المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌28 - نظرية تقييد سلطة الحاكم: - التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي - جـ ١

[عبد القادر عودة]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌تقديم وتوجيه

- ‌1 - موضوع البحث:

- ‌2 - محتويات الجزء الأول:

- ‌3 - مدى المقارنة بين الشريعة والقانون الوضعي:

- ‌4 - المذاهب الشرعية المقارن بها:

- ‌5 - علة الاقتصار على المذاهب الأربعة:

- ‌6 - لغة البحث:

- ‌7 - الفقهاء والشراح:

- ‌8 - لماذا بدأت بالقسم الجنائي

- ‌9 - كيف دفعت لدراسة الشريعة

- ‌10 - حاجة الكتب الشرعية إلى تهذيب:

- ‌11 - طريقة التأليف:

- ‌12 - كيف وصمت الشريعة بعدم الصلاحية

- ‌13 - وجه الخطأ في قياس الشريعة بالقانون:

- ‌14 - لا قياس بين مختلفين:

- ‌15 - نشأة القانون:

- ‌16 - نشأة الشريعة:

- ‌17 - لا مماثلة بين الشريعة والقانون:

- ‌18 - الاختلافات الأساسية بين الشريعة والقانون:

- ‌19 - المميزات الجوهرية التي تميز الشريعة عن القانون:

- ‌20 - الأدلة على توفر هذه المميزات في الشريعة:

- ‌21 - نظرية المساواة:

- ‌22 - نظرية مساواة المرأة بالرجل:

- ‌23 - نظرية الحرية:

- ‌24 - حرية التفكير:

- ‌25 - حرية الاعتقاد:

- ‌26 - حرية القول:

- ‌27 - نظرية الشورى:

- ‌28 - نظرية تقييد سلطة الحاكم:

- ‌29 - نظرية الطلاق:

- ‌30 - نظرية تحريم الخمر:

- ‌31 - نظرية تعدد الزوجات:

- ‌32 - نظريات في الإثبات والتعاقد:

- ‌33 - نظرية الإثبات بالكتابة:

- ‌34 - نظرية إثبات الدين التجاري:

- ‌35 - نظرية حق الملتزم في إملاء العقد:

- ‌36 - نظرية تحريم الامتناع عن تحمل الشهادات:

- ‌37 - أحكام أخرى في آية الدين:

- ‌38 - تذكير:

- ‌منهج البحث

- ‌الكتاب الأول في الجريمة

- ‌القسم الأول من الكتاب الأول

- ‌الباب الأولماهية الجريمة

- ‌الباب الثانيأنواع الجريمة

- ‌الفصل الأولالتقسيم المبني على جسامة العقوبة

- ‌الفصل الثانيتقسيم الجرائم بحسب قصد الجاني

- ‌الفصل الثالثتقسيم الجرائم بحسب وقت كشفها

- ‌الفصل الرابع[تقسيم الجرائم بحسب طريقة وكيفية ارتكابها ووقوعها]

- ‌المبحث الأول[تقسيم الجرائم بحسب طريقة ارتكابها]

- ‌المبحث الثانيتقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها

- ‌المبحث الثالثتقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها

- ‌الفصل الخامس[تقسيم الجرائم بحسب طبيعتها]

- ‌المبحث الأولتقسيم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة

- ‌المبحث الثانيتقسيم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة

- ‌القسم الثاني من الكتاب الأولالأركان العامة للجريمة

- ‌الباب الأولالركن الشرعي للجريمة

- ‌الفصل الأولالنصوص المقررة للجرائم والعقوباتأي الأحكام الجنائية الشرعية

- ‌المبحث الأولالأحكام الجنائية الشرعية وأثرها في الجريمة والعقوبة

- ‌الفرع الأوللا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم الحدود

- ‌الفرع الثانيلا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم القصاص والدية

- ‌الفرع الثالثلا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم التعازير

- ‌القسم الأول: التعزير على المعاصي

- ‌القسم الثاني: التعزير للمصلحة العامة

- ‌القسم الثالث: التعزير على المخالفات

- ‌الفرع الرابعكيف طبقت القوانين الوضعية القاعدة

- ‌المبحث الثانيأدلة الأحكام الشريعةأي مصادر التشريع الجنائي

- ‌الفرع الأولالقرآن

- ‌الفرع الثانيالسنة

- ‌الفرع الثالثالإجماع

- ‌الفرع الرابعالقياس

- ‌المبحث الثالثتفسير الأحكام الجنائية، أي النصوص الجنائية

- ‌الفرع الأولالقواعد اللغوية الموضوعة للتفسير

- ‌الفرع الثانيالقواعد التشريعية التي تراعى عند التفسير

- ‌المبحث الرابعتعارض الأحكام (أي النصوص) ونسخها

- ‌المبحث الخامسعلاقة الأحكام الشرعية بأحكام القوانين

- ‌الفصل الثانيسريان النصوص الجنائية على الزمان

- ‌الفصل الثالثسريان النصوص الجنائية على المكان

- ‌الفصل الرابعسريان النصوص الجنائية على الأشخاص

- ‌الباب الثانيالركن المادي للجريمة

- ‌الفصل الأولالشروع في الجريمة

- ‌الفصل الثانيالاشتراك في الجريمة

- ‌المبحث الأولالاشتراك المباشر

- ‌الباب الثالثالركن الأدبي

- ‌الفصل الأولالمسئولية الجنائية

- ‌المبحث الأولأساس المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الثانيمحل المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الثالثسبب المسئولية ودرجتها

- ‌المبحث الرابعقصد العصيان: أو القصد الجنائي

- ‌المبحث الخامسأثر الجهل والخطأ والنسيان على المسئولية

- ‌المبحث السادسأثر الرضاء بالجريمة على المسئولية الجنائية

- ‌المبحث السابعالأفعال المتصلة بالجريمة وعلاقتها بالمسئولية الجنائية

- ‌الفصل الثانيارتفاع المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الأولأسباب الإباحةاستعمال الحقوق وأداء الواجبات

- ‌الفرع الأولالدفاع الشرعي

- ‌المطلب الأولالدفاع الشرعي الخاص، أو "دفاع الصائل

- ‌المطلب الثانيالدفاع الشرعي العامأو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الفرع الثانيالتأديب

- ‌الفرع الثالثالتطبيب

- ‌الفرع الرابعألعاب الفروسية

- ‌الفرع الخامسإهدار الأشخاص

- ‌الفرع السادسحقوق الحكام وواجباتهم

- ‌المبحث الثانيأسباب رفع العقوبة

- ‌الفرع الأولالإكراه

- ‌الفرع الثانيالسكر

- ‌الفرع الثالثالجنون

- ‌الفرع الرابعصغر السن

- ‌الكتاب الثاني في العقوبة

- ‌الباب الأولالعقوبة - مبادئ عامة

- ‌الباب الثانيأقسام العقوبة

- ‌الفصل الأولالعقوبات المقررة لجرائم الحدود

- ‌المبحث الأولعقوبات الزنا

- ‌المبحث الثانيعقوبة القذف

- ‌المبحث الثالثعقوبة الشرب

- ‌المبحث الرابععقوبة السرقة

- ‌المبحث الخامسعقوبة الحرابة

- ‌المبحث السادسعقوبة الردة والبغي

- ‌الفصل الثانيالعقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية

- ‌الفصل الثالثعقوبات الكفارات

- ‌الفصل الرابععقوبات التعازير

- ‌الفصل الخامسمدى صلاحية العقوبات الشرعية

- ‌الفصل السادسالعقوبات في القانون المصري ومدى صلاحيتها

- ‌الباب الثالثتعدد العقوبات

- ‌الباب الرابعاستيفاء العقوبات

- ‌الباب الخامسالعود

- ‌الباب السادسسقوط العقوبة

الفصل: ‌28 - نظرية تقييد سلطة الحاكم:

لفشل الديموقراطية، ولكنه أيضاً صمام الأمن الذي يحمي الأمم من الديكتاتورية، لأن هذا النظام يحفظ لمبدأ الشورى قيمته النظرية، ويحقق صلاحيته العملية، ويجيش كل القوى لخدمة الجماعة، ويدعو إلى الثقة بالشورى والقائمين بأمرها، ويسد الطريق على المبادئ الهدامة والديكتاتورية.

ونستطيع أيضاً أن نقول: إن النظام الديموقراطي يقوم في الأصل على الشورى والتعاون، ولكنه انتهى بسوء التطبيق إلى تسليط المحكومين على الحاكمين، وانعدام التعاون بينهما، وإن النظام الديكتاتوري يقوم في الأصل على السمع والطاعة والثقة بين الحاكمين والمحكومين، ولكنه انتهى بسوء التطبيق إلى تسليط الحاكمين على المحكومين وانعدام الثقة بينهما. أما النظام الإسلامي فيقوم على الشورى والتعاون في مرحلة الاستشارة، وعلى السمع والطاعة والثقة في مرحلة التنفيذ، ولا تسمح قواعده بتسليط فريق على فريق، وبهذا جمع النظام الإسلامي بين ما ينسب إلى الديموقراطية من فضائل، وما ينسب إلى الديكتاتورية من مزايا ومحاسن، ثم هو في الوقت نفسه برئ من العيوب التي تنسب للديموقراطية والديكتاتورية معاً.

ولقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقرير مبدأ الشورى بأحد عشر قرناً، حيث لم تعترف هذه القوانين بمبدأ الشورى إلا بعد الثورة الفرنسية، اللهم فيما عدا القانون الإنجليزي فقد عرف مبدأ الشورى في القرن السابع عشر، وقانون الولايات المتحدة الذي أقر المبدأ بعد منتصف القرن الثامن عشر، أما القانون الفرنسي فقد أخذ بمبدأ الشورى في أخر القرن الثامن عشر، وعلى أثر ذلك انتشر مبدأ الشورى وأخذت به معظم القوانين في القرن التاسع عشر، فالقوانين الوضعية حين قررت مبدأ الشورى لم تأت بجديد، وإنما انتهت إلى ما بدأت به الشريعة الإسلامية، وسارت في الطريق الذي سلكته الشريعة من القرن السابع الميلادي.

‌28 - نظرية تقييد سلطة الحاكم:

جاءت الشريعة الإسلامية من يوم نزولها

ص: 41

بنظرية تقييد سلطة الحاكم، فكانت أول شريعة قيدت سلطة الحكام، وحرمتهم حرية التصرف، وألزمتهم أن يحكموا في حدود معينة، ليس لهم أن يتجاوزوها، وجعلتهم مسؤولين عن عدوانهم وأخطائهم.

وتقوم النظرية على ثلاثة مبادئ أساسية: أولها: وضع حدود لسلطة الحاكم. ثانيها مسؤولية الحاكم عن عدوانه وأخطائه. ثالثها: تخويل الأمة حق عزل الحاكم.

المبدأ الأول: وضع حدود لسلطة الحاكم: كانت سلطة الحاكم قبل نزول الشريعة سلطة مطلقة لا حد لها ولا قيد عليها، وكانت علاقة الحاكمين بالمحكومين قائمة على القوة البحتة، ومن القوة كان الحاكم يستمد سلطانه، وعلى مقدار قوته كانت سلطته؛ فكلما كان قوياً امتد سلطانه لكل شئ، وإن ضعف انكمشت سلطته أصابها القصور والوهم. وكان الناس يدينون للحاكم بالطاعة، لا لأنه يحكمهم بل لأنه أقوى منهم، فكلما كان الحاكم قادراً على أن يسوق الناس بعصاه أو يغريهم بماله وجاهه فهم من الطائعين السامعين، فإذا ضعف واستطاع أحد منافسيه أن يتغلب عليه فإنه يستطيع تبعاً لذلك أن يتحكم في رقاب الرعية، وكانت الرعية تعتبر خدماً وعبيداً لصاحب السلطان سواءً أورث سلطانه أم اكتسبه.

ولما كان الحاكم يستمد سلطته من قوته لم تكن سلطة أي حاكم تساوي سلطة الآخر، ولم تكن هناك حدود مرسومة للحكام لا يتعدونها، بل كان للحاكم أن يأتي ما يشاء ويدع ما يشاء دون حسيب أو رقيب.

وجاءت الشريعة فاستبدلت بهذه الأوضاع البالية أوضاعاً جديدة تتفق مع الكرامة الإنسانية والحاجات الاجتماعية، فجعلت أساس العلاقة بين الحكام والمحكومين تحقيق مصلحة الجماعة لا قوة الحاكم أو ضعف المحكومين، وتركت للجماعة حق اختيار الحاكم الذي يرعى مصلحتها ويحفظها، وجعلت لسلطة الحاكم حدوداً ليس له أن يتعداها، فإن خرج عليها كان عمله باطلاً وكان من حق الجماعة أن تعزله وتولي غيره لرعاية شئونها.

ص: 42

وقد بينت الشريعة مهمة الحاكم بياناً شافياً وحددت حقوقه وواجباته تحديداً دقيقاً؛ فمهمة الحاكم في الشريعة أن يخلف رسول الله في حراسة الدين وسياسة الدنيا (1) ، ويسمى الحاكم في اصطلاح الفقهاء الإمام.

والإمامة أو الخلافة - كما يرى الفقهاء - عقد لا ينعقد إلا بالرضى والاختيار (2) ، وبموجب هذا العقد يلزم الإمام - أي الحاكم - أن يشرف على الشئون العامة للأمة في الداخل والخارج (3) بما يحقق مصلحتها، بشرط أن يكون ذلك كله في حدود ما أنزل الله على رسوله، وفي مقابل التزام الإمام للأمة بهذا الالتزام تلتزم له الأمة على لسان ممثليها الذين اختاروه إماماً أن تسمع له وتطيع أمره، ما لم يتغير حاله فيصبح فاسقاً أو يعجز عن مباشرة عمله (4) ، فإذا تغير حاله انعزل بفسقه أو عجزه.

فسلطة الإمام - أي الحاكم - في الشريعة ليست مطلقة، وليس له أن يفعل ما يشاء ويدع ما يشاء، وإنما هو فرد من الأمة اختير لقيادتها وعليه للأمة التزامات وله على الأمة حقوق، وله من السلطة ما يستطيع أن يؤدي به التزاماته ويستوفي به حقوقه، وهو في أداء واجباته واستيفاء حقوقه مقيد بأن لا يخرج على نصوص الشريعة أو روحها، وذلك طبقاً لقوله تعالى:{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ} [المائدة: 49]، وقوله:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]، وقوله:{لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] .

وإذا كان الإمام - أي الحاكم - مقيداً بأن يتبع الشريعة وأن يحكم طبقاً لنصوصها، فمعنى ذلك أن سلطته مقيدة بنصوص الشريعة، فما أباحته فقد امتد سلطانه إليه، وما حرمته عليه فلا سلطان له عليه. والشريعة لا تبيح للحاكم إلا ما تبيحه لكل فرد، ولا تحرم عليه إلا ما حرمته على كل فرد.

(1) الأحكام السلطانية ص3.

(2)

الأحكام السلطانية ص6.

(3)

حدد صاحب الأحكام السلطانية واجبات الإمام بأنها: حفظ الدين، وتوفير الأمن والنظام، وإقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وحفظ الثغور، والجهاد، والإشراف على الأموال العامة في جبايتها وإنفاقها، والإشراف على الموظفين العموميين الذين يتولون كل هذه المهام.

(4)

نفس المرجع ص12 -17

ص: 43

المبدأ الثاني: مسئولية الحاكم عن عدوانه وأخطائه: وبعد أن بينت الشريعة واجبات الإمام - أي الحاكم - وحقوقه وحددت سلطته على وجه السابق جعلته مسئولاً عن كل عمل يتجاوز به سلطانه، سواء أتعمد هذا العمل أم وقع العمل نتيجة إهماله. ولم تكن الشريعة في تقرير مسئولية الحكام عن تصرفاتهم إلا متمشية مع منطق الأشياء، فقد بينت للحاكم حقه وواجبه وألزمته بأن لا يخرج عن أحكام الشريعة، وجعلته كأي فرد عادي فلم تميزه على غيره بأي ميزة، فكان من الطبيعي - تحقيقاً للعدالة والمساواة واستجابة للمنطق - أن يسأل الحاكم عن كل عمل مخالف للشريعة سواء أتعمد هذا العمل أم وقع منه نتيجة إهماله، ما دام كل فرد يسأل كذلك عن أعماله المخالفة للشريعة (1) .

المبدأ الثالث: تخويل الأمة حق عزل الحكام: بينا فيما سبق أن الإمامة تنعقد بناء على عقد يختار فيه الشعب الإمام أي الحاكم، ويلتزم له بالطاعة في مقابل التزاما لحاكم بالإشراف على شئون الأمة وقيادتها في الطريق التي رسمتها الشريعة. وينبني على هذا المنطق أن الحاكم الذي يقوم بمهمته في الحدود المقررة لها يجب له على الشعب السمع والطاعة، أما الحاكم الذي لا يقوم بالتزاماته أو يخرج على حدودها فليس له أن ينتظر من الشعب السمع والطاعة، وعليه هو أن يتنحى عن مركزه لمن هو أقدر منه على الحكم في حدود ما أنزل الله، فإن لم يتنح مختاراً نحّاه الشعب مكرهاً واختار غيره.

وهذا الذي يقتضيه المنطق هو نفس حكم الشريعة الصريح، جاء به القرآن وأمر به الرسول، وعمل به الخلفاء الراشدين من بعده، فالله جل شأنه يأمر بطاعة أولي الأمر في حدود ما جاء به الرسول فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ

(1) سنفصل الكلام على مسئولية الحكام عندما نبحث في سريان الشريعة على الأشخاص وإنما تكلمنا هنا عن المسئولية بالقدر الذي يظهر مميزات الشريعة وسبقها في تقرير النظريات الحديثة في القوانين.

ص: 44

وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]، والرسول عليه السلام يقول:"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، ويقول:"إنما الطاعة في المعروف"، ويقول في ولاة الأمور:"من أمركم منهم بمعصية فلا سمع ولا طاعة".

وبعد موت الرسول اختار المسلمون أبا بكر خليفة عليهم، فكانت أول خطبة يقولها تطبيقاً دقيقاً لهذه النصوص حيث قال:"أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".

وولي عمر أمر المسلمين بعد أبي بكر، فكان حريصاً على إظهار معاني هذه النصوص وتثبيتها في الأذهان، خطب يوماً فقال:"لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم فإن استقام اتبعوه وإن جنف قتلوه. فقال طلحة: وما عليك لو قلت: وإن تعوج عزلوه؟! قال: لا، القتل أنكل لمن بعده".

هذه هي نظرية الشريعة جاءت بها في وقت كانت سلطة الحاكمين على المحكومين سلطة مطلقة، فلم تكن الشريعة حين قررت هذه النظرية تأتي بما يلائم الجماعة ويصلح لحالها، وإنما جاءت بالنظرية لأنها ضرورية للشريعة الكاملة الدائمة من ناحية، ولترفع بها مستوى الجماعة وتدفعهم نحو الرقي من ناحية أخرى، فالنظرية إذن شرعت للتكميل والتوجيه.

وهذه هي النصوص التي تقوم عليها النظرية؛ جاءت عامة إلى آخر حدود العموم، مرنة إلى آخر حدود المرونة، بحيث تنطبق في كل زمان ومكان، ولا تضيق بما يمكن أن يستجد من حالات.

وقد سبقت الشريعة الإسلامية بنظريتها كل القوانين الوضعية في تقييد سلطة

ص: 45