الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العاتية، فقد كان عمر بن الخطاب يحكم بالعدل لا يبغي عرض الدنيا وإنما يبغي ثواب الآخرة، وكان يبتعد عن الظلم؛ لأنه يخشى اليوم الآخر، أما حكام اليوم فإنما يحكمون بالعدل إذا حكموا لينالوا ثناء الجماهير، ويبتعدون عن الظلم لأنهم يخشون فقدان مناصبهم.
وكان العالم الورع قديماً يكتب ما يكتب لوجه الله وطمعاً فيما عنده ويدع ما يدع خشية من الله وخوفاً من غضبه، وأما العالم المطلع اليوم فيكتب ما يكتب لتروج كتاباته لدى الجماهير؛ ويدع ما يدع خوفاً من إعراض الجماهير وما يتبع الإعراض من الكساد والبوار.
وكان العامل المتدين ما زال يعمل ليؤدي ما عليه من حق لرب العمل إرضاء لله ولا يقصر في عمله خشية غضب الله، أما العامل اليوم فإنما يجد في عمله انتظاراً للمكافأة العاجلة من رب العمل أو طلباً لزيادة الأجر، ويبتعد عن التقصير؛ لأنه يجر عليه الطرد والحرمان من العمل.
هذه هي طبيعة الناس لن تتغير ولن تتبدل ولو تغيرت مظاهرها وتبدلت وسائلهم، وهي طبيعتهم إذا تقدموا وطبيعتهم إذا تأخروا، ويرجون الثواب ويحرصون على الوصول إليه، ويخشون العقاب ولا يرضونه لأنفسهم، فمن الحكمة أن تستغل طبيعة البشر في سياستهم وتوجههم، وقد استغلت الشريعة الإسلامية طبيعة البشر فأقامت أحكامها على أساس ما في خلائقهم الأصلية من رجاء وخوف، ومن قوة وضعف، فجاءت أحكاماً صالحة لكل مكان وزمان؛ لأن طبائع البشر واحدة في كل مكان؛ ولأنها لا تتغير بتغير الأزمان. وذلك هو السر في صلاحية الشريعة للقديم والحديث، وهو السر في صلاحيتها للمستقبل القريب والبعيد.
* * *
المبحث الثالث
عقوبة الشرب
457 -
عقوبة الجلد: تعاقب الشريعة على شرب الخمر بالجلد ثمانين جلدة،
وهي عقوبة ذات حد واحد؛ لأن القاضي لا يستطيع أن ينقص منها أو يزيد عليها أو يستبدل بها غيرها.
ويرى الشافعي أن حد الشرب أربعين جلدة فقط على خلاف بقية الأئمة، وحجته أنه لم يثبت عن الرسول أنه ضرب في الخمر أكثر من أربعين، أما الأربعون الأخرى فليست من الحد عند الشافعي وإنما هي تعزير.
ومصدر العقوبة التشريعي هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه"، أما تحريم الخمر فمصدره القرآن، والرأي الراجح أن العقوبة لم يحدد مقدارها بثمانين جلدة إلا في عهد عمر بن الخطاب، حيث استشار أصحاب الرسول في حد شارب الخمر، فأفتى علي بن أبي طالب بأن يحد ثمانين جلدة؛ لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفترى - أي القاذف - ثمانون جلدة، ووافق أصحاب الرسول على هذا الرأي. وإذن تحريم الخمر مصدره القرآن، والعقاب مصدره السنة، ومقدار الحد مصدره الإجماع.
والدافع الذي يدفع شارب الخمر لشربها هو رغبته في أن يسنى آلامه النفسية، ويهرب من عذاب الحقائق إلى سعادة الأوهام التي تولدها نشوة الخمر.
وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس شارب الخمر بعقوبة الجلد، فهو يريد أن يهرب من آلام النفس ولكن عقوبة الجلد ترده إلى ما هرب منه وتضاعف له الألم إذ تجمع له بين ألم النفس وألم البدن، وهو يريد أن يهرب من عذاب الحقائق إلى سعادة الأوهام وعقوبة الجلد تروه إلى العذاب الذي هرب منه وتجمع له بين عذاب الحقائق وعذاب العقوبة.
فالشريعة بوضعها عقوبة الجلد لشارب الخمر قد وضعتها على أساس متين من علم النفس، وحاربت الدوافع النفسية التي تدعو للجريمة بالدوافع النفسية المضادة التي تصرف بطبيعتها عن الجريمة والتي لا يمكن أن يقوم غيرها من الدوافع النفسية مقامها، فإذا ما فكر الشخص في شرب الخمر لينسى آلام نفسه ذكر مع
الخمر العقوبة التي ترده إلى آلام النفس والبدن، وإذا ما فكر في شرب الخمر ليهرب من عذاب الحقائق ذكر مع الخمر أنه سوف يرد إلى عذاب الحقائق وعذاب العقوبة، وفي هذا ما يصرف الشخص غالباً عن ارتكاب الجريمة، فإذا لم يصرف عنها وارتكابها مرة كان فيما يصيبه من العقوبة هذه المرة ما يغلب العوامل النفسية الصارفة عن الجريمة على العوامل النفسية الداعية إليها إذا ما فكر في الجريمة مرة أخرى.
458 -
الخمر طبياً واجتماعياً: ومن المسلم به من الناحيتين الطبية والاجتماعية في عصرنا الحاضر أن الخمر لا فائدة فيها وأن أضرارها لا تحصى، فهي تفسد العقل، وتفسد الصحة، وتؤدي إلى العقم أحياناً، وإلى ضعف النسل غالياً، كما تؤدي إلى ضياع المال، وضياع الكرامة، فكان المعقول بعد هذا أن تأتي دولة كمصر فتحرم الخمر مستندة إلى دستورها الذي يجعل دين الدولة الرسمي الإسلام، وإلى الإسلام الذي يحرم الخمر ويعاقب على شربها، وإلى النتائج السيئة التي تنتج عن شرب الخمر، ولكن مصر لم تفعل شيئاً من هذا وأباح قانونها الوضعي الخمر إباحة مطلقة فلم يعاقب على شربها أو إحرازها أو بيعها، وإذا كان قد عاقب شارب الخمر إذا سكر وتواجد في محل عام فالعقاب في هذه الحالة ليس على شرب الخمر والسكر وإنما على التواجد في محل عام بحالة سكر بيّن، ولم يتشدد القانون في عقاب هذه الحالة الوحيدة فجعل الجرائم مخالفة عقوبتها الغرامة التي لا تزيد على مائة قرش أو الحبس البسيط الذي لا يتجاوز أسبوعاً (1) . والعيب في هذا ليس على واضع القانون فهو رجل أوروبي غير مسلم ينقل عن القانون الفرنسي، ولكن العيب عيب الذين أقروا هذا القانون ورضوا به وطبقوه وهو باطل بطلاناً مطلقاً في كل ما يخالف الشريعة الإسلامية، والعيب عيب من أرادوا أن يجعلوا من مصر البلد الشرقي الإسلامي مقاطعة
(1) المادة 385 من قانون لعقوبات المصري.