن الشَّرْعِيّ فِي جَوَاز الْإِقْدَام على الْفِعْل، وَهُوَ يَشْمَل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِلَّا التَّحْرِيم فَلَا إِذن فِيهِ، وَالْأَرْبَعَة الْبَاقِيَة فِيهَا الْإِذْن فِي جَوَاز الْإِقْدَام، وَقد اتّفق النَّاس على أَنه لَيْسَ فِي الشَّرِيعَة مَنْهِيّ عَنهُ، وَلَا مَأْمُور بِهِ، وَلَا مَشْرُوع على الْإِطْلَاق، إِلَّا وَفِيه الصِّحَّة العادية، وَلذَلِك حصل الِاتِّفَاق - أَيْضا - على أَن اللُّغَة لم يَقع فِيهَا طلب وجود وَلَا عدم إِلَّا فِيمَا يَصح عَادَة، وَإِن جَوَّزنَا تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فَذَلِك بِحَسب مَا يجوز على الله، لَا بِحَسب مَا يجوز فِي اللُّغَات، فاللغات مَوضِع إِجْمَاع.
قَوْله: {الثَّانِيَة: النّفُوذ: تصرف لَا يقدر فَاعله على رَفعه، وَقيل: كالصحة} .
لم أعلم الْآن من أَيْن نقلت هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَقَوْلنَا: (تصرف لَا يقدر فَاعله على رَفعه) ، هُوَ كالعقود اللَّازِمَة من البيع وَالْإِجَارَة وَالْوَقْف وَالنِّكَاح وَنَحْوهَا، إِذا اجْتمعت شُرُوطهَا، وانتفت موانعها، وَكَذَلِكَ الْعتْق وَالطَّلَاق وَالْفَسْخ وَنَحْوهَا.
قَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (نفذ السهْم نفوذا - كقعد - ونفاذا خرق الرَّمية وَخرج مِنْهَا، وأنفذته بِالْألف، وَنفذ فِي الْأَمر ينفذ نفاذا: مهر فِيهِ، وَنفذ - قولا - نفوذا: قبل وَمضى، وَنفذ الْعتْق، كَأَنَّهُ مستعار من نُفُوذ السهْم، فَإِنَّهُ لَا مرد لَهُ، وَنفذ الْمنزل إِلَى الطَّرِيق: اتَّصل بِهِ، وَنفذ الطَّرِيق: عَم مسلكه لكل أحد، فَهُوَ نَافِذ، أَي: عَام، والمنفذ - مثل مَسْجِد -: مَوضِع النّفُوذ، وَالْجمع منافذ) انْتهى.
فَقَوله: (نفذ الْعتْق، كَأَنَّهُ مستعار من نُفُوذ السهْم) ، هُوَ مَسْأَلَتنَا، فَكَأَن الْعُقُود اللَّازِمَة الْمُتَقَدّمَة مستعار لَهَا النّفُوذ من نُفُوذ السهْم كَمَا قَالَ.
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (النَّفاذ: جَوَاز الشَّيْء عَن الشَّيْء والخلوص، كالنفوذ، [ومخالطة] السهْم جَوف الرَّمية، وَخُرُوج طرفه من الشق الآخر، وسائره فِيهِ، كالنفذ، وأنفذ الْأَمر: قَضَاهُ) انْتهى.
قَوْله: (وَقيل: كالصحة) .
يَعْنِي - على هَذَا القَوْل - أَنه إِذا قيل: نفذ البيع وَنَحْوه، أَي: صَحَّ، لَكِن على هَذَا يكون أَعم من القَوْل الْمُقدم، فَإِنَّهُ على هَذَا يُقَال على الْعُقُود الْجَائِزَة، إِذا اجْتمعت شُرُوطًا، وانتفعت موانعها: نفذ العقد، أَي: صَحَّ،
فَيُقَال فِي صَحِيح الشّركَة وَغَيرهَا: نفذ، أَي: صَحَّ، بِخِلَاف القَوْل الأول، فَإِنَّهُ لَا يُقَال إِلَّا فِي الْعُقُود اللَّازِمَة كَمَا مثلنَا أَولا، وَالله أعلم.
قَالَ ابْن الفركاح فِي " شرح الورقات ": (نُفُوذ العقد أَصله من نُفُوذ السهْم، وَهُوَ بُلُوغ الْمَقْصُود من الرَّمْي، وَكَذَلِكَ العقد إِذا أَفَادَ الْمَقْصُود الْمَطْلُوب مِنْهُ سمي بذلك نفوذا، فَإِذا ترَتّب على العقد مَا يقْصد مِنْهُ - مثل البيع إِذا أَفَادَ الْملك وَنَحْوه - قيل لَهُ: صَحِيح، ويعتد بِهِ، فالاعتداد بِالْعقدِ هُوَ المُرَاد بوصفه [بِالصِّحَّةِ] وبكونه نَافِذا) ، فَجعل الصِّحَّة والنفوذ وَاحِدًا.
وَقَالَ فِي " الورقات ": (وَالصَّحِيح مَا يتَعَلَّق بِهِ النّفُوذ) .
قَوْله: {والبطلان وَالْفساد مُتَرَادِفَانِ، يقابلان الصِّحَّة} على الْقَوْلَيْنِ فِيهَا.
وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وأصحابهما، وَغَيرهم، سَوَاء كَانَ فِي الْعِبَادَات أَو فِي الْمُعَامَلَات، فَهُوَ فِي الْعِبَادَة: عبارَة عَن عدم ترَتّب الْأَثر عَلَيْهَا، أَو عدم سُقُوط الْقَضَاء، أَو عدم مُوَافقَة الْأَمر.
وَفِي الْمُعَامَلَات: عبارَة عَن عدم ترَتّب الْأَثر عَلَيْهَا.
وَفرق أَبُو حنيفَة بَينهمَا.
وتحرير مذْهبه فِي ذَلِك: أَن الْعِوَضَيْنِ إِن كَانَا غير قابلين للْبيع كالملاقيح بِالدَّمِ، فَهُوَ بَاطِل قطعا؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا لَا يقبل البيع الْبَتَّةَ، وَإِن كَانَا بأصلهما قابلين للْبيع، وَلَكِن اشتملا على وصف يَقْتَضِي عدم الصِّحَّة: كالربا فِي الْمُعَامَلَات، فَإِن الدَّرَاهِم بأصلها قَابِلَة للْبيع، وَإِنَّمَا جَاءَ الْبطلَان من الزِّيَادَة فِي أَحدهمَا، أَو النَّسِيئَة، ففاسد قطعا.
وَمثله فِي الْعِبَادَة: صَوْم يَوْم الْعِيد، فَإِن الْيَوْم بِأَصْلِهِ قَابل للصَّوْم الصَّحِيح فِيهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْبطلَان من الصّفة، وَهِي الْعِيد.
وَإِن كَانَ الْمَبِيع غير قَابل للْبيع دون الثّمن: كَبيع الملاقيح بِالدَّرَاهِمِ، أَو بِالْعَكْسِ: كَبيع ثوب مثلا بِدَم أَو خِنْزِير، فَفِي كل مِنْهُمَا خلاف، وَالصَّحِيح عِنْدهم: إِلْحَاق الأول بِالْأولِ، وَالثَّانِي بِالثَّانِي.
وَفَائِدَة التَّفْصِيل عِنْدهم: أَن الْفَاسِد يُفِيد الْملك إِذا اتَّصل بِهِ الْقَبْض، دون الْبَاطِل، وَالله أعلم.
وَالأَصَح - دَلِيلا -: أَن الْبطلَان يرادف الْفساد، وهما يقابلان الصِّحَّة، كَمَا هُوَ مَذْهَبنَا وَمذهب الشَّافِعِي.
حَتَّى قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (لم يَقع فِي الْكتاب وَالسّنة إِلَّا لفظ الْبَاطِل فِي مُقَابلَة الْحق، وَأما لفظ الصِّحَّة وَالْفساد فَمن اصْطِلَاح الْفُقَهَاء) .
واستدرك بَعضهم عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} [الْأَنْبِيَاء: 22]، أَي: لاختل نظامهما.
قَوْله: {مَعَ تفريقهما فِي الْفِقْه بَينهمَا فِي مسَائِل} كَثِيرَة.
قد فرق أَصْحَابنَا وَأَصْحَاب الشَّافِعِي بَين الْفَاسِد وَالْبَاطِل فِي مسَائِل كَثِيرَة.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (قد ذكر أَصْحَابنَا مسَائِل فرقوا فِيهَا بَين الْفَاسِد وَالْبَاطِل، ظن بعض الْمُتَأَخِّرين أَنَّهَا مُخَالفَة للقاعدة.
وَالَّذِي يظْهر - وَالله أعلم - أَن ذَلِك لَيْسَ بمخالف للقاعدة.
وَبَيَانه: أَن الْأَصْحَاب إِنَّمَا قَالُوا: الْبطلَان وَالْفساد مُتَرَادِفَانِ، فِي مُقَابلَة
قَول أبي حنيفَة، حَيْثُ قَالَ: مَا لم يشرع بِالْكُلِّيَّةِ هُوَ الْبَاطِل، وَمَا شرع أَصله وَامْتنع لاشْتِمَاله على وصف محرم هُوَ الْفَاسِد، فعندنا كل مَا كَانَ مَنْهِيّا إِمَّا لعَينه أَو لوصفه ففاسد وباطل، وَلم يفرق الْأَصْحَاب فِي صُورَة من الصُّور بَين الْفَاسِد وَالْبَاطِل فِي الْمنْهِي عَنهُ، وَإِنَّمَا فرقوا بَينهمَا فِي مسَائِل لدَلِيل) انْتهى.
قلت: غَالب الْمسَائِل الَّتِي حكمُوا عَلَيْهَا بِالْفَسَادِ، إِذا كَانَت مُخْتَلفا فِيهَا بَين الْعلمَاء، وَالَّتِي حكمُوا عَلَيْهَا بِالْبُطْلَانِ إِذا كَانَت مجمعا عَلَيْهَا، أَو الْخلاف فِيهَا شَاذ.
ثمَّ وجدت بعض أَصْحَابنَا قَالَ: (الْفَاسِد من النِّكَاح: مَا يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد، وَالْبَاطِل: مَا كَانَ مجمعا على بُطْلَانه.
وَعبر طَائِفَة من أَصْحَابنَا بِالْبَاطِلِ عَن النِّكَاح الَّذِي يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد أَيْضا) .
إِذا علم ذَلِك؛ فقد ذكر أَصْحَابنَا مسَائِل الْفَاسِد غير مسَائِل الْبَاطِل فِي أَبْوَاب مِنْهَا: بَاب الْكِتَابَة، وَالنِّكَاح، وَالْحج، وَغَيرهَا، وَقد ذكر القَاضِي عَلَاء الدّين فِي قَوَاعِده لذَلِك قَاعِدَة وَذكر مسَائِل كَثِيرَة فليعاودها من أرادها.
قَوْله: { [الْعَزِيمَة] لُغَة} : من الْعَزْم، وَهُوَ:{الْقَصْد الْمُؤَكّد} ،
وَمِنْه: {أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل} [الْأَحْقَاف: 35] ، وعزمت عَلَيْك إِلَّا مَا فعلت كَذَا، أَي: عقد الْقلب على إِمْضَاء الْأَمر، أَي: محافظته على مَا أَمر بِهِ، [وعزيمته] على الْقيام بِهِ.
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَلم نجد لَهُ عزما} [طه: 115]، وَقَوله عز وجل:{فَإِذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمرَان: 159] .
قَالَ الْجَوْهَرِي: (عزمت على كَذَا: إِذا أردْت فعله، وَقطعت عَلَيْهِ) وجزمت بِهِ وصممت عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (عزم على الشَّيْء، وعزمه، عزما - من بَاب ضرب -: عقد ضَمِيره على فعله، وعزم، عَزِيمَة، وعزمة: اجْتهد وجد فِي أَمر، وعزيمة الله تَعَالَى: فريضته الَّتِي افترضها، وَالْجمع: عزائم، وعزائم السُّجُود: مَا أَمر بِالسُّجُود فِيهَا) انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (عزم على الْأَمر، يعزم، [عَزمَة] ، وَيضم، ومعزما [وعزما]- بِالضَّمِّ - وعزيما، وعزيمة، وعزمة، واعتزمه، وَعَلِيهِ، وتعزم: أَرَادَ فعله، وَقطع عَلَيْهِ، وجد فِي الْأَمر، وعزم الْأَمر نَفسه: عزم عَلَيْهِ: وعَلى الرجل: أقسم، [والراقي فِي العزائم]، أَي: الرقى، أَو هِيَ آيَات من الْقُرْآن تقْرَأ على ذَوي الْآفَات رَجَاء الْبُرْء، وأولو الْعَزْم من الرُّسُل: الَّذين عزموا على أَمر الله فِيمَا عهد إِلَيْهِم، [وهم] : نوح، وَإِبْرَاهِيم، ومُوسَى [وَعِيسَى] ، وَمُحَمّد [عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام] .
الزَّمَخْشَرِيّ: (أولو الْعَزْم: الْجد والثبات وَالصَّبْر، [وهم] : نوح، وَإِبْرَاهِيم، وَإِسْحَاق، وَيَعْقُوب، [وَأَيوب] ، وَدَاوُد، وَعِيسَى - صلوَات الله عَلَيْهِم وَسَلَامه أَجْمَعِينَ -) انْتهى.
قلت: الصَّحِيح: أَن أولي الْعَزْم الْخَمْسَة الَّذين ذكرهم الله تَعَالَى فِي
الْأَحْزَاب والشورى بقوله: {وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك وَمن نوح وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى [وَعِيسَى] ابْن مَرْيَم} [الْأَحْزَاب: 7]، وَقَوله:{شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى أَن أقِيمُوا الدّين} [الشورى: 13] ، وَقد نبه عَلَيْهِ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره ".
قَوْله: {وَشرعا} .
[أَي] : الْعَزِيمَة فِي الشَّرْع.
{قَالَ الْمُوفق والطوفي و [غَيرهمَا] } وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الْبَيْضَاوِيّ: {الحكم الثَّابِت بِدَلِيل شَرْعِي خَال عَن معَارض، فَيشْمَل الْأَحْكَام الْخَمْسَة} .
فالعزيمة على هَذَا القَوْل وَاقعَة فِي جَمِيع الْأَحْكَام لِأَن كل وَاحِد مِنْهَا حكم ثَابت بِدَلِيل شَرْعِي، فَيكون فِي الْحَرَام وَالْمَكْرُوه على معنى التّرْك، فَيَعُود الْمَعْنى فِي ترك الْحَرَام إِلَى الْوُجُوب.
وَقَوله: (بِدَلِيل شَرْعِي) ، احْتِرَاز من الثَّابِت بِدَلِيل عَقْلِي، فَإِن ذَلِك لَا يسْتَعْمل فِيهِ الْعَزِيمَة والرخصة.
وَقَوله: (خَال عَن معَارض) ، احْتِرَاز مِمَّا يثبت بِدَلِيل، لَكِن لذَلِك الدَّلِيل معَارض مسَاوٍ أَو أرجح، لِأَنَّهُ إِن كَانَ الْمعَارض مُسَاوِيا لزم الْوَقْف، وانتفت الْعَزِيمَة، وَوَجَب طلب الْمُرَجح الْخَارِجِي، وَإِن كَانَ راجحا لزم الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ، وانتفت الْعَزِيمَة وَثبتت الرُّخْصَة: كتحريم الْميتَة عِنْد عدم المخمصة، فالتحريم فِيهَا عَزِيمَة، لِأَنَّهُ حكم ثَابت بِدَلِيل شَرْعِي خَال عَن معَارض، فَإِذا وجدت المخمصة، حصل الْمعَارض لدَلِيل التَّحْرِيم، وَهُوَ رَاجِح عَلَيْهِ، حفظا للنَّفس، فَجَاز الْأكل وحصلت الرُّخْصَة.
قَوْله: {وَأسْقط الرَّازِيّ الْحَرَام} .
فَجَعلهَا منقسمة إِلَى مَا عدا الْحَرَام، فَتكون الْعَزِيمَة عِنْده: الْوَاجِب، وَالْمُسْتَحب، والمباح، وَالْمَكْرُوه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جعل مورد التَّقْسِيم الْفِعْل الْجَائِز فَقَالَ:(الْفِعْل الَّذِي يجوز للمكلف الْإِتْيَان بِهِ، إِمَّا أَن يكون عَزِيمَة، أَو رخصَة) ، هَذَا لَفظه بِحُرُوفِهِ.
قَوْله: {والقرافي} .
أَي: وَقَالَ الْقَرَافِيّ: هِيَ {طلب فعل لم يشْتَهر فِيهِ منع شَرْعِي، فَيخْتَص الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب} ، فَإِن الطّلب تَارَة يكون بجزم وَهُوَ الْوَاجِب، وَتارَة يكون بِغَيْر جزم وَهُوَ الْمَنْدُوب.
وَقَوله (طلب) ، يخرج الْمحرم وَالْمَكْرُوه، وَكَذَا - الْمُبَاح أَيْضا - لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَب.
قَالَ الْقَرَافِيّ: (وَلَا يُمكن أَن يكون الْمُبَاح من العزائم، فَإِن الْعَزْم: هُوَ الطّلب الْمُؤَكّد فِيهِ) .
قَوْله: {وَالْغَزالِيّ، والآمدي، [وَابْن حمدَان، وَابْن مُفْلِح] } .
أَي: قَالُوا: الْعَزِيمَة {مَا لزم} - أَي: الْعباد - {بإلزام الله تَعَالَى من غير مُخَالفَة دَلِيل شَرْعِي، فَيخْتَص الْوَاجِب} .
وَقَالَهُ ابْن الْحَاجِب فِي " الْمُخْتَصر الْكَبِير "، وَهُوَ ظَاهر، وَكَأَنَّهُم احترزوا بِإِيجَاب الله تَعَالَى عَن النّدب، فَإِنَّهُ لَا يُسمى عَزِيمَة.
قَوْله: {والرخصة لُغَة: السهولة} والتيسير، أَي: خلاف التَّشْدِيد، وَمِنْه: رخص السّعر: إِذا سهل، الرُّخص: الناعم، وَهُوَ رَاجع إِلَى معنى الْيُسْر والسهولة.
قَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (يُقَال: رخص الشَّارِع لنا فِي كَذَا ترخيصا، وأرخص إرخاصا: إِذا يسره وسهله، وَفُلَان يترخص فِي الْأَمر: إِذا لم يستقص، وقضيب رخص، أَي: طري لين، وَرخّص الْبدن - بِالضَّمِّ -
رخاصة ورخوصة: إِذا نعم ولان ملمسه فَهُوَ رخيص) انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الرُّخص - بِالضَّمِّ -: ضد الغلاء، وَقد رخص ككرم، و - الْفَتْح -: الشَّيْء الناعم، والرخصة - بضمة وبضمتين -: [ترخيص الله للْعَبد] فِيمَا يخففه عَلَيْهِ، والتسهيل) .
قَوْله: {وَشرعا: مَا ثَبت على خلاف دَلِيل شَرْعِي لمعارض رَاجِح} .
وَهُوَ للطوفي فِي " مُخْتَصره ".
فَقَوله: (مَا ثَبت على خلاف دَلِيل شَرْعِي) ، احْتِرَاز مِمَّا ثَبت على وفْق الدَّلِيل، فَإِنَّهُ لَا يكون رخصَة، بل عَزِيمَة: كَالصَّوْمِ فِي الْحَضَر.
وَقَوله: (لمعارض رَاجِح) ، احْتِرَاز مِمَّا كَانَ لمعارض غير رَاجِح، بل إِمَّا مسَاوٍ فَيلْزم الْوَقْف على حُصُول الرَّاجِح، أَو قَاصِر عَن مُسَاوَاة الدَّلِيل الشَّرْعِيّ، فَلَا يُؤثر وَتبقى الْعَزِيمَة بِحَالِهَا.
{ [وَقيل] } : هِيَ {اسْتِبَاحَة الْمَحْظُور مَعَ قيام [السَّبَب] الحاظر} ، وَهَذَا للشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة "، وَهُوَ قريب من الأول، غير أَن الاستباحة قد يكون مستندها الشَّرْع، فَيلْزم أَن يكون لمعارضة دَلِيل رَاجِح: كَأَكْل الْميتَة فِي المخمصة، فَإِنَّهُ اسْتِبَاحَة للميتة الْمُحرمَة شرعا، مَعَ قيام السَّبَب
الْمحرم، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:{حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} [الْمَائِدَة: 3] ، لدَلِيل شَرْعِي رَاجِح على هَذَا السَّبَب، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:{فَمن اضْطر فِي مَخْمَصَة غير متجانف لإثم فَإِن الله غَفُور رَحِيم} [الْمَائِدَة: 3] ، فَإِن هَذَا خَاص، وَسبب التَّحْرِيم عَام، وَالْخَاص مقدم، هَذَا مَعَ النُّصُوص وَالْإِجْمَاع الحاض على حفظ النُّفُوس واستبقائها.
وَقد لَا تكون الاستباحة مستندة إِلَى الشَّرْع، فَيكون ذَلِك مَعْصِيّة مَحْضَة لَا رخصَة.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (فَلَو قيل: اسْتِبَاحَة الْمَحْظُور شرعا مَعَ قيام السَّبَب الحاظر صَحَّ، وساوى الأول) .
وَقَالَ الْعَسْقَلَانِي فِي " شرح مُخْتَصر الطوفي ": (أَجود مَا يُقَال فِي الرُّخْصَة: ثُبُوت حكم لحالة تَقْتَضِيه مُخَالفَة مُقْتَضى دَلِيل يعمها) .
وَهُوَ لِابْنِ حمدَان فِي " الْمقنع "، وفيهَا حُدُود كَثِيرَة مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَة يكْتَفى بأحدها.
قَوْله: {فَمِنْهَا: وَاجِب: كَأَكْل مُضْطَر ميتَة} .
قد يكون فعل الرُّخْصَة وَاجِبا، وَقد يكون مُسْتَحبا، وَقد يكون مُبَاحا، بِاعْتِبَار الْحَال.
فَالَّذِي فعله وَاجِب: أكل الْميتَة للْمُضْطَر، فَإِنَّهُ وَاجِب على الصَّحِيح من كَلَام الْعلمَاء، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، لِأَنَّهُ سَبَب لإحياء النَّفس، وَمَا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ وَاجِب، وَذَلِكَ لِأَن النُّفُوس حق لله تَعَالَى، وَهِي أَمَانَة عِنْد الْمُكَلّفين، فَيجب حفظهَا ليستوفي الله حَقه مِنْهَا بالعبادات والتكاليف، وَقد قَالَ الله تَعَالَى:{وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} [الْبَقَرَة: 195]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} [النِّسَاء: 29] .
وَقيل: أكلهَا جَائِز - أَي: مُبَاح - لَا وَاجِب لِأَن إِبَاحَة الْأكل رخصَة فَلَا يجب عَلَيْهِ كَسَائِر الرُّخص، وَلِأَن لَهُ غَرضا فِي اجْتِنَاب النَّجَاسَة وَالْأَخْذ بالعزيمة، وَرُبمَا لم تطب نَفسه بتناول الْميتَة، وَفَارق الْحَلَال فِي الأَصْل من هَذِه الْوُجُوه، ذكره أَصْحَابنَا.
وَقيل: الْأكل مُسْتَحبّ لَا وَاجِب.
وَقيل: أكلهَا عَزِيمَة لَا رخصَة.
قَالَ إِلْكيَا الطَّبَرِيّ: (هَذَا هُوَ الصَّحِيح عندنَا) .
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": (وَيجوز أَن يُقَال: التَّيَمُّم وَأكل الْميتَة كل مِنْهُمَا رخصَة عَزِيمَة بِاعْتِبَار الْجِهَتَيْنِ) انْتهى.
وَقَالَ السُّبْكِيّ: (هِيَ رخصَة عَزِيمَة باعتبارين) .
وَلَعَلَّه أَخذه من كَلَام الطوفي.
تَنْبِيه: الْحَاصِل من تَقْرِير مجامعة الرُّخْصَة للْوُجُوب وَنَحْوه على القَوْل الْمُقدم: أَن الرُّخْصَة - فِي الْحَقِيقَة -: إحلال الشَّيْء، لِأَنَّهَا التَّيْسِير والتسهيل، ثمَّ قد يعرض لَهُ وصف آخر من الْأَحْكَام غير الْحل لدَلِيل، كحل أكل الْميتَة، نَشأ وُجُوبه من وجوب حفظ النَّفس، فَلذَلِك انقسمت الرُّخْصَة إِلَى هَذِه الْأَقْسَام، وَالصَّحِيح: أَن حكمهَا وَاجِب، فَتغير حكمهَا من صعوبة التَّحْرِيم إِلَى سهولة الْوُجُوب، لموافقته لغَرَض النَّفس، لعذر الِاضْطِرَار، مَعَ قيام سَبَب التَّحْرِيم حَال الْحل، وَهُوَ الْخبث.
فَائِدَة: قَالَ الشَّيْخ عبد الْعَزِيز - شَارِح الْبَزْدَوِيّ -: (عَن الْعلمَاء فِي حكم الْميتَة وَنَحْوهَا فِي حَالَة الضَّرُورَة، هَل هِيَ مُبَاحَة، أَو تبقى على حكم التَّحْرِيم ويرتفع الْإِثْم كَمَا فِي الْإِكْرَاه على الْكفْر؟ وَهُوَ رِوَايَة عَن أبي يُوسُف وَأحد قولي الشَّافِعِي.
قَالَ: وَذهب أَكثر أَصْحَابنَا إِلَى ارْتِفَاع الْحُرْمَة.
وَذكر للْخلاف فائدتين: إِحْدَاهمَا: إِذا جَاع حَتَّى مَاتَ لَا يكون آثِما على الأول، بِخِلَافِهِ على الثَّانِي.
الْفَائِدَة الثَّانِيَة: إِذا حلف لَا يَأْكُل حَرَامًا، فتناوله فِي حَالَة الضَّرُورَة، حنث على الأول لَا الثَّانِي) .
وَمِمَّا يجب من الرُّخْصَة: إساغة اللُّقْمَة بِالْخمرِ لمن غص بهَا، فَهِيَ كالميتة للْمُضْطَر.
قَالَ ابْن حمدَان: (وَيجب فطر الْمَرِيض فِي رَمَضَان إِذا خَافَ الْمَوْت بِعَدَمِهِ) .
{و} من الرُّخْصَة مَا هُوَ {مَنْدُوب: كقصر [الْمُسَافِر] } الصَّلَاة عِنْد أَصْحَابنَا وإمامنا، إِذا اجْتمعت الشُّرُوط وانتفت الْمَوَانِع، وَكَذَلِكَ عِنْد الشَّافِعِيَّة.
{و} مِنْهَا مَا هُوَ {مُبَاح [كالجمع] } بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي غير عَرَفَة ومزدلفة، وَكَذَا كلمة الْكفْر لمن أكره، وَكَذَلِكَ الْعَرَايَا للْحَدِيث فِي ذَلِك،