الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكأن أغلب القوانين الوضعية تسير الآن في نفس الطريق الذي سلكته الشريعة الإسلامية من ثلاثة عشر قرناً.
* * *
المبحث الثاني
محل المسئولية الجنائية
280 -
الإنسان محل المسئولية: ولما كانت الشريعة الإسلامية تشترط أن يكون الفاعل مدركاً مختاراً، فقد كان طبيعياً أن يكون الإنسان فقط هو محل المسئولية الجنائية، لأنه وحده هو المدرك المختار. أما الحيوان أو الجماد فلا يمكن أن يكون محلاً للمسئولية الجنائية لانعدام الإدراك والاختيار.
محل المسئولية هو الإنسان الحي، فلا يمكن أن يكون الميت محلاً للمسئولية الجنائية حيث ينعدم بالموت إدراكه واختياره، ولأن القاعدة في الشريعة أن الموت يسقط التكاليف.
وإذا كان اشتراط الإدراك والاختيار يجعل الإنسان وحده محل المسئولية الجنائية، فإن توفر هذين الشرطين يستوجب ذلك فقط أن يكون الإنسان المسئول عاقلاً بالغاً مختاراً، فإن لم يكن كذلك فلا مسئولية عليه، لأن غير العاقل لا يكون مدركاً ولا مختاراً، ومن لم يبلغ سناً معيناً لا يمكن أن يقال أنه تام الإدراك والاختيار، وعلى هذا فلا مسئولية على طفل ولا مجنون أو معتوه أو فاقد الإدراك بأي سبب آخر، ولا مسئولية على مكره أو مضطر.
الشخصيات المعنوية: وقد عرفت الشريعة الإسلامية من يوم وجودها الشخصيات المعنوية، فاعتبر الفقهاء بيت المال جهة، والوقت جهة؛ أي شخصاً معنوياً، وكذلك اعتبرت المدارس والملاجئ، والمستشفيات وغيرها، وجعلت هذه الجهات أو الشخصيات المعنوية أهلاً لتملك الحقوق والتصرف فيها، ولكنها لم تجعلها أهلاً للمسئولية الجنائية؛ لأن المسئولية تبنى على الإدراك والاختيار
وكلاهما منعدم دون شك في هذه الشخصيات، لكن إذا وقع الفعل المحرم ممن يتولى مصالح هذه الجهات، أو الأشخاص المعنوية كما نسميها الآن، فإنه هو الذي يعاقب على جنايته ولو أنه كان يعمل لصالح الشخص المعنوي.
ويمكن عقاب الشخص المعنوي كلما كانت العقوبة واقعة على من يشرفون على شئونه أو الأشخاص الحقيقيين الذين يمثلهم الشخص المعنوي؛ كعقوبة الحل والهدم والإزالة والمصادرة، كذلك يمكن شرعاً أن يفوض على هذه الشخصيات ما يحد من نشاطها الضار حماية للجماعة ونظامها وأمنها.
وإذا كان هذا هو حكم الشريعة الإسلامية من ثلاثة عشر قرناً؛ أي من يوم وجودها، فإن القوانين الوضعية كانت إلى عهد غير بعيد تجعل الإنسان والحيوان والجماد محلاً للمسئولية الجنائية، ولم تكن تفرق بين الإنسان الحي والميت ولا بين المميز وغير المميز ولا بين المختار والمكره؛ لأنها كانت تنظر إلى الجريمة بغض النظر عن فاعلها، ومن ثم كان العاقل البالغ والصبي غير المميز والمجنون والمعتوه يعاقبون على جرائمهم دون النظر إلى حالاتهم وعقلياتهم، بل كان الحيزان وكذلك الجماد يعاقب على ما يمكن أن ينسب إليه من أفعال جنائية.
أما اليوم بعد أن تغيرت الأسس التي كانت تقوم عليه القوانين الوضعية فإن هذه القوانين لا تعرف محلاً للمسئولية الجنائية غير الإنسان الحي، كما أنها تفرق في حكمها بين المدرك المختار وبين فاقد الإدراك والاختيار، وبهذا أصبحت في هذه النقطة المطابقة للشريعة الإسلامية.
281 -
شخصية المسئولية الجنائية: من القواعد الأولية في الشريعة الإسلامية أن المسئولية الجنائية شخصية، فلا يسأل عن الجرم إلا فاعله ولا يؤخذ امرؤ بجريرة غيره مهما كانت درجة القرابة أو الصداقة بينهما. وقد قرر القرآن الكريم هذا المبدأ العادل في كثير من آياته، ومن ذلك قوله تعالى:{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164]، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر:
18] ، {وَأَن لَّيْسَ للإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46] ، {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] . وجاءت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تؤكد هذا المبدأ حيث يقول: "لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه"، وحيث يقول لأبي رمثة وابنه:"إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه".
ومبدأ شخصية المسئولية الجنائية يطبق تطبيقاً دقيقاً في الشريعة الإسلامية من يوم وجودها، وليس لهذا المبدأ العام إلا استثناء واحد، وهو تحميل العاقلة الدية مع الجاني في شبه العمد والخطأ، وأساس هذا الاستثناء الوحيد هو تحقيق العدالة المطلقة، أي نفس الأساس الذي قام عليه مبدأ شخصية العقوبة؛ لأن تطبيق هذا المبدأ على دية شبه العمد والخطأ لا يمكن أن يحقق العدالة المطلقة بل أنه يؤدي إلى ظلم فاحش (1) .
ومن الفقهاء من لا يعتبر تحميل العاقلة الدية استثناء من مبدأ شخصية العقوبة حيث يرى أنه ليس في إيجاب الدية على العاقلة أخذهم بذنب الجاني، إنما الدية على القاتل. وأمر هؤلاء بالدخول معه في تحمله على وجه المواساة له من غير أن يلزمهم ذنب جنايته، وقد أوجب الله في أموال الأغنياء حقوقاً للفقراء من غير إلزامهم ذنباً لم يذنبوه، بل على وجه المواساة، وأمر بصلة الأرحام بكل وجه أمكن ذلك، وأمر ببر الوالدين، وهذه كلها أمور مندوب إليها بالمواساة وإصلاح ذات البين، فكذلك أمرت العاقلة بتحمل الدية عن قاتل الخطأ على جهة المواساة من غير إجحاف بهم وبه، وإنما يلزم كل رجل منهم ثلاثة دراهم أو أربعة مؤجلة ثلاث سنين.
فهذا مما ندبوا إليه من مكارم الأخلاق، وقد كان تحمل الديات مشهوراً في العرب قبل الإسلام، وكان ذلك مما يعد من جميل أفعالهم ومكارم أخلاقهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت لأتمم مكارم
(1) راجع الفقرة 472.
الأخلاق" فهذا فعل مستحسن في العقول مقبول في الأخلاق والعادات (1) .
وتأخذ اليوم القوانين الوضعية الحديثة بمبدأ شخصية المسئولية الجنائية، فلا يؤخذ بالجرائم غير جناتها ولا تنفذ العقوبة إلا على من أجرم دون غيره، ولكن القوانين الوضعية لم تطبق هذا المبدأ بدقة تامة حتى الآن، والمتتبع لنصوصها يجد خروجاً على هذا المبدأ في كثير من الحالات، فالقانون المصري مثلاً يعتبر من اشتراك في تجمهر وهو عالم بالغرض منه مسئولاً عن أية جريمة تقع من أحد المتجمهرين بقصد تنفيذ الغرض المقصود من التجمهر، كلك يعتبر مدبري التجمهر مسئولين جنائياً عن أية جريمة يرتكبها أحد المتجمهرين، مع أن التطبيق الدقيق للمبدأ يستوجب عدم مسئوليتهم إلا إذا كانوا قد اتفقوا على ارتكاب هذه الجريمة أو حرضوا عليها.
ونجد مثل هذا فيما يقرره القانون المصري من مسئولية رئيس تحرير الجريدة عما يكتب في الجريدة ولو كان غائباً، وفي تحميل أصحاب بيوت العاهرات مسئولية المخالفات التي تقع ضد المواد 13، 14، 15، 16، 19 من لائحة العاهرات، وفي تحميل أصحاب المحلات العمومية مسئولية بعض الجرائم التي يرتكبها الغير في هذه المحلات، وفي اعتبار الأب أو ولي الأمر مسئولاً عن جريمة صغير الذي حكم بتسليمه إليه إذا ارتكب الصغير جريمة ثانية في خلال سنة من تاريخ الأمر بتسليمه، كما هو نص المادة 69 من قانون العقوبات المصري.
وإذا كان الشراح يعللون هذه الحالات بأن العقوبة تقع على الخطأ من المعاقب لا على فعل غيره فإنه من الواضح الذي لا جدال فيه أن خطأ المعاقب يفترض قانوناً، وأنه يعتبر قائماً بناء على فعل يقع من الغير لم يشترك فيه المعاقب بأي وسيلة من وسائل الاشتراك.
ولم تكن القوانين الوضعية تطبق مبدأ شخصية المسئولية قبل الثورة
(1) أحكام القرآن لأبي بكر الرازي الجصاص ج2 ص224.
الفرنسية كما تطبقه اليوم، وإنما كانت تعتبر المرء مسئولاً عن عمله وعن عمل غيره ولو لم يكن عالماً بعمل هذا الغير ولو لم يكن له سلطان عليه، وكانت العقوبة تتعدى المجرم إلى أهله وأصدقائه، وتصيبهم كما تصيبه، وهو وحده الجاني وهم البرآء من جنايته.
وإذا كانت القوانين الوضعية الحديثة قد أخذت أخيراً بمبدأ شخصية المسئولية الذي جاءت به الشريعة الإسلامية من ثلاثة عشر قرناً، فإن الظاهر مما سبق أن القوانين الوضعية لم تصل في تطبيق هذا المبدأ إلى الحد الذي وصلت إليه الشريعة وأن دائرة تطبيقه في القانون أضيق من دائرة تطبيقه في الشريعة.
282 -
المجني عليه: المجني عليه هو من وقعت الجناية (1) على نفسه، أو على ماله، أو على حق من حقوقه. ولا تستلزم الشريعة أن يكون المجني عليه مختاراً مدركاً كما استلزمت هاتين الشرطين في الجاني؛ لأن الجاني مسئول عن الجناية مأخوذ بها؛ ولأن المسئولية مترتبة على عصيان أمر الشارع (2) ، وأوامر الشارع لا يخاطب بها إلا مدرك مختار، أما المجني عليه فغير مسئول وإنما هو معتدى عليه، اكتسب بالاعتداء حقاً قِبَل المعتدي وهو الجاني، وصاحب الحق
(1) معنى الجناية في الشريعة هو الجريمة أيا كانت بغض النظر عما إذا كانت العقوبة المقررة عليها جسيمة أو بسيطة.
(2)
والأوامر التي تعاقب على عصيانها إما أن يأمر بها الله أو الرسول أو أولي الأمر كالخليفة أو السلطان أو الحاكم، فإذا كان الآمر هو الله فقد وجب الأمر بإيجابه وتعين نفاذه، أما إذا كان الآمر الرسول أو ولي الأمر فإن الأمر لا يجب إيجاب الرسول أو ولي الأمر، وإنما يجب الأمر لأن الله أوجب علينا طاعة الرسول وأولي الأمر في قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59] فأمر الرسول وولي الأمر يجب بإيجاب الله، ومن ثم يكون كل أمر صادر من ولي الأمر مخالفاً لأمر الله أو أمر الرسول باطلاً ولا تجب طاعته. راجع: المستصفي للغزالي ج1 ص83، وشرح مسلم الثبوت لعبد العلي الأنصاري ص25 وما بعدها.
لا يشترط فيه الإدراك ولا الاختيار، وإنما يشترط فيه فقط أن يكون أهلاً لاكتساب الحقوق.
والحقوق التي تنشأ عن الجرائم على نوعين (1) : حقوق لله تعالى (2) وحقوق للآدميين. فأما النوع الأول فينشأ عن الجرائم التي تمس مصالح الجماعة ونظامها. وأما النوع الثاني فينشأ عن الجرائم التي تمس الأفراد وحقوقهم. وعلى هذا يصح أن يكون المجني عليه إنساناً مميزاً أو غير مميز عاقلاً أو مجنوناً، ويصح أن يكون المجني عليه طائفة من الناس كما لو بغت طائفة على أخرى، ويصح أن يكون المجني عليه الجماعة كلها كما لو كانت الجريمة زناً أو ردة.
وكما يصح أن يكون المجني عليه شخصاً طبيعياً يصح أن يكون شخصاً معنوياً؛ كأن يسرق الجاني مالاً لشركة أو لوقف أو للدولة.
وإذا كان محل الجريمة حيواناً أو مالاً في صورة الجماد أو عقيدة من العقائد فالمجني عليه هو مالك الحيوان أو المال أو الهيئة التي تعتنق العقيدة.
وظاهر مما سبق أن المجني عليه في كل الصور والأحوال هو الإنسان، إما باعتباره فرداً وإما باعتباره منتمياً لهيئة.
وتعتبر الشريعة الإنسان مجنياً عليه ولو لم ينفصل عن أمه، فمن أحدث جائفة (3) بامرأة حامل فأجهضت فقد جنى على شخصين هما الأم والجنين حيث أجاف الأم وأسقط الجنين، ووجبت عليه عقوبتان هما أَرْش (4) الجائفة ودية
(1) راجع الفقرة 74.
(2)
راجع الفقرة 175.
(3)
الجائفة: هي الجرح النافذ للتجويف الصدري أو البطني.
(4)
الأرش: هو بعض الدية.
الجنين (1) ، وإذا شربت الأم دواء فأجهضت فعليها دية الجنين (2) .
ويعرف البعض الجنين في هذا المقام بأنه ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة مما يعلم أنه ولد، ويرى البعض أن الجنين هو ما استبانت خلقته، ويرى البعض الثالث أن الجنين هو ما وجدت الحياة فيه (3) .
والقاعدة في الشريعة أن الإنسان تنتهي شخصيته بموته، فإذا مات أصبح لا وجود له، وانتقلت أمواله وحقوقه إلى دائنيه وورثته. وإذا كانت نفس الإنسان وماله وحقوقه هي محل الجريمة فلا يتصور أن يكون الإنسان بعد الموت محلاً للجريمة إلا في حالتين:
1 -
الاعتداء على رفات الأموات: لا يعتبر الاعتداء على جثّة الميت أو رفاته جريمة واقعة على الميت باعتباره إنساناً، ولا يعتبر هو المجني عليه، إنما يحرم الاعتداء على رفات الأموات باعتبارها شيئاً محترماً لدى الجماعة وله حرمته في نفوسهم، فالمجني عليه في الجريمة هو الجماعة والشريعة تعاقب مرتكبها باعتباره معتدياً على حرمة الأموات أو حرمة المقابر.
2 -
قذف الأموات: من القواعد الأولية في الشريعة أن الدعوى لا تقام على القاذف إلا إذا تقدم المقذوف بالشكوى؛ لأن الجريمة تمس المجني عليه مساساً شديداً وتتصل بعرضه وسمعته، ولأن للجاني الحق في أن يثبت وقائع القذف، فإذا أثبتها أصبح المقذوف مسئولاً عن الجريمة التي قذف بها ووجبت عليه عقوبتها، ولهذا علق رفع الدعوى على شكوى المقذوف فإذا شكا أخذت الدعوى سيرها. وإذا كان المقذوف حياً وقت القذف فله وحده حق الخصومة،
(1) مواهب الجليل ج6 ص257، بدائع الصنائع ج7 ص325، أسني المطالب ج4 ص89، المغني ج9 ص535، 542.
(2)
مواهب الجليل ج6 ص258، أسني المطالب ج4 ص92، المغني ج9 ص557.
(3)
بداية المجتهد ج2 ص292.
فإن مات بعد القذف وقبل الشكوى فليس لغيره من ورثته أو عصباته أن يخاصم القاذف ويشكوه، إلا إذا كان المقذوف قد مات قبل العلم بالقذف، أما إذا مات بعد الشكوى فتحل ورثته محله عند مالك والشافعي وأحمد، وتسقط الدعوى بموته عند أبي حنيفة، لأنه يرى أن حق المخاصمة في دعوى القذف ليس حقاً مالياً حتى يورث.
وإذا كان المقذوف ميتاً فجمهور الفقهاء يبيحون رفع الدعوى على القاذف بناء على شكوى الورثة أو الأصول أو الفروع، وحجتهم في ذلك أن القذف يتعدى الميت إلى الأحياء، وأنهم قدح في نسبهم فكأن القاذف قذفهم معني، ولهذا كان لهم حق تحريك الدعوى دفعاً للعار عن أنفسهم. ويرى بعض الفقهاء أن العار يلحق الأصول والفروع دون غيرهم، ولهذا قصر حق المخاصمة عليهم.
ويرى البعض أن العار يلحق كل الورثة، وأصحاب هذا الرأي يبيحون للورثة جميعاً حق المخاصمة. وعلى كل حال فمن له حق المخاصمة يستطيع أن يخاصم دون توقف على غيره ممن له نفس الحق، ولو كان هذا الغير أقرب درجة للميت، أي أن الأبعد يستطيع أن يخاصم ولو لم يخاصم الأقرب (1) .
وإذا كان الفقهاء يعللون المخاصمة بأنها لدفع العار على المخاصم من أصول الميت أو فروعه أو ورثته، وكان للأبعد أن يخاصم مع وجود الأقرب فمعنى ذلك أن الدعوى قصد منها حماية الأحياء لا حماية الميت، ودفع العار عنهم لا عنه، خصوصاً وأن القذف يتعدى دائماً المقذوف إلى غيره، إذ القذف في الشريعة معناه نفي النسب عن المقذوف أو نسبة الزنا إليه، فالمقذوف سواء كان رجلاً أو امرأة إذا نفيّ عنه نسبه تعداه نفي النسب إلى أصوله وفروعه وورثته، وإذا كان رماه فنسب إليها الزنا تعداها القذف إلى أصولها وفروعها وورثتها.
283 -
الشريعة والقانون: تتفق القوانين الوضعية مع الشريعة الإسلامية
(1) مواهب الجليل ج2 ص305، الزيلعي ج3 ص203، 204، الشرح الكبير ج1 ص230 وما بعدها، المهذب ج2 ص292.
فيما قلناه عن المجني عليه، فيصح فيها أن يكون المجني عليه إنساناً مميزاً أو غير مميز، عاقلاً أو مجنوناً، ويصح أن يكون إنساناً طبيعياً أو معنوياً، وفرداً أو جماعة، كما أن القوانين الوضعية تحمي الجنين قبل أن ينفصل عن أمه، فتعاقب على الإجهاض (1) سواء حدث من الأم أو من غيرها، وتحمي جدث الميت ورفاته، فتعاقب من ينتهك حرمة القبور (2) ، وهي في ذلك تتفق مع الشريعة.
أما فيما يتعلق بالقذف فالرأي السائد في القوانين الوضعية اليوم أن القوانين توضع لحماية الأحياء دون الأموات (3) ، ومن ثم فقذف الميت لا يعاقب عليه إلا إذا تعدى أثر القذف إلى الأحياء من ورثة المقذوف أو ذوي قرباه، فلا مانع إذن من المحاكمة والعقاب.
وبعض القوانين لا تعلق رفع الدعوى على شكوى المقذوف أو ورثته كما هو الحال في القانون المصري، ولكن بعض القوانين تشترط لرفع الدعوى شكوى المقذوف كما هو الحال في القانون الفرنسي، فإذا مات المجني عليه سقط بموته حق الشكوى إلا إذا قصد من القذف المساس بكرمة أسرة المقذوف وذويه الأحياء فيحق لهم حينئذ أن يرفعوا الشكوى باسمهم.
واتجاه القوانين الوضعية في قذف الأموات لا يكاد يختلف عن اتجاه الشريعة، فدعوى القذف في الشريعة تمس دائماً أسرة المقذوف وأهله، فإذا أجازت الشريعة للورثة رفع الدعوى دون قيد فإن هذا يساوي تماماً ما أجازته القوانين للورثة من رفع الدعوى في حالة المساس بهم؛ لأن القوانين لا تقصر القذف على نسبة الزنا ونفي النسب كما هو الحال في الشريعة، وإنما تعتبر القوانين قاذفاً
(1) راجع المواد 260- 264 من قانون العقوبات المصري.
(2)
راجع المادة 160 من قانون العقوبات المصري.
(3)
أحمد أمين ص544، 555، القانون الجنائي لأحمد صفوت ص153 وما بعدها، شرح قانون العقوبات للدكتورين كامل مرسي والسعيد مصطفى ص358.