الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
تقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها
جرائم مؤقتة - وجرائم غير مؤقتة
68 -
سكوت الفقهاء عن هذين النوعين من الجرائم: لم يذكر الفقهاء شيئاً عن تقسيم الجرائم إلى جرائم مؤقتة وجرائم غير مؤقتة، وعلة ذلك - كما يبدو لنا - أن الفقهاء يهتمون فقط بجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، لأنها جرائم ثابتة لا تتغير الأفعال المكونة لها، ولا تتغير العقوبات المقررة عليها، وهذه الجرائم كلها مؤقتة وليس فيها جريمة واحدة غير مؤقتة، فلم يكن هناك إذن ما يدعو للتفرقة بين الجريمة المؤقتة والجريمة غير المؤقتة.
أما جرائم التعازير فبعضها مؤقت وبعضها غير مؤقت، ولكن الفقهاء جروا على إهمال بحث أحكام هذه الجرائم، لأن للسلطة التشريعية سلطاناً كبيراً فيها من حيث تحديد الأفعال المكونة لمعظمها، وتعيين العقوبة الواجبة عليها، وآراء السلطات التشريعية في جرائم التعازير تختلف باختلاف البلدان والعادات، فما قد تبيحه سلطة تشريعية في بلد ما قد تحرمه سلطة أخرى في بلد آخر، وما قد تعاقب عليه سلطة تشريعية من وجه قد تعاقب عليه سلطة أخرى من وجه آخر، ولهذا كله لم يهتم الفقهاء ببحث التعازير بحثاً مفصلاً كما اهتموا بجرائم الحدود، واكتفوا ببحث بعض الأحكام الهامة الثابتة التي لا تتغير بتغير البلاد والسلطات.
أما الآن وقد أصبحنا نحرص على بيان أحكام الجرائم عامة سواء كانت تعازير أو غير تعازير، فليس ثمة ما يمنع من التعرض لبحث الجرائم المؤقتة وغير المؤقتة.
69 -
جرائم التعازير مؤقتة وغير مؤقتة: والظاهر من تتبع جرائم
التعازير أنها تنقسم بحسب الوقت الذي يستغرقه وقوعها إلى جرائم مؤقتة وجرائم غير مؤقتة.
فالجرائم المؤقتة: هي التي تتكون من فعل أو امتناع يحدث في وقت محدود ولا يستغرق أكثر من الوقت اللازم لوقوع الفعل أو قيام حالة الامتناع، مثل جريمة السرقة فإنها تتم بمجرد وقوع الفعل أي أخذ الشيء خفية، ومثل جريمة الشرب فإنها تتم بمجرد شرب الخمر، ومثل جريمة كتمان الشهادة فإنها تتم بمجرد الامتناع عن أداء الشهادة.
والجرائم غير المؤقتة: هي التي تتكون من فعل أو امتناع قابل للتجدد والاستمرار فيستغرق وقوعها كل الوقت الذي تتجدد فيه الجريمة أو تستمر، ولا تعتبر الجريمة منتهية إلا بانتهاء حالة التجدد أو الاستمرار.
ومثال ذلك حبس شخص دون حق، والامتناع عن إخراج الزكاة، والامتناع عن تسليم طفل إلى حاضنه، والامتناع عن أداء الدين مع المقدرة عليه.
70 -
مقياس التمييز بين الجريمة المؤقتة وغير المؤقتة: ونصوص التشريع هي وحدها التي تبين إن كانت الجريمة مؤقتة أم غير مؤقتة، لأن هذه النصوص تعرف الجريمة وتبين ركنها المادي فتميزها بذلك عن غيرها، فإن كان الفعل أو الامتناع يقع وينتهي بمجرد ارتكاب الفعل أو قيام حالة الامتناع فالجريمة مؤقتة، وإن كان الفعل أو الامتناع يكون حالة مستمرة الحدوث أو التجدد فالجريمة غير مؤقتة.
وينبغي في هذا المقام أن نميز بين استمرار الجريمة واستمرار نتيجتها، فالسرقة تتم بأخذ الشيء خفية فهي جريمة مؤقتة، وبقاء المسروقات بعد ذلك تحت يد السارق ليس استمراراً للسرقة، وإنما هو استمرار لنتيجتها. وجريمة الشرب تتم بتناول الخمر فهي جريمة مؤقتة، فإذا سكر الشارب فإن سكره لا يعتبر استمراراً
للجريمة، وإنما هو استمرار لنتيجتها، إذ السكر نتيجة للشرب. والضرب والجرح جريمة مؤقتة تتم بمجرد وقوع الضرب وحدوث الجرح، فإذا بقى المجني عليه تحت العلاج مدة ما فذلك ليس استمراراً للجريمة، وإنما هو أثر الجريمة ونتيجة لها.
71 -
تقسيم الجرائم غير المؤقتة: تنقسم الجرائم غير المؤقتة إلى جرائم متجددة وجرائم مستمرة (1) .
فالجرائم المتجددة: هي التي يتوقف فيها استمرار الجريمة على تدخل إرادة الجاني تدخلاً متكرراً مقصوداً، كالامتناع عن أداء الزكاة، أو عن تسليم المحضون لحاضنه، وكإحراز سلاح دون رخصة. ففي هذه الحالات يأتي الجاني الفعل أو يمتنع عنه، وتبقى جريمته قائمة ما بقى محرزاً للسلاح، أو ممتنعاً عن أداء الزكاة، أو تسليم الطفل. ولكن بقاء الجريمة يتوقف على إرادة الجاني الذي يرى أن يبقى محرزاً للسلاح دون ترخيص، أو تسليم الطفل الحاضنه.
والجرائم المستمرة: هي التي لا يتوقف استمرار الجريمة فيها على تدخل إرادة الجاني، بل يستمر الفعل المكون للجريمة دون حاجة لتدخل إرادة الجاني، كحفر بئر في الطريق، وإقامة بناء في ملك الغير، أو خارجاً عن خط التنظيم.
72 -
أهمية تقسيم الجرائم إلى مؤقتة وغير مؤقتة: لهذا التقسيم أهمية من عدة وجوه نبسطها فيما يلي:
(1) فضلنا أن نقسم الجرائم إلى مؤقتة وغير مؤقتة، والأخيرة إلى متجددة ومستمرة. وهذا مخالف لما جرى عليه الشراح من تقسيم الجرائم إلى مؤقتة ومستمرة، وتقسيم المستمرة إلى جرائم مستمرة استمراراً متجدداً، وجرائم مستمرة استمراراً تاماً. وقد دعانا إلى مخالفة الشراح أن الألفاظ التي استعملناها أكثر دقة وانطباقاً على المعاني المقصودة.
(أ) من حيث الاختصاص: فالمحكمة المختصة بمحاكمة الجاني على الجريمة المؤقتة هي المحكمة التي وقع في دائرتها الفعل المكون للجريمة، لأن القضاء يتخصص بالزمان والمكان. أما المحكمة المختصة بمحاكمة الجاني على الجريمة غير المؤقتة فهي كل محكمة وقع في دائرتها الفعل المتجدد أو المستمر، ولما كان من الممكن أن يقع هذا الفعل في أمكنة متعددة فمعنى ذلك أن المحاكم المختصة بنظر الجريمة غير المؤقتة يصح أن تكون أكثر من محكمة واحدة.
(ب) من حيث التقادم: ففي الجريمة المؤقتة تحسب المدة المسقطة للدعوى العمومية من وقت ارتكاب الجريمة، وفي الجريمة غير المؤقتة تحسب المدة من انتهاء حالة التجدد أو الاستمرار.
(ت) من حيث تطبيق التشريعات الجديدة: لا تسري التشريعات الجديدة على ما يقع قبلها من الجرائم المؤقتة، ولكنها تسري على الجرائم غير المؤقتة التي بدأت قبل صدور التشريعات الجديدة، إذا ظلت حالة التجدد أو استمرار قائمة إلى ما بعد العمل بهذه التشريعات.
(ث) من حيث قوة الشيء المقضي به: يعتبر الحكم في الجريمة المؤقتة صادراً عن الواقعة التي عرضت على المحكمة، فإذا كانت هناك وقائع أخرى سابقة لم تعرض على المحكمة، فلا يعتبر الحكم شاملاً لها ولو كانت من نوع الواقعة التي صدر عنها الحكم، وكذلك الحال في الوقائع التي حدثت بعد صدور الحكم.
وإذا كانت الوقائع السابقة واللاحقة من نوع الواقعة المحكوم فيها، جاز رفع الدعوى من جديد عن الوقائع اللاحقة، وامتنع رفعها عن الوقائع السابقة. والعلة لهذه التفرقة أن قواعد التداخل تنطبق على الوقائع السابقة، وطبقاً لهذه القواعد لا يجوز رفع الدعوى عن وقائع سابقة إذا كانت مماثلة للواقعة التي حكم فيها، لأن العقوبة شرعت للتأديب والزجر، ووضعت على أنها تكفي لتحقيق