الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس
سقوط العقوبة
527 -
أسباب سقوط العقوبة: تسقط العقوبات في الشريعة بأسباب مختلفة، ولكن ليس في هذه الأسباب ما يعتبر سبباً عاماً مسقطاً لكل عقوبة إنما تتفاوت الأسباب في أثرها على العقوبات، فبعضها يسقط معظم العقوبات، وبعضها مسقط لأقلها، وبعضها خاص بعقوبات دون الأخرى.
والأسباب المسقطة للعقوبات هي:
(1)
موت الجاني
…
(2) فوات محل القصاص
…
... (3) توبه الجاني.
(4)
الصلح
…
... (5) العفو
…
...
…
(6) إرث القصاص؟.
(7)
التقادم.
528 -
موت الجاني: تسقط العقوبات بموت الجاني إذا كانت بدينة أو متعلقة بشخص الجاني؛ لأن محل العقوبة هو الجاني ولا يتصور تنفيذها بعد انعدام محلها.
أما إذا كانت العقوبة مالية كالدية والغرامة والمصادرة فلا تسقط بموت الجاني؛ لأن محل العقوبة مال الجاني لا شخصه ومن الممكن تنفيذ العقوبة على مال الجاني بعد موته.
وقد اختلف الفقهاء فيما إذا كان سقوط عقوبة القصاص بموت الجاني يوجب الدية في ماله أو لا يوجبها، فرأى مالك وأبو حنيفة أن انعدام محل القصاص يترتب عليه سقوط عقوبة القصاص ولا يترتب عليه وجوب الدية في مال القاتل؛ لأن القصاص عندهما واجب والدية في رأيهما لا تجب بدلاً من القصاص إلا برضاء الجاني، فإذا مات الجاني سقط الواجب وهو القصاص ولم تجب الدية؛ لأن الجاني لم يوجبها على نفسه، ويستوي أن يكون الموت بآفة
سماوية أو بيد شخص آخر ما دام الموت بحق، فإذا مات الجاني بمرض أو قتل في قصاص لشخص آخر أو قتل لزناً أو رد'، ففي كل هذه الحالات تسقط عقوبة القصاص ولا تجب الدية بدلاً منها.
أما إذا قتل الجاني ظلماً فيرى مالك أن القصاص لأولياء المقتول الأول، فمن قتل رجلاً فعدا عليه أجنبي فقتله عمداً فدمه لأولياء المقتول الأول، ويقال لأولياء المقتول الثاني: ارضوا أولياء المقتول الأول وشأنكم بقاتل وليكم في القتل أو العفو، فإن لم يرضوهم فلأولياء المقتول الأول قتله أو العفو عنه، ولهم ذلك إن لم يرضوا بما بذلوا لهم من الدية أو أكثر منها، وإن قتل خطأ فديته لأولياء المقتول الأول (1) .
ويسوي أبو حنيفة بين الموت بحق والموت بغير حق فكلاهما يسقط حق القصاص سقوطاً مطلقاً ولا يوجب الدية في مال الجاني ولا في مال غيره إذا جنى عليه (2) .
ويرى الشافعي وأحمد أن فوات محل القصاص يسقط عقوبة القصاص في كل الأحوال سواء كان الموت بحق أو بغير حق، ولكنه يؤدي إلى وجوب الدية في مال الجاني؛ لأن الواجب بالقتل عندهما أحد شيئين غير عين القصاص والدية، فإذا تعذر أحدهما لفوات محله وجب الآخر، ولأن ما ضمن بسببين على سبيل البدل إذا تعذر أحدهما ثبت الآخر (3) .
ونستطيع أن نتبين مدى الخلاف بين الفقهاء في مثل الآتي: إذا قتل زيد علياً فإن لأولياء على حق القصاص على زيد، فإذا مرض زيد ومات سقط القصاص بموته ولا شئ لأوليائه طبقاً لرأي مالك وأبي حنيفة، ولأوليائه الدية في مال زيد طبقاً لرأي الشافعي وأحمد. فإذا كان موت زيد راجعاً إلى أن خالداً
(1) مواهب الجليل ج7 ص231.
(2)
بدائع الصنائع ج7 ص246.
(3)
المهذب ج2 ص201، الشرح الكبير ج9 ص714.
قتله عمداً أو صدمه بسيارته خطأً فقتله فقد سقط حق القصاص ولا شئ لأولياء عليّ في رأي أبو حنيفة، أما طبقاً لرأي مالك فحق القصاص ينتقل إلى خالد ولأولياء عليّ أن يقتصوا منه في حالة العمد، وليس لأولياء زيد أن يقتصوا من خالد إلا إذا أرضوا أولياء علي، وفي حالة الخطأ يدفع خالد دية زيد لأولياء عليّ. وطبقاً لرأي الشافعي وأحمد يسقط القصاص بموت زيد ويكون لأولياء عليّ الدية في مال زيد.
529 -
فوات محل القصاص: المقصود بالقصاص هنا القصاص فيما دون النفس. ومعنى فوات محل القصاص أن يذهب العضو المحل القصاص مع بقاء الجاني حياً، ففوات محل القصاص سبب مسقط لعقوبة القصاص دون النفس فقط.
والأصل أن محل القصاص فيما دون النفس هو العضو المماثل لمحل الجناية، فإذا فات محل القصاص سقط القصاص؛ لأن محله انعدم ولا يتصور وجود الشيء مع انعدام محله.
وإذا سقط القصاص بحق لم يجب للمجني عليه شئ عند مالك، لأن حق المجني عليه في القصاص عيني فإذا سقط القصاص فقد سقط حق المجني عليه، أما إذا فات محل القصاص بظلم فإن حق القصاص ينتقل إلى الظالم، على التفصيل الذي سبق بيانه في حالة موت القاتل (1) .
وأبو حنيفة - وهو من القائلين بأن موجب العمد هو القصاص عيناً - يفرق بين ما إذا فات محل القصاص بآفة أو مرض أو ظلماً، وبين فواته بحق كتنفيذ عقوبة أو استيفاء قصاص. وفي الحالة الأولى يرى أن المجني عليه لا يجب له شئ بفوات محل القصاص، أما في الحالة الثانية فيرى أن المجني عليه تجب له الدية بدلاً من القصاص؛ لأن الجاني قضى بالطرف أو الجارحة التي فاتت حقاً مستحقاً عليه (2) .
(1) مواهب الجليل ج6 ص213، شرح الدردير ج2 ص213.
(2)
بدائع الصنائع ج7 ص246، 298.
ويرى الشافعي وأحمد أن للمجني عليه إذا ذهب محل القصاص أن يأخذ الدية أياً كان سبب ذهاب محل القصاص، لأن موجب العمد عندهما أحد شيئين غير عين القصاص والدية، فإذا ذهب محل القصاص تعينت الدية موجباً.
530 -
توبة الجاني: من المتفق عليه في الشريعة أن التوبة تسقط عقوبة جريمة الحرابة المقررة جزاء على الأفعال التي تمس حقوق الجماعة، وذلك لقوله جل شأنه:{إِلَاّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 34] ، فالمحارب إذا تاب قبل القدرة عليه سقطت عنه العقوبات المقرة على الأفعال الماسة بحقوق الجماعة، أما العقوبات المقررة على الأفعال الماسة بحقوق الأفراد فلا تسقطها التوبة.
وإذا كان الفقهاء قد اتفقوا على أن التوبة تسقط العقوبة المقررة لجريمة الحرابة إذا حدثت التوبة قبل القدرة على المحارب فإنهم قد اختلفوا في أثر التوبة على ما عدا هذه الجريمة، ولهم في ذلك ثلاث نظريات ذكرناها بمناسبة الكلام على العدول عن الجريمة فلا داعي لتكرارها هنا (1) .
531 -
الصلح: الصلح سبب من أسباب سقوط العقوبة، ولكنه لا يسقط إلا القصاص والدية أما ما عداهما فلا أثر للصلح عليها.
ولا خلاف بين الفقهاء في أن القصاص يسقط بالصلح، ويصح أن يكون الصلح عن القصاص بأكثر من الدية وبقدرها وبأقل منها.
والأصل في الصلح السنة والإجماع. فقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عمداً دفع إلى أولياء
(1) راجع الفقرة 253.
المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية، وما صولحوا عليه فهو لهم"، وفي عهد معاوية قتل هدبة بن خشرم قتيلاً فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات ليعفو عنه فأبي ذلك وقتله (1) .
ولما كان القصاص ليس مالاً جاز الصلح عنه بما يمكن أن يتفق عليه الفريقان؛ لأنه صلح عما لا يجري فيه الربا فأشبه الصلح على العروض، فيصح أن يكون بدل الصلح قليلاً أو كثيراً من جنس الدية أو من خلاف جنسها، حالاً أو مؤجلاً.
أما إذا كان الصلح على الدية وليس على القصاص فإنه لا يجوز أن يكون على أكثر مما تجب فيه الدية؛ لأن ذلك يعتبر رباً، فمثلاً لا يصلح الصلح على الدية مقابل مائة وعشرين من الإبل؛ لأن الدية مائة من الإبل فقط؛ ولأن الزيادة رياً.
532 -
العفو: العفو سبب من أسباب سقوط العقوبة، وهو إما أن يكون من المجني عليه أو وليه، وإما أن يكون من ولي الأمر، ولكن العفو ليس على أي حال سبباً عاماً لإسقاط العقوبة، وإنما هو سبب خاص يسقط العقوبة في بعض الجرائم دون البعض الآخر، والقاعدة التي تحكم العفو أنه لا أثر له في جرائم الحدود، وأن له أثره فيما عدا ذلك على التفصيل الآتي:
533 -
جرائم الحدود والعفو: ليس للعفو أي أثر على الجرائم التي تجب فيها عقوبات الحدود، وليس للعفو أثر على هذه العقوبات سواء كان العفو من المجني عليه أو من ولي الأمر. فالعقوبة في هذه الجرائم لازمة محتمة ويعبر الفقهاء عنها بأنها حق الله تعالى؛ لأن ما كان حقاً لله امتنع العفو فيه أو إسقاطه (2) .
(1) المغني ج9 ص477.
(2)
إذا عوقب على جريمة من جرائم الحدود بعقوبة تعزيرية مع عقوبة الحد جاز لولي الأمر أن يعفو عن العقوبة التعزيرية وحدها، وإذا امتنع الحد في جريمة من جرائم الحدود وعوقب عليها بالتعزير فليس لولي الأمر العفو عن العقوبة على الرأي الراجح.
وقد ترتب على عدم جواز العفو عن العقوبة أو إسقاطها اعتبار من وجب عليه حد مهلك مهدراً فيما وجب فيه الحد، فإن وجب الحد في نفسه أهدرت نفسه، وإن وجب في طرفه أهدر طرفه (1) .
534 -
العفو في جرائم القصاص والدية: تجيز الشريعة للمجني عليه أو ولي دمه أن يعفو عن عقوبتي القصاص والدية (2) دون غيرهما من العقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية، فليس له أن يعفو عن عقوبة الكفارة، ولا يؤثر عفوه على حق ولي الأمر في تعزير الجاني بعد العفو عنه.
وليس لولي الأمر أن يعفو في جرائم القصاص والدية عن العقوبات المقدرة كالقصاص والكفارة، ولكن له أن يعفو عن أية عقوبة تعزيرية يعاقب بها الجاني، وله أن يعفو عن كل عقوبة أو بعضها.
وحق المجني عليه أو وليه في العفو مقصور؛ كحق ولي الأمر على العفو عن العقوبة فقط، وليس لأيهما العفو عن الجريمة، فإذا عفا أحدهما عن الجريمة انصرف عفوه إلى العقوبة في الحدود التي بيناها، والعلة في منع العفو عن الجريمة أنه لو سمح للمجني عليه بالعفو عن الجريمة لما أمكن معاقبة الجاني، وفي هذا خطر شديد على الجماعة؛ لأن الجريمة تمس الجماعة وإن كانت أكثر مساساً بالمجني عليه، ولو سمح لولي الأمر بالعفو عن الجريمة لأمكن تعطيل حق المجني عليه في القصاص والدية.
والأصل في حق المجني عليه أو وليه في العفو الكتاب والسنة، أما الكتاب فقد أقر هذا الحق في سياق قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} حيث قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178]، وفي سياق قوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} حيث
(1) راجع الفقرة 375 وما بعدها.
(2)
المقصود من الدية معناه الأعم فتشمل الدية والأرش والحكومة.
قال: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} [المائدة: 45] . وأما السنة فإن أنس بن مالك قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شئ من قصاص إلا أمر فيه بالعفو".
والعفو عن القصاص عند الشافعي وأحمد هو التنازل عن القصاص مجاناً أو على الدية، فمن تنازل عن القصاص من القاتل مجاناً فهو عاف، ومن تنازل عن القصاص مقابل الدية فهو عاف (1) .
والعفو عند مالك وأبي حنيفة هو إسقاط القصاص مجاناً، أما التنازل عن القصاص مقابل الدية فهو ليس عفواً وإنما هو صلح؛ لأن الجاني لا يلزم بالدية إلا إذا قبلها (2) .
ويعتبر مالك وأبو حنيفة العفو عن القصاص على الدية صلحاً لا عفواً؛ لأن الواجب بالعمد عندهما هو القصاص عيناً؛ لأن الدية لا تجب عندهما إلا برضاء الجاني، وإذا كان إسقاط القصاص على الدية يقتضي رضاء الطرفين فهو صلح لا عفو. أما الشافعي وأحمد فيعتبران العفو عن القصاص على الدية عفواً لا صلحاً؛ لأن الواجب العمد عندهما أحد سيئين غير عين القصاص والدية، والخيار للمجني عليه أو وليه دون حاجة لرضاء الجاني، ولما كان القصاص أشد من الدية كان إسقاطه واختيار الدية إسقاطاً محضاً لا مقابل له وترك للأثر وأخذ الأقل، فهو عفو؛ لأنه إسقاط محض صادر من طرف واحد وغير متوقف على موافقة الطرف الآخر.
وكما يجوز العفو عن القصاص يجوز العفو عن الدية، وسواء كانت الدية هي العقوبة الأصلية كما في القتل الخطأ أو كانت حالة محل القصاص.
535 -
العفو في جرائم التعازير: من المتفق عليه بين الفقهاء أو لولي
(1) المهذب ج2 ص201، الشرح الكبير ج9 ص417.
(2)
الشرح الكبير للدردير ج4 ص230، الزيلعي ج4 ص107، 108، البحر الرائق ج8 ص300، 301.
الأمر حق العفو كاملاً في جرائم التعازير، فله أن يعفو عن الجريمة وله أن يعفو عن العقوبة كلها أو بعضها، ولكنهم اختلفوا فيما إذا كان لولي الأمر حق العفو في كل جرائم التعازير أو في بعضها دون البعض الآخر.
فرأى البعض أن ليس لولي الأمر حق العفو في جرائم القصاص والحدود التامة التي امتنع فيها القصاص والحد، وأن هذه الجرائم يعاقب عليها بالعقوبات التعزيرية المناسبة ولا عفو فيها لا عن الجريمة ولا عن العقوبة. أما ما عداها من الجرائم فلولي الأمر فيها أن يعفو عن الجريمة وأن يعفو عن العقوبة إذا رأى المصلحة في ذلك بعد مجانبة هوى نفسه (1) .
ورأي البعض أن لولي الأمر في كل الجرائم المعاقب عليها بالتعزير أن يعفو عن الجريمة وأن يعفو عن العقوبة إذا كان في ذلك مصلحة (2) . ورأي الفريق الأول أقرب إلى منطق الشريعة في جرائم الحدود وجرائم القصاص.
وللمجني عليه في جرائم التعازير أن يعفو عما يمس شخصه كما في الضرب والشتم، ولكن عفوه لا يؤثر على حق الجماعة في تأديب الجاني وتقويمه، فإذا عفا المجني عليه انصرف عفوه إلى حقوقه الشخصية (3) .
وإذا عفا ولي الأمر في جرائم التعازير عن الجريمة أو العقوبة فإن عفوه لا يؤثر بأي حال على حقوق المجني عليه (4) .
وقد سبق أن تكلمنا عن العفو بمناسبة الكلام على بطلان القوانين المخالفة للشريعة وما قلناه هناك يكمل ما قيل هنا (5) .
536 -
إرث القصاص: تسقط عقوبة القصاص إذا ورث القصاص من
(1) شرح فتح القدير ج4 ص121، 213، المغني ج10 ص349، أسنى المطالب ج4 ص162، 163، الأحكام السلطانية ص207، الإقناع ج4 ص270، مواهب الجليل ج6 ص320.
(2)
المراجع السابقة.
(3)
الأحكام السلطانية ص207، أسنى المطالب ج4 ص163.
(4)
المرجع السابقة، ومواهب الجليل ج6 ص320.
(5)
راجع الفقرة 203.
ليس له أن يقتص من الجاني، كما تسقط العقوبة إذا ورث الجاني نفسه كل القصاص أو بعضه، فمثلاً إذا كان في ورثة المقتول ولد للقاتل فلا قصاص؛ لأن القصاص لا يتجزأ، وما دام لا يجب بالنسبة لولد القاتل لأن الولد لا يقتص من أبيه فهو لا يجب للباقين. وإذا قتل أحد ولدين أباه ثم مات غير القاتل ولا وارث فه إلا القاتل فقد ورث القاتل دم نفسه كله ووجب القصاص لنفسه على نفسه فيسقط القصاص. وكذلك الحكم لو ورث بعض القصاص فإن القصاص يسقط، ولمن بقى من المستحقين نصيبهم من الدية (1) .
537 -
التقادم: التقادم المقصود هو مضي فترة معينة من الزمن على الحكم بالعقوبة دون أن تنفذ فيمتنع بمضي هذه الفترة تنفيذ العقوبة.
والتقادم المسقط للعقوبة مختلف عليه، فأكثر الفقهاء لا يسلمون به، ومن يرونه مسقطاً للعقوبة لا يجعلونه سبباً عاماً مسقطاً لكل عقوبة، وآراء الفقهاء المختلفة يمكن ردها إلى نظريتين:
النظرية الأولى: وهي تقوم على مذهب مالك والشافعي وأحمد، وتلخص في أن العقوبة لا تسقط مهما مضى عليها من الزمن دون تنفيذ، وأن الجريمة لا تسقط مهما مضى عليها من الزمن دون المحاكمة، وما لم تكن العقوبة من عقوبات التعازير وما لم تكن الجريمة من جرائم التعازير، فإن العقوبة أو الجريمة تسقط بالتقادم إذا رأى ذلك أولو الأمر تحقيقاً لمصلحة عامة.
وأساس هذه النظرية أن قواعد الشريعة ونصوصها ليس فيها ما يدل على أن عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية تسقط بمضي مدة معينة، كذلك فإن ولي الأمر ليسله حق العفو عن هذه العقوبات أو إسقاطها بأي
(1) بدائع الصنائع ج7 ص251، شرح الدردير ج4 ص233، المهذب ج2 ص186، ج9 ص362.
حال، وإذا لم يكن هناك نص يجيز إسقاط العقوبة ولم يكن لولي الأمر إسقاطها فقد امتنع القول بالتقادم.
أما العقوبات التعزيرية فتطبيق القواعد العامة عليها يقتضي القول بجواز سقوط العقوبة بالتقادم إذا رأى ولي الأمر ذلك تحقيقاً لمصلحة عامة؛ لأن لولي الأمر حق العفو عن الجريمة وحق العفو عن العقوبة في جرائم التعازير، وإذا كان لولي الأمر أن يعفو عن العقوبة فيسقطها فوراً فإن له أن يعلق سقوطها على مضي مدة معينة إن رأى أن في ذلك ما يحقق مصلحة عامة أو يدفع مضرة.
النظرية الثانية: وقوامها مذهب أبي حنيفة، وأصحابها يتفقون مع أصحاب النظرية الأولى في القول بالتقادم في العقوبات التعزيرية وفي امتناع التقادم في العقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية وفي جريمة القذف دون غيرها من جرائم الحدود، أما بقية جرائم الحدود فيرون أن عقوباتها تسقط بالتقادم. وأبو حنيفة وأصحابه على هذا الرأي عدا زفر فإنه لا يرى سقوط عقوبة الحد بالتقادم.
على أن القائلين بسقوط عقوبة الحد بالتقادم من الحنفية يفرقون بين ما إذا كان دليل الجريمة شهادة الشهود أو الإقرار، فإن كان الدليل شهادة الشهود سقطت العقوبة بالتقادم، وإن كان الدليل الإقرار لم تسقط العقوبة بالتقادم (1) .
والأصل في هذه التفرقة أن الحنفيين يشترطون لقبول الشهادة في جرائم الحدود أن لا تكون الجريمة قد تقادمت، ولا يستثنون من ذلك إلا جريمة القذف؛ لأن شكوى المجني عليه شرط لتحرك الدعوى العمومية فلا يستطيع الشاهد أن يشهد قبل الشكوى، أما ما عدا القذف من الجرائم فلكل إنسان أن يتقدم بالتبليغ عنها ولا يتوقف تحريك الدعوى العمومية فيها على تبليغ المجني عليه.
ويستند الحنفية في قولهم بتقادم الجريمة إلى أن الشاهد مخير إذا شهد الجريمة
(1) يروى البعض سقوط حد الشرب بالتقادم ولو كان الدليل الإقرار.
بين أن يؤدي الشهادة حسبة لله تعالى لقوله جل شأنه: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وبين أن يتستر على الحادث لقوله عليه السلام: "من ستر على أخيه المسلم ستر الله عليه في الآخرة"، فإذا سكت الشاهد عن الجريمة حتى قدم العهد عليها دل ذلك على اختياره جهة الستر، فإذا شهد بعد ذلك فإن هذه الشهادة المتأخرة دليل على أن ضغينة ما هي التي حملته على الشهادة، ومثل هذا الشاهد المشكوك فيه لا تقبل شهادته. ويؤيد الحنفية رأيهم بما روى عن عمر من قوله: أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته - أي عند وقوعه - فإنما شهدوا عن ضغن ولا شهادة لهم. ويقولون: إنه لم ينقل أن أحداً من الصحابة أنكر على عمر هذا القول فيكون إجماعاً. ومن المستفاد من قول عمر أن الشهادة المتأخرة تورث التهمة ولا شهادة لمتهم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" أي متهم.
وإذا كانت الشهادة ترد أصلاً للمتهم فالمنطق أن لا ترد إذا انتفت التهمة، كما لو كان الشاهد تأخر لطول الطريق أو لمرض، ولكن لما كانت التهمة أمراً خفياً غير منضبط ومن الصعب التحقق منه في كل الأحوال فقد أقيم التقادم مقامها وأهمل شأن التهمة فلا ينظر إلى وجودها وعدمها، وعلى هذا ترد الشهادات بالتقادم ولو لم يكن هناك تهمة أو يأخذ على الشاهد.
وبعد أن قال الحنفية بالتقادم في الجريمة كان من السهل أن يقولوا به في العقوبة؛ لأن القاعدة عندهم أن الإمضاء من القضاء؛ أي أن التنفيذ متمم للقضاء، فوجب أن يتوفر عند التنفيذ ما يتوفر عند الحكم، وإذا وجب عند الحكم أن لا تتقادم الجريمة فقد وجب أن لا يكون التقادم عند التنفيذ (1) .
ولم يقدر أبو حنيفة للتقادم حداً وفوض الأمر فيه للقاضي يقدره طبقاً لظروف كل حالة؛ لأن اختلاف الأعذار يجعل التوقيت متعذراً. وقدره محمد بستة
(1) شرح فتح القدير ج4 ص161 وما بعدها، حاشية ابن عابدين ج3 ص218.
أشهر، وذكر عنه أنه قدره بشهر، وهو رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف. ويترتب على هذا أن لولي الأمر أن يضع حداً للتقادم وأن يمنع قبول الدعوى بعد مضي مدة معينة إذا كان الدليل عليها هو الشهادة.
وخلاصة رأي الحنفيين في سقوط العقوبة بالتقادم أن عقوبات التعازير تسقط بالتقادم أياً كان الدليل الذي بني عليه الحكم، وأن عقوبات الحدود فيما عدا القذف تسقط بالتقادم إذا كان دليل الجريمة فيها هو الشهادة، فإذا كان دليل الجريمة الإقرار فلا يسقط إلا حد شرب الخمر على رأي أبي حنيفة وأبي يوسف (1) .
تم الجزء الأول بعون الله تعالى
* * *
(1) شرح فتح القدير ج4 ص162.