المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابععقوبات التعازير - التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي - جـ ١

[عبد القادر عودة]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌تقديم وتوجيه

- ‌1 - موضوع البحث:

- ‌2 - محتويات الجزء الأول:

- ‌3 - مدى المقارنة بين الشريعة والقانون الوضعي:

- ‌4 - المذاهب الشرعية المقارن بها:

- ‌5 - علة الاقتصار على المذاهب الأربعة:

- ‌6 - لغة البحث:

- ‌7 - الفقهاء والشراح:

- ‌8 - لماذا بدأت بالقسم الجنائي

- ‌9 - كيف دفعت لدراسة الشريعة

- ‌10 - حاجة الكتب الشرعية إلى تهذيب:

- ‌11 - طريقة التأليف:

- ‌12 - كيف وصمت الشريعة بعدم الصلاحية

- ‌13 - وجه الخطأ في قياس الشريعة بالقانون:

- ‌14 - لا قياس بين مختلفين:

- ‌15 - نشأة القانون:

- ‌16 - نشأة الشريعة:

- ‌17 - لا مماثلة بين الشريعة والقانون:

- ‌18 - الاختلافات الأساسية بين الشريعة والقانون:

- ‌19 - المميزات الجوهرية التي تميز الشريعة عن القانون:

- ‌20 - الأدلة على توفر هذه المميزات في الشريعة:

- ‌21 - نظرية المساواة:

- ‌22 - نظرية مساواة المرأة بالرجل:

- ‌23 - نظرية الحرية:

- ‌24 - حرية التفكير:

- ‌25 - حرية الاعتقاد:

- ‌26 - حرية القول:

- ‌27 - نظرية الشورى:

- ‌28 - نظرية تقييد سلطة الحاكم:

- ‌29 - نظرية الطلاق:

- ‌30 - نظرية تحريم الخمر:

- ‌31 - نظرية تعدد الزوجات:

- ‌32 - نظريات في الإثبات والتعاقد:

- ‌33 - نظرية الإثبات بالكتابة:

- ‌34 - نظرية إثبات الدين التجاري:

- ‌35 - نظرية حق الملتزم في إملاء العقد:

- ‌36 - نظرية تحريم الامتناع عن تحمل الشهادات:

- ‌37 - أحكام أخرى في آية الدين:

- ‌38 - تذكير:

- ‌منهج البحث

- ‌الكتاب الأول في الجريمة

- ‌القسم الأول من الكتاب الأول

- ‌الباب الأولماهية الجريمة

- ‌الباب الثانيأنواع الجريمة

- ‌الفصل الأولالتقسيم المبني على جسامة العقوبة

- ‌الفصل الثانيتقسيم الجرائم بحسب قصد الجاني

- ‌الفصل الثالثتقسيم الجرائم بحسب وقت كشفها

- ‌الفصل الرابع[تقسيم الجرائم بحسب طريقة وكيفية ارتكابها ووقوعها]

- ‌المبحث الأول[تقسيم الجرائم بحسب طريقة ارتكابها]

- ‌المبحث الثانيتقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها

- ‌المبحث الثالثتقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها

- ‌الفصل الخامس[تقسيم الجرائم بحسب طبيعتها]

- ‌المبحث الأولتقسيم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة

- ‌المبحث الثانيتقسيم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة

- ‌القسم الثاني من الكتاب الأولالأركان العامة للجريمة

- ‌الباب الأولالركن الشرعي للجريمة

- ‌الفصل الأولالنصوص المقررة للجرائم والعقوباتأي الأحكام الجنائية الشرعية

- ‌المبحث الأولالأحكام الجنائية الشرعية وأثرها في الجريمة والعقوبة

- ‌الفرع الأوللا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم الحدود

- ‌الفرع الثانيلا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم القصاص والدية

- ‌الفرع الثالثلا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم التعازير

- ‌القسم الأول: التعزير على المعاصي

- ‌القسم الثاني: التعزير للمصلحة العامة

- ‌القسم الثالث: التعزير على المخالفات

- ‌الفرع الرابعكيف طبقت القوانين الوضعية القاعدة

- ‌المبحث الثانيأدلة الأحكام الشريعةأي مصادر التشريع الجنائي

- ‌الفرع الأولالقرآن

- ‌الفرع الثانيالسنة

- ‌الفرع الثالثالإجماع

- ‌الفرع الرابعالقياس

- ‌المبحث الثالثتفسير الأحكام الجنائية، أي النصوص الجنائية

- ‌الفرع الأولالقواعد اللغوية الموضوعة للتفسير

- ‌الفرع الثانيالقواعد التشريعية التي تراعى عند التفسير

- ‌المبحث الرابعتعارض الأحكام (أي النصوص) ونسخها

- ‌المبحث الخامسعلاقة الأحكام الشرعية بأحكام القوانين

- ‌الفصل الثانيسريان النصوص الجنائية على الزمان

- ‌الفصل الثالثسريان النصوص الجنائية على المكان

- ‌الفصل الرابعسريان النصوص الجنائية على الأشخاص

- ‌الباب الثانيالركن المادي للجريمة

- ‌الفصل الأولالشروع في الجريمة

- ‌الفصل الثانيالاشتراك في الجريمة

- ‌المبحث الأولالاشتراك المباشر

- ‌الباب الثالثالركن الأدبي

- ‌الفصل الأولالمسئولية الجنائية

- ‌المبحث الأولأساس المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الثانيمحل المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الثالثسبب المسئولية ودرجتها

- ‌المبحث الرابعقصد العصيان: أو القصد الجنائي

- ‌المبحث الخامسأثر الجهل والخطأ والنسيان على المسئولية

- ‌المبحث السادسأثر الرضاء بالجريمة على المسئولية الجنائية

- ‌المبحث السابعالأفعال المتصلة بالجريمة وعلاقتها بالمسئولية الجنائية

- ‌الفصل الثانيارتفاع المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الأولأسباب الإباحةاستعمال الحقوق وأداء الواجبات

- ‌الفرع الأولالدفاع الشرعي

- ‌المطلب الأولالدفاع الشرعي الخاص، أو "دفاع الصائل

- ‌المطلب الثانيالدفاع الشرعي العامأو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الفرع الثانيالتأديب

- ‌الفرع الثالثالتطبيب

- ‌الفرع الرابعألعاب الفروسية

- ‌الفرع الخامسإهدار الأشخاص

- ‌الفرع السادسحقوق الحكام وواجباتهم

- ‌المبحث الثانيأسباب رفع العقوبة

- ‌الفرع الأولالإكراه

- ‌الفرع الثانيالسكر

- ‌الفرع الثالثالجنون

- ‌الفرع الرابعصغر السن

- ‌الكتاب الثاني في العقوبة

- ‌الباب الأولالعقوبة - مبادئ عامة

- ‌الباب الثانيأقسام العقوبة

- ‌الفصل الأولالعقوبات المقررة لجرائم الحدود

- ‌المبحث الأولعقوبات الزنا

- ‌المبحث الثانيعقوبة القذف

- ‌المبحث الثالثعقوبة الشرب

- ‌المبحث الرابععقوبة السرقة

- ‌المبحث الخامسعقوبة الحرابة

- ‌المبحث السادسعقوبة الردة والبغي

- ‌الفصل الثانيالعقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية

- ‌الفصل الثالثعقوبات الكفارات

- ‌الفصل الرابععقوبات التعازير

- ‌الفصل الخامسمدى صلاحية العقوبات الشرعية

- ‌الفصل السادسالعقوبات في القانون المصري ومدى صلاحيتها

- ‌الباب الثالثتعدد العقوبات

- ‌الباب الرابعاستيفاء العقوبات

- ‌الباب الخامسالعود

- ‌الباب السادسسقوط العقوبة

الفصل: ‌الفصل الرابععقوبات التعازير

ومن المسلم به أن الصيام لا يجوز إلا في حق المسلم، أما غير المسلم فلا يطلب منه التكفير بالصيام؛ لأن الصوم عبادة لا يلزم بها غير المسلم.

* * *

‌الفصل الرابع

عقوبات التعازير

477 -

ماهية التعازير: التعزير هو تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، أي: هو عقوبة على جرائم لم تضع الشريعة لأيها عقوبة مقدرة.

والتعازير هي مجموعة من العقوبات غير المقدرة، تبدأ بأتفه العقوبات كالنصح والإنذار، وتنتهي بأشد العقوبات كالحبس والجلد، بل قد تصل للقتل في الجرائم الخطيرة، ويترك للقاضي أن يختار من بينها العقوبة الملائمة للجريمة ولحال المجرم ونفسيته وسوابقه.

ويعاقب بالتعزير على كل الجرائم فيما عدا جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية فلها عقوباتها الخاصة، ولا يعاقب عليها باعتبار التعزير عقوبة أصلية وإنما باعتباره عقوبة بدلية تجب عند امتناع العقوبة الأصلية كعدم توفر شروط الحد، أو باعتباره عقوبة إضافة تضاف إلى العقوبة الأصلية كالتغريب في الزنا عند أبي حنيفة، وكإضافة التعزير للقصاص في الجراح عند مالك، وكإضافة أربعين جلدة على حد الخمر عند الشافعي.

وقد جرى التشريع الجنائي الإسلامي على أن لا يفرض لكل جريمة من جرائم التعزير عقوبة معينة كما تفعل القوانين الوضعية؛ لأن تقييد القاضي بعقوبة معينة يمنع العقوبة أن تؤدي وظيفتها، ويجعل العقوبة غير عادلة في كثير من الأحوال؛ لأن ظروف الجرائم والمجرمين تختلف اختلافاً بيناً، وما قد يصلح مجرماً بعينه قد يفسد مجرماً آخر، وما يردع شخصاً عن جريمة قد لا يردع غيره.

ص: 685

ومن أجل هذا وضعت الشريعة لجرائم التعازير عقوبات متعددة مختلفة هي مجموعة كاملة من العقوبات تتسلسل من أتفه العقوبات إلى أشدها، وتركت للقاضي أن يختار من بينها العقوبة التي يراها كفيلة بتأديب الجاني واستصلاحه وبحماية الجماعة من الإجرام، وللقاضي أن يعاقب بعقوبة واحدة أو بأكثر منها، وله أن يخفف العقوبة أو يشدها إن كانت العقوبة ذات حدين، وله أن يوقف تنفيذ العقوبة إن رأى في ذلك ما يكفي لتأديب الجاني وردعه واستصلاحه.

وليس ثمة خطر من إعطاء القاضي هذا السلطان الواسع في جرائم التعزير؛ لأنها ليست في الغالب جرائم خطيرة؛ ولأن التساهل فيها قد يصلح الجاني أكثر مما يفسده، أما الجرائم الخطيرة وهي جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية فقد وضعت لها الشريعة عقوبات مقدرة، ولم تترك للقاضي أي سلطان عليها إلا بتطبيق العقوبة المقررة كلما ثبتت الجريمة على الجاني.

وإذا كانت الشريعة قد عرفت عقوبات تعزيرية معينة فليس معنى ذلك أنها لا تقبل غيرها، بل إن الشريعة تتسع لكل عقوبة تصلح الجاني وتؤدبه وتحمي الجماعة من الإجرام، والقاعدة العامة في الشريعة أن كل عقوبة تؤدي إلى تأديب المجرم واستصلاحه وزجر غيره وحماية الجماعة من شر المجرم والجريمة هي عقوبة مشروعة.

478 -

الفرق بين التعازير وغيرها من العقوبات: هناك فروق ظاهرة تميز التعازير عن العقوبات المقررة لجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، وأهم هذه الفروق ما يأتي:

(1)

العقوبات المقررة لجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية هي عقوبات مقدرة معينة، فهي عقوبات لازمة ليس للقاضي أن يستبدل بها غيرها، وليس له

ص: 686

أن ينقص منها أو يزيد فيها ولو كانت بطبيعتها ذات حدين كالجلد؛ لأن تقديرها وتعيينها يجعلها في حكم العقوبة ذات الحد الواحد. أما التعازير فهي عقوبات غير مقدرة، فللقاضي أن يختار من بينها العقوبة الملائمة، وهي في الغالب ذات حدين وللقاضي أن ينزل بالعقوبة إلى حدها الأدنى أو يرتفع بها إلى الحد الأعلى، على أن من عقوبات التعازير ما هو ذو حد واحد كالتوبيخ والنصح، ولكن القاضي مع هذا غير مقيد بعقوبة بعينها إلا إذا كانت هي بالذات الملائمة للجريمة والمجرم.

(2)

العقوبات المقررة لجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية لا تقبل العفو ولا الإسقاط من ولي الأمر، أما التعازير فتقبل العفو من ولي الأمر سواء كانت الجريمة ماسة بالجماعة أو بالأفراد.

(3)

عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية ينظر فيها إلى الجريمة ولا اعتبار فيها لشخصية المجرم، أما التعازير فينظر فيها إلى الجريمة وإلى شخص المجرم معاً.

479 -

أنواع التعازير: التعازير على أنواع في الشريعة، وسنذكر فيما يلي أهم ما عرفته الشريعة من التعازير ووضع فعلاً موضع العمل، وعلينا أن لا ننسى أن مبادئ الشريعة لا تمنع من الأخذ بأية عقوبة أخرى تحقق أغراض الشريعة من العقاب.

480 -

عقوبة القتل: الأصل في الشريعة أن التعزير للتأديب، وأنه يجوز من التعزير ما أمنت عاقبته غالباً (1) ، فينبغي أن لا تكون عقوبة التعزير مهلكة، ومن ثم فلا يجوز في التعزير قتل ولا قطع (2) .

(1) البحر الرائق ج5 ص44، شرح الزرقاني ج8 ص115، 116، أسنى المطالب ج4 ص161 وما بعدها.

(2)

المراجع السابقة، وتبصرة الحكام ج2 ص264، والإقناع ج4 ص269.

ص: 687

لكن الكثيرين من الفقهاء أجازوا استثناء هذه القاعدة العامة أن يعاقب بالقتل تعزيراً إذا اقتضت المصلحة العامة تقرير عقوبة القتل، أو كان فساد المجرم لا يزول إلا بقتله، كقتل الجاسوس والداعية إلى البدعة ومعتاد الجرائم الخطيرة (1) .

وإذا كان القتل تعزيراً قد جاء استثناء من القاعدة فإنه لا يتوسع فيه ولا يترك أمره للقاضي ككل العقوبات التعزيرية، بل يجب أن يعين ولي الأمر الجرائم التي يجوز فيها الحكم بالقتل، وقد اجتهد الفقهاء في تعيين هذه الجرائم وتحديدها، ولم يبيحوا القتل إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك، بأن كان المجرم قد تكررت جرائمه ويئس من إصلاحه، أو كان استئصال المجرم ضرورياً لدفع فساده وحماية الجماعة منه.

ويبيح الحنفيون عامة القتل تعزيراً ويسمونه القتل سياسة، ويرى بعض الحنابلة هذا الرأي وعلى الأخص ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ويأخذ بهذا الرأي قليل من المالكية (2) ، ولكن أكثر الجرائم التي يبيح فيها الحنفية القتل تعزيراً أو سياسةً يعاقب عليها حداً أو قصاصاً في المذاهب الأخرى، فما يظن توسعاً في مذهب الحنفية هذه الوجهة هو توسع ظاهري في أكثر الحالات، فمثلاً يبيح الحنفية القتل تعزيراً في جريمة القتل بالمثقل وفي جريمة اللواط، ولا يرون القتل قصاصاً في الحالة الأولى أو حداً في الحالة الثانية، بينما يرى مالك والشافعي وأحمد قتل القاتل بالمثقل قصاصاً وقتل اللائط والملوط به حداً، ويرى بعض الحنابلة والمالكية قتل الداعية إلى البدعة تعزيراً بينما يراه غيرهم مرتداً بدعوته للبدعة فيقتل حداً.

(1) حاشية ابن عابدين ج4 ص247، 248، الإقناع ج4 ص271، الطرق الحكمية لابن القيم ص106، الاختيارات لابن تيمية ص178، 179، مواهب الجليل ج3 ص357، البحر الرائق ج5 ص45، مجموعة الوسائل لابن تيمية، الحسبة، ص58.

(2)

لا يبيح الشافعيون ومعظم المالكيين القتل تعزيراً، ويفضلون أن يحبس الجاني المفسد الذي يستضر بجرائمه إلى غير أمد لكف شره عن الجماعة، ويؤيدهم في هذا الاتجاه بعض الحنابلة.

ص: 688

والقتل تعزيراً بالشروط السابقة لا يمكن أن يكون إلا في جرائم تعزيرية محدودة العدد، وقد رأينا فيما سبق أن الشريعة جعلت القتل عقوبة في أربع جرائم من جرائم الحدود وهي: الزنا، والحرابة، والردة، والبغي. وجعلته عقوبة في جريمة واحدة من القصاص وهي القتل العمد، فإذا قدرنا أن الجرائم التعزيرية التي يمكن العقاب عليها بالقتل تصل إلى خمس جرائم أيضاً كانت كل الجرائم المعاقب عليها بالقتل في الشريعة لا تزيد على عشر جرائم عند من يجيزون القتل تعزيراً، وكان عددها لا يزيد على خمس جرائم عند من لا يبيحون القتل تعزيراً، وتلك ميزة انفردت بها الشريعة الإسلامية من يوم نزولها، فهي لا تسرف في عقوبة القتل ولا تفرضها دون مقتض، ونستطيع أن نحيط بمدى تفوق الشريعة في هذه الوجهة إذا علمنا أن القوانين الوضعية كانت إلى أواخر القرن الثامن عشر تسرف في عقوبة القتل إلى حد بعيد بحيث كان القانون الإنجليزي مثلاً يعاقب على مائتي جريمة بالإعدام، والقانون الفرنسي يعاقب على مائة وخمس عشرة جريمة بالإعدام.

ولقد حاولت بعض الدول الأوروبية في العهد الأخير أن تلغي عقوبة القتل ولكن حركة الإلغاء وقفت تحت تأثير النظرية الإيطالية التي ترى في عقوبة القتل وسيلة حسنة لاستئصال من لا يرجى صلاحهم من المجرمين، بل إن بعض البلاد التي ألغت عقوبة القتل فعلاً كإيطاليا وروسيا والنمسا عادت فقررت القتل عقوبة في قوانينها.

وعقوبة القتل مقررة في كل الدول الكبرى كإنجلترا وألمانيا وفرنسا وأمريكا، وأهم ما يبرر به شراح القوانين عقوبة القتل هو أنها وسيلة صالحة لمقاومة الإجرام ولاستئصال المجرمين الخطرين على الجماعة، وهذه هي نفس المبررات التي قال بها فقهاء الشريعة.

481 -

عقوبة الجلد: تعتبر عقوبة الجلد من العقوبات الأساسية في الشريعة، فهي عقوبة من العقوبات المقررة للحدود، وهي من العقوبات المقررة

ص: 689

في جرائم التعازير، بل هي العقوبة المفضلة في جرائم التعازير الخطيرة. ولعل وجه تفضيلها على غيرها أنها أكثر العقوبات ردعاً للمجرمين الخطرين الذين طبعوا على الإجرام أو اعتادوه، وأنها ذات حدين فيمكن أن يجازى بها كل مجرم بالقدر الذي يلائم جريمته ويلائم شخصيته في آن واحد.

وتمتاز عقوبة الجلد فوق ما تقدم بأن تنفيذها لا يثقل كاهل الدولة، ولا يعطل المحكوم عليه عن الإنتاج، ولا يعرض أهله ومن يعولهم للضياع أو الحرمان كما هو الحال في الحبس مثلاً، فالعقوبة تنفذ في الحال، والمجرم يذهب بعد التنفيذ مباشرة إلى حال سبيله، فلا يتعطل عن عمله ولا يشقى بعقابه أهله.

وأهم ميزة لعقوبة الجلد أنها تحمي المحكوم عليه من شر المحابس وما تجره على المحبوسين من إفساد الأخلاق والصحة، واعتياد التعطل والنفور من العمل.

الحد الأعلى للجلد: اختلف في الحد الأعلى للجلد، فمشهور مذهب مالك أن تعيين الحد الأعلى متروك لولي الأمر؛ لأن التعزير يكون بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة فيجتهد فيه ولي الأمر، وعلى هذا يجوز عند مالك أن يضرب المجرم أكثر من مائة جلدة ولو أن أشد الضرب في جرائم الحدود لا يزيد على مائة جلدة (1) .

ويرى أبو حنيفة ومحمد أن الحد الأعلى للجلد في التعزير تسعة وثلاثون سوطاً، بينما يرى أبو يوسف أنه خمسة وسبعون سوطاً. وأساس هذا التحديد ما صح عندهم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين"، ويرجع الخلاف بين أبي حنيفة ومحمد وبين أبي يوسف إلى أن أبا حنيفة ومحمد رأيا أن لفظ الحدود ورد في الحديث منكراً، فقالا: إن المقصود به حد ما، والأربعون حد كامل للرقيق، فإذا نقصت سوطاً أصبح الحد

(1) تبصرة الحكام ج2 ص262، 263، مواهب الجليل ج6 ص219.

ص: 690

الأعلى للتعزير تسعة وثلاثين، أما أبو يوسف فصرف لفظ الحد إلى حد الأحرار وأقله ثمانون، وكان القياس أن يجعل الحد الأعلى تسعة وسبعين سوطاً ولكنه اقتفى أثر على بن أبي طالب حيث جعل الحد الأعلى للتعزير خمسة وسبعين سوطاً ينقص خمسة أسواط عن أدنى حدود الأحرار (1) .

وفي مذهب الشافعي ثلاثة آراء: الأول يتفق مع رأي أبي حنيفة ومحمد، والثاني يتفق مع رأي أبو يوسف، والثالث يرى أصحابه أن يزيد الحد عن خمسة وسبعين (2) ولا يصل إلى مائة (3) بشرط أن تقاس كل جريمة بما يليق بها مما فيه حد؛ فينقص تعزير مقدمة الزنا عن حده وإن زاد على حد القذف، وينقص تعزير السب عن حد القذف، أي: أنه لا يبلغ بالتعزير في معصية قدر الحد فيها، فلا يبلغ التعزير على النظر والمباشرة حد الزنا، ولا بالتعزير على الشتم دون قذف حد القذف.

وفي مذهب أحمد آراء متعددة، منها ثلاثة آراء تتفق مع الآراء التي ذكرناها في مذهب الشافعي، وهناك رأيان مختلفان: أولهما: أن الجلد لا يصح أن يبلغ في كل جناية حداً مشروعاً في جنسها، ولكنه يصح أن يزيد على الحد في جناية من غير جنس الجناية المشروع فيها الحد، فمثلاً حد الزاني غير المحصن الجلد مائة جلدة وحد الزاني المحصن الرجم، فلا يصح أن يعاقب على الخلوة أو المباشرة أو التقبيل أو غير ذلك من مقدمات الزنا بالجلد مائة جلدة إذا كان الفاعل غير المحصن حتى لا يبلغ العقاب حداً في غير حد، ولكن يجوز إذا كان الفاعل محصناً أن يجلد مائة جلدة فأكثر؛ لأن حد الزاني المحصن هو الرجم والجلد أياً كان عدد

(1) شرح فتح القدير ج4 ص214، البحر الرائق ج5 ص51.

(2)

نهاية المحتاج ج8 ص201، الأحكام السلطانية ص206، أسنى المطالب ج4 ص162.

(3)

يرى فريق من الشافعية أن يزيد الجلد على مائة بشرط أن تكون الجريمة مما لم يرد في نوعها حد مقدر، راجع: مجموعة الرسائل لابن تيمية، الحسبة، ص57، الطرق الحكيمة ص106، ولم أجد لهذا الرأي أثراً فيما لدى من كتب الشافعية.

ص: 691

الجلدات لا يبلغ حد الرجم، وثانيهما: أنه لا يصح أن يزاد في التعزير على عشرة أسواط بأي حال، وحجة القائلين بهذا الرأي الأخير ما رواه أبو يردة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حودو الله تعالى"(1) ، وينسب بعض الفقهاء هذا الرأي للشافعية، ولكني لم أجد له أثراً فيما لديّ من كتب الشافعية، وحجة من نسبوه للشافعية قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، الحديث الذي بني عليه هذا الرأي صحيح (2) .

ويرجع اختلاف المذاهب واختلاف فقهاء المذهب الواحد إلى حديثي الرسول صلى الله عليه وسلم اللذين ذكرناهما وهما قوله: "من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين"، وقوله:"لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله"، فأما الحديث الأول فلا يرده من المذاهب الأربعة إلا مذهب مالك بحجة أنه منسوخ، وعندهم أنه لا حد لأكثر التعزير، وأن للإمام أن يزيد في التعزير على الحد إذا رأى المصلحة في ذلك مجانباً لهوى النفس، وأما الحديث الثاني فهو مردود إلا عند بعض الفقهاء في مذهب أحمد، ومن رده يرده لأنه منسوخ، أو لأنه مقصور على زمن الرسول الله صلى الله عليه وسلم (3) .

ومن أخذوا بالحديث الأول اختلفوا في تفسيره، ففسره البعض بأنه يمنع من أن تصل العقوبة في التعزير إلى العقوبة في أدنى الحدود، ونظر فريق منهم إلى البعيد فقال: إن الحد ينصف لهم، فأدنى الحدود حدودهم، وأدنى حد لهم هو أربعون جلدة.

(1) فتاوي ابن تيمية المجلد الرابع، الاخيتارات ص178، المغني ج15 ص347، الطرق الحكمية ص106، الإقناع ج4 ص270 وما بعدها.

(2)

شرح فتح القدير ج4 ص215، الطريق الحكمية ص106.

(3)

شرح فتح القدير ج4 ص215، تبصرة الحكام ج2 ص263.

ص: 692

وفسر البعض الحديث بأنه يمنع من أن تصل العقوبة التعزيرية إلى عقوبة الحد على وجه العموم، أو أن تصل العقوبة التعزيرية على ما في جنسه الحد إلى عقوبة الحد، ويرى هؤلاء أن تقاس الجريمة بعضها على بعض، فما ماثل الشرب والقذف في موضوعه أو في خطورته لم يصل فيه التعزير إلى مائة جلدة. وفسر البعض الآخر الحديث بأنه يمنع من أن تصل العقوبة التعزيرية على جريمة في جنسها الحد إلى عقوبة الحد، فإن لم يكن في جنسها الحد جاز أن تصل إلى عقوبة الحد وإلى أكثر منها، فمثلاً لا يجوز عقاب من وجد في فراشه امرأة بالجلد مائة جلدة إذا لم يكن محصناً ما دام لم يطأها؛ لأن حد الزاني غير المحصن هو الجلد مائة جلدة، ولكن يجوز جلده مائة جلدة إذا كان محصناً ويجوز جلده أكثر من مائة؛ لأن حد الزاني المحصن الرجم. ويجوز جلد السارق أكثر من مائة جلدة؛ لأن حد السرقة هو القطع، وهكذا. وإذا لم يكن في جنس الجريمة حد مقرر جاز الوصول بالتعزير إلى الحد الذي يراه ولي الأمر (1) . فكأن الغرض من الحديث أن لا يعاقب على جريمة شرع في جنسها الحد بعقوبة الحد ما دامت شروط عقوبة الحد لم تتوفر حتى لا يسوى في العقاب بين الجريمة التامة والجريمة غير التامة، وبين الفعل الذي توفرت فيه شروط جريمة الحد والفعل الذي لم تتوفر فيه هذه الشروط. ولعل هذا الرأي الأخير هو أحسن الآراء من الوجهة العملية وأفضلها من الوجهة المنطقية.

ويرى بعض الفقهاء أن يكون أقل الجلد ثلاث جلدات؛ لأن هذا القدر أقل ما يزجر، ولكن البعض لا يرى جعل حد أدنى للجلد؛ لأن أثر الزجر يختلف باختلاف الناس (2) .

(1) شرح فتح القدير ج4 ص214، نهاية المحتاج ج8 ص20، المغني ج10 ص347، الشرح الكبير ج10 ص354.

(2)

شرح فتح القدير ج4 ص215، المغني ج10 ص348، بدائع الصنائع ج7 ص94.

ص: 693

وليس في الشريعة ما يمنع من أن يكون الجلد عقوبة لأية جريمة من جرائم التعزير، وإن كان بعض الفقهاء يفضل أن يكون الجلد دون غيره عقوبة على الجرائم التي شرعت في جنسها الحدود، فيعاقب بالجلد على السرقات التي لا حد قيها، وعلى الزنا الذي لا حد فيه، وعلى القذف الذي لا حد فيه، وهكذا (1) . ويرى هؤلاء الفقهاء أن يعاقب بالجلد أو بغيره من عقوبات التعازير على الجرائم التي ليس في جنسها ما يوجب الحد، والقائلون بهذا ينظرون إلى أن عقوبة الجلد أشد تأديباً وأكثر ردعاً عن ارتكاب الجرائم الخطيرة، والمفروض أن الجرائم التي شرعت في جنسها الحدود هي أخطر الجرائم (2) .

482 -

الحبس: الحبس في الشريعة على نوعين، حبس محدد المدة، وحبس غير محدد المدة.

483 -

الحبس المحدد المدة: تعاقب الشريعة بالحبس المحدد المدة على جرائم التعزير العادية وتعاقب به المجرمين العاديين. ولقد ذكرنا أن الفقهاء يفضلون عقوبة الجلد على غيرها من العقوبات إذا كانت الجرائم خطيرة أو كان المجرمون خطرين أو ممن لا يردعهم إلا الجلد.

وأقل مدة هذا النوع من الحبس يوم واحد، أما حده الأعلى فغير متفق عليه، فيرى البعض أن لا يزيد عن ستة أشهر، ويرى البعض أن لا يصل إلى سنة كاملة، والبعض الآخر يرى تقدير حده الأعلى لولي الأمر (3) .

والذين يحددون مدة الحبس هم الشافعيون، ويشترطون أن لا يصل إلى سنة؛ لأنهم يقيسونه على التغريب في حد الزنا، والتغريب لا يزيد على عام، فوجب

(1) بدائع الصنائع ج7 ص64.

(2)

راجع الفقرة 98.

(3)

تبصرة الحكام ج2 ص284، شرح فتح القدير ج4 ص216، الأحكام السلطانية ص206، المغني ج10 ص348.

ص: 694

أن يقل الحبس عن عام حتى لا يعاقب بحد في غير حد. وظاهر المذاهب الأخرى أنها لا تقيس الحبس على التغريب.

ويجوز أن يجمع بين الحبس والضرب إذا رُئي أن إحدى العقوبتين لا تكفي وحدها، ولكن الشافعيين يشترطون في هذه الحالة أن لا يوقع من إحدى العقوبتين إلا ما يعتبر مكملاً لما نقص من العقوبة الثانية، فإذا ضرب الجاني نصف الجلدات المقررة للتعزير حبس نصف المدة المقررة للحبس، وإذا ضرب ربع الجلدات حبس ثلاثة أرباع مدة الحبس، وهكذا. ولا يشترط الفقهاء الآخرون هذا الشرط فيجوز عندهم أن يضرب الجاني كل الجلدات المقررة للتعزير ثم يحبس بعد ذلك المدة التي تكفي لتأديبه وزجر غيره (1) .

ويشترط في الحبس كما يشترط في غيره من العقوبات أن يؤدى غالباً إلى إصلاح الجاني وتأديبه، فإن غلب على الظن أنه لن يؤدب الجاني أو لن يصلحه امتنع الحكم به ووجب الحكم بعقوبة أخرى.

وموقف الشريعة من عقوبة الحبس يختلف اختلافاً بينا عن موقف القوانين الوضعية، ذلك أن عقوبة الحبس في القاونين الوضعية هي عقوبة الأولى أو هي العقوبة الأساسية التي يعاقب بها في كل الجرائم تقريباً سواء كانت الجرائم خيرة أو بسيطة. أما في الشريعة الإسلامية فعقوبة الحبس ليست إلا عقوبة ثانوية لا يعاقب بها إلا على الجرائم البسيطة، وهي عقوبة اختيارية للقاضي أن يعاقب بها أو يتركها، وليس له أن يعاقب بها إلا إذا غلب على ظنه أنها مفيدة.

ويترتب على هذا لفرق بين الشريعة والقوانين أن يقل إلى حد كبير عدد المحبوسين في البلاد التي تطبق الشريعة الإسلامية، وأن يزيد عددهم إلى غير حد في البلاد التي تطبق القوانين الوضعية.

(1) تبصرة الحكام ج2 ص284، شرح فتح القدير ج4 ص216، الأحكام السلطانية ص256، المغني ج10 ص348، أسنى المطالب ج4 ص192.

ص: 695

والواقع أن مشكلة السجن والمسجونين هي أول المشاكل التي تبرز أمام شراح القوانين الوضعية، فقد ترتب على جعل الحبس عقوبة أساسية في كل الجرائم تقريباً أن أزداد عدد المحكوم عليهم بالحبس وامتلأت بهم المحابس التي ضاقت بهم على سعتها، وأدى ذلك إلى أن السجون أصبحت مباءة للتآمر ومدرسة للإجرام بالرغم من أنها أنشئت للوقاية من الإجرام؛ لأن اجتماع المسجونين يسمح لهم بالتعارف والتآمر على ارتكاب الجرائم وتبادل المعلومات والاختبارات. كذلك ثبت من التجارب أن عقوبة السجن لا تردع من هم في حاجة إلى الردع، بينما تفسد الصالحين من المسجونين وتنزل بهم إلى مستوى الفاسدين.

وقد حاول بعض المصلحين تخفيف عيوب الحبس فوضعوا أنظمة مختلفة لهذا الغرض ولكنها جميعاً لها عيوبها ومفاسدها، كما أنها تعجز عن القضاء على عيوب الحبس الأساسية، ومن ذلك نظام الفصل بين المسجونين ليلاً وجمعهم نهاراً مع إلزامهم بالصمت المطلق، ولكن هذا النظام يكلف نفقات باهظة ويقضي بتوقيع عقوبات صارمة ومستمرة على المسجونين لمنعهم من الاتصال والكلام. من ذلك نظام الانفراد نهاراً وليلاً، وهو نظام كثير النفقة قليل الإنتاج يؤدي بالمسجونين إلى البله والجنون ويؤدي ببعضهم إلى الانتحار.

ومن ذلك النظام التدريجي أو النظام الأيرلندي وهو يبدأ بالحبس الانفرادي ثم يحبس المسجون بعد مدة منفرداً ليلاً وبالنهار يجتمع مع باقي المسجونين على أن لا يتكلم معهم، وهذا النظام يجمع بين عيوب النظامين السابقين.

أما عقوبة الحبس في الشريعة فإنها لا تؤدي إلى مثل النتائج السابقة؛ لأنها لا توقع إلا في بعض الجرائم البسيطة وعلى المجرمين المبتدئين ولمدد قصيرة إذا رأى القاضي أنها تردع الجاني، ومن ثم يكون عدد المسجونين قليلاً، ومدة بقائهم في السجن قصيرة، وأخلاقهم غير فاسدة، وليس فيهم من مرن على الإجرام أو اعتاده. وهكذا تنتفي أسباب عيوب عقوبة الحبس القائمة في

ص: 696

القوانين الوضعية بتطبيق نصوص الشريعة الإسلامية.

484 -

الحبس غير محدد المدة: من المتفق عليه أن الحبس غير المحدد المدة يعاقب به المجرمون الخطرون ومعتادو الإجرام، ومن اعتادوا ارتكاب جرائم القتل والضرب والسرقة، أو تكرر منهم ارتكاب الجرائم الخطيرة، ومن لا تردعهم العقوبات العادية، ويظل المجرم محبوساً حتى تظهر توبته وينصلح حاله فيطلق سراحه وإلا بقى محبوساً مكفوفاً شره عن الجماعة حتى يموت (1) .

ومن المتفق عليه أن مدة الحبس لا تحدد مقدماً؛ لأنه حبس لا مدة له، بل هو حبس حتى الموت وينتهي بموت المحكوم عليه أو توبته قبل ذلك وانصلاح حاله.

والحبس غير محدد المدة تطبيق لنظرية العقوبة غير المحددة التي عرفتها القوانين الوضعية في أواخر القرن التاسع عشر، فكأن الشريعة سبقت القوانين الوضعية لهذه النظرية بثلاثة عشر قرناً تقريباً، وأول من قال من شراح القوانين بهذه النظرية هم الشراح الإيطاليون حيث رأوا ضرورة عدم تحديد العقوبة، إذ للعقوبة في رأيهم وظيفتان: الاستئصال والإصلاح، فمن كان قابلاً من المجرمين للإصلاح كانت عقوبته مؤقتة، ومن كان غير قابل للإصلاح تؤبد عقوبته.

وتعتبر العقوبة غير محددة المدة في عصرنا الحاضر من العناصر الجوهرية في تدبير الأمن measures de surete ومن أحدث العقوبات التي يعالج بها الإجرام على أساس من علمي النفس والاجتماع.

وللقوانين الوضعية طرائق مختلفة في عدم تعيين المدة، فبعضهم يجعل عدم التعيين مطلقاً، فيصدر القاضي الحكم بالعقوبة دون أن يعين المدة، ولكن السلطة المشرفة على التنفيذ هي التي تحدد مدة العقوبة طبقاً لما يتبين لها من حال المحكوم

(1) حاشية ابن عابدين ج3 ص260، تبصرة الحكام ج2 ص264، نهاية المحتاج ج8 ص20، الإقناع ج4 ص272.

ص: 697

عليه، فقد تقصر المدة إن رأت إنصلاح حاله، وقد تبقيه في سجنه حتى الموت إذا لم يكن يرجى صلاحه، وقد أخذ القانون الفرنسي الصادر في 27/2/1885 بهذه الطريقة حيث نص على عقوبة النفي كعقوبة مؤبدة وخول السلطة الإدارية أن تخفضها إن رأت أن المحكوم عليه يستحق تخفيض العقوبة.

وبعض القوانين يجعل عدم التعيين نسبياً؛ فيصدر القاضي الحكم محدداً مدة العقوبة مبيناً حدها الأدنى الذي لا يصح أن تقل عنه وحدها الأعلى الذي لا يصح أن تزيد عليه، ويترك بعد ذلك للسلطة التنفيذية أن تخلي سبيل المحكوم عليه إذا رأت أنه انصلح حاله بعد أن يستوفي الحد الأدنى من العقوبة، فإن لم ينصلح حاله بقى حتى يستوفي الحد الأعلى.

وبعض التشريعات الوضعية يحدد الحد الأدنى للعقوبة ولا يحدد الحد الأقصى كالقانون الإيطالي الصادر في سنة 1930،وبعضها يحدد الحد الأقصى دون الأدنى كالقانون المصري، بالنسبة للمجرمين المعتادين على الإجرام وبالنسبة للمجرمين الأحداث.

وقد أخذ القانون المصري بعد التعيين المطلق بالنسبة للمتهمين المعتوهين إذ أجاز للنيابة العمومية متى كان المتهم محبوساً احتياطياً أن تودعه أحد محلات المجاذيب (المادة 249 من قانون تحقيق الجنايات) .

وبعض القوانين الأوروبية كالقانون البلجيكي والقانون الإيطالي تقضي بوضع المتهمين المصابين بالنورستانيا أو المدمنين على تعاطي المسكرات في محلات خاصة لمدة غير معينة.

ويتبين مما سبق أن القوانين الوضعية بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر تأخذ بنظرية الشريعة الإسلامية في العقوبة غير المعينة المدة، وأن بعض هذه القوانين تأخذ بنظرية الشريعة على إطلاقها فلا تحدد مدة العقوبة، وأن بعض القوانين يقيد مدة العقوبة بينما يجمع البعض الآخر بين الإطلاق والتقييد، وسواء أخذت

ص: 698

القوانين بالنظرية مطلقة أو مقيدة فهي نظرية الشريعة الإسلامية، وما التقييد والإطلاق في الواقع إلا تنظيم لتطبيق النظرية.

وليس بعد هذا من ينكر فضل الشريعة وسبقها في تقرير أفضل نظريات العقاب.

485 -

التغريب والإبعاد: تكلمنا عن التغريب بمناسبة الكلام عن عقوبات الزنا، وقلنا إن أبا حنيفة يراه تعزيراً وبقية الأئمة يرونه حداً، فيما عدا جريمة الزنا فالتغريب يعتبر تعزيراً باتفاق.

ويلجأ لعقوبة التغريب إذا تعددت أفعال المجرم إلى اجتذاب غيره إليها أو استضراره بها.

ويرى بعض الفقهاء في مذهبي الشافعي وأحمد أن لا تصل مدة الإبعاد إلى سنة كاملة؛ لأن التغريب شرع في الزنا حداً ومدته عام فيجب أن لا تصل مدته في التعزير عاماً، تحقيقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين".

ويرى أبو حنيفة أن مدة التغريب يصح أن تزيد على سنة؛ لأنه لا يعتبر التغريب حداً وإنما يعتبره تعزيراً. ويرى مالك أن من الممكن ريادة مدة التغريب عن سنة مع تسليمه بأن التغريب حد؛ لأنه يرى الحديث منسوخاً. ويظاهر مالكاً وأبا حنيفة بعض فقهاء مذهبي الشافعي وأحمد.

والقائلون بأن مدة التغريب يصح أن تزيد على سنة لا يحددون مدة التغريب بل يرون التغريب عقوبة غير محدودة، ويتركون لولي الأمر أن يأذن للمغرب في العودة إذا صلح حاله وظهرت توبته.

والمحكوم عليه بالغريب لا يحبس في مكان معين، ولكن يصح على رأي البعض أن يوضع تحت المراقبة وأن تقيد حريته ببعض القيود، ولكن ليس

ص: 699

له اتفاقاً أن يعود إلى المحل الذي غرب عنه قبل انتهاء مدة التغريبعند من يحددون له مدة وقبل توبته والإذن له بالعودة عند من يحددون للغريب مدة. ولقد عاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتغريب فأمر بإخراج المخنثين من المدينة، وكذلك فعل أصحابه من بعده، ومن ذلك أن عمر رضي الله عنه عاقب ضبيعاً بالضرب ونفاه إلى البصرة أو الكوفة وأمر بهجرته فكان لا يكلمه أحد حتى تاب، وكتب عامل البلد إلى عمر يخبره بتوبته فأذن للناس في كلامه. وكذلك نفى عمر نصر بن حجاج من المدينة.

ويدعو كثير من شراح القوانين اليوم إلى عقوبة التغريب؛ لأنهم يؤمنون بأن الحبس لا يجدي في إصلاح المحكوم عليهم وإعدادهم لتبوء المركز الذي كان لهم في الجماعة قبل الجريمة، إذ يستحيل على المحكوم عليه بالحبس مهما تاب وأناب أن يستعيد مركزه في المكان الذي ارتكب فيه جريمته، ومن ثم يظل منبوذاً من الجمهور ويضطر اضطراراً إلى أن يسلك نفسه في زمرة المجرمين والمفسدين، ولكن الإبعاد يخلص الجماعة من هذه الفئة من ناحية ويسمح للمحكوم عليه من ناحية أخرى أن يستعيد مركزه في الهيئة الجديدة التي ينضم إليها.

وقد أخذت الدول الأوروبية بنظرية التغريب وطبقتها في قوانينها، فإنجلترا مثلاً كانت تبعد المحكوم عليهم إلى أمريكا وإلى أستراليا، ثم اضطرت إلى العدول عن الإبعاد بعد اعتراض سكان المستعمرات. والقانون الفرنسي الصادر في سنة 1810 يجعل الإبعاد عقوبة تساعد على التخلص من السياسيين المناوئين للنظام القائم. كذلك جعل القانون الفرنسي من الإبعاد طريقة لتنفيذ عقوبة الأشغال الشاقة في المستعمرات وجعل منه عقوبة تكميلية للمجرمين العائدين. والقانون الإيطالي يبيح لوزير العدل أن يأمر بتنفيذ عقوبة الأشغال الشاقة أو السجن في إحدى المستعمرات.

ص: 700

486 -

الصلب: تكلمنا عن الصلب باعتباره حداً يعاقب بع على جريمة الحرابة، وقلنا إن بعض الفقهاء يرى صلب المحكوم عليه بعد قتله، وإن البعض الآخر يرى إن صلبه حياً ثم قتله وهو مصلوب. وقد كان تقرير الصلب حداً لجريمة قطع الطريق مما دعا الفقهاء للقول بأن الصلب ممكن أن يكون عقوبة تعزيرية.

والصلب للتعزير لا يصحبه القتل طبعاً ولا يسبقه، وإنما صلب الإنسان حياً ولا يمنع عنه طعامه ولا شرابه، ولا يمنع من الوضوء للصلاة ولكنه يصلي إيماء، ويشترط الفقهاء في الصلب أن لا تزيد مدته على ثلاثة أيام.

ومما يحتج به لمشروعية الصلب التعزيرية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزر رجلاً بالصلب على جبل يقال له أبو ناب.

ويذكر الشافعيون والمالكيون الصلب إذا ما ذكروا عقوبات التعازير، ولكن الحنفية والحنابلة لا يصرحون بذكره، على أن هذا لا يعني أنهم لا يرون الصلب؛ لأن القاعدة العامة أن كل وسيلة تؤدي إلى إصلاح الجاني وتأديبه وحماية الجماعة من شره تعتبر عقوبة مشروعة (1) .

وعقوبة الصلب على الوجه السابق هي عقوبة بدنية يقصد منها التأديب والتشهير معاً، وهي أشبه ما تكون بعقوبة التلاميذ حين يؤمرون بالوقوف وأيديهم مرفوعة إلى أعلى زمناً ما، أو حين يأمرون بأن يجثوا على ركبهم زمناً طويلاً أو قصيراً.

ويجب أن لا يفوتنا أن عقوبات التعازير غير لازمة كعقوبات الحدود أو القصاص، وعلى هذا فالأمر في جعل الصلب عقوبة أو إهمالها متروك للهيئة التشريعية، فإن رأت أنها تصلح لبعض الجرائم أو لكلها أقرتها، وإن رأت أنها لا تصلح تركتها.

(1) الأحكام السلطانية ص206، تبصرة الحكام ج2 ص266.

ص: 701

487 -

عقوبة الوعظ وما دونها: يعتبر الوعظ عقوبة تعزيرية في الشريعة الإسلامية، ويجوز للقاضي أن يكتفي في عقاب الجاني بوعظه إذا رأى أن في الوعظ ما يكفي لإصلاحه وردعه.

وقد نص القرآن صراحة على الوعظ في قوله تعالى: {وَاللَاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] .

وفي الشريعة من العقوبات التعزيرية ما هو دون الوعظ، فالفقهاء يعتبرون أن مجرد إعلان الجاني بجريمته عقوبة تعزيرية، وفي إحضاره إلى مجلس القضاء عقوبة تعزيرية.

ويجب أن لا ننسى أن مثل هذه العقوبات لا توقع إلا على من غلب على الظن أنها تصلحه وتزجره وتؤثر فيه.

488 -

عقوبة الهجر: ومن العقوبات التعزيرية في الشريعة الهجر، وقد ورد به القرآن تعزيراً للمرأة في قوله تعالى:{فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] .

وقد عاقب الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجر، فأمر بهجر الثلاثة الذين خلفوا عنه في غزوة تبوك وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن ربيعة العامري، وهلال بن أمية، فهجروا خمسين يوماً لا يكلمهم أحد حتى نزل قوله تعالى:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَاّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118] .

وعاقب عمر رضي الله عنه ضبيعاً بالهجر مع الجلد والتغريب، فكان لا يكلمه أحد حتى تاب، وكتب عامل البلد الذ غرب إليه إلى عمر يخبره بتوبته فأذن للناس في كلامه.

489 -

عقوبة التوبيخ: ومن العقوبات التعزيرية في الشريعة عقوبة

ص: 702

التوبيخ، فإذا رأى القاضي أن التوبيخ يكفي لإصلاح الجاني وتأديبه اكتفى بتوبيخه.

ولقد عزر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوبيخ، ومن ذلك ما رواه أبو ذر رضي الله عنه قال: ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية".

وخاصم عبد الرحمن بن عوف عبد من عامة الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب عبد الرحمن وسب العبد قائلاً: يا ابن السوء. فغضب النبي أشد الغضب ورفع يده قائلاً: "ليس لابن بيضاء على ابن سوداء سلطان إلا بالحق" فاستخزى عبد الرحمن وخجل، ووضع خده على التراب ثم قال للعبد: طأ عليه حتى ترضي.

490 -

عقوبة التهديد: والتهديد عقوبة تعزيرية في الشريعة بشرط أن لا يكون تهديداً كاذباً، وبشرط أن يرى القاضي أنه منتج وأنه يكفي لإصلاح الجاني وتأديبه، ومن التهديد أن ينذره القاضي بأنه إذا عاد فسيعاقبه بالجلد أو بالحبس أو سيعاقبه بأقصى العقوبة، ومن التهديد أن يحكم القاضي بالعقوبة ويوقف تنفيذها إلى مدة معينة.

وقد عرفت القوانين الوضعية عقوبتي التوبيخ والتهديد، وأخذت بالتوبيخ القضائي كعقوبة للجرائم البسيطة وللمجرمين المبتدئين، وأخذت بالتهديد القضائي عقوبة لمن يرى القاضي أن التهديد كاف لزجرهم وإصلاحهم.

وقد طبقت القوانين الوضعية عقوبة التهديد بطرق مختلفة، فبعضها يرى أن يحكم القاضي بالعقوبة مع إيقاف تنفيذها لمدة معينة فإن عاد المجرم أمكن تنفيذ العقوبة الموقوفة، وبعضها يرى الاكتفاء بإنذار الجاني أن لا يعود لجريمته.

ص: 703

وهذه الوسائل المختلفة التي تأخذ بها القوانين الوضعية ليست إلا تطبيقات للتهديد بالعقوبة، ويكفي أن نعرف أن القوانين الوضعية لم تأخذ بنظام التوبيخ والتهديد بالعقاب إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بينما عرفت الشريعة هذين النظامين وغيرهما من ثلاثة عشر قرناً وأكثر.

491 -

التشهير: ومن عقوبات الشريعة التعزيرية التشهير، ويقصد بالتشهير: الإعلان عن جريمة المحكوم عليه. ويكون التشهير في الجرائم التي يعتمد فيها المجرم على ثقة الناس كشهادة الزور والغش.

وكان التشهير يحدث قديماً بالمناداة على المجرم بذنبه في الأسواق والمحلات العامة حيث لم تكن هناك وسيلة أخرى، أما في عصرنا الحاضر فالتشهير ممكن بإعلان الحكم في الصحف أو لصقه في المحلات العامة.

والقوانين الوضعية تأخذ بعقوبة التشهير، وقد أخذ بها القانون المصري في بعض الجرائم كالغش والبيع بأكثر من السعر الجبري.

492 -

عقوبات أخرى: وليست العقوبات السابقة هي كل عقوبات التعزير في الشريعة الإسلامية؛ لأن التعازير ليست معينة وإنما ترك أمرها لأولي الأمر؛ أي الهيئة التشريعية، يختارون منها ما يرونه صالحاً لمحاربة الإجرام وإصلاح المجرمين وتأديبهم، ويتركون ما يرونه غير صالح، ولا يتقيدون في ذلك بقيود ما إلا بمراعاة الأسس العامة التي تقوم عليها نظرية العقاب.

والعقوبات التي ذكرناها هي أهم العقوبات العامة التي يمكن أن تطبق في كل جريمة، وهناك عقوبات أخرى ليست عامة ولا تنطبق على كل الجرائم وأهمها:

1 -

العزل من الوظيفة: وتطبق على الذين يتولون الوظائف العامة سواء كان أدراء الوظيفة بمقابل أو مجاناً.

ص: 704

2 -

الحرمان: ومعناه حرمان المجرم من بعض الحقوق المقررة له شرعاً، كالحرمان من تولي الوظائف، ومن أداء الشهادة، وكالحرمان من سلب القتيل، والرحمان من سهم الغنيمة، وكإسقاط النفقة للنشوز.

3 -

المصادرة: ويدخل تحتها مصادرة أدوات الجريمة ومصادرة ما حرمت حيازته.

4 -

الإزالة: ويدخل تحتها إزالة أثر الجريمة أو العمل المحرم، كهدم البناء المقام في الشارع العام، وإعدام أواني الخمر واللبن المغشوش.

وهذه العقوبات جميعاً تعرفها القوانين الوضعية اليوم وتأخذ بها.

493 -

عقوبة الغرامة: من المسلم به أن الشريعة عاقبت على بعض الجرائم التعزيرية بعقوبة الغرامة، من ذلك أنها تعاقب على سرقة الثمر المعلق بغرامة تساوي ثمن ما سرق مرتين فوق العقوبة التي تلائم السرقة، وذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"ومن خرج بشئ فعليه غرامة مثليه والعقوبة"، ومن ذلك عقوبة كاتم الضالة فإن عليه غرامتها ومثلها معها، ومن ذلك تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله (1) .

ولكن الفقهاء بالرغم من هذا اختلفوا فيما إذا كان من الجائز جعل الغرامة عقوبة عامة يمكن الحكم بها في كل جريمة، فرأى البعض أن الغرامة المالية يصح أن تكون عقوبة تعزيرية عامة، ورأى البعض أنه لا يصح أن تكون الغرامة عقوبة عامة (2) .

والذين يعترضون على الغرامة المالية يحتجون بأنها كانت مقررة على عهد

(1) إغاثة اللهفان ج1 ص331، أعلام الموقعين ج2 ص220.

(2)

المراجع السابقة، المغني ج10 ص348، الإقناع ج4 ص270، تبصرة الحكام ج2 ص261، شرح الزرقاني ج8 ص125، نهاية المحتاج ج8 ص20، أسنى المطالب ج4 ص162، شرح فتح القدير ج4 ص212، حاشية ابن عابدين ج3 ص246، مجموعة الرسائل، الحسبة ص59.

ص: 705

الرسول ونسخت، وأنها غير صالحة كوسيلة من وسائل محاربة الإجرام، وأنه يخشى أن يكون في إباحة الغرامة المالية ما يغري الحكام الظلمة بمصادرة أموال الناس بالباطل.

وتشدد بعض من أجازوا الغرامة عقوبة عامة، فاشترطوا أن تكون الغرامة عقوبة تهديدية بحيث يحصل المال ويحبس المحكوم عليه حتى ينصلح حاله، فإن صلح حاله رد إليه ماله، وإن لم ينصلح حاله أنفق المال على جهة من جهات البر.

ويمكن أن يؤيد الرأي المعارض في الغرامة المالية بأن جعل الغرامة عقوبة أساسية يؤدي إلى تمييز الأغنياء على الفقراء؛ لأن الغني يستطيع أن يدفع دائماً أما الفقير فلا يستطيع ذلك، ومن ثم فلا يمكن أن يعاقب بالغرامة وهي أخف بكثير من بعض العقوبات الأخرى.

وفي عصرنا الحاضر حيث نظمت شئون الدولة وروقبت أموالها، وحيث تقرر الهيئة التشريعية الحد الأدنى والحد الأعلى للغرامة، وحيث ترك توقيع العقوبات للمحاكم، لم يعد هناك محل للخوف من مصادرة أموال الناس بالباطل، وبذلك يسقط أحد الاعتراضات التي اعترض بها على الغرامة. كذلك وجدت جرائم بسية يعاقب عليها بعقوبات مالية تافهة كالمخالفات بحيث يستطيع أكثر الناس دفع الغرامة، وبهذا يضعف أحد الاعتراضات الأخرى على الأقل في هذه الجرائم البسيطة.

وعلى كل حال فإن الفقهاء الذين يرون جعل الغرامة عقوبة عامة يقررون أنها لا تصلح إلا في الجرائم البسيطة، ولم يحاولوا أن يضعوا للغرامة حداً أدنى أو حداً أعلى تاركين ذلك لولي الأمر.

والقوانين الوضعية تجعل الغرامة عقوبة أساسية في معظم الجرائم، وتتوسل إلى تنفيذ العقوبة بوسيلتين: هي التنفيذ الجبري على أموال المحكوم عليه، فإن لم يكن له مال فالثانية وهي: الإكراه البدني، وهو يكون بتشغيل

ص: 706

المحكوم عليه في عمل حكومي إذا وجد هذا العمل أو بحبس المحكوم عليه مدة معينة، ومعنى هذا أن عقوبة الغرامة تنتهي بالحبس إذا كان المحكوم عليه فقيراً، مع أن القوانين الوضعية تعتبر عقوبة الحبس أشد من عقوبة الغرامة.

وشراح القوانين الوضعية يعترفون بما لعقوبة الغرامة من عيوب كثيرة يحاولونإصلاحها، ويرون في عقوبة الغرامة بالرغم من عيوبها وسيلة من وسائل الحسنة للتخفيف أو الحد من مساوئ عقوبة الحبس، فهم يقبلون عقوبة الغرامة لا لمزاياها ولكن لأن مساوئها أقل من مساوئ عقوبة الحبس، وإذن فهم لا يحرصون على الأصلح وإنما يحرصون على اختيار أخف الضررين.

ولا تبيح الشريعة الإسلامية حبس المحكوم عليه بمبلغ من المال إلا إذا كان المطالب بالمال قادراً عليه وممتنعاً عن دفعه كما هو الحال في دين النفقة. أما إذا كان المطالب بالمال قادراً عنه فلا يجوز حبسه مقابل المبلغ المحكوم به؛ لأن الحبس في الدين لم يشرع إلا لحمل المدين على الدفع فإذا كان عاجزاً عن الدفع امتنع الحبس لانعدام سببه. ولكن ليس في الشريعة ما يمنع من تشغيل المحكوم عليه في عمل حكومي لاستيفاء الغرامة المحكوم بها من أجره، ونظرية الشريعة في هذا سليمة من الوجهين التشريعية والمنطقية؛ لأن التنفيذ على المحكوم عليه بالشغل هو التنفيذ على ماله ما دام لا مورد له إلا عمله، ولا يكاد التنفيذ جبراً بالشغل يختلف شيئاً عن التنفيذ جبراً على المال، أما حبس المحكوم عليه مقابل الغرامة في حالة العجز عن الدفع فمعناه أن المحكوم عليه يحبس لفقره لا للحكم بالحبس، ومن ثم تكون عقوبة الحبس الحالة محل الغرامة عقوبة خاصة بالفقراء، ومن شروط العقوبة الأساسية أن تكون عامة وإلا كانت غيره مشروعة.

وليس في الشريعة ما يدعو للحرص على عقوبة الغرامة وتعميمها في كل الجرائم التعزيرية أو معظمها؛ لأن الشريعة تجعل من عقوبة الحبس عقوبة ثانوية ولأن العقوبة الأساسية في معظم الجرائم هي الجلد، فانعدمت بذلك مساوئ

ص: 707