الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا سرى القطع إلى نفس فمات السارق فلا يسأل القاطع عن الموت إلا إذا كان مسئولاً عن القطع، فإن كان مسئولاً عن القطع فهو مسئول عن قتله عمداً وإن لم يكن فلا مسئولية؛ لأن الموت عن قطع واجب والواجب لا يتقيد بشرط السلامة.
والفرق بين هذه الحالة وحالة القصاص عند أبي حنيفة أن القصاص حق للمقتص وليس واجباً عليه، وهو مخير في حقه إن شاء عفا وإن شاء أقتص، بل هو مندوب إلى العفو، فضلاً عن أن استعمال الحق عند أبي حنيفة مقيد بشرط السلامة.
أما القطع للسرقة فواجب؛ لأنه حد وإقامة الحد واجبة على كل فرد ولو أن نائب الجماعة مخصص بإقامتها، فضلاً عن أن الضرورة تقتضي التسامح فيما ينشأ عن تنفيذ الحد حتى لا تتعطل إقامة الحدود (1) .
ويشترط الشافعية في القاطع أن لا يكون مهدراً، وتطبيقاً لقاعدتهم الخاصة وهي أن غير المعصوم معصوم على أنداده، وهي قاعدة لا يطبقها إلا الشافعيون. ويرى بعض الشافعية أن السارق معصوم إلا على المجني عليه في السرقة، ويعتبرون القطع حقاً للمجني عليه، وهو رأي مرجوح (2) .
* * *
الفرع السادس
حقوق الحكام وواجباتهم
(3)
385 -
واجبات الحكام: تضع الشريعة واجبات على عاتق السلطات العامة وتلزمها بأدائها لصالح الجماعة، ويقوم بتنفيذ هذه الواجبات الموظفون
(1) بدائع الصنائع ج7 ص305، البحر الرائق ج8 ص319.
(2)
شرح البهجة ج5 ص3.
(3)
للحكام بصفتهم أفراداً كل حقوق الأفراد وعليهم كل الواجبات التي سبق بيانها، ولكنهم بصفتهم حكاماً لهم حقوق وعليهم واجبات من نوع آخر، وقد خصصنا هذا البحث لهذه الحقوق التي يتميز بها الحكام وتلك الواجبات التي يحملونها.
العموميون على اختلاف درجاتهم كل فيما يختص به. فإذا أدى الموظف واجبه فلا يسأل عنه جنائياً ولو كان الفعل الذي قام به مما تحرمه الشريعة بصفة عامة، فالقتل مثلاً محرم على الكافة ولكنه مباح إذا كان عقوبة؛ لأن العقوبة ليست عدواناً، ولأن من واجب القاضي أن يحكم بها ومن واجب الهيئة التنفيذية أن تنفذها، والحكم بعقوبة الجلد وتنفيذها من واجبات الموظفين، ولا مسئولية على قاضٍ أو منفذ ول أن الضرب محرم أصلاً؛ لأن الحكم واجب على القاضي، والتنفيذ واجب على المنفذ، ولا خيار لأحدهما فيما يجب عليه.
والقاعدة في الشريعة الإسلامية أن الموظف لا يسأل جنائياً إذا أدى عمله طبقا للحدود المرسومة لهذا العمل. أما إذا تعدى هذه الحدود فهو مسئول جنائياً عن عمله إذا كان يعلم أن لا حق له فيه، أما إذا حسنت نيته فأتي العمل وهو يعتقد أن من واجبه إتيانه فلا مسئولية عليه من الناحية الجنائية.
ومن تطبيقات هذه القاعدة إقامة الحدود، فلا خلاف بين الفقهاء في أن إقامة الحدود واجبة، وأن سائر الحدود إذا أتي بها على الوجه المشروع من غير زيادة فلا مسئولية على مقيمها عما تؤدي إليه من تلف؛ لأن الواجب لا يقيد بشرط السلامة، ولأنه لابد للمكلف بالواجب من إتيانه، فمن أقام حد الزنا على غير محصن فضربه مائة جلدة بطريقة مشروعة فلا مسئولية على الضارب إذا أدى الضرب إلى الموت، فإذا تعمد الزيادة عن المائة أو الخطأ فزاد على المائة فأدى الضرب إلى الموت فهو مسئول جنائياً في حالين، وهو مسئول عن الزيادة في الحالين ولو لم يؤد الضرب للموت. وإذا أمر الإمام مقيم الحد أن يضرب أكثر من مائة، وكان مقيم الحد يعتقد طاعة الإمام وتجهل تجريم الزيادة، فلا مسئولية عليه وإنما مسئولية على الإمام، فإذا كان عالماً بالتحريم فهو مسئول ولا يعفيه الأمر من المسئولية (1) .
ومن تطبيقات هذه القاعدة أن الإمام يقتص منه في كل ما تعمده من
(1) المغني ج10 ص334، شرح فتح القدير ج4 ص217، 218، 251، أسنى المطالب ج4 ص163.
جور جار به على الناس، فإذا قتل إنساناً قتل به، وإذا قطع إنساناً قطع به، سواء باشر الفعل كأن ضربه بسيف أو تسبب فيه كأن حكم عليه ظلماً بالقتل أو القطع (1) .
وكان يسأل الإمام عن عمده يسأل عن خطئه، لكنهم اختلفوا في ضمان الخطأ، فرأى البعض أن الضمان على الإمام وعاقلته؛ لأنه ضمان وجب بخطئه مسئوليته عنه كمسئولية أي مخطئ. ورأى البعض أن ضمان الخطأ في بيت المال؛ لأن خطأ الإمام يكثر فلو وجب الضمان في ماله ومال عاقلته لأجحف بهم، فضلاً عن أن الحاكم يعمل للجماعة وليس لنفسه (2) .
ويطبق مالك وأبو حنيفة وأحمد القاعدة السابقة في التعازير، فيرون أن لا عقوبة ولا ضمان على حاكم عزر إنساناً إذا أدت العقوبة التعزيرية إلى موت المحكوم عليه، سواء كانت العقوبة في ذاتها مهلكة كعقوبة الإعدام، أو كانت غير مهلكة كالجلد ولكن تنفيذها أدى لموت المحكوم عليه، ورأى هؤلاء الفقهاء قائم على أن فعل المحكوم عليه استوجب الحكم بالعقوبة وتنفيذها عليه، وأن التعزير واجب لحفظ سلامة الأفراد وصيانة نظام الجماعة، والواجب غير مقيد بشرط السلامة إذا أداه المكلف به في حدوده المشروعة ولم يتعمد الزيادة عليه ولم يحدث منه خطأ في أدائه (3) .
أما الشافعي فيرى أن يضمن الإمام دية المحكوم عليه إذا عزره فمات أو كانت العقوبة التعزيرية هي الموت؛ لأن من حق الإمام العفو عن الجريمة والعفو
(1) شرح فتح القدير ج4 ص160، 161، المهذب ج2 ص189، الشرح الكبير ج9 ص342، 343، مواهب الجليل ج6 ص242، المدونة ج16 ص57، الأم ج6 ص170، 171.
(2)
المغني ج10 ص334، 335، المهذب ج2 ص228، الأم ج6 ص170، 171.
(3)
المغني ج10 ص349، شرح الزرقاني ج8 ص116، شرح فتح القدير ج4 ص212، 213.
عن العقوبة كما أن من حقه اختيار العقوبة الملائمة للجريمة والمجرم، والتعزير بعد هذا مقصود بع التأديب لا الهلاك فكان مشروطاً بسلامة العاقبة، فإذا عاقب الإمام بعقوبة متلفة أو بعقوبة أدت للتلف فعلاً فهو مسئول عن ضمان الجاني.
ويدخل في التعزير عند الشافعي حد الخمر إذا زاد على أربعين جلدة، فإذا ضرب شارب الخمر أكثر من أربعين فأدى ذلك لموته كان الإمام مسئولاً؛ لأن ما زاد على الأربعين تعزير مشروط بسلامة العاقبة.
ويحتج الشافعي في ترتيب المسئولية على الإمام عن التعزير المتلف أو المؤدي للتلف بأن علياً رضي الله عنه قال: ليس أحد عليه الحد فيموت فأجد في نفسي شيئاً أن الحد قتله إلا حد الخمر فإن رسول الله لم يسنه لنا. كما يحتج بأن علياً أشار على عمر بضمان امرأة استدعاها عمر ففزعت وألقت جنينها حين أرسل إليها، وقد عمل عمر بمشورته. ويحتج أيضاً بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير التعزير واجباً في كل حال، وأنه عفا عن الجريمة وعفا عن العقوبة في جرائم التعزير (1) .
ورأي الأئمة الثلاثة يتفق مع مبدأ الذي تسير عليه القوانين الوضعية الحديثة على خلاف رأي الشافعي، ولكن رأي الشافعي يؤدي إلى مبدأ اجتماعي صالح إذ يعوض ورثة المحكوم عليه عن موت عائلهم الذي يموت في أغلب الأحوال من عقوبة لم يقصد منها موته، ولا شك أن مثل هذا التعويض يساعد على حماية أسرة المحكوم عليه وتنشئة أولاده تنشئة حسنة.
386 -
حقوق الحكام: للحكام في الشريعة كل ما للأفراد من الحقوق ولكن لهم فوق ذلك حق الأمر على الأفراد، واستعمال هذا الحق يؤدي إلى ترتيب واجب على الأفراد هو واجب الطاعة، وقد قرر القرآن هذا الحق
(1) أسنى المطالب ج4 ص163، شرح البهجة ج5 ص108، المهذب ج2 ص228.
وذلك الواجب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] .
وحق الأمر وواجب الطاعة كلاهما مقيد غير مطلق، فليس لآمر أن يأمر بما يخالف الشريعة، وليس لمأمور أن يطيع فيما يخالف الشريعة سواء كان موظفاً أو غير موظف، وذلك ظاهر من قوله تعالى:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} ، ومن قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وقوله:"من أمركم من الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه".
فأمر الحاكم في الشريعة لا يخلي المأمور من المسئولية ولو كان المأمور موظفاً.
وإذا أمر الرئيس مرءوسه بعمل مخالف للشريعة فأتاه وهو عالم بأنه غير مباح له كان على المرءوس عقوبة الفعل الذي أتاه، لأن أمر الرئيس في هذه الحالة يعتبر أمراً غير ملزم لا تجب طاعته، لأنه صدر فيما لا سلطان للرئيس فيه، وليس للمرءوس أن ينفذه فإن نفذه حمل مسئوليته.
وإذا كان الفعل محرماً ولكن المأمور لا يعلم بذلك ونفذه طاعة للأمر معتقداً أنه غير محرم فلا مسئولية علي المأمور لحسن نيته، بشرط أن يكون الفعل داخلاً في اختصاص الآمر، إذ من الواجب على المأمور أن يطيع رئيسه فيما ليس بمعصية (1) .
وإذا أكره الرئيس المرءوس على قتل أحد أو جلده بغير حق فمات فكلاهما مسئول جنائياً عن الفعل، ولا يعفي الإكراه المرءوس من المسئولية ولو كان الإكراه ملجئاً، إذ الأصل في الشريعة أن الإكراه على القتل لا يعفي المكره من العقوبة. وإذا كان الإكراه الملجئ لا يعفي من العقوبة فالإكراه الأدبي لا يعفي منها من باب أولى. والواقع أن الشريعة لا ترى في مركز الرئيس من المرءوس ما يحمل الأخير على إطاعة أمر مخالف للشريعة.
(1) الشرح الكبير ج9 ص342، 343، أسنى المطالب ج4 ص7 وما بعدها، شرح الزرقاني ج8 ص10.