الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شروط القياس؛ لأن أساس القياس أنه يلحق ما لا نص فيه بما فيه نص؛ لاشتراكهما في علة الحكم، فالحكم الذي يجئ عن طريق القياس هو حكم من أحكام القرآن أو السنة. فإذا فرض أن قياساً ما جاء بحكم مخالف للقرآن أو السنة، فهو قياس باطل بطلاناً مطلقاً؛ لأن من الشروط الأساسية في الشريعة أن يراعي المجتهد النصوص قبل كل شئ فلا يخرج عليها، وأن يتقيد بمقاصد الشارع العامة وبروح التشريع (1) .
* * *
المبحث الخامس
علاقة الأحكام الشرعية بأحكام القوانين
191 -
حكم القوانين واللوائح المخالفة للقرآن والسنة: إذا جاءت القوانين واللوائح متفقة مع نصوص القرآن والسنة، أو متمشية مع مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية، وجبت الطاعة لها، وحقت العقوبة على من خالفها. أما إذا جاءت القوانين واللوائح خارجة على نصوص القرآن والسنة، أو خارجة على مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية، فهي قوانين ولوائح باطلة بطلاناً مطلقاً، وليس لأحد أن يطيعها، بل على كل مسلم أن يحاربها. وسنبين فيما يلي أسباب هذا البطلان بعد أن نتكلم عن نظرية البطلان ذاتها.
192 -
نظرية البطلان في الشريعة: أساس نظرية البطلان في الشريعة الإسلامية هو أن الأوامر والنواهي لم تجئ عبثاً، وأن الله أنزل كتابه وأرسل رسوله للناس؛ ليطيعوه ويعملوا بما جاء به، فمن عمل بما جاء به الرسول فعمله صحيح؛ لأنه وافق أمر الشارع، ومن خالف فقد بطل عمله؛ لمخالفته أمر الشارع، والله تعالى يقول:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} [النساء: 64] ،
(1) راجع الفقرات 115، 135، 169، 175.
ويقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]، ويقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} [النساء: 59] .
وتنطبق نظرية البطلان على عمل الأفراد والجماعات، والحكام والمحكومين، وتصرفات هؤلاء وهؤلاء، فكل عمل أو تصرف جاء موافقاً لنصوص الشريعة أو مبادئها العامة وروحها فهو صحيح، وما جاء مخالفاً لنصوص الشريعة أو مبادئها العامة أو روحها التشريعية فهو باطل بطلاناً أصلياً، ولا يترتب عليه أي أثر، ومن ثم فكل قانون أو لائحة أو أمر جاء على خلاف الشريعة فهو باطل بطلاناً مطلقاً، وكل عبادة جاءت على خلاف الشريعة فهي عبادة باطلة، وكل تصرف أو عقد جاء على خلاف الشريعة فهو باطل بطلاناً مطلقاً. فالعمل إما أن يكون موافقاً للشريعة فهو صحيح، وإما أن يكون مخالفاً لها فهو باطل، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء.
والمخالفون وهم الأحناف يخالفون نظرية الجمهور فيما يمس حقوق الجماعة، فعندهم أن القوانين واللوائح والأوامر المخالفة للشريعة باطلة بطلاناً مطلقاً، ولكنهم يخالفون فيما يمس بحقوق الأفراد، أي في العقود والتصرفات، فيرون أنها تكون صحيحة إذا كانت موافقة للشريعة، فإذا جاءت على خلافها فهي باطلة بطلاناً مطلقاً إذا كان الخلل في أصل العقد أو التصرف، أي في ركن من أركانه، أما إذا كان الخلل في وصف من أوصاف العقد أو التصرف، أي في شرط خارج عن ماهيته وأركانه، فالعقد أو التصرف يكون فاسداً لا باطلاً. والفرق بين الفاسد والباطل عندهم أن الباطل لا يترتب عليه أثر مطلقاً، وأن الفاسد يترتب عليه بعض آثاره (1) .
وإذا طبقنا نظرية البطلان على القوانين واللوائح والقرارات والأوامر، أمكننا أن نقول على وجه القطع: إن التشريعات الوضعية على اختلاف أسمائها
(1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص186، 187، المستصفي للغزالي ج1 ص94، أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص99- 101.
تكون باطلة بطلاناً مطلقاً كلما جاءت مخالفة لنصوص الشريعة الإسلامية، أو خارجة عن مبادئها العامة، أو مباينة لروح التشريع الإسلامي. وأساس هذا البطلان كونها مخالفة للشريعة طبقاً لرأي جمهور الفقهاء، وأساسه - طبقاً لرأي أبي حنيفة وأصحابه - أن القوانين واللوائح والأوامر بما يمس صالح الجماعة ونظامها العام، أو يمس حقوق الله طبقاً لتعبيرهم، وكل ما يتصل بصالح الجماعة ونظامها باطل بطلاناً مطلقاً إذا جاء مخالفاً للشريعة الإسلامية، فأساس البطلان إذن بإجماع الفقهاء هو مخالفة القوانين واللوائح والقرارات والأوامر لنصوص الشريعة أو مبادئها العامة أو روحها التشريعية.
193 -
الأدلة على بطلان التشريعات الوضعية المخالفة للشريعة: بينا فيما سبق أن تطبيق نظرية البطلان في الشريعة يقتضي إبطال التشريعات الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية، وسنبين الآن أن هذا البطلان يستند إلى نصوص القرآن، ونصوص السنة، وإلى الإجماع، وهي مصادر القانون الجنائي في الشريعة الإسلامية. فقد جاءت نصوص القرآن والسنة صريحة في إبطال كل ما يخالف الشريعة، ومن ثم انعقد الإجماع على احترام هذه النصوص الصريحة وإبطال كل ما يخالفها، وسنقدم فيما يلي الأدلة على ذلك:
1 -
إن الله أمر باتباع الشريعة ونهى عن اتباع ما يخالفها: فلم يجعل لمسلم أن يتخذ من غير شريعة الله قانوناً، وجعل كل ما يخرج على نصوص الشريعة، أة مبادئها العامة، أو روحها التشريعية، محرماً تحريماً قاطعاً على المسلمين بنص القرآن الصريح، حيث قسم الله الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما: إما الاستجابة لله والرسول واتباع ما جاء به الرسول، وإما اتباع الهوى، فكل ما لم يأت به الرسول فهو من الهوى بنص القرآن، وذلك قوله تعالى:{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50] .
كذلك قسم الله طريق الحكم بين الناس إلى طريقين لا ثالث لهما: أولهما: الحق، وهو الوحي الذي أنزل على رسله، وثانيهما: الهوى، وهو كل ما خالف الوحي، فقال جل شأنه:{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] .
وقال تعالى موجهاً الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18، 19] .
فقسم الأمر بين الشريعة التي جعل رسوله عليها، وأوحى إليه العمل بها، وأمر الأمة الإسلامية باتباعها، وبين اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وأمر بالأول ونهى عن الثاني.
وقال جل شأنه: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] فأمر باتباع ما أنزل منه خاصة، ونهى عن اتباع ما يخالفه، وبين أن من اتبع غير ما أنزل من عند الله فقد اتبع أولياء من دون الله (1) .
وهكذا قطعت نصوص القرآن في تحريم كل ما يخالف نصوص الشريعة صراحة أو ضمناً، وكل ما يخالف مبادئها العامة أو روحها التشريعية، ونهت نهياً جازماً عن العمل بغير الشريعة، واعتبرت العامل بغير الشريعة متبعاً هواه منقاداً إلى الضلال، مضلاً لغيره ظالماً لنفسه ولغيره، كافراً بما أنزل الله، متخذاً لنفسه أولياء من دون الله.
2 -
إن الله لم يجعل لمؤمن أن يرضى بغير حكم الله، أو يتحاكم إلى غير ما أنزل الله: بل لقد أمر الله أن يكفر بكل حكم غير حكمه، واعتبر الرضا بغير حكمه ضلالاً بعيداً، واتباعاً للشيطان، وذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
(1) أعلام الموقعين ج1 ص53.
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا} [النساء: 60] .
فمن يتحاكم إلى غير ما أنزل الله وما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه. والطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله، فمن آمن بالله ليس له أن يؤمن بغيره، ولا أن يقبل حكماً غير حكمه (1) .
3 -
إن الله لم يجعل لمؤمن ولا مؤمنة أن يختار لنفسه أو يرضى لها غير ما اختاره الله ورسوله: ومن تخير غير ذلك فهو ضال لم يعرف الإيمان لقلبه سبيلاً، وذلك قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ، فإذا أمر الله باتباع ما أنزل على رسوله ونهى عن اتباع غيره، فليس لمؤمن أن يرضى بغير ما أنزل الله، فإن رضيه واختاره لنفسه فهو غير مؤمن (2) .
4 -
إن الله حرم على المؤمنين أن يسبقوا رسوله بقول أو فعل أو أمر أو رأي، كما حرم عليهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت نبيه: فقال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تأمروا حتى يأمر، ولا تفتوا حتى يفتي، ولا تعطوا أمراً حتى يكون هو الذي يحكم فيه. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ
(1) أعلام الموقعين ج1 ص56
(2)
نفس المرجع ج1 ص57
لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] ، فإذا كان رفع الصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم، فكيف بتقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها إليه، أليس هذا أولى أن يكون محبطاً لأعمالهم؟
وقال جل شأنه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] ، فإذا جعل الله من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون إذا كانوا معه إلا بعد استئذانه، فأولى أن يكون من لوازم الإيمان أن لا يذهبوا إلى قول أو فعل، ولا إلى مذهب علمي أو سياسي إلا بعد استئذانه، وإذنه يعرف بعد وافته بموافقة ما يذهبون إليه لما جاء به، فإن وافقه فقد أذن، وإن لم يوافقه - ثم ذهبوا إلى هذا المخالف - فقد انتفى عنهم الإيمان، وحبطت أعمالهم، وخسروا دنياهم وآخرتهم (1) .
5 -
إن الله أمر بأن يكون الحكم طبقاً لما أنزل، وجعل من لم يحكم بما أنزل الله كافراً، وظالماً، وفاسقاً: فقال جل شأنه: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وقال:{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وقال:{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] .
ومن المتفق عليه بين المفسرين أن من قبلنا استحدثوا لأنفسهم شرائع وقوانين، وتركوا بالحكم بها بعض ما أنزل الله، فاعتبرهم الله بعملهم هذا كفاراً وظلمة وفاسقين.
ومن المتفق عليه أيضاً بين المفسرين أن من يستحدث من المسلمين أحكاماً غير ما أنزل الله، ويترك بالحكم بها كل أو بعض ما أنزل الله من غير تأويل يعتقد صحته، فإنه يصدق عليهم ما قاله الله تعالى كل بحسب حاله، فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا لأنه يفضل غيره من أوضاع البشر
(1) أعلام الموقعين ج1 ص58
عليه فهو كافر قطعاً، ومن لم يحكم به لعلة أخرى غير الجحود والنكران فهو ظالم إن كان في حكمه مضيعاً لحق، أو تاركاً لعدل، أو مساواة، وإلا فهو فاسق (1) .
6 -
وإذا لم يكن لمؤمن أن يؤمن بغير ما أنزل الله، أو يقبل حكماً غير حكمه: فليس لمؤمن أن يحاول التوفيق بين ما جاء من عند الله وبين ما يخالفه، وأن يجعل بين حكم الله وحكم الطاغوت أو حكم الهوى، فإن ذلك هو الكفر المبرقع والنفاق السافر، وعلى كل مسلم أن يحارب الدعوة إلى هذا التوفيق، وأن يعرض عن الداعين إليه؛ لأن الإيمان بالله وبما جاء من عنده يتنافى مع التوفيق بين ما جاء به الرسول وبين ما يخالفه، بل الإيمان المحض يقتضي إعلان الحرب الشعواء على كل ما يخالف ما جاء به الرسول من طريقة، وحقيقة، وعقيدة، وسياسة، ورأي، حتى يكون الحكم خالصاً لما جاء من عند الله، وحتى تكون كلمة الذين كفروا بما جاء من عند الله السفلى، وكلمة الله هي العليا (2) .
ذلك هو حكم الله، نزل في الصادين عن سبيل الله، الداعين إلى التوفيق بين ما جاء من عند الله وما يخالفه، وذلك هو قوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَاّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} النساء: 61 - 63] .
7 -
إن الله نفى الإيمان عن العباد، وأقسم بنفسه على ذلك، حتى يحكموا الرسول فيما شجر بينهم من الدقيق والجليل والخطير والحقير: ولم يكتف في إثبات الإيمان لهم بهذا التحكيم المجرد، بل اشترط لاعتبارهم مؤمنين أن ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق من قضاء الرسول وحكمه، وأن يسلموا تسليماً،
(1) تفسير المنار ج6 ص405، روح المعاني للألوسي ج6 ص145، تفسير الطبريج6 ص119، تفسير القرطبي ج6 ص150.
(2)
أعلام الموقعين ج1 ص57
وينقادوا للرسول انقياداً، والرسول لا يحكم إلا بما أنزل الله وبما أراه إياه، فالمؤمن يجب عليه إذن أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤمن بها أصلح الأحكام وأفضلها ولو قال الناس إن غيره أصلح منه؛ لأنه لا يكون مؤمناً إلا إذا أطاع طاعة تامة، وانقاد انقياداً تاماً كاملاً لما أمر الله ورسوله، وذلك قوله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
ويستدل الفقهاء بهذه الآية على أن من رد شيئاً من أوامر الله أو أوامر رسوله فهو خارج عن الإسلام، سواء ردة من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول، أو الامتناع عن التسليم، ولقد حكم الصحابة بارتداد ما نعى الزكاة؛ لأن الله حكم بأن من لم يسلم بما جاء به الرسول ولم يسلم بقضائه وحكمه فليس من أهل الإيمان (1) .
8 -
إن كان ما يخالف الشريعة محرم على المسلمين، ولو أمرت به أو أباحته السلطة الحاكمة أياً كانت؛ لأن حق الهيئة الحاكمة في التشريع مقيد بأن يكون التشريع موافقاً لنصوص الشريعة، متفقاً مع مبادئها العامة وروحها التشريعية، فإن استباحت الهيئة الحاكمة لنفسها أن تخرج عن حدود وظيفتها، وأن تصدر قوانين لا تتفق مع الشريعة وتضعها موضع التنفيذ، فإن عملها لا يحل هذه القوانين المحرمة، ولا يبيح لمسلم أن يتبعها أو يطبقها، أو يحكم بها، أو ينفذها؛ بل تظل محرمة تحريماً قاطعاً على كل مسلم ومسلمة، ومن واجب الأفراد لا من حقوقهم أن يمتنعوا على اتباعها، ومن واجب الموظفين أن يمتنعوا عن تنفيذها، لأن طاعة أولي الأمر لا تجب لهم استقلالاً، وإنما تجب ضمن طاعة الرسول، ولا تجب لهم مطلقة، وإنما تجب في حدود ما أمر به الله ورسوله، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ
(1) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص214، أعلام الموقعين ج1 ص57، 58
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] ، فأمر الله بطاعته وطاعة رسوله، وإعادة فعل الطاعة عند ذكر الرسول يشعر بأن طاعة الرسول تجب له استقلالاً سواء كان ما أمر به في القرآن أو لم يكن فيه، لأنه أُوتي الكتاب ومثله معه، وحذف فعل الطاعة عند ذكر أولي الأمر دليل على أن طاعة أولي الأمر لا تجب لهم استقلالاً وإنما هي في ضمن طاعة الرسول، كذلك فإن تقدم طاعة الله وطاعة الرسول يقتضي أن لا يطاع أولو الأمر إلا بعد استيفاء الطاعة لله وللرسول في كل ما يصدر عن ولي الأمر، فأولو الأمر يطاعون تبعاً لطاعة الله وطاعة الرسول، وبعد توفر الطاعة لله ورسوله، فمن أمر منهم بما يوافق ما أنزل الله على رسوله فطاعته واجبة، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا
طاعة (1) .
9 -
إن السنة بينت حدود الطاعة لأولي الأمر، ونهت عن طاعتهم فيما يخالف ما أنزل الله: فصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وقال:"إنما الطاعة في المعروف"، وقال في ولاة الأمور:"من أمركم منهم بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
وفي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أحد الأمراء جنوده أمراً فتقاعسوا عن تنفيذه، فجمع حطباً وأشعل ناراً، ثم قال لهم: ألم يأمركم الرسول أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى. قال: فإني آمركم أن تدخلوا هذه النار، فهموا أن يدخلوها، فلما بلغ ذلك الرسول قال:"لو دخلوها لما خرجوا منها" أي لخلدوا في النار في دار الآخرة، قال الرسول هذا القول مع أنهم كانوا يدخلونها طاعة لأميرهم وظناً منهم أن ذلك واجب عليهم، ولكن لما قصروا في الاجتهاد وبادروا على طاعة من أمر بمعصية الله استحقوا أن النار جزاءهم لا يخرجون منها. وإذا كان
(1) أعلام الموقعين ج1 ص51، تفسير المنار ج5 ص180 وما بعدها.
حال من قصر في الاجتهاد واشتبه عليه الأمر فلم يتثبت منه، كيف يكون حال من أطاع أمراً مخالفاً مخالفة صريحة لما أنزل الله؟ (1) .
10 -
إن إجماع الأمة الإسلامية انعقد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه لا طاعة لأولي الأمر إلا في حدود ما أنزل الله: فهذا أبو بكر خليفة رسول الله يقول مخاطباً لمسلمين بعد مبايعته: أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم. فجعل رضي الله عنه طاعته مشروطة بطاعة الله، فإن عمل في حدود ما أنزل الله وجبت طاعته، وإن خرج عن هذه الحدود فلا سمع ولا طاعة.
وهؤلاء فقهاء هذه الأمة ومجتهدوها يجمعون على أن طاعة أولي الأمر لا تجب إلا فيما أمر الله، وأن لا طاعة لهم فيما يخالف ذلك (2) ولا خلاف بينهم قولاً أو اعتقاداً في أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن إباحة المجمع على تحريمه كالزنا والسكر، واستباحة إبطال الحدود، وتعطيل أحكما الشريعة، وشرع ما لم يأذن به الله، إنما هو كفر وردة، وأن الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتد واجب على المسلمين، وأقل درجات الخروج على ولي الأمر عصيان أوامره ونواهيه المخالفة للشريعة (3) .
11 -
إن أولي الأمر بحسب نصوص الشريعة الإسلامية ليس لهم حق التشريع المطلق للأسباب التي بيناها: وإن حقهم في التشريع قاصر على نوعين من التشريع: الأول: تشريعات تنفيذية يقصد بها ضمان تنفيذ نصوص الشريعة الإسلامية. والثاني: تشريعات تنظيمية لتنظيم الجماعة وحمايتها وسد حاجاتها على أساس مبادئ الشريعة العامة. وهذه التشريعات لا تكون إلا فيما سكتت عنه الشريعة فلم تأت بنصوص خاصة فيه ولا يمكن أن تكون فيما نصت عليه
(1) أعلام الموقعين ج1 ص57.
(2)
الشرح الكبير ج9 ص341، شرح الدردير ج4 ص218، المهذب ج2 ص189، حاشية ابن عابدين ج3 ص429.
(3)
تفسير المنار ج6 ص367، أحكام القرآن للجصاص ج2 ص214، روح المعاني للألوسى ج5 ص66 وما بعدها.
الشريعة، ويشترط في هذه التشريعات قبل كل شئ أن تكون متفقة مع مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية، فهي تشريعات توضع بقصد تنفيذ مبادئ الشريعة العامة، وإذن فهي في حقيقتها نوع آخر من التشريعات التنفيذية.
12 -
إن أولي الأمر حين يتولون التشريع المقيد على الوجه السابق يقومون به إما باعتبارهم خلفاء للرسول أو نواباً عن الجماعة الإسلامية: فإن كانوا خلفاء للرسول فليس لهم أن يخرجوا على ما جاء به الرسول؛ لأنهم خلفوا بقصد تنفيذ ما جاء به، وإن كانوا نواباً عن الجماعة الإسلامية فليس لهم أن يخرجوا على ما تدين به هذه الجماعة وما تؤمن به، وإلا خرجوا على حدود النيابة، لأن الجماعة لم تقمهم حكاماً إلا لإقامة الدين وحكم الجماعة على أساس الشريعة الإسلامية.
فأولي الأمر - أياً كان السند الذي يستندون إليه في حق التشريع - ليس لهم أن يخرجوا على نصوص الشريعة أو مبادئها العامة أو روحها التشريعية.
13 -
إن الشريعة الإسلامية هي الدستور الأساسي للمسلمين: كما تبين مما سبق، فكل ما يوافق هذا الدستور فهو صحيح، وكل ما يخالف هذا الدستور فهو باطل، مهما تغيرت الأزمان وتطورت الآراء في التشريع؛ لأن الشريعة جاءت من عند الله على لسان رسوله ليعمل بها في كل زمان وكل مكان، فتطبيقها ليس محدوداً بزمن، ولا مقصوراً على أشخاص ولا أجيال أو أجناس، وهي واجبة التطبيق حتى تلغى أو تنسخ، ولا يمكن أن تلغى أو تنسخ؛ لأن القاعدة الأساسية في الشريعة الإسلامية بل وفي القوانين الوضعية الحديثة أن النصوص لا ينسخها إلا نصوص في مثل قوتها أو أقوى منها، أي نصوص صادرة من نفس الشارع أو من هيئة لها سلطان التشريع مثل ما للهيئة التي أصدرت النصوص المراد نسخها، أو من هيئة يزيد سلطانها التشريعي على سلطان من أصدر النصوص المطلوب نسخها، فالنصوص الناسخة إذن يجب أن تكون قرآناً أو سنة حتى يمكن أن تنسخ ما لدينا من قرآن وسنة، وليس بعد الرسول قرآن حيث انقطع الوحي، ولا سنة حيث توفى الرسول،
ولا يمكن أن يقال إن ما يصدر عن هيئاتنا التشريعية البشرية في درجة القرآن والسنة، أو أن لها من سلطان التشريع ما لله وللرسول، ولكن الذي يمكن أن يقول وهو الواقع إن أولي الأمر منا لا يملكون حتى التشريع، وإنما لهم حق التنفيذ أو التنظيم، فالتشريع من حق الله والرسول، وقد انتهى عهده بوفاة الرسول، واستقر أمره بانقطاع الوحي، والتنفيذ والتنظيم لأولي الأمر، فلهم أن يصدروا قوانين ولوائح وأوامر تنفيذاً لما شرعه الله ورسوله، ولهم أن ينظموا الجماعة ويوجهوها طبقاً لما شرعه الله ورسوله، فالله قد تكفل بوضع التشريعات الأصلية وشرع على لسان رسوله نصوصاً وأحكاماً أساسية، وأوجب على أولي الأمر تنفيذها كما هي، كما أوجب عليهم أن ينظموا الجماعة ويوجهوها على أساسها، ولهم في سبيل أداء هذا الواجب أن يصدروا القوانين والمراسيم واللوائح والقرارات التي تضمن تنفيذ هذه
التشريعات الأساسية، وإقامة الجماعة على أساسها، ولكن ليس لهم بأي حال أن يعطلوا التشريعات الأساسية أو يلغوها؛ لأن ذلك خارج عن سلطانهم ولا يتسع له مقدورهم.
وإذا أردنا أن نأتي بتشبيه يقرب هذا المعنى إلى أذهاننا، قلنا: إن الشريعة تعتبر بمثابة القوانين الوضعية، وإن ما تصدره الهيئات التشريعية يعتبر بمثابة اللوائح والقرارات التي تصدر لضمان تنفيذ هذه القوانين، أو قلنا: إن الشريعة تعتبر بمثابة الدستور الوضعي، وإن ما تصدره الهيئات التشريعية يعتبر بمثابة القوانين الوضعية التي يشترط فيها أن تكون موافقة لنصوص الدستور وغير خارجة عليه وإلا كانت باطلة.
ونخلص من هذا كله بأن القوانين واللوائح والقرارات أدنى مرتبة من القرآن والسنة، ولا يمكن أن يتغلب القانون الأدنى على القانون الأعلى درجة.
14 -
إن الدستور المصري ينص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام: ومعنى هذا أن النظام الأساسي الذي تقوم عليه الدولة هو الإسلام، وأنه المصدر الذي تأخذ عنه، والمرجع الذي تنتهي إليه، والحاكم الذي تأتمر بأمره
وتنتهي بنهيه، فوجود هذا النص في الدستور المصري - وهو القانون الأولى بالنسبة لغيره من القوانين التي تسنها هيئاتنا التشريعية - يقتضي أن نتقيد بنصوص الشريعة الإسلامية في قوانيننا، وسياساتنا، وتعليمنا، وتنظيمنا الداخلي والخارجي، وفي كل أوجه نشاطنا، فلا نحل إلا ما أحلته الشريعة، ولا نحرم إلا ما حرمته، ولا نخرج على مبادئ الشريعة وروحها في تشريعاتنا وأنظمتنا.
ونحن لا نذكر هذا النص من الدستور لنستدل به على وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية وبطلان القوانين المخالفة لها، وإنما نذكره فقط لنبين ما يقتضيه، ويستوي عندنا بعد ذلك أن يعترف الدستور بالدين الإسلامي أو ينكره، فإن اعتراف الدستور أو إنكاره ليس له قيمة ذاتية، والعبرة في هذا الأمر بالواقع وبحكم الدين الإسلامي نفسه، وحكم الدين الإسلامي: أنه لا قانون للمسلمين غير الشريعة، وأن الشريعة هي دستورهم وقانونهم الأساسي، وكل ما خالفها من القوانين الوضعية باطل سواء سمي دستوراً أو قانوناً أو لائحة أو قراراً أو أمراً أو غير ذلك من المسميات، التي لا تعترف بها الشريعة إلا إذا كانت موافقة لنصوصها وغير خارجة على مبادئها العامة وروحها.
15 -
إن نظرية الشريعة الإسلامية في بطلان كل ما يخالف القرآن والسنة أو بمعنى آخر كل ما يخالف التشريعات الأساسية هي نظرية تعترف به اليوم كل البلاد التي تطبق القوانين الوضعية، ولكنها تختلف في تطبيقها، فأكثر البلاد المتمدينة ترى بطلان كل قانون أو لائحة أو قرار جاء مخالفاً للدستور، باعتبار أن الدستور هب التشريع الأساسي لهذه البلاد، ويجب أن لا يصدر قانون أو لائحة أو قرار على خلافه، ولأن الدستور لا تعدل نصوصه إلا بشروط خاصة وبأغلبية خاصة لا تشترط في أي قانون، فالهيئة التي شرعت الدستور أعلى من الهيئات التي شرع القوانين وغيرها. أما أقلية البلاد المتمدينة فلا تأخذ بنظرية البطلان على إطلاقها وتفرق بين القوانين وما دونها من قرارات واللوائح
والأوامر، فإذا جاء القانون مستوفياً شكله القانوني اعتبر صحيحاً ولو كان مخالفاً للدستور، أما اللوائح والقرارات والأوامر فتعتبر باطلة إذا جاءت مخالفة للدستور أو القوانين ولو استوفت شكلها القانوني، وسند أصحاب هذه النظرية أن القوانين تعتبر عندهم في درجة الدستور، لأن الهيئة التشريعية التي صدر الدستور والقوانين واحدة وسلطانها واحد، أما الهيئة التي تصدر اللوائح والأوامر والقرارات فهي أقل درجة من الهيئة التي وضعت الدستور والقوانين وسلطانها أقل (1) .
هذه هي نظرية البطلان في القوانين الوضعية عند من يأخذون بها على إطلاقها ومن يقيدونها، فإذا طبقناها مطلقة أو مقيدة على البلاد الإسلامية وجب أن نقول ببطلان كل ما يخالف الشريعة الإسلامية سواء استوفى الشكل أو لم يستوفيه؛ لأن الشريعة عي التشريع الأساسي للمسلمين؛ ولأن شارعها هو الله أجل من أن يقارن بعبادة المشرعين.
وقبل أن نترك هذه النقطة يجب أن نقرر أن الشرائع الوضعية لم تعرف نظرية البطلان هذه إلا حديثاً، فعمرها في القوانين الوضعية أقل من قرن، بينما عرفتها الشريعة الإسلامية من قبل أن تعرفها القوانين الوضعية بأكثر من أثنى عشر قرناً، ويكفي الشريعة فخراً أن يكون أقدم ما فيها هو أحدث ما في القوانين، وأن تكون النظرية التي يهلل لها الناس اليوم يرون فيها كل الضمان ضد طغيان السلطة التشريعية الإسلامية، وإذا كان الناس يجهلون هذا وغيره من الشريعة الإسلامية فليس الذنب ذنب الشريعة، وإنما هو ذنب أهلها الذين لا يعرفون عنها بعض ما يعرفونه عن غيرها.
16 -
إن استيفاء التشريعات المخالفة للشريعة شكلها القانوني لا يمنع من أنها تشريعات باطلة بطلاناً مطلقاً من ناحية الموضوع: وصحة الشكل لا يمكن أن
(1) شرح قانون العقوبات للدكتورين كامل مرسي والسعيد مصطفى ص109 وما بعدها، الموسوعة الجنائية ج5 ص558 وما بعدها، القانون الجنائي لعلي بدوي ص105.
تؤثر على بطلان الموضوع؛ لأن صحة الشكل لا تحيل الحرام حلالاً والباطل صحيحاً، ومن ثم يجب على القاضي أن لا يطبق التشريعات المخالفة للشريعة ولو استوفت شكلها القانوني.
194 -
مدى بطلان ما يخالف الشريعة: قلنا: إن ما يخالف الشريعة من قانون أو لائحة أو قرار باطل بطلاناً مطلقاً، لكن هذا البطلان لا ينصب على كل نصوص القانون أو اللائحة أو القرار، إنما ينصب فقط على النصوص المخالفة للشريعة دون غيرها؛ لأن أساس البطلان هو مخالفة الشريعة، فلا يمتد البطلان منطقياً لما يوافق الشريعة من النصوص، ولو أنها أدمجت في فانون واحد أو لائحة واحدة أو قرار واحد مع غيرها من النصوص المخالفة للشريعة. وتعتبر النصوص الموافقة للشريعة صحيحة ما دامت قد صدرت من هيئة تشريعية مختصة، واستوفت الإجراءات الشكلية المقررة.
وإذا كان البطلان قاصراً على النصوص المخالفة للشريعة فإن هذه النصوص لا تعتبر باطلة في كل حالة، وإنما هي باطلة فقط في الحالات التي تخالف فيها الشريعة، صحيحة في الحالات التي تتفق فيها مع الشريعة، وليس هذا بمستغرب ما دام أساس الصحة والبطلان راجع إلى موافقة الشريعة أو مخالفتها، إذ العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً.
ومن الأمثلة على بطلان النص الواحد في بعض الحالات وصحته في بعض الحالات الأخرى جريمة الزنا، فعقوبتها في الشريعة رجم الزاني المحصن، وجلد الزاني غير المحصن، والزنا شرعاً هو إدخال الحشفة أو مقدارها في الفرج، فما كان دون ذلك فلا حد فيه، وإنما فيه التعزير؛ فالشروع في الزنا ومقدمات الزنا من قبلة وعناق وملامسة كل ذلك لا يعاقب عليه بعقوبة الحد: وهي الرجم والجلد، والفعل التام لا يعاقب عليه في بعض الحالات بعقوبة الحد إذا درء الحد للشبهة، أو كان الجاني صغير السن، وعلى هذا فالجرائم التامة التي يجب فيها الحد لا يجوز
أن تطبق عليها نصوص القانون؛ لأنها تخالف حكم الشريعة، وتعاقب بعقوبة غير عقوبتي الرجم والجلد اللتين توجبهما الشريعة، أما الجرائم التامة التي درء فيها الحد، والجرائم غير التامة، فالعقوبة عليها هي عقوبة التعزير طبقاً للشريعة. والتعزير من العقوبات التي تتركها الشريعة لتصرف الهيئات التشريعية، ولما كان قانون العقوبات صادراً عن هذه الهيئات، فإن عقوباته تعتبر تعازير عن الأفعال التي لا يعاقب عليها بعقوبة الحد؛ أي بأية عقوبة مقدرة، ومن ثم تكون نصوص قانون العقوبات باطلة في كل حالة يجب فيها الحد صحيحة في كل حالة تستوجب التعزير.
والسرقة العادية عقوبتها القطع في الشريعة، وعقوبتها الحبس في القانون، ولكن حد القطع لا يجب إلا في سرقة تامة توفرت فيها شروط الحد، فإذا لم تكن السرقة تامة، أو لم تتوفر شروط الحد، فالعقوبة هي التعزير، ومن ثم تكون نصوص قانون العقوبات الخاصة بالسرقة باطلة في كل سرقة عادية تعاقب عليها الشريعة بالقطع، وصحيحة في كل سرقة تعاقب عليها الشريعة بالتعزير.
والقذف في الشريعة عقوبته الجلد ثمانين جلدة، ولكن القذف المعاقب عليه بعقوبة الحد هو الرمي بالزنا أو نفي النسب، وما عدا ذلك لا يعتبر قذفاً وإنما يعتبر سباً وعقوبته التعزير، ولما كانت الأجزية في قانون العقوبات تعازير فإن نصوص قانون العقوبات الخاصة بالقذف تعتبر باطلة في كل قذف تعاقب عليه الشريعة بعقوبة الحد، وتعتبر صحيحة في كل قذف أو سب تعاقب عليه الشريعة بعقوبة التعزير، إلا فيما يختص بالمنع من إثبات القذف فإن الشريعة لا تمنع القاذف من إثبات ما قذف به بينما القوانين تمنع ذلك (1) .
(1) راجع الفقرة 240: إثبات القذف حق للقاذف، وقانون العقوبات المصري لا يمس الحقوق الشرعية طبقاً للمادة السابعة منه.
195 -
ما يترتب على بطلان النصوص المخالفة للشريعة: يترتب على اعتبار النصوص المخالفة للشريعة باطلاً بطلاناً مطلقاً نتائج هامة نبينها فيما يلي:
أولاً: من وجهة تطبيق النصوص الباطلة: يجب على القاضي أن يطبق النصوص القانونية الباطلة في حالة البطلان، وعليه أن يطبقها فقط في حالات الصحة، وليس للقاضي أن يحتج بأن القوانين لا تخوله حق الفصل في صحتها وبطلانها مرتكناً في ذلك إلى نفس هذه القوانين، فإن سلطة القاضي في إبطال ما يخالف الشريعة تأتي من الشريعة لا من القوانين المخالفة لها.
ويستوي أن يحكم القاضي ببطلان النص المخالف أو يكتفي بالامتناع عن طبيعته لبطلانه؛ لأن القاضي لابد أن يبين في حكمه سبب امتناعه عن تطبيق النص وهو البطلان، وهذا البيان يساوي تماماً الحكم بالبطلان ولو جاء في أسباب الحكم فقط ولم يدخل في منطوقه، لأنه سبب جوهري، والأسباب الجوهرية تعتبر جزءاً من منطوق الحكم.
وليس للقاضي أن يحكم بالبراءة بحجة بطلان النص المطلوب تطبيقه على الواقعة، أو بحجة أنه مكلف طبقاً للقانون أن يحكم بعقوبة معينة فإن لم يحكم بها فعليه أن يبرئ المتهم. ليس للقاضي ذلك؛ لأن القول بالبطلان أساسه أن الشريعة تمنع من تطبيق غير أحكامها، وتوجب أن يعاقب مرتكب الجريمة بالعقوبات التي قررتها، فإذا أخذنا بحكم الشريعة في بطلان نص القانون استلزم ذلك الأخذ بحكم الشريعة في عقوبة الواقعة، فيجب إذن أن لا يحكم القاضي بالبراءة، وأن يحكم بالعقوبة المقررة في الشريعة الإسلامية ما دام مختصاً بنظر الجريمة.
وإذا اقتنع القاضي ببطلان النصوص المخالفة للشريعة وجب عليه أن يطبق حكم الشريعة، وليس يهمه بعد ذلك أن ينفذ حكمه أو لا ينفذ ما دام قد أدى واجبه وفعل ما يعتقده حقاً، فضلاً عن أن التنفيذ ليس من اختصاصه، بل هو
من اختصاص السلطة التنفيذية، وهي ملزمة بتنفيذ أحكام القضاء كلما كانت نهائية أو واجبة التنفيذ، فإذا أصبح حكم القاضي نهائياً اضطرت السلطة التنفيذية لتنفيذه.
ثانياً: من وجهة الاختصاص: وليس للقاضي أن يحكم بعدم اختصاصه بنظر الجريمة المعروضة عليه؛ لأنه مختص بنظرها طبقاً لنص القانون الجنائي الذي أصدرته الهيئة التشريعية، ولأن النصوص التي تحدد الاختصاص صحيحة إذا صدرت ممن يملك توزيع الاختصاص، ولا عبرة بما كان عليه العمل قديماً عند نظر جرائم الحدود فإن القضاء في الشريعة الإسلامية يتخصص بالزمان والمكان، ولولي الأمر طبقاً للشريعة سلطة توزيع الاختصاص القضائي، وقد وزعه فيما يختص بالجرائم على المحاكم الجنائية بالشكل الوارد في القوانين.
وإذا كان توزيع الاختصاص بين المحاكم الجنائية قائماً أصلاً على أساس جسامة العقوبة إلا أن المشرع قد بين بشكل قاطع الجرائم التي تختص بها كل محكمة، وما دامت القوانين الجنائية لم تذكر شيئاً عن العقوبات الشرعية فلننظر إلى الجريمة ذاتها، فإن كانت من اختصاص المحاكم الجزئية اعتبر القاضي نفسه مختصاً وحكم بالعقوبة المقررة في الشريعة بدلاً من العقوبة التي جاء بها القانون ولا تقرها الشريعة، على أساس أن المشرع رضي له أن يحكم بالعقوبة المقررة لهذه الجريمة على كل من ارتكبها، وجعل الحكم بعقوبتها من اختصاصه.
وعلى هذا يكون القاضي الجزئي مختصاً بنظر قضايا السرقة العادية، والقذف، والشرب، أما السرقة المصحوبة بإكراه أو تهديد، والسرقة التي ترتكب في الطريق العام، وهي ما يسمى في الشريعة بقطع الطريق أو الحرابة، فهذه من اختصاص محاكم الجنايات لسببين: أولهما: أن الفعل المكون للجريمة جعل بنص القانون من اختصاص محاكم الجنايات. وثانيهما: أن الشريعة نصت على القتل عقوبة في هذه الجريمة والقتل عقوبة لا يحاكم بها إلا محاكم الجنايات طبقاً للقانون.
أما جريمة الزنا فإن كانت من غير محصنين نظرنا إلى الفعل المنسوب إليهما، فإن كان القانون قد جعله من اختصاص محكمة الجنح حوكم المتهمان أمام هذه المحكمة، وإن كان قد جعله من اختصاص محكمة الجنايات حوكم المتهمان أمامها، ويمكن القول بأنه لا داعي اختصاص محاكم الجنايات في الزنا من غير المحصنين؛ لأن اختصاص هذه المحاكم كان أساسه توقيع عقوبة خاصة تخالف العقوبة التي توقعها محكمة الجنح، فإذا كان الفعل لا يعاقب عليه في الشريعة إلا بعقوبة واحدة هي الجلد، كان من المعقول أن تكون محكمة الجنح هي المختصة، ما دامت تختص بتوقيع عقوبة الجلد على الزنا في بعض الصور.
وإذا كان الزنا من محصنين فالجريمة من اختصاص محاكم الجنايات؛ لأن العقوبة المقررة للزنا هي الرجم أي القتل بطريق معين، والحكم بعقوبة القتل من اختصاص محاكم الجنايات، وليس من اختصاص القاضي الجزئي. وإذا كان أحد الزانيين غير محصن، فالاختصاص لمحاكم الجنايات أيضاً؛ لأن فعل الزنا لا يمكن تجزئته، ووحدة الفعل المنسوب للزانيين تقتضي أن يحاكما عليه أمام محكمة واحدة؛ ولأن القاضي الجزئي لا يملك عقاب الزاني المحصن، وإن كان له أن يعاقب الزاني غير المحصن، أما محكمة الجنايات فتملك عقاب الزاني المحصن بالرجم وتملك أن تعاقب بما هو أدنى من الرجم كالجلد؛ لأن من يملك الأكثر يملك الأقل.
ثالثاً: من وجهة تطبيق القوانين بصفة عامة: يترتب على الأخذ بنظرية البطلان أن لا يطبق من أحكام القوانين الوضعية جنائية، أو مدنية، أو تجارية، أو دولية
…
إلخ إلا الأحكام التي تتفق مع نصوص الشريعة، إذا كانت الشريعة قد نصت صراحة على أحكام خاصة، أو الأحكام التي تتفق مع مبادئ الشرعية العامة وروحها التشريعية، إذا لم تكن الشريعة قد نصت على أحكام خاصة. أما الأحكام المخالفة للشريعة فتهمل إهمالاً تاماً، وتحل محلها أحكام الشريعة، مع مراعاة اختيار الآراء الشرعية التي تنسجم مع نصوص القوانين الصحيحة.
ولا يشترط لصحة نصوص القوانين أن تكون أحكامها موافقة لمذهب معين في الشريعة كالمذهب الحنفي مثلاً أو المالكي، بل يكفي لعتبار حكم القانون صحيحاً أن يكون موافقاً لرأي أحد المجتهدين من فقهاء الشريعة، إذ أن اختيار المشرع لحكم متفق مع مذهب شرعي يعتبر أخذاً بالمذهب المتفق مع هذا الحكم.
وإذا كان بعض الحكم متفقاً مع الشريعة وبعضه مخالفاً لها فالمخالف باطل، ويحل محله حكم الشريعة الذي ينسجم مع بقية الحكم الذي لم يبطل دون حاجة للقيد بمذهب شرعي معين.
وعلى هذا الأساس يمتنع التنافر بين النصوص، ويكون هناك تناسق بين النصوص الشريعة والنصوص القانونية، على أن هذا لا يمنع المشرع فيما بعد من اختيار النظريات الشرعية التي تتفق مع حالتنا الاجتماعية، وتعديل القوانين تعديلاً شاملاً على أساس هذه النظريات.
رابعاً: من وجهة تطبيق الشريعة: يترتب على بطلان النصوص القانونية المخالفة للشريعة أن تطبق المحاكم في الحال نصوص الشريعة الإسلامية دون حاجة لتدخل من الهيئة التشريعية، كما يترتب على البطلان أن تلتزم الهيئة التشريعية حدود الشريعة فيما تصدره من قوانين ولوائح وقرارات جديدة.
196 -
مدى التغييرات التي تترتب على الأخذ بنظرية البطلان: يترتب على الأخذ بنظرية البطلان عدم تطبيق النصوص المخالفة للشريعة وإحلال نصوص الشريعة محلها، ولن يؤدي تطبيق أحكام الشريعة إلى إحداث تغيير كبير في أوضاعنا القانونية؛ لأن معظم النصوص القانونية لا تختلف 'ن أحكام الشريعة، وإذا خالف بعض النصوص ما يقول به بعض الفقهاء فإن هذه النصوص تتفق مع ما يقول به البعض الآخر من الفقهاء، وسنكتفي هنا
ببيان التغييرات التي تصيب قانون العقوبات (1) وهي ترتبط إلى حد كبير بنوع الجريمة، وتختلف بحسب ما إذا كانت الجريمة من جرائم الحدود، أو جرائم القصاص والدية، أو جرائم التعزير.
197 -
أولاً: في جرائم الحدود: جرائم الحدود معدودة في الشريعة وهي على سبيل الحصر سبع جرائم: الزنا، القذف، الشرب، السرقة، الحرابة، الردة، البغي. وتعاقب الشريعة على هذه الجرائم بعقوبات معينة تسمى حدوداً، ويشترط لعقوبة الحد أن تكون الجريمة تامة، وألا يكون هناك مانع شرعي من توقيع العقوية، فإذا توفر هذان الشرطان فلابد من عقوبة الحد. وفي هذه الحالة يجب تطبيق نصوص الشريعة، وتبطل نصوص القانون ويمتنع تطبيقها.
أما في الحالات التي لا يعاقب فيها على هذه الجرائم بعقوبة الحد كأن كانت الجريمة تامة ولم تستوف شروط العقوبة، أو درء الحد للشبهة، أو كانت الجريمة شروعاً، فالعقوبة في هذه الحالات طبقاً للشريعة هي عقوبة التعزير، والتعزير يرجع فيه إلى ولي الأمر، ونصوص قانون العقوبات ليست إلا تعازير مقررة ممن يملك حق تقريرها، فيكون قانون العقوبات هو الواجب التطبيق في هذه الحالات، وإذن فقانون العقوبات لن يعطل إلا في جرائم الحدود التامة المستوفية لشروط الحد، وهذا القول ينطبق على كل جرائم الحدود عدا جريمة الردة فلها حكم خاص.
الردة: تعتبر الشريعة الردة جريمة ماسة بالنظام العام، تعاقب عليها بعقوبة القتل، وعقوبة الردة لا يمكن إسقاطها بحال في الشريعة، أما قانون العقوبات
(1) رأينا الاكتفاء هنا ببيان التغييرات التي تصيب قانون العقوبات المصري نتيجة للأخذ بنظرية البطلان؛ لأن هذا الكتاب خاص بالجريمة والعقوبة، ونستطيع بعد أن عرفنا أساس البطلان أن نعرف النصوص المدينة الباطلة ومدى بطلانها، وأن نعرف النصوص الباطلة في قوانين الإجراءات ومدى بطلانها، وهكذا نستطيع كلما عرفنا حكم الشريعة وحكم القانون أن نقول: إن حكم القانون باطل إذا كان مخالفاً للشريعة، وإنه صحيح إذا كان موافقاً للشريعة.
فلا يعتبر الردة جريمة ولا يعاقب عليها، ولما كان كل ما يخالف الشريعة باطلاً فقد وجب تطبيق حكم الشريعة على كل مرتد، والحكم عليه بالعقوبة المقررة طبقاً للشريعة، ولو أن قانون العقوبات المصري لم يذكر عن الردة شيئاً.
وهذا القول إذا أمكن تقريره من الوجهة النظرية فإن من الصعب عملاً تنفيذه، فليس في الإمكان محاكمة المرتد والحكم عليه إلا إذا عرض أمره على القضاء، وعرض الجرائم على القضاء مقيد بإجراءات على القضاء مقيد بإجراءات خاصة تتخذها النيابة العمومية، وعلى هذا فسيظل نص الردة الشرعي معطلاً حتى ترى النيابة العمومية تنفيذه، على أن جريمة الردة يمكن أن تعرض على القضاء بصورة عكسية، فالشريعة تهدر دم المرتد ولا تعاقب قاتله؛ لأنه أتى فعلاً مباحاً، فإذا قتل المرتد إنسان وعرض أمر القاتل على القضاء وجب على القاضي أن يبرئه؛ لأنه قتل نفساً غير معصومة؛ ولأن الشريعة تجعل من واجب كل إنسان لا من حقه أن يقتل المرتد. وهذا الواجب ليس فرض عين وإنما هو من فروض الكفاية إذا قام به فرد سقط عن الآخرين.
198 -
ثانياً: في جرائم القصاص والدية: يدخل تحت هذا النوع من الجرائم القتل العمد، والقتل الخطأ، والجرح العمد، والجرح الخطأ، ولكل جريمة حكمها.
القتل العمد: الأصل في الشريعة هو أن يعاقب بالقصاص على القتل العمد، سواء كان القتل مقترناً بسبق إصرار وترصد أو غير مقترن، وسواء كانت هناك ظروف مخففة أو لم تكن، ولا تجيز الشريعة للقاضي أن يخفف العقوبة أو يستبدل بها غيرها، أما القانون المصري فيعاقب بالإعدام على القتل المقترن بسبق إصرار وترصد، وعلى القتل بالسم، وعلى القتل المقترن بجريمة أخرى، وفيما عدا ذلك فالعقوبة على القتل هي الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، ويجيز القانون المصري في كل الأحوال تخفيف العقوبة واستبدال غيرها بها إذا
كانت الظروف تدعو للتخفيف. وهذا الخلاف الظاهر بين الشريعة والقانون المصري يقضي الأخذ بنصوص الشريعة دائماً في الحالات التي توجب فيها الشريعة القصاص، فيحكم القاضي بالقصاص في كل هذه الحالات، ويمتنع عليه أن يحكم بعقوبة أخرى.
ويجيز الشريعة لولي المجني عليه أن يعفو عن القصاص، فإذا عفا سقطت عقوبة القصاص، ولولي الدم إما العفو مجاناً، وإما على الدية أو مقابلها، فإذا عفا على الدية وجبت الدية على الجاني، وكان على القاضي أن يحكم بها، ويجب في حالة العفو على الدية والعفو مجاناً أن يحكم على الجاني بعقوبة تعزيرية، طبقاً لرأي مالك (1) أما أبو حنيفة (2) والشافعي (3) وأحمد (4) فلا يوجبون التعزير في حالة العفو ولكن ليس لديهم ما يمنع من التعزير إن اقتضته المصلحة العامة. والقانون المصري لا يجعل لعفو أولياء المجني عليه أثراً على العقوبة المقررة، ولكن العفو يمكن اعتباره ظرفاً قضائياً مخففاً يؤدي إلى تخفيف العقوبة، أو استبدال غيرها بها، طبقاً للمادة 17 من قانون العقوبات المصري، وهذا الذي أخذ به القانون المصري يتفق مع مذهب الإمام مالك حيث يرى عند العفو أن تستبدل بعقوبة القصاص عقوبة التعزير.
فكأن المشرع المصري قد أخذ بمذهب مالك في هذه المسألة، وعلى هذا يجب في حالة العفو على الدية الحكم بها وبعقوبة تعزيرية، وفي حالة العفو مجاناً يجب الحكم بعقوبة تعزيرية، ولما كانت العقوبات المقررة في قانون العقوبات هي عقوبات تعزيرية، فيجب الحكم بالعقوبات المقررة فيه للقتل في حالة العفو إلا عقوبة الإعدام؛ لأن الإعدام هو عقوبة القصاص وهي تسقط بالعفو طبقاً للشريعة، وللقاضي في هذه الحالات أن يراعى الظروف المخففة
(1) مواهب الجليل ج6 ص268.
(2)
بدائع الصنائع ج7 ص246
(3)
المهذب ج2 ص21 وما بعدها
(4)
المغني ج9 ص467
ويقدرها طبقاً لنص المادة 17 عقوبات؛ لأن الشريعة تبيح ذلك للقاضي في عقوبات التعازير.
وفي بعض الحالات يمتنع القصاص في القتل العمد، طبقاً للشريعة، كحالة قتل الأب ولده، وحالة القتل الحاصل من حَدَث، والقاعدة أن الدية تحل محل القصاص كلما امتنع القصاص لسبب من الأسباب الشرعية، وما قيل في حالة العفو عن القصاص يقال مثله عن حالة امتناع القصاص.
وخلاصة ما تقدم: أن نصوص القانون تعطل كلما كان القصاص واجباً، طبقاً للشريعة، وأن نصوص القانون تطبق في حالة العفو وامتناع القصاص، سواء وجبت الدية أو لم تجب، ولا يعطل من هذه النصوص إلا ما يقضي بالإعدام عقوبة للجريمة، وهذا هو نفس الأساس الذي كان يقوم عليه قانون العقوبات المصري قبل تعديل سنة 1904.
الشروع في القتل: يختلف حكم الشروع في القتل تبعاً لأثر الشروع، فإن كان الشروع قد أحدث أثراً (1) يقتص منه فالعقوبة القصاص، وإن أحدث أثراً لا يقتص منه، أو أثراً يمتنع فيه القصاص، فالعقوبة الدية أو الأَرْش. والأصل عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد أنهم يكتفون بهذه العقوبات ولا يوجبون معها التعزير، لكنهم يجيزون اجتماع التعزير مع الحدود إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة. وأما مالك فيوجب التعزير مع القصاص أو الدية (2) . وعلى هذا يجب أن تطبق عقوبات القانون مع عقوبات الشريعة، كلما أوجبت الشريعة القصاص أو الدية أو الأرش، ما دام الفقهاء لا يمنعون جمع عقوبة الحد مع عقوبة التعزير، وما دام أولو الأمر قد أوجبوا عقوبات تعزيرية معينة هي العقوبات التي نص عليها
(1) قصدنا بالأثر معناه العام؛ فيدخل فيه الشجاج والجراح وقطع الأطراف وإتلاف معانيها.
(2)
مواهب الجليل ج6 ص247، شرح الدردير ج4 ص224.
قانون العقوبات، وللقاضي أن يراعي الظروف فيخفف العقوبة التعزيرية أو يشددها؛ لأن ذلك حقه طبقاً للشريعة والقانون معاً.
أما الشروع الذي لم يترك أثراً فعقوبته في الشريعة التعزير، ومن ثم تطبق عليه نصوص قانون العقوبات؛ لأن عقوباته تعزيرية.
القتل شبه العمد: يختلف الفقهاء في القتل شبه العمد، فأبو حنيفة والشافعي وأحمد يعترفون به، ومالك ينكره ولا يرى القتل إلا عمداً أو خطأ ولا وسط بينهما.
والقائلون بالقتل شبه العمد يقررون أن عقوبته الدية فقط، ولكنهم مع هذا يجيزون أن يجتمع التعزير مع الدية، فطبقاً لرأيهم تطبق نصوص القانون في القتل شبه العمد مع نصوص الشريعة، ما دام ولي الأمر يوجب التعزير فيه.
وإذا طبقنا نظرية مالك التي تجيز الجمع بين القصاص والدية وبين التعزير في الجراح، كان من المنطق أن نقول بوجوب الجمع بين الدية وبين التعزير في القتل شبه العمد؛ لأنه إذا صح أن يعاقب الجارح والضارب بالقصاص أو الدية مع التعزير، فأولى أن يعاقب الجارح أو الضارب بالدية مع التعزير إذا أدى جرحه أو ضربه للموت، ولا يقدح في هذه النتيجة أن مالكاً لا يعترف بالقتل شبه العمد؛ لأن هذه النتيجة التي خلصنا إليها هي منطق نظرية مالك في الجمع بين الحد والتعزير في الجراح، وليست منطق نظريته في إنكار شبه العمد.
وإذن فآراء الأئمة جميعاً تؤدي إلى تطبيق نصوص الشريعة مع نصوص القانون المصري في وقت واحد على القتل شبه العمد، ولا يمنع هذا القاضي من أن يخفف العقوبة التعزيرية طبقاً للمادة 17 عقوبات أو طبقاً لنصوص الشريعة.
القتل الخطأ: عقوبة القتل الخطأ في الشريعة الإسلامية هي الدية المخففة، ولم يقل أحد من الفقهاء بوجوب التعزير مع الدية كما قيل ذلك في القتل العمد؛ لأن طبيعة العمد تختلف عن الخطأ، ولكنهم جميعاً يجيزون اجتماع التعزير مع الحد، وعلى هذا يجب أن تطبق عقوبة الشريعة والعقوبة القانونية كما هو
الحال في القتل شبه العمد، ما دام أولو الأمر قد أوجبوا التعزير.
الجراح في العمد والخطأ: تعاقب الشريعة على الجراح المتعمدة بالقصاص كلما أمكن القصاص، لقوله تعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ، وتعاقب بالقصاص في إتلاف الأطراف كلما كان القصاص ممكناً، فإذا لم يمكن قصاص فالعقوبة الدية، أو الأرش، أو الحكومة. ويوجب مالك أن يجتمع التعزير مع الدية أو القصاص تأديباً للجاني، أما بقية الأئمة فيجيزون الجمع ولا يوجبونه، فطبقاً لرأي مالك لا تعطل نصوص قانون العقوبات بل تطبق مع القصاص أو الدية كاملة أو ناقصة، وطبقاً لرأي بقية الأئمة يجمع بين القصاص والدية وبين العقوبة القانونية ما دام أولو الأمر قد أوجبوا التعزير، وعلى هذا فآراء الجميع لا تتعارض مع نصوص القانون المصري، ولا تؤدي إلى إبطالها.
أما جراح الخطأ فعقوباتها الدية أو الأرش أو الحكومة، وحكمها حكم القتل الخطأ ومن ثم يجب فيها تطبيق نصوص قانون العقوبات وتطبيق الشريعة في وقت واحد.
الضرب الذي لا يترك أثراً: تعاقب الشريعة على الضرب الذي لا يترك أثراً بالتعزير، ولما كانت العقوبات المنصوص عليها في قانون العقوبات هي عقوبات تعزيرية فإن نصوص قانون العقوبات لن تعطل في هذه الحالة.
199 -
ثالثاً: في جرائم التعازير: علمنا مما سبق (1) أن الشريعة الإسلامية لم تنص على كل جرائم التعازير ولم تحددها كما فعلت في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، وأنها نصت على بعض جرائم التعازير وتركت القسم الأكبر منها لأولي الأمر، وجعلت لهم أن يحرموا إتيان بعض الأفعال أو يوجبوا إتيان بعض الأفعال، بقصد صيانة الجماعة وتنظيمها، والمحافظة على أمنها
(1) راجع الفقرة 51، 93 وما بعدها.
ونظامها، ويشترط أن لا يحرجوا في يحرمون فعله أو يوجبون فعله على نصوص الشريعة، أو مبادئها العامة، أو روحها التشريعية.
والقاعدة العامة التي تأخذ بها الشريعة في العقاب على جرائم التعازير: أنها حددت مجموعة من العقوبات التعزيرية تبدأ بأخف العقوبات وتنتهي بأشدها، وتركت للقاضي أن يختار من هذه المجموعة العقوبة أو العقوبات التي يراها ملائمة للجريمة والمجرم.
وإذا كانت تلك هي القاعدة العامة التي سارت عليها الشريعة في جرائم التعازير التي نصت عليها، إلا أنه ليس في الشريعة ما يلزم أولي الأمر بالسير على هذه القاعدة في الجرائم التي تركت لهم الشريعة تحديدها، بل ليس في الشريعة ما يمنع أولي الأمر من أن يجعلوا لكل جريمة تعزيرية حرمتها الشريعة أو حرمها أولو الأمر عقوبة معينة يلزم القاضي توقيعها إذا ثبتت الجريمة، أو جعله لكل جريمة عقوبتين يختار القاضي إحداهما، كذلك ليس في الشريعة ما يمنع أولي الأمر من تعيين الحد الأدنى للعقوبة، بحيث لا يستطيع القاضي أن ينزل عنه، وهذا الذي لا تمنع منه الشريعة هو الذي عمل به في قوانين العقوبات.
ولما كانت نصوص قانون العقوبات واللوائح والقرارات التي تعين الجرائم وتعاقب عليها قد وضعت بمعرفة أولي الأمر، فإن الجرائم التي تنص عليها تعتبر طبقاً للشريعة جرائم تعزيرية، كلما كانت متفقة مع نصوص الشريعة أو غير خارجة على مبادئها العامة وروحها التشريعية.
ويلاحظ أن القوانين الجنائية وضعت في البلاد الإسلامية دون أن يراعي واضعوها نصوص الشريعة، بل إنهم تعمدوا إغفال النصوص الشرعية إغفالاً تاماً، وبهذا خرج أولو الأمر عن حدود وظيفتهم، وهذا الخروج إذا كان لا يؤدي إلى بطلان كل عملهم فإنه يؤدي إلى بطلان كل ما يصدر عنهم مخالفاً للشريعة.
وقد ترتب على إغفال أولي الأمر لنصوص الشريعة من ناحية، وعلى ما لهم من حق التشريع من ناحية أخرى، أن أصبح لدينا ثلاثة أنواع من جرائم التعازير:
النوع الأول: جرائم نصت عليها الشريعة ولم تنص عليها القوانين واللوائح: مثل جريمة أكل الميتة ولحم الخنزير، وجريمة البيوع الربوية، والامتناع عن إخراج الزكاة، ومخالفة أحكام العدة، ومخالفة الهيئات المشروعة للعبادات كالجهر في صلاة الإسرار، والإسرار في صلاة الجهر، وكالزيادة في الصلاة.
النوع الثاني: جرائم نصت عليها الشريعة ونصت عليها القوانين واللوائح: وهذه الجرائم قسمان: قسم لا تختلف فيه الشريعة عن القوانين كجرائم تطفيف الكيل والوزن وخيانة الأمانة والرشوة، وقسم تختلف فيه الشريعة عن القانون كجريمة الربا، فالشريعة تعاقب على الربا في كل صوره، أما القانون فلا يعاقب إلا على الربا الفاحش بشروط وقيود خاصة، وكجرائم المقامرة والمراهنة، فإن الشريعة تحرمها تحريماً مطلقاً، بينما تحرمها القوانين في حالات خاصة.
النوع الثالث: جرائم نصت عليها القوانين واللوائح ولم تنص عليها الشريعة: وهذه الجرائم قسمان: قسم يقوم على مبادئ تتفق مع مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية، كمخالفات السيارات والتعليم، ومثل الأفعال التي قصد من تحريمها تنظيم الجماعة كقوانين تنظيم المهن، أو التي قصد من تحريمها تحقيق مصلحة عامة كمكافحة الآفات والأمراض. وقسم يقوم على مبادئ تخالف نصوص الشريعة وتتنافى مع مبادئها العامة وروحها التشريعية، ومن الأمثلة على ذلك: الجرائم التي نصت عليها لائحة بيوت الدعارة، فالمبدأ الذي قامت عليه هذه اللائحة هو إباحة الزنا والترخيص به رسمياً، وقد وضعت اللائحة لتنظيم مبدأ الإباحة، بينما الشريعة تحرم الزنا في كل صوره تحريماً مطلقاً. ومن أمثلة هذا القسم: الجرائم التي نصت عليها القوانين التي تنظم تقطير الخمور وبيعها وتقديمها،
فإن المبدأ الذي تقوم عليه هذه القوانين هو إباحة شرب الخمر، وقد وجدت هذه القوانين لتنظيم هذا المبدأ، بينما الشريعة تحرم شرب الخمر تحريماً عاماً.
200 -
مدى حقوق ولي الأمر في التحريم والعقاب: قلنا فيما سبق إن أولي الأمر أغفلوا نصوص الشريعة الإسلامية إغفالاً تاماً حين وضعوا قانون العقوبات والقوانين واللوائح الملحقة به، ونستطيع أن نستدل على هذا الإغفال في مصر بأن الشارع المصري نص في لائحة ترتيب المحاكم على أن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص، وكرر هذا النص عند إصدار الدستور المصري حيث ضمنه إياه (1) ، وجمع الشارع الجرائم والعقوبات، والقواعد العامة للجريمة والعقاب في كتاب واحد سماه قانون العقوبات، أصدره وأوجب العمل به، وجعل لكل جريمة عقوبة أو اثنتين على الأكثر، وجعل للعقوبة حداً أدنى وحداً أعلى ليس للقاضي أن يتجاوزه، ومنع إيقاف تنفيذ العقوبة إلا بتوفر شروط معينة.
وقد قصد الشارع المصري من كل هذا أن لا يعاقب إلا على ما نص عليه هو من الأفعال المحرمة في الحدود التي حددها، وبالعقوبات التي عينها، واعتبر كل ما عدا ذلك من الأفعال مباحاً ولو كانت الشريعة تنص صراحة على تحريمه والعقاب عليه، كالربا، فالشريعة تحرمه في كل أنواعه وصوره
(1) نص الدستور المصري على أنه لا جريمة ولا عقوبة بلا نص، متأثراً في ذلك بالدساتير الأوروبية. ولا شك أن واضعي الدستور قصدوا من هذا النص ما قصده واضعوا الدساتير الأوروبية، أي قصدوا أن لا يعترفوا إلا بالجرائم والعقوبات المنصوص عليها في القوانين الوضعية، لكن هذا النص المصري يتضارب مع نص أساسي من نصوص الدستور المصري، وهو النص الذي يقضي بأن دين الدولة الرسمي هو الإسلام؛ لأن التزام الدولة الإسلام ديناً لها معناه التزامها الشريعة الإسلامية شريعة لها، إذ الشريعة الإسلامية هي مجموعة القواعد التشريعية التي جاء بها الإسلام وأوجبها، فإذا فسرنا النص الأول كما يفسر في الدساتير الأوروبية كان معنى ذلك إهمال النص= =الثاني وإبطاله وعدم الاعتراف بالإسلام والشريعة الإسلامية، وإذا أوجبنا العمل بالنص الثاني باعتبار أنه أساسي يقوم عليه كيان الدولة ونظامها العام، وجب أن نفسر النص الأول التفسير الذي يرفع التناقض بأن نقول إنه يسري على الجرائم التي نصت عليها الشريعة والقوانين معاً.
وأياً كان مقداره، أما القانون فلا يحرم الربا إلا في صور خاصة وبشروط معينة، وكتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، فالشريعة تحرم تناول هذه الأشياء وتعاقب على تناولها، والقانون لا يحرمها ولا يعاقب عليها.
وبالإجمال فإن الشارع أهمل النصوص الشرعية ولم يقم على تنفيذها، واكتفى بإقامة ما نص عليه في قانون العقوبات وما ألحق به من قوانين ولوائح.
هذا هو الذي فعله الشارع في مصر، وقد فعل مثله في غير مصر من البلاد الإسلامية، فهل في قواعد الشريعة ما يبرر فعل الشارع، وإلى أي حد يمكن أن يوصف عمله بالصحة أو البطلان؟ وسنستطيع الإجابة على هذا السؤال إذا عرفنا حقوق ولي الأمر في الشريعة، ومدى هذه الحقوق. ومن المسلم به في الشريعة أن لولي الأمر في تعيين الجرائم والعقاب ثلاثة حقوق:
201 -
الحق الأول: حق التحريم والإيجاب والعقاب: لولي الأمر أن يحرم إتيان أفعال معينة أو يوجب إتيان أفعال معينة، وأن يعاقب على مخالفة الأمر الذي حرم الفعل أو أوجبه. وإذا كان لولي الأمر حق العقاب فله أن يعاقب على الجريمة بعقوبة واحدة أو بأكثر، وأن يحدد مبدأ العقوبة ونهايتها.
وولي الأمر مقيد في استعمال هذا الحق بعدم الخروج على نصوص الشريعة، أو مبادئها العامة، أو روحها التشريعية، وبأن يكون قصده في التحريم والإيجاب والعقاب تحقيق مصلحة عامة، أو دفع مضرة أو مفسدة.
وعلى هذا فعمل ولي الأمر صحيح كلما كان في حدود حقه، فإن خرج عن هذه الحدود فهو باطل فيما خرج فيه عن حدود حقه وصحيح فيما عدا ذلك. فليس لولي الأمر أن يهمل نصوص الشريعة، أو أن يمنع تطبيقها، فإن فعل فعمله باطل. وإذن فالجرائم التي نصت عليها الشريعة ولم تنص عليها القوانين يجب العقاب عليها كلما ارتكبت؛ لأن النصوص التي حرمتها لم تنسخ وليس لولي الأمر حق نسخها، والجرائم التي نصت عليها الشريعة والقوانين يؤخذ فيها دائماً بحكم الشريعة كلما اختلفت مع القانون؛ لأن كل نص
قانوني يخالف الشريعة باطل فيما جاء به من خلاف، أما الجرائم التي تتفق في أحكامها الشريعة والقانون، فيؤخذ فيها بحكم القانون؛ لا لأنه حكم القانون، بل لأنه حكم الشريعة. أما الجرائم التي نصت عليها القوانين ولم تنص عليها الشريعة، فيؤخذ فيها بحكم القانون، ما دام أنه ليس خارجاً على مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية، فإن خرج عليها بطل حكمه ولم يعمل به.
202 -
الحق الثاني: حق تخصيص القضاء: لولي الأمر أن يخصص القضاء فيجعل الفصل في الجرائم لقضاة معينين، ويجعل لبعضهم الفصل في جرائم بعينها، وللبعض الآخر النظر في بقية الجرائم، أو يجعل للبعض حق توقيع عقوبات معينة، وللبعض الآخر حق توقيع بقية العقوبات.
وحق ولي الأمر في تخصيص القضاء مقيد بعدم الخروج على نصوص الشريعة، أو مبادئها العامة، وروحها التشريعية، فإن خرج عن هذه الحدود فأمره باطل لا يقيد القضاة، ولا يمنعهم من النظر فيما حرمه عليهم الأمر الباطل.
فمثلاً لولي الأمر أن يخصص قاضياً معيناً بنظر جريمة السرقة، وآخر بنظر جريمة القتل، ولكن ليس له أن يمنع القضاة من نظر هذه الجرائم أو من نظر جرائم أكل الميتة، أو شرب الخمر، أو الردة، أو منع الزكاة. ولولي الأمر أن يخصص قاضياً لنظر جرائم الربا أو المقامرة المراهنة، ولكن ليس له أن يمنع القاضي من نظرها على الوجه الذي حرمته الشريعة. ولولي الأمر أن يحدد العقوبات التي يملك القاضي توقيعها في جرائم التعازير ويلزمه أن لا يوقع غيرها، ولكن ليس له أن يلزمه توقيع عقوبات غير العقوبات الشرعية في جرائم الحدود، أو جرائم القصاص والدية.
ويعتبر القاضي مختصاً بنظر الجريمة إذا كانت مما نصت عليه الشريعة ولم ينص عليه القانون، ما دامت عقوباتها تماثل العقوبات المفروضة على الجرائم التي خُصَّ قانوناً بنظرها، ولا عبرة بسكوت ولي الأمر عن هذه الجرائم؛ لأن
الشريعة نصت عليها وأوجبت عقاب مرتكبيها؛ ولأن الشريعة لا تبيح بحال لولي الأمر أن يعطل نصوصها، فإذا عطلها لم يكن للقضاء أن يسايره، وكان على القاضي أن يطبق نصوص الشريعة؛ ويحكم بالعقوبة التي قررتها الشريعة ما دام مختصاً بتوقيع مثل هذه العقوبة أو بنظر مثل الجريمة المعطلة.
ويعتبر القاضي مختصاً بنظر الجريمة طبقاً لما نصت عليه الشريعة إذا كان القانون قد نص عليها على وجه يخالف أحكام الشريعة. والعلة في اختصاص القاضي هنا هي نفس العلة في اختصاصه بالجرائم التي أهملها القانون ولم ينص عليها.
وإذا كانت الجريمة مما نص عليه القانون دون الشريعة؛ فالقاضي يختص بنظرها إذا لم يكن هناك خروج على نصوص الشريعة أو مبادئها العامة أو روحها التشريعية. فإذا تحقق هذا الخروج كان القاضي غير مختص بنظر الجريمة؛ لأنه ليس له أن ينظر إلا ما يتفق مع الشريعة، أو كان عليه أن يقضي بالبراءة لبطلان النص الذي حرم الفعل.
وإذا كان من واجب القاضي شرعاً أن يعاقب على كل جريمة تعزيرية نصت عليها الشريعة ولم ينص عليها القانون، فما هي العقوبة التي يجب على القاضي أن يطبقها في هذه الحالة؟ وهل يعاقب بإحدى العقوبات المقررة في قانون العقوبات، أم يعاقب بإحدى عقوبات التعزير التي قررتها الشريعة؟
وجواب هذا السؤال هو أن العقاب يجب أن يكون بإحدى العقوبات التعزيرية التي قررتها الشريعة؛ وأنه لا يجوز للقاضي أن يعاقب على جريمة لم ينص عليها قانون العقوبات بإحدى العقوبات المنصوص عليها في هذا القانون؛ لأن واضع هذا القانون جعل لكل جريمة نص عليها عقوبة معينة، ولكل عقوبة حداً بحيث تختلف العقوبات باختلاف الجرائم، ولم يضع عقوبات عامة لغير الجرائم التي نص عليها، فلا يمكن إذن أن تطبق نصوص قانون العقوبات على ما لم يفكر فيه واضع القانون أو يدخله في حسابه، وإنما يعاقب على هذه الجرائم بإحدى عقوبات التعزير التي قررتها الشريعة، أو بأكثر من عقوبة واحدة طبقاً لما يراه القاضي
ملائماً لظروف الجريمة والمجرم، ذلك أن الأصل في الشريعة أن لجرائم التعازير مجموعة من العقوبات تتدرج من أتفه العقوبات إلى أشدها، والقاضي هو الذي يعين العقوبة التي تستحقها الجريمة بعد أن يطلع على ظروف الجريمة والمجرم، وليس القاضي ملزماً بتوقيع عقوبة معينة لكل جريمة، وإنما له الخيار والتعيين؛ يختار من مجموعة العقوبات ويعين العقوبة التي يراها ملائمة، فإذا جاء ولي الأمر وقيد سلطة القاضي في جرائم التعزير التي نص عليها، أو في بعض الجرائم التي نصت عليها الشريعة ونص هو أيضاً عليها، فإن سلطة القاضي تظل على حالها في الجرائم التي نصت عليها الشريعة ولم ينص عليها القانون؛ لأن الأصل هو توسيع سلطة القاضي، والتقييد جاء من جهة ولي الأمر في جرائم معينة، فتظل سلطة القاضي على حالها فيما لا قيد فيه، ويكون القيد فيما نص عليه ولي الأمر فقط، ومن ثم فللقاضي في جرائم التعزير التي نصت عليها الشريعة دون القانون أن يعاقب بالتوبيخ والتهديد والجلد والحبس والنفي والقتل والحبس إلى غير أمد معين، وغير ذلك من عقوبات التعزير، وللقاضي الجزئي أن يوقع العقوبات التعزيرية فيما عدا الحبس المؤبد أو غير المحدد المدة والقتل؛ لأن نية ولي الأمر ظاهرة في قانون
العقوبات في أنه أراد أن يجعل هاتين العقوبتين من اختصاص محاكم الجنايات.
أما جرائم التعزير التي نص عليها القانون مخالفاً حكم الشريعة، فحكمها أن ما اتفق فيه القانون مع الشريعة طبقت عليه نصوص القانون، وما اختلف فيه القانون مع الشريعة اعتبر غير منصوص عليه في القانون، وأخذ حكم الجرائم التعزيرية التي نصت عليها الشريعة ولم ينص عليها القانون، فصور الربا التي لم ينص عليها القانون يعاقب عليها بالعقوبات الشريعة، والصور التي نص عليها ولا يتفق نصه فيها مع نصوص الشريعة تأخذ نفس الحكم، أما الصور التي يتفق فيها القانون مع الشريعة فيعاقب عليها بالعقوبات القانونية.
203 -
الحق الثالث: حق العفو (1) : من المسلم به في الشريعة أن لولي الأمر حق العفو في جرائم التعازير دون غيرها من الجرائم، فله أن يعفو عن الجريمة، وله أن يعفو عن العقوبة كلها أو بعضها، وله حق العفو سواء في الجرائم التعزير التي نصت عليها الشريعة، أو في الجرائم التي نص عليها هو.
وحق ولي الأمر في العفو مقيد بأن لا يكون مخالفاً لنصوص الشريعة، أو مبادئها العامة وروحها التشريعية، كما أنه مقيد بأن يقصد به تحقيق مصلحة عامة أو دفع مفسدة.
وإذا كان من حق ولي الأمر أن يعفو عن الجريمة، وأن يعفو عن العقوبة، فإن حقه في العفو لا يتولد سببه، فلا يستطيع أن يعفو عن الجريمة إلا إذا وجدت الجريمة، ولا يستطيع أن يعفو عن العقوبة إلا إذا حكم بالعقوبة، فليس لولي الأمر إذن أن يعفو مقدماً عن الجرائم قبل وقوعها، أو عن العقوبات قبل الحكم بها؛ لأن ذلك يعتبر إباحة للأفعال المحرمة لا عفواً عن الجريمة أو العقوبة.
ولا شك أن لولي الأمر أن يبيح الأفعال التي حرمها ابتداء إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة، والعلة في ذلك أن الشريعة أعطيه حق التحريم إذا اقتضت التحريم مصلحة عامة، وإعطاء حق التحريم يقتضي إعطاء حق الإباحة إذا اقتضته مصلحة عامة أيضاً، فمن استطاع أن يبيح، ما دامت المصلحة العامة هي التي استوجبت التحريم أو الإباحة.
أما الأفعال التي حرمتها الشريعة ابتداء فليس لولي الأمر أن يبيحها إطلاقاً؛ لأنه ليس هو الذي حرمها حتى يكون له يبيحها؛ ولأن الشريعة لم تجعل له في هذه الأفعال إلا حق العفو عن الجريمة أو العقوبة، فقد نصت الشريعة على المعاصي التي رأت تحريمها بصفة دائمة وحددتها وأمرت بالعقاب عليها،
(1) راجع الفقرات من532 إلى 535.
ولكنها تركت لولي الأمر أن يعفو إذا رأى العفو خيراً من العقوبة، وأن يعاقب إذا رأى العقوبة خيراً من العفو، بل تركت له أن يعفو عن الجريمة، وأن يعفو عن العقوبة كلها أو بعضها، فإذا عفا بعد وقوع الجريمة أو عفا بعد الحكم بالعقوبة وكانت المصلحة العامة تبرر هذا العفو فهو صحيح، أما العفو عن الجرائم قبل وقوعها فهو إباحة لها وليس عفواً عنها، ولا يملك ولي الأمر أن يحل ما حرمه الله، وأن يبيح ما لم يبحه الله، فإذا فعل فعمله باطل ولا أثر له.
والعلة في منع ولي الأمر من إباحة ما حرمته نصوص الشريعة هي أن ولي الأمر لو أعطي له هذا الحق لكانت نصوص الشريعة عبثاً؛ لأن ولي الأمر يستطيع أن يعطلها في أي وقت شاء بما له من حق التحليل والتحريم.
وعلى هذا لا يصح القول بأن الجرائم التي نصت عليها الشريعة ولم ينص عليها القانون تعتبر مباحة؛ لأن ولي الأمر ليس من حقه أن يبيح ما حرمته الشريعة ولا يصح هذا القول أيضاً فيما لا يختص بالجرائم التي نص عليها القانون مخالفاً للشريعة، كذلك ليس لأولي الأمر إباحة الجرائم التي نصت عليها الشريعة ونص عليها القانون، ولكن لأولي الأمر أن يبيحوا ما حرموه هم ولم تحرمه الشريعة.
ونستطيع بعد بيان حق ولي الأمر في العفو أن نقول: إن الجرائم التي يحرمها ولي الأمر والعقوبات التي يفرضها على هذه الجرائم هي من حق ولي الأمر، فله أن يحرم اليوم، وله أن يبيح في الغد ما حرمه، وأن يعفو عن الجريمة كما يعفو عن العقوبة، ولا قيد على ولي الأمر في استعمال هذا الحق إلا أن يكون تصرفه متفقاً مع المصلحة العامة وبغرض تحقيق هذه المصلحة، أما الجرائم التي حرمتها الشريعة والعقوبات التي فرضتها فالأمر فيها جد مختلف، فكل فعل حرمه القرآن أو السنة فهو محرم ليس لكائن من كان أن يحله، وكل عقوبة فرضتها الشريعة في جرائم الحدود أو جرائم القصاص والدية فهي عقوبة لازمة واجبة ليس لولي الأمر أن يهملها أو يعفو عنها.
أما العقوبات
التي فرضتها الشريعة لجرائم التعازير فهي وإن كانت لازمة وواجبة إلا أن الشريعة أعطت لولي الأمر فيها أن يعفو عن العقوبة إذا كان العفو يحقق مصلحة عامة، وأن يعفو عن الجريمة إذا كان العفو يحقق هذه المصلحة، وله أن يقيد كل جريمة تعزيرية بعقوبة معينة من عقوبات التعازير أو بأكثر من عقوبة إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة، فحق ولي الأمر في الجرائم والعقوبات التي فرضتها الشريعة قاصر على تنظيم عقوبات التعزير، وحق العفو عنها وعن الجريمة التعزيرية.
ولقد بحث الفقهاء هذه المسألة فخرجوا من بحثها مجمعين على أن إقامة عقوبات الحدود واجبة على ولي الأمر، فإذا أهمل إقامتها كان من واجب كل فرد أن يقيمها دون أن يعتبر مرتكباً لجريمة، فإذا أقامها سقط الواجب بإقامتها عن غيره، ومعنى هذا أن الفقهاء يعتبرون إقامة الحدود من الفروض التي تلزم جميع الأفراد حاكمين ومحكومين، ولا تسقط عنهم إلا إذا أقيمت، ولا يجوز فيها عفو ولا إباحة.
وأجمع الفقهاء أيضاً على أن العقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية حكمها حكم الحدود، فهي واجبة الإقامة ما لم يعفو المجني عليه أو وليه عن العقوبة، فإذا أهمل ولي الأمر إقامتها كان للمجني عليه أن يقتص لنفسه، وكان لولي دم المجني عليه أن يقتص من الجاني دون أن يعتبر القصاص في هذه الحالة جريمة (1) .
واتفق الفقهاء على أن ولي الأمر ليس له أن يحل ما حرم الله، ولا أن يبيح ما أمر بمنعه، أياً كان نوع العقوبة المقررة على الفعل المحرم، ولكنهم اختلفوا على إقامة عقوبات التعازير، فرأى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن إقامة عقوبات التعازير واجب على ولي الأمر ليس له أن يتركه إلا إذا كان العفو
(1) الإقناع ج4 ص244، الأم ج6 ص171، حاشية البناني ج8 ص118، شرح فتح القدير ج4 ص112- 113، 160- 161.
خيراً من العقوبة، فإذا اقتضت المصلحة العامة أن يعفو عن جريمة بعد وقوعها أو عن عقوبة بعد الحكم بها، كان له أن يعفو. وأساس نظرية هؤلاء الفقهاء أن جرائم التعازير حرمت وفرضت عليها العقوبات لمصلحة الجماعة، ولصيانة النظام العام الذي تقوم عليه الجماهير وهو الإسلام، ولما كان ولي الأمر هو ممثل الجماعة الذي أقامته لحفظ مصالحها وصيانة نظامها، فقد وجب عليه أن يعاقب على جرائم التعازير، وأن يهمل إقامة هذه العقوبات إلا إذا اقتضى صالح الجماعة أو نظامها العام العفو عن الجريمة أو العقوبة، ففي هذه الحالة يسقط عن عاتق ولي الأمر واجب إقامة العقوبة (1) .
ويرى الشافعي أن إقامة عقوبات التعازير حق لولي الأمر، وليست واجباً عليه، وأساس هذا الرأي أن لولي الأمر أن يعفو عن الجريمة، وأن يعفو عن العقوبة، فله إذن أن يعاقب وأن لا يعاقب، وكل ما يكون للإنسان أن يفعله أو يتركه فهو حق وليس واجباً عليه (2) .
ويلاحظ أن التسليم بنظرية الشافعي لا يؤدي بأي حال إلى تعطيل النصوص التي جاءت بجرائم التعازير؛ لأن الشافعي لم يقل بأن لولي الأمر أن يعطل نصوص الشريعة أو أن يبيح ما حرمته الشريعة، إنما قال إن لولي الأمر أن يعاقب أو أن يعفو، فالجريمة لا تزال في نظرية الشافعي جريمة، وما حرمته الشريعة يحرم إتيانه، وإنما لولي الأمر بعد وقوع الجريمة أن يعاقب أو يعفو، واستعمال ولي الأمر لحقه في العقوبة أو العفو مقيد بصالح الجماعة ونظامها العام، الذي يقتضي العفو عن العقوبة تارة، ويقتضي تنفيذ العقوبة تارات، وليس لولي الأمر أن لا يستجيب لمقتضيات المصلحة العامة أو النظام العام؛ لأنه لم
(1) حاشية البناني وشرح الزرقاني ج8 ص115- 116، بدائع الصنائع ج7 ص63- 64، المغني ج10 ص348.
(2)
أسنى المطالب ج4 ص162- 163.
يمنح حق العفو عن العقوبة أو إيقاعها إلا ليكون قادراً على تحقيق مصلحة الجماعة وتثبيت نظامها، ولم يول أمر الجماعة إلا لحماية مصالحها وحفظ نظامها.
والواقع أن الشافعي لم يقصد بنظريته أن يعطل نصوص الشريعة، أو أن يمنع العقاب على جرائم التعازير، وإنما قصد من وضع نظريته أن يقرر مسئولية الولاة عن ضمان ما يترتب على تنفيذ عقوبات التعازير، من موت أو قطع عضو أو تعطيله وما أشبه، ولا أدل على ذلك من أن فقهاء المذهب الشافعي يتكلمون عن هذه النظرية في باب ضمان المتلفات، ولا يذكرون عنها شيئاً في باب التعزير، فهم يرون أن العقاب في التعازير من حق ولي الأمر لأن له أن يعفو وأن لا يعفو، وأن يختار عقوبة دون عقوبة، وما دام ولي الأمر غير ملزم بالعقاب وغير ملزم بعقوبات معينة، فهو مسئول عن ضمان ما يؤدي إليه العقاب من موت أو عجز أو تعطيل طرف أو قطعه؛ لأنه كان يستطيع أن يعاقب بغير عقوبة التي أدت لهذه النتيجة، وكان يستطيع أن لا يعاقب، فإذا اختار عقوبة معينة فأدت إلى الموت مثلاً فهو مسئول عن ضمان ما حدث، لأنه كان يستعمل حقاً، والقاعدة في الشريعة أن استعمال الحق مقيد بشرط السلامة (1) .
فالشافعي حين قرر نظريته لم يرد أن يعطل نصوص الشريعة، أو يمنع العقاب على جرائم التعازير، وإنما قصد الوصول إلى نتيجة لا علاقة لها بهذين الأمرين، هي إلزام الولاة بضمان سراية عقوبات التعازير (2) ، فإذا استطعنا أن لا ننسى هذه الاعتبارات أمكننا أن نفهم نظريته على حقيقتها، وتبين لنا أن العقاب إذا كان حقاً لولي الأمر عند الشافعي، فإن ولي الأمر ليس له أن يعطله إلا تحقيقاً لمصلحة عامة. وهذه النظرية لا تكاد تختلف شيئاً في نتيجتها العلمية عن نظرية مالك وأبي حنيفة وأحمد التي تجعل لولي الأمر أن لا يعاقب تحقيقاً
(1) الأم ج6 ص171، أسنى المطالب ج4 ص162.
(2)
أسنى المطالب ج4 ص163.