المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامسأثر الجهل والخطأ والنسيان على المسئولية - التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي - جـ ١

[عبد القادر عودة]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌تقديم وتوجيه

- ‌1 - موضوع البحث:

- ‌2 - محتويات الجزء الأول:

- ‌3 - مدى المقارنة بين الشريعة والقانون الوضعي:

- ‌4 - المذاهب الشرعية المقارن بها:

- ‌5 - علة الاقتصار على المذاهب الأربعة:

- ‌6 - لغة البحث:

- ‌7 - الفقهاء والشراح:

- ‌8 - لماذا بدأت بالقسم الجنائي

- ‌9 - كيف دفعت لدراسة الشريعة

- ‌10 - حاجة الكتب الشرعية إلى تهذيب:

- ‌11 - طريقة التأليف:

- ‌12 - كيف وصمت الشريعة بعدم الصلاحية

- ‌13 - وجه الخطأ في قياس الشريعة بالقانون:

- ‌14 - لا قياس بين مختلفين:

- ‌15 - نشأة القانون:

- ‌16 - نشأة الشريعة:

- ‌17 - لا مماثلة بين الشريعة والقانون:

- ‌18 - الاختلافات الأساسية بين الشريعة والقانون:

- ‌19 - المميزات الجوهرية التي تميز الشريعة عن القانون:

- ‌20 - الأدلة على توفر هذه المميزات في الشريعة:

- ‌21 - نظرية المساواة:

- ‌22 - نظرية مساواة المرأة بالرجل:

- ‌23 - نظرية الحرية:

- ‌24 - حرية التفكير:

- ‌25 - حرية الاعتقاد:

- ‌26 - حرية القول:

- ‌27 - نظرية الشورى:

- ‌28 - نظرية تقييد سلطة الحاكم:

- ‌29 - نظرية الطلاق:

- ‌30 - نظرية تحريم الخمر:

- ‌31 - نظرية تعدد الزوجات:

- ‌32 - نظريات في الإثبات والتعاقد:

- ‌33 - نظرية الإثبات بالكتابة:

- ‌34 - نظرية إثبات الدين التجاري:

- ‌35 - نظرية حق الملتزم في إملاء العقد:

- ‌36 - نظرية تحريم الامتناع عن تحمل الشهادات:

- ‌37 - أحكام أخرى في آية الدين:

- ‌38 - تذكير:

- ‌منهج البحث

- ‌الكتاب الأول في الجريمة

- ‌القسم الأول من الكتاب الأول

- ‌الباب الأولماهية الجريمة

- ‌الباب الثانيأنواع الجريمة

- ‌الفصل الأولالتقسيم المبني على جسامة العقوبة

- ‌الفصل الثانيتقسيم الجرائم بحسب قصد الجاني

- ‌الفصل الثالثتقسيم الجرائم بحسب وقت كشفها

- ‌الفصل الرابع[تقسيم الجرائم بحسب طريقة وكيفية ارتكابها ووقوعها]

- ‌المبحث الأول[تقسيم الجرائم بحسب طريقة ارتكابها]

- ‌المبحث الثانيتقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها

- ‌المبحث الثالثتقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها

- ‌الفصل الخامس[تقسيم الجرائم بحسب طبيعتها]

- ‌المبحث الأولتقسيم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة

- ‌المبحث الثانيتقسيم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة

- ‌القسم الثاني من الكتاب الأولالأركان العامة للجريمة

- ‌الباب الأولالركن الشرعي للجريمة

- ‌الفصل الأولالنصوص المقررة للجرائم والعقوباتأي الأحكام الجنائية الشرعية

- ‌المبحث الأولالأحكام الجنائية الشرعية وأثرها في الجريمة والعقوبة

- ‌الفرع الأوللا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم الحدود

- ‌الفرع الثانيلا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم القصاص والدية

- ‌الفرع الثالثلا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم التعازير

- ‌القسم الأول: التعزير على المعاصي

- ‌القسم الثاني: التعزير للمصلحة العامة

- ‌القسم الثالث: التعزير على المخالفات

- ‌الفرع الرابعكيف طبقت القوانين الوضعية القاعدة

- ‌المبحث الثانيأدلة الأحكام الشريعةأي مصادر التشريع الجنائي

- ‌الفرع الأولالقرآن

- ‌الفرع الثانيالسنة

- ‌الفرع الثالثالإجماع

- ‌الفرع الرابعالقياس

- ‌المبحث الثالثتفسير الأحكام الجنائية، أي النصوص الجنائية

- ‌الفرع الأولالقواعد اللغوية الموضوعة للتفسير

- ‌الفرع الثانيالقواعد التشريعية التي تراعى عند التفسير

- ‌المبحث الرابعتعارض الأحكام (أي النصوص) ونسخها

- ‌المبحث الخامسعلاقة الأحكام الشرعية بأحكام القوانين

- ‌الفصل الثانيسريان النصوص الجنائية على الزمان

- ‌الفصل الثالثسريان النصوص الجنائية على المكان

- ‌الفصل الرابعسريان النصوص الجنائية على الأشخاص

- ‌الباب الثانيالركن المادي للجريمة

- ‌الفصل الأولالشروع في الجريمة

- ‌الفصل الثانيالاشتراك في الجريمة

- ‌المبحث الأولالاشتراك المباشر

- ‌الباب الثالثالركن الأدبي

- ‌الفصل الأولالمسئولية الجنائية

- ‌المبحث الأولأساس المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الثانيمحل المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الثالثسبب المسئولية ودرجتها

- ‌المبحث الرابعقصد العصيان: أو القصد الجنائي

- ‌المبحث الخامسأثر الجهل والخطأ والنسيان على المسئولية

- ‌المبحث السادسأثر الرضاء بالجريمة على المسئولية الجنائية

- ‌المبحث السابعالأفعال المتصلة بالجريمة وعلاقتها بالمسئولية الجنائية

- ‌الفصل الثانيارتفاع المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الأولأسباب الإباحةاستعمال الحقوق وأداء الواجبات

- ‌الفرع الأولالدفاع الشرعي

- ‌المطلب الأولالدفاع الشرعي الخاص، أو "دفاع الصائل

- ‌المطلب الثانيالدفاع الشرعي العامأو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الفرع الثانيالتأديب

- ‌الفرع الثالثالتطبيب

- ‌الفرع الرابعألعاب الفروسية

- ‌الفرع الخامسإهدار الأشخاص

- ‌الفرع السادسحقوق الحكام وواجباتهم

- ‌المبحث الثانيأسباب رفع العقوبة

- ‌الفرع الأولالإكراه

- ‌الفرع الثانيالسكر

- ‌الفرع الثالثالجنون

- ‌الفرع الرابعصغر السن

- ‌الكتاب الثاني في العقوبة

- ‌الباب الأولالعقوبة - مبادئ عامة

- ‌الباب الثانيأقسام العقوبة

- ‌الفصل الأولالعقوبات المقررة لجرائم الحدود

- ‌المبحث الأولعقوبات الزنا

- ‌المبحث الثانيعقوبة القذف

- ‌المبحث الثالثعقوبة الشرب

- ‌المبحث الرابععقوبة السرقة

- ‌المبحث الخامسعقوبة الحرابة

- ‌المبحث السادسعقوبة الردة والبغي

- ‌الفصل الثانيالعقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية

- ‌الفصل الثالثعقوبات الكفارات

- ‌الفصل الرابععقوبات التعازير

- ‌الفصل الخامسمدى صلاحية العقوبات الشرعية

- ‌الفصل السادسالعقوبات في القانون المصري ومدى صلاحيتها

- ‌الباب الثالثتعدد العقوبات

- ‌الباب الرابعاستيفاء العقوبات

- ‌الباب الخامسالعود

- ‌الباب السادسسقوط العقوبة

الفصل: ‌المبحث الخامسأثر الجهل والخطأ والنسيان على المسئولية

وأكثر من عقوبة المخطئ، ونظرية القانون الإيطالي تقوم على نفس الأسس التي تقوم عليها نظرية الشافعي والرأي الراجح في مذهب أحمد.

تلكم هي نظريات الفقهاء الإسلاميين في القصد الاحتمالي، وهذه هي نظريات شراح القوانين، وظاهر بجلاء مما قدمنا أن القوانين الوضعية لم تأت بجديد على الشريعة، وأن الشراح لم يعرفوا في عهدنا أكثر مما عرفه الفقهاء في العهود القديمة، فالشريعة قد أخذت بالقصد الاحتمالي في دائرة الجرائم التي تصيب النفس وما دون النفس، والقوانين الوضعية لم تخرج عن هذه الدائرة، ونظريات الفقهاء الإسلاميين لا تزال كما رأينا أدق منطقاً وأكثر سعة وأفضل صياغة من كل النظريات التي يقول بها شراح القوانين.

* * *

‌المبحث الخامس

أثر الجهل والخطأ والنسيان على المسئولية

298 -

أثر الجهل على المسئولية الجنائية: من المبادئ الأولية في الشريعة الإسلامية أن الجاني لا يؤاخذ على الفعل المحرم إلا إذا كان عالماً علماً تاماً بتحريمه، فإذا جهل التحريم ارتفعت عنه المسئولية.

ويكفي في العلم بالتحريم إمكانه، فمتى بلغ الإنسان عاقلاً وكان ميسراً له أن يعلم ما حرم عليه: إما برجوعه للنصوص الموجبة للتحريم، وإما بسؤال أهل الذكر، اعتبر عالماً بالأفعال المحرمة، ولم يكن له أن يعتذر بالجهل أو يحتج بعدم العلم، ولهذا يقول الفقهاء:"لا يقبل في دار الإسلام العذر بجهل الأحكام".

ويعتبر المكلف عالماً بالأحكام بإمكان العلم لا بتحقق العلم فعلاً، ومن ثم يعتبر النص المحرم معلوماً للكافة ولو أن أغلبهم لم يطلع عليه أو يعلم عنه شيئاً

ص: 430

ما دام العلم به كان ممكناً لهم. ولم تشترط الشريعة تحقق العلم فعلاً؛ لأن ذلك يؤدي إلى الحرج ويفتح باب الادعاء بالجهل على مصراعيه ويعطل تنفيذ النصوص.

هذه هي القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية ولا استثناء لها، وإذا كان الفقهاء يرون قبول الاحتجاج بجهل الأحكام ممن عاش في بادية لا يختلط بمسلمين، أو ممن أسلم حديثاً ولم يكن مقيماً بين المسلمين، فإن هذا ليس استثناء في الواقع وإنما هو تطبيق للقاعدة الأصلية التي تمنع مؤاخذة من يجهل التحريم حتى يصبح العلم ميسراً له، فمثل هؤلاء لم يكن العلم ميسراً لهم، ولا يعتبرون عالمين بأحكام الشريعة. أما إذا كان مدعي الجهل ناشئاً بين المسلمين أو أهل العلم فلا يقبل منه الادعاء بالجهل.

ويلحق الجهل بمعنى النصوص الحقيقي بالجهل بذات النصوص، فحكمهما واحد، فلو ادعى الجاني أن النص لا يدل على التحريم أو أن نصاً آخر أباح الفعل المحرم، فإن جهله بالمعنى الحقيقي للنصوص لا يرفع عنه المسئولية الجنائية. وهذا هو الخطأ في التفسير كما نسميه اليوم في لغتنا القانونية.

ومن الأمثلة المشهورة في الشريعة على الخطأ في التفسير: أن جماعة من المسلمين شربوا الخمر في الشام مستحلين لها مستدلين بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} [المائدة: 93] فأقيم عليهم حد الخمر.

وتتفق القوانين الوضعية تمام الاتفاق مع الشريعة فيما يختص بأثر الجهل بالقانون على المسئولية الجنائية، فالقاعدة في القوانين الوضعية أن الإنسان لا يعذر بجهل القانون، وأن عبارة الجهل بالقانون تشمل العلم به والخطأ في فهمه وتفسيره، ولكن إذا كان الإنسان في ظروف يستحيل معها العلم بصدور قانون فله أن يحتج بالجهل، ويضربون لذلك مثلاً حالة المحاصرين في قلعة إذا خرجوا منها وخالفوا قوانين صدرت أثناء ضرب الحصار عليهم، وأساس الخروج على القاعدة أن هؤلاء لم يتيسر لهم العلم بالقانون.

ص: 431

299 -

أثر الخطأ على المسئولية الجنائية: الخطأ هو وقوع الشيء على غير إرادة فاعله. فالفاعل في جرائم الخطأ لا يأتي الفعل عن قصد ولا يريده، وإنما يقع الفعل منه على غير إرادته وبخلاف قصده، وفي بعض الأحيان يقصد الجاني فعلاً معيناً ليس جريمة ليس ذاته، فيتولد من هذا الفعل المباح ما يعتبر جريمة دون أن يقصد الجاني ما تولد عن فعله. وتعتبر الجريمة المتولدة عن الفعل المباح جريمة غير عمدية ولو أن الجاني قصد الفعل المباح؛ لأنه قصد بفعله محلاً غير المحل المحرم أي غير محل الجريمة. ومثال ذلك أن يتمضمض صائم فيسري الماء إلى حلقه، أو يرمي صائد طيراً فيصيب إنساناً. فالصائم قصد إدخال الماء إلى فمه ليتمضمض ولم يقصد إدخاله إلى حلقه ليفطر، فهو قد قصد فعلاً مباحاً، ولكن تولد عن الفعل المباح الذي قصده فعل آخر غير مباح لم يقصده وإنما وقع على غير إرادته. والصائد قصد صيد الطائر ولم يقصد إصابة المجني عليه، فهو قد قصد فعلاً مباحاً ولكن تولد عن الفعل المباح الذي قصده فعل آخر غير مباح لم يقصده وهو إصابة المجني عليه، ومحل الفعل المقصود هو الطائر ومحل الفعل الغير مقصود هو الإنسان.

والمخطئ كالعامد مسئول جنائياً كلما وقع منه فعل يحرمه الشارع، ولكن سبب مسئوليتهما مختلف، فمسئولية العامد سببها أنه قصد عصيان أمر الشارع وتعمد إتيان ما حرمه أو ترك ما أوجبه، ومسئولية المخطئ سببها أنه عصى الشارع لا عن قصد ولكن عن تقصير وعدم تثبت واحتياط (1) .

300 -

المسئولية عن الخطأ استثناء: والأصل في الشريعة أن المسئولية الجنائية لا تكون إلا عن فعل متعمد حرمه الشارع ولا تكون عن الخطأ، لقوله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}

(1) أصول الفقه للخضري ص131.

ص: 432

[الأحزاب: 5]، ولقول الرسول عليه الصلاة والسلام:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، ولكن الشريعة أجازت العقاب على الخطأ استثناء من هذا الأصل (1)، من ذلك قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَاّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ

} [النساء: 92] .

ولما كان الأصل هو العقاب على العمد، والاستثناء هو العقاب على الخطأ، فإنه يترتب على ذلك أن كل جريمة عمدية يعاقب عليها فاعلها إذا أتاها عامداً، ولا يعاقب عليها إذا أتاها مخطئاً، ما لم يكن الشارع قد قرر عقوبة لمن أتاها مخطئاً؛ لأن الجريمة بهذا تصبح من جرائم العمد وجرائم الخطأ في أن واحد. فمن زنا عامداً عوقب بعقوبة الزنا، ولكن من أتى امرأة أجنبية زفت إليه على أنها امرأته لا عقاب عليه؛ لأنه أخطأ والجريمة عمدية. ومن سرق عامداً عوقب بعقوبة السرقة، ولكن من أخذ مال غيره سهواً أو خطأ مع مال له لا عقاب عليه؛ لأنه أخطأ ولم يتعمد الفعل المحرم والجريمة عمدية. ومن شرب الخمر عوقب بعقوبة الشرب، ولكن من شربها يظنها ماء لا عقاب عليه؛ لأنه شربها من غير عمد والجريمة عمدية.

وهكذا كل جريمة عمدية أتاها الجاني عامداً فعليه عقوبتها فإذا أتاها مخطئاً فلا عقاب عليه. ويمكن تعليل عدم العقاب بأن الخطأ يعدم ركناً من أركان الجريمة العمدية فلا تتكون الجريمة، على أن انتفاء المسئولية الجنائية لانعدام ركن من أركان الجريمة لا يمنع من مسئولية الفاعل مسئولية مدنية، إذ القاعدة في الشريعة أن الدماء والأموال معصومة، وأن الاعذار الشريعة لا تنافي عصمة المحل، فمن زقت إليه امرأة على أنها زوجته فوطئها يحسبها زوجته لا يعاقب جنائياً وإنما عليه مهرها؛ لأن الوطء في دا الإسلام لا يخلو من حد أو

(1) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج5 ص149 وما بعدها، وص154 وما بعدها.

ص: 433

مهر. ومن أخذ خفية مالاً للغير وهو يحسبه ماله ثم صرف فيه لا يعتبر سارقاً لانعدام القصد الجنائي، ولكنه يلتزم بضمان هذا المال لصاحبه.

أما إذا كانت الجريمة مما يحرم إثباته عمداً أو خطأ، كالقتل والجرح، فإن العامد يعاقب على فعله بالعقوبة المقررة للعمد، بينما يعاقب المخطئ بالعقوبة المقررة للخطأ، وقد بينا من قبل أن الشارع يفرق بين عقوبة العامد وعقوبة المخطئ، فيغلظ عقوبة الأول ويخفف عقوبة الثاني (1) .

ويلاحظ أن الصالح العام هو الذي اقتضى العقاب على الخطأ، فهناك من جرائم الخطأ ما له خطورته ويكثر وقوعه، كالقتل والجرح خطأ، ولما كان أساس الخطأ هو التقصير وعدم الاحتياط فقد عاقب الشارع على الجرائم الخطأ التي يكثر وقوعها ولا يخفى خطرها؛ لأن العقاب عليها يحقق مصلحة عامة إذ يحمل الأفراد على التثبت والاحتياط فيقل هذا النوع من الجرائم.

ولقد نصت الشريعة الإسلامية على جرائم معينة واعتبرت أغلب هذه الجرائم عمدية وأقلها من جرائم الخطأ، ولما كان الأصل هو العقاب على الجرائم العمدية والاستثناء هو العقاب على الخطأ فإنه لا يجوز لولي الأمر أن يعاقب من ارتكب خطأ جريمة عمدية إلا إذا كان في ذلك تحقيق مصلحة عامة، وهذا يصدق على الجرائم متى حرمتها الشريعة، أما الجرائم التي حرمها أولو الأمر فلهم فيها أن يعاقبوا على العمد والخطأ مع مراعاة الشريعة الأصلية، وهي أن العقاب على العمد هو الأصل، وأن العقاب على الخطأ هو الاستثناء، وأن العقاب على الخطأ لا محل له ما لم يحقق مصلحة عامة (2) .

(1) راجع الفقرة 285.

(2)

لا يجيز المعتزلة العقاب على الخطأ إلا ما نص عليه، وحجتهم أن المؤاخذة تكون بالجناية، والجناية لا تكون إلا بالقصد، والخطأ لا قصد فيه فلا جناية فيه ولا مؤاخذة عليه، ولكن الجمهور يرى أن في الخطأ عدم تثبت والاحتياط الواجبين، فمن تسبب في خطأ أو باشره فقد أتى بجناية وجازت مؤاخذته، راجع: فواتح الرحموت لعبد العلي الأنصاري ج1 ص166.

ص: 434

301 -

أنواع الخطأ: الخطأ في الشريعة على نوعين: خطأ متولد، وخطأ غير متولد. الخطأ المتولد: هو ما تولد عن فعل مباح أو فعل أتاه الفاعل وهو يعتقد أنه مباح. والخطأ المتولد إما أن يكون مباشراً، كمن يرمي طائراً فيصيب شخصاً، وكمن يرمي جندياً في صفوف الأعداء أو عليه لباسهم معتقداً أنه من العدو ثم يتبين أنه من جنود الوطن. وإما أن يكون بالتسبب، كمن يحفر بئراً في الطريق العام بإذن من ولي الأمر ولا يتخذ الاحتياطات لمنع المارة من السقوط فيه.

الخطأ غير المتولد: هو كل ما عدا الخطأ المتولد، وهو إما أن يكون خطأ مباشراً فيقع من المخطئ مباشرة دون واسطة، كما لو انقلب نائم على صغير بجواره فقتله، وإنما أن يكون خطأ بالتسبب، وهو ما يتسبب فيه المخطئ دون أن يقع منه مباشرة، كما لو حفر شخصاً بئراً في الطريق العام دون إذن ولي الأمر فوقع فيه أحد المارة، وكما لو وضع شخص أحجاراً في الشارع العام دون إذن فاصطدم فيها شخص وأصيب.

ويطلق بعض الفقهاء على الخطأ المتولد المباشر لفظ الخطأ مطلقاً من كل قيد، ويسميه بعضهم: الخطأ المحض، أما الخطأ المباشر غير المتولد، والخطأ بالتسبب متولداً وغير متولد، فيسمونه اصطلاحاً: ما جرى مجرى الخطأ (1) ، ومن الفقهاء من لا ينوع الخطأ ولا يفرق بين صوره المختلفة ويسميها جميعاً خطأ.

302 -

أساس الخطأ: أساس الخطأ في الشريعة هو في الأصل عدم التثبت والاحتياط، ولكن لا يشترط مع هذا لمسئولية المخطئ أن يقع منه تقصير في كل الأحوال، وإنما يشترط وقوع التقصير في الخطأ المتولد، أما فيما عداه فالتقصير

(1) راجع الفقرة 285.

ص: 435

مفترض في الجاني ولا يعفي من المسئولية إلا إذا ثبت أنه ألجئ إليه إلجاء.

ويسير الفقهاء على قاعدتين عامتين يحكمان الخطأ، وبتطبيقهما نستطيع أن نقول إن شخصاً ما أخطأ أو لم يخطئ (1) :

القاعدة الأولى: إذا أتى الجاني فعلاً مباحاً أو يعتقد أنه مباح فتولد عنه ما ليس مباحاً فهو مسئول عنه جنائياً، سواء مباشره أو تسبب فيه، إذا ثبت أنه كان يمكنه التحرز منه، فإذا كان لا يمكنه التحرز منه إطلاقاً فلا مسئولية.

القاعدة الثانية: إذا كان الفعل غير مباح فأتاه الجاني أو تسبب فيه دون ضرورة ملجئة، فهو تعد من غير ضرورة، وما نتج عنه يسأل الجاني عنه جنائياً، سواء كان مما يمكن التحرز عنه أو مما لا يمكن التحرز عنه.

303 -

نوع من الخطأ عند مالك: ويعتبر مالك من الخطأ الأفعال التي يأتيها الجاني بقصد التأديب أو اللعب إذا أدت لموت المجني عليه أو جرحه، وقد أخذ بهذا الرأي نتيجه لعدم اعترافه بشبه العمد؛ لأن القتل عنده ليس إلا عمداً أو خطأ، والعمد ما قصد فيه الجاني العدوان، والخطأ هو ما عدا ذلك، ومن يأت الفعل بقصد التأديب أو اللعب لا يتوفر لديه قصد العدوان بحسب رأي مالك ومن ثم أعتبر فعله خطأ لا عمداً.

304 -

الخطأ في الشخص والخطأ في الشخصية: يراد بالخطأ في الشخص أن يقصد الجاني قتل شخص معين فيصيب غيره، ويراد بالخطأ في الشخصية أن يقصد الجاني قتل شخص على أنه زيد فيتبين أنه عمرو. والخطأ في الشخص والخطأ في الشخصية نوعان من الخطأ المتولد، فالخطأ في الشخص هو الخطأ في الفعل، فمن يرمي شخصاً معيناً فيخطئه ويصيب غيره فقد أخطأ في فعله، والخطأ الذي وقع فيه متولد عن فعله الذي قصده. أما الخطأ في الشخصية فهو خطأ في ظن

(1) بدائع الصنائع ج7 ص271، 272.

ص: 436

الفاعل وقصده، فمن رمى شخصاً على أنه زيد ثم تبين أنه رمى عمراً فقد أخطأ في قصده، والخطأ الذي وقع فيه تولد عما ظنه صحيحاً وقصده.

وقد اختلف الفقهاء في حكم الخطأ في الشخص والشخصية، فرأى البعض أن الجاني يسأل عن الجريمة باعتباره متعمداً، ورأى البعض أن الجاني يسأل عن الجريمة باعتباره مخطئاً.

فأما القائلون بأن الجاني يعتبر عامداً فهم أغلب الفقهاء في مذهب مالك وبعض فقهاء المذهب الحنبلي، وهؤلاء يفرقون بين ما إذا كان الفعل المقصود أصلاً محرماً أو غير محرم، فإن كان الفعل المقصود أصلاً محرماً فإن الخطأ في الفعل أو في الظن لا يؤثر على مسئولية الجاني شيئاً؛ لأنه قصد في الأصل فعلاً محرماً فهو جان متعمد، فمن أراد قتل زيد فأخطأه وقتل عمراً يعتبر قاتلاً عمداً لعمرو، ومن قتل عمراً حاسباً أنه زيد يعتبر قاتلاً عمداً عمرو. أما إذا كان الفعل المقصود أصلاً غير محرم فإن الخطأ في الفعل أو في الظن يكون له أثره على مسئولية الجاني؛ لأنه قصد فعلاً مباحاً فإذا أخطأ في فعله أو في ظنه فهو جان مخطئ لا متعمد، فمن رمى صيداً أو غرضاً فأخطأه وقتل آدمياً يعتبر قاتلاً خطأ، ومن رمى حربياً أو مهدر الدم فأخطأه وقتل معصوماً يعتبر كذلك قاتلاً خطأ، ومن قتل عمراً وهو يحسبه زيداً المهدر الدم يعتبر أيضاً قاتلاً خطأ (1) .

وأما القائلون بأن الجاني يعتبر مخطئاً فهم فقهاء مذهبي أبي حنيفة والشافعي وبعض الحنابلة، وهؤلاء جميعاً يرون أن من قصد قتل شخص أو إصابته فأخطأ في فعله وقتل أو أصاب غيره، أو أخطأ في ظنه، وتبين أنه قتل أو أصاب غير من قصده، فإن الجاني يكون مسئولاً عن القتل أو الجرح الخطأ فقط، سواء كان الفعل

(1) مواهب الجليل ج6 ص240- 243، الشرح الكبير للدردير ج4 ص215، المغني ج9 ص339.

ص: 437

الذي قصده أصلاً مباحاً أو محرماً؛ لأن الجاني لم يقصد قتل من قتل ولا إصابة من أصيب، ولو علم بأنه يخطئ ما أقدم على الفعل (1) .

ويفرق بعض الفقهاء في مذهب مالك بين الخطأ في الشخص والخطأ في الشخصية، ويرون أن الجاني يسأل باعتباره مخطئاً في حالة الخطأ في الشخص سواء كان الفعل الذي قصده أصلاً مباحاً أو محرماً، أما في حالة الخطأ في الشخصية فيسأل الجاني باعتباره عامداً كلما كان الفعل الذي قصده أصلاً محرماً.

ورأى القائلين باعتبار الجاني عامداً إذا كان الفعل المقصود أصلاً محرماً يتفق مع رأي شراح القانون المصري، ورأى أغلب الشراح الفرنسيين، ورأى القائلين باعتبار الجاني مخطئاً في كل الأحوال يتفق مع النظرية الألمانية، أما القائلون بالتفرقة بين الخطأ في الشخص والخطأ في الشخصية فيتفق رأيهم مع ما يقول به بعض الشراح الفرنسيين (2) .

305 -

أثر النسيان على المسئولية: النسيان هو عدم استحضار الشيء في وقت الحاجة إليه. وقد قرنت الشريعة الإسلامية النسيان بالخطأ في قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان".

وقد اختلف الفقهاء في حكم النسيان، فرأى البعض أن النسيان عذر عام في العبادات والعقوبات، وأن القاعدة العامة في الشريعة أن من فعل محظوراً ناسياً فلا إثم عليه ولا عقاب، لكن الناسي إذا أعفي من المسئولية الجنائية فإنه

(1) بدائع الصنائع ج7 ص234، نهاية المحتاج ج7 ص237، الإقناع ج4 ص168، المغني ج9 ص339.

(2)

شرح قانون العقوبات للدكتورين كامل مرسي والسعيد مصطفى ص356 وما بعدها، القانون الجنائي لعلي بدوي ص356.

ص: 438

لا يعفى من المسئولية المدنية؛ لأن الأموال والدماء معصومة والأعذار الشريعة لا تتنافى مع عصمة المحل (1) ، وطبقاً لهذا الرأي لا يعاقب الناسي إذا ارتكب فعلاً محرماً ما دام قد أتى الفعل وهو لا يذكر أنه محرم، ولكن النسيان لا يسقط الواجبات بل على الناسي إتيانها حين يذكرها أو يذكر بها، وإلا وجبت عليه العقوبة المقررة.

ويرى البعض أن النسيان عذر بالنسبة للمؤاخذة في الآخرة؛ لأن العقوبة الأخروية تنقضي على القصد ولا قصد للناسي. أما بالنسبة لأحكام الدنيا فلا يعتبر النسيان عذراً معفياً من العقوبة الدنيوية إلا فيما يتعلق بحقوق الله تعالى، فإنه يعتبر عذر فيها بشرط أن يكون هناك داع طبيعي للفعل، وأن لا يكون هناك ما يذكر الناسي بما نساه. ويضربون مثل لذلك أكل الصائم ناسياً فإن طبع الإنسان يدعوه للأكل وليس هناك ما يذكره بالصوم. أما ما يتعلق بحقوق الأفراد فالنسيان لا يعتبر فيها عذراً بأي حال (2) .

وإذا كانت بعض الجرائم مما يمس حقوق الله كالزنا وشرب الخمر وما أشبه، إلا أنه يمكن القول بأن الجرائم التي يعتبر النسيان فيها عذراً يندر وقوعها؛ لأن نسيان الفعل المحرم نادر في ذاته؛ ولأن الجريمة التي تنسى يجب أن يندفع إليها الناسي بدوافع طبيعية كما يجب أن لا يكون هناك ما يذكره بالتحريم. ويمكننا أن نتصور من أسلم حديثاً يعطش فيشرب الخمر ناسياً، ومن طلق امرأته طلاقاً بائناً يأتيها وهي في العدة ناسياً.

وسواء أخذ بهذا الرأي أو بالرأي السابق فإن ادعاء النسيان وحده لا يعفي من العقاب، وإنما يبقى قبل كل شئ أن يثبت الجاني أنه ارتكب الجريمة ناسياً،

(1) أعلام الموقعين ج2 ص140، المستصفى للغزالي ج1 ص84، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص217، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج5 ص149 وما بعدها.

(2)

أصول الفقه للخضري ص119، مجلة القانون والاقتصاد السنة الأولى ص374، الأشباه والنظائر ص166، 167.

ص: 439