الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخير الذي يسود اليوم في مصر وفرنسا هو أن التطبيب عمل مشروع تبيحه الدولة وتنظمه وتشجع عليه؛ لأن الحياة الاجتماعية تقتضي ذلك. وهذه التعليلات على اختلافها هي نفس التعليلات التي ذكرها الفقهاء الإسلاميون لعدم مسئولية الطبيب إذا أدى عمله إلى نتائج ضارة بالمريض.
* * *
الفرع الرابع
ألعاب الفروسية
370 -
الشريعة وألعاب الفروسية: تحتفل الشريعة بألعاب الفروسية وتحض عليها باعتبارها مقوية للأجسام منشطة للعقول، كما أنها مظهر للمهارة ودعوة للشجاعة والفتوة، وتشمل ألعاب الفروسية في الشريعة ما نسميه اليوم بالألعاب الرياضية وألعاب الفروسية والسباق، فكل ذلك يدخل تحت مدلول لفظ الفروسية.
وتجيز الشريعة من ألعاب الفروسية كل ما يؤدي إلى التفوق في القوة والمهارة مما ينفع الجماعة وقت السلم أو وقت الحرب، كالمسابقة بالأقدام، وسباق الخيل، وسباق السفن والسيارات والطائرات، وسباق الطير وما أشبه، وكللعب بالشيش والمزاريق والسيوف والعصا، وكالرماية بالنبال والمنجنيق والأسلحة النارية، وكالمصارعة والملاكمة والعلاج (1) - أي رفع الأثقال - وشد الحبل والسباحة وغيرها.
وتمتاز الشريعة الإسلامية بأنها جاءت صريحة في الأمر بالفروسية والترغيب فيها وذلك قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي"،
(1) يعبر الفقهاء عن رفع الأثقال بالعلاج، راجع كتاب الفروسية لابن القيم ص7.
وقوله: "المسلم القوي خير من المسلم الضعيف"، وقوله:"إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة في الجنة، صانعه يحتسب في صنعه الخير، والرامي به، ومنبله، ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، وليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله، ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها".
ولقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سابق بالأقدام، وثبت عنه أنه سابق بين الأبل، وثبت عنه أنه سابق بين الخيل، وثبت عنه أنه حضر نضال السهام وصار مع إحدى الطائفتين فأمسكت الأخرى وقالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال: "ارموا وأنا معكم كلكم"، وثبت أنه صارع ركانه، وثبت عنه أنه طعن بالرمح وركب الخيل مسرجة ومعراة.
ولقد حرص أصحاب الرسول على تنفيذ هذه النصوص والعمل بها. من ذلك ما رواه مصعب بن سعد قال: كان سعد يقول: أي بني تعلموا الرماية فإنها خير لعبكم. وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح "أن علموا غلمانكم العوم ومقاتلتكم الرمي"، وكتب إلى عامله بأذربيجان كتاباً جاء فيه:"اخشوشنوا، واخلولقوا (1) ، واقطعوا الركب (2) ، وانزوا على الخيل نزواً، وارتموا الأغراض (3) ") .
والأصل في الشريعة الإسلامية أن كل ما ينفع الأمة في دينها أو دنياها من علم أو فن أو صناعة فهو من فروض الكفاية وتعلمه واجب على الأمة ولا خيار لها في الأخذ به أو تركه، وعلى هذا تكون الفروسية بما يدخل تحتها من
(1) اخلولقوا: أي تهيأوا لما يراد منكم وكونوا خلقاء به جديرين بفعله.
(2)
أمرهم بقطع الركب حتى لا يعتادوا الركوب دائماً بالركاب.
(3)
ارتماء الأغراض أي رمي الأهداف.
ضروب المهارة والقوة والتفوق فرضاً من فروض الكفاية وواجباً على الأفراد ليس لهم أن يتخلوا عنه.
وتجيز الشريعة العوض في الرمي وفي المسابقة تشجيعاً للأفراد على الإقدام عليها والتفوق فيها، وللفقهاء آراء مختلفة فيما يجوز فيه العوض وما لا يجوز فيه (1) .
ويرى مالك أن يكون العوض دائماً من بيت المال؛ لأن ألعاب الفروسية تعود منفعتها للجماعة، وهي إعداد عسكري للأفراد. ولكن أبا حنيفة والشافعي وأحمد يجيزون أن يكون العوض من بيت المال، أو من مال غير اللاعبين، أو من مال أحد اللاعبين دون الآخر بحيث إذا تفوق الآخر أذخ العوض وإن لم يتفوق لم يأخذه (2) .
371 -
حكم إصابات اللعب: وألعاب الفروسية قد تؤدي إلى إصابات تقع على اللاعبين أو على غيرهم، فإن نشأت هذه الإصابات عن لعبة لا تقوم على استعمال القوة والعنف بين اللاعبين، وليس في ممارستها ما يستلزم استعمال القوة مع الخصم أو يحتم ضربه أو يعرضه للجرح، فمثل هذه الإصابة تحكمها قواعد الشريعة العامة؛ لأنها من ضروريات اللعبة، فإن تعمدها أحد فهو مسئول عنها باعتبارها جريمة عمدية، وإن وقعت نتيجة إهمال أو رعونة فهو مسئول عنها باعتبارها جريمة غير عمدية.
أما الألعاب التي تستلزم استعمال القوة مع الخصم كالمصارعة أو تستلزم الضرب كالملاكمة والتحطيب فإن الإصابات الناشئة عنه لا عقاب عليها إذا لم
(1) يرى البعض أن العوض لا يكون إلا في الرمي وفي مسابقة الخيل والإبل، ويراه البعض جائزاً في المسابقة بالأقدام وفي المصارعة والسباحة ورفع الأثقال والمشابكة بالأيدي وفي سباق البغال والحمير والبقر والفيلة. والفريق الأول هم المالكية والحنابلة، والفريق الثاني هم الحنفية والشافعية على خلاف بينهم.
(2)
مواهب الجليل ج3 ص390 وما بعدها، حاشية ابن عابدين ج6 ص657، مجمع الأنهرج2 ص526، تحفة المحتاج ج4 ص215 وما بعدها، المغني ج11 ص128 وما بعدها، الفروسية ص69 وما بعدها.
يتعد محدثها الحدود المرسومة للعب؛ لأن وجوب ممارسة اللعبة يقتضي بذاته إباحة ما يصحبها عادة من إصابات في الحدود المعروفة، فإذا تعدى اللاعب حدود اللعب وأحدث بزميله إصابة ما، فهي جريمة عمدية إذا تعمدها، وجريمة غير عمدية إذا لم يتعمدها.
372 -
بين الشريعة والقانون: هذا هو حكم ألعاب الفروسية في الشريعة الإسلامية أما حكمها في القوانين الوضعية فغير متفق عليه، فبض البلاد يعتبرها أفعالاً مباحة، وبعضها يعتبر ما يحدث عنها من ضربات وإصابات جرائم، وبعض ولايات أمريكا المتحدة تأخذ بالفكرة الأولى، وبعضها يأخذ بالفكرة الثانية، وتقضي المحاكم في بلجيكا بالعقوبة على ما يحدث من إصابات نتيجة ممارسة الألعاب الرياضية، بينما تقضي المحاكم في فرنسا بالبراءة، والسائد في إنجلترا وإيطاليا وألمانيا أن الألعاب الرياضية مشروعة في حدود معينة ولا يترتب عليها أية مسئولية، وفي مصر وفرنسا يرى البعض ارتفاع المسئولية، ويرى البعض المسئولية، والرأي الأول هو الراجح.
واختلف شُرَّاح القوانين في سبب ارتفاع المسئولية، فقال البعض إنه انعدام القصد الجنائي، وقال البعض أنه رضاء المجني عليه، وقال البعض الأخير بأن الدولة تعتبر الألعاب مشروعة فتبيحها وتشجع عليها، فمن يمارسها فإنما يمارس حقاً خوله له القانون، وممارسة الحق لا يترتب عليه مسئولية (1) ، وهذا الرأي هو أحدث الآراء وأرجحها، والعمل به يؤدي إلى نفس النتائج التي تؤدي إليها نظرية الشريعة الإسلامية، والفرق الوحيد بين نظرية الشريعة وهذا الرأي أن الشريعة ترى في ألعاب الفروسية واجباً على الأفراد، بينما هي طبقاً لهذا الرأي حق لا واجب.
(1) القانون الجنائي لعلي بدوي ص398، شرح قانون العقوبات للدكتورين كامل مرسي والسعيد مصطفى ص421، 422.