المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيسريان النصوص الجنائية على الزمان - التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي - جـ ١

[عبد القادر عودة]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌تقديم وتوجيه

- ‌1 - موضوع البحث:

- ‌2 - محتويات الجزء الأول:

- ‌3 - مدى المقارنة بين الشريعة والقانون الوضعي:

- ‌4 - المذاهب الشرعية المقارن بها:

- ‌5 - علة الاقتصار على المذاهب الأربعة:

- ‌6 - لغة البحث:

- ‌7 - الفقهاء والشراح:

- ‌8 - لماذا بدأت بالقسم الجنائي

- ‌9 - كيف دفعت لدراسة الشريعة

- ‌10 - حاجة الكتب الشرعية إلى تهذيب:

- ‌11 - طريقة التأليف:

- ‌12 - كيف وصمت الشريعة بعدم الصلاحية

- ‌13 - وجه الخطأ في قياس الشريعة بالقانون:

- ‌14 - لا قياس بين مختلفين:

- ‌15 - نشأة القانون:

- ‌16 - نشأة الشريعة:

- ‌17 - لا مماثلة بين الشريعة والقانون:

- ‌18 - الاختلافات الأساسية بين الشريعة والقانون:

- ‌19 - المميزات الجوهرية التي تميز الشريعة عن القانون:

- ‌20 - الأدلة على توفر هذه المميزات في الشريعة:

- ‌21 - نظرية المساواة:

- ‌22 - نظرية مساواة المرأة بالرجل:

- ‌23 - نظرية الحرية:

- ‌24 - حرية التفكير:

- ‌25 - حرية الاعتقاد:

- ‌26 - حرية القول:

- ‌27 - نظرية الشورى:

- ‌28 - نظرية تقييد سلطة الحاكم:

- ‌29 - نظرية الطلاق:

- ‌30 - نظرية تحريم الخمر:

- ‌31 - نظرية تعدد الزوجات:

- ‌32 - نظريات في الإثبات والتعاقد:

- ‌33 - نظرية الإثبات بالكتابة:

- ‌34 - نظرية إثبات الدين التجاري:

- ‌35 - نظرية حق الملتزم في إملاء العقد:

- ‌36 - نظرية تحريم الامتناع عن تحمل الشهادات:

- ‌37 - أحكام أخرى في آية الدين:

- ‌38 - تذكير:

- ‌منهج البحث

- ‌الكتاب الأول في الجريمة

- ‌القسم الأول من الكتاب الأول

- ‌الباب الأولماهية الجريمة

- ‌الباب الثانيأنواع الجريمة

- ‌الفصل الأولالتقسيم المبني على جسامة العقوبة

- ‌الفصل الثانيتقسيم الجرائم بحسب قصد الجاني

- ‌الفصل الثالثتقسيم الجرائم بحسب وقت كشفها

- ‌الفصل الرابع[تقسيم الجرائم بحسب طريقة وكيفية ارتكابها ووقوعها]

- ‌المبحث الأول[تقسيم الجرائم بحسب طريقة ارتكابها]

- ‌المبحث الثانيتقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها

- ‌المبحث الثالثتقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها

- ‌الفصل الخامس[تقسيم الجرائم بحسب طبيعتها]

- ‌المبحث الأولتقسيم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة

- ‌المبحث الثانيتقسيم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة

- ‌القسم الثاني من الكتاب الأولالأركان العامة للجريمة

- ‌الباب الأولالركن الشرعي للجريمة

- ‌الفصل الأولالنصوص المقررة للجرائم والعقوباتأي الأحكام الجنائية الشرعية

- ‌المبحث الأولالأحكام الجنائية الشرعية وأثرها في الجريمة والعقوبة

- ‌الفرع الأوللا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم الحدود

- ‌الفرع الثانيلا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم القصاص والدية

- ‌الفرع الثالثلا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم التعازير

- ‌القسم الأول: التعزير على المعاصي

- ‌القسم الثاني: التعزير للمصلحة العامة

- ‌القسم الثالث: التعزير على المخالفات

- ‌الفرع الرابعكيف طبقت القوانين الوضعية القاعدة

- ‌المبحث الثانيأدلة الأحكام الشريعةأي مصادر التشريع الجنائي

- ‌الفرع الأولالقرآن

- ‌الفرع الثانيالسنة

- ‌الفرع الثالثالإجماع

- ‌الفرع الرابعالقياس

- ‌المبحث الثالثتفسير الأحكام الجنائية، أي النصوص الجنائية

- ‌الفرع الأولالقواعد اللغوية الموضوعة للتفسير

- ‌الفرع الثانيالقواعد التشريعية التي تراعى عند التفسير

- ‌المبحث الرابعتعارض الأحكام (أي النصوص) ونسخها

- ‌المبحث الخامسعلاقة الأحكام الشرعية بأحكام القوانين

- ‌الفصل الثانيسريان النصوص الجنائية على الزمان

- ‌الفصل الثالثسريان النصوص الجنائية على المكان

- ‌الفصل الرابعسريان النصوص الجنائية على الأشخاص

- ‌الباب الثانيالركن المادي للجريمة

- ‌الفصل الأولالشروع في الجريمة

- ‌الفصل الثانيالاشتراك في الجريمة

- ‌المبحث الأولالاشتراك المباشر

- ‌الباب الثالثالركن الأدبي

- ‌الفصل الأولالمسئولية الجنائية

- ‌المبحث الأولأساس المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الثانيمحل المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الثالثسبب المسئولية ودرجتها

- ‌المبحث الرابعقصد العصيان: أو القصد الجنائي

- ‌المبحث الخامسأثر الجهل والخطأ والنسيان على المسئولية

- ‌المبحث السادسأثر الرضاء بالجريمة على المسئولية الجنائية

- ‌المبحث السابعالأفعال المتصلة بالجريمة وعلاقتها بالمسئولية الجنائية

- ‌الفصل الثانيارتفاع المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الأولأسباب الإباحةاستعمال الحقوق وأداء الواجبات

- ‌الفرع الأولالدفاع الشرعي

- ‌المطلب الأولالدفاع الشرعي الخاص، أو "دفاع الصائل

- ‌المطلب الثانيالدفاع الشرعي العامأو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الفرع الثانيالتأديب

- ‌الفرع الثالثالتطبيب

- ‌الفرع الرابعألعاب الفروسية

- ‌الفرع الخامسإهدار الأشخاص

- ‌الفرع السادسحقوق الحكام وواجباتهم

- ‌المبحث الثانيأسباب رفع العقوبة

- ‌الفرع الأولالإكراه

- ‌الفرع الثانيالسكر

- ‌الفرع الثالثالجنون

- ‌الفرع الرابعصغر السن

- ‌الكتاب الثاني في العقوبة

- ‌الباب الأولالعقوبة - مبادئ عامة

- ‌الباب الثانيأقسام العقوبة

- ‌الفصل الأولالعقوبات المقررة لجرائم الحدود

- ‌المبحث الأولعقوبات الزنا

- ‌المبحث الثانيعقوبة القذف

- ‌المبحث الثالثعقوبة الشرب

- ‌المبحث الرابععقوبة السرقة

- ‌المبحث الخامسعقوبة الحرابة

- ‌المبحث السادسعقوبة الردة والبغي

- ‌الفصل الثانيالعقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية

- ‌الفصل الثالثعقوبات الكفارات

- ‌الفصل الرابععقوبات التعازير

- ‌الفصل الخامسمدى صلاحية العقوبات الشرعية

- ‌الفصل السادسالعقوبات في القانون المصري ومدى صلاحيتها

- ‌الباب الثالثتعدد العقوبات

- ‌الباب الرابعاستيفاء العقوبات

- ‌الباب الخامسالعود

- ‌الباب السادسسقوط العقوبة

الفصل: ‌الفصل الثانيسريان النصوص الجنائية على الزمان

لمصلحة عامة، وإن جعلت العقاب في الأصل واجباً، فالنظريتان لا تختلفان في نتيجتهما العلمية من حيث توقيع العقوبة، وإن اختلفتا من الناحية الفقهية في تقرير مسئولية ولي الأمر عن سراية العقوبة.

* * *

‌الفصل الثاني

سريان النصوص الجنائية على الزمان

204 -

قاعدة أصولية: القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية أن النصوص الجنائية لا تسري إلا بعد صدورها وعلم الناس بها (1) : فلا تسري على الوقائع السابقة على صدورها أو علم بها، ومقتضى هذه القاعدة أن النصوص الجنائية ليس لها أثر رجعي، وأن الجرائم يعاقب عليها بالنصوص المعمول بها وقت ارتكاب هذه الجرائم.

وليس في كتب الفقه مباحث خاصة عن الأثر الرجعي للنصوص، ولكن ليس معنى ذلك أن الشريعة لا تعرف الأثر الرجعي ولم تتعرض له، فإن من يتتبع آيات الأحكام وأسباب النزول يستطيع بسهولة أن يخرج بنظرية الشريعة كاملة في الأثر الرجعي.

ونستطيع أن نقول بعد أن تتبعنا آيات الأحكام الجنائية: إن القاعدة العامة في الشريعة هي أن التشريع الجنائي ليس له أثر رجعي، وإن هذه القاعدة العامة لها استثناءان:

أولهما: إن التشريع الجنائي يجوز أن يكون له أثر رجعي في حالة الجرائم الخطيرة التي تمس الأمن العام أو النظام العام.

(1) راجع الفقرة 87.

ص: 261

ثانيهما: إن التشريع الجنائي يجب أن يكون له أثر رجعي لكما كان ذلك في مصلحة الجاني.

والفرق بين الاستثنائين أن الأول جوازي للشارع، فله أن يجعل للتشريع أثراً رجعياً بشرط أن تستوجب ذلك مصلحة عامة، والثاني وجوبي، فليس للشارع أن يمنعه إلا إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة، وسندلل فيما يلي على القاعدة وما استثنى منها.

205 -

القاعدة العامة "لا رجعية في التشريع الجنائي": فأما القاعدة العامة فهي مستخلصة من تتبع آيات الأحكام الجنائية وأسباب نزولها، فقد نزلت جميع الأحكام التي حرمت المعاصي بعد أن فشا الإسلام، فلم يعاقب بها على الجرائم التي وقعت قبل النزول، عدا جريمة القذف وجريمة الحرابة، فهناك من يرى أن عقوبتهما طبقت على جرائم وقعت قبل النزول، ومن الصعب أن نستعرض كل الجرائم واحدة بعد أخرى، ولهذا سنكتفي باستعراض الجرائم الهامة.

فالزنا حرم في أول الإسلام، وكانت العقوبة عليه أول الأمر مخففة، وهي الإيذاء والحبس في البيوت طبقاً لقوله تعالى:{وَاللَاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً *وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} [النساء: 15، 16] ، ثم شددت عقوبة الزنا بعد ذلك، فصارت الجلد والرجم طبقاً لقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وطبقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم الحجارة"، ولو كان للتشديد أثر رجعي لطبقت عقوبة الجلد والرجم على الجرائم التي وقعت قبل تقدير هاتين العقوبتين، ولكن لا نعلم أحداً أو رجم لزنا وقع قبل تشديد عقوبة الزنا. ومن ثم فلم يكن للنص المعاقب على الزنا أثر رجعي.

ص: 262

وحرم الله نكاح زوجة الأب بعد أن كان جائزاً، فأصبح لهذا النوع من النكاح وجهين: أحدهما: جنائي، والثاني: فمن الناحية الجنائية أصبح نكاح زوجة الأب جريمة، ومن الناحية المدنية ظل النكاح عقداً من العقود، وقد اعتبرت الشريعة نكاح زوجة الأب جريمة، ولكنها لم تجعل للنص أثراً رجعياً حيث قال الله تعالى:{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً} [النساء: 22] ، فلم يطبق حكم النص إلا على الوقائع التي وقعت بعد نزوله والعلم به، ولكن ترتب على نزول النص التفريق بين الأزواج الذين سبق لهم أن تزوجوا هذه الزيجات المحرمة، فكان للنص أثر رجعي من الناحية المدينة امتد إلى وقت انعقاد العقد، ولم يكن للنص أثر رجعي من الناحية الجنائية، فلم يعاقب أحد ممن فسخت زيجاتهم، لقوله تعالى:{إَلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ} .

وكذلك كان الحال في تحريم نكاح الأمهات والبنات وغيرهن من المحارم، فقد عدد النص القرآني المحارم اللائي يحرم نكاحهن ثم قال:{وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 23] ، وقد ترتب على نزول آية التحريم التفرقة بين الزوجين في الزيجات المحرمة، فكان النص أثر رجعي من الناحية المدينة، ولكن لم يكن النص أثر رجعي من الناحية الجنائية فلم يعاقب أحد على هذه الزيجات المحرمة التي تمت قبل نزول النص لقوله تعالى في آخر الآية:{إَلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ} .

ومثل ذلك حدث يوم حرم القرآن أن يتزوج الرجل أكثر من أربع نسوة، فقد كان العرب يتزوجون أكثر من أربع فلما نزل قوله تعالى:{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فرق بين الزوج وما زاد على الأربع، ولم يعاقب زوج على ما حدث منه قبل نزول النص، فكان للنص أثر رجعي من الناحية المدنية، ولكن لم يكن له أثر رجعي من الناحية الجنائية.

وحرمت الخمر والميسر على مراحل، فنهى المسلمون أن يقربوا الصلاة وهم

ص: 263

سكارى بقوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فرق بين الزوج وما زاد على الأربع، ولم يعاقب زوج على ما حدث منه قبل نزول النص، فكان للنص أثر رجعي من الناحية المدنية، ولكن لم يكن له أثر رجعي من الناحية الجنائية.

وحرمت الخمر والميسر على مراحل، فنهى المسلمون أن يقربوا الصلاة وهم سكارى بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، ثم بين الله لهم أن الخمر والميسر إثماً ومنفعة وأن إثمهما أكبر من نفعهما فقال:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، ثم حرم الله الخمر والميسر بعد ذلك تحريماً قاطعاً حيث قال:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ، وجعل الرسول حد الشرب الجلد، وعقوبة الميسر التعزير، ولكن لا يعلم أن أحداً عوقب على شرب الخمر أو لعب الميسر قبل نزول التحريم، ولا يعلم أن نصاً من نصوص التحريم كان له أثر رجعي. ومن ثم يمكن القول بأن النصوص التي حرمت الخمر والميسر لم يكن لها أثر رجعي.

وجاءت الشريعة بقطع يد السارق حيث يقول الله جل شأنه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ} [المائدة: 38] ، ولا يعلم أن هذا النص طبق على سرقة وقعت قبل نزوله. ومن ثم يمكن القول بأن نص السرقة لم يكن له أثر رجعي.

وحرم الله الربا وكان مباحاً بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275]، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279] ، فأصبح الربا بعد التحريم جريمة من وجه، عملاً مدنياً من وجه آخر، وجاءت النصوص المحرمة بحكمين: إحداهما: جنائي، والآخر: مدني.

فأما الحكم الجنائي فيقضي بأن لا عقاب على الربا السابق على نزول التحريم، وأن العقاب على ما بعده فقط.

وأما الحكم المدني فيقتضي بأن ليس للدائن غير

ص: 264

رأس ماله فقط. فالحكم الجنائي ليس له أثر رجعي، والحكم المدني له أثر رجعي يعود إلى الوقت الذي انعقد فيه العقد الربوي.

وحرم الله على المحرم قتل الصيد، وجعل على قتله عقوبة، ولكنه عفا عما سلف لينبه على أن النص ليس له أثر رجعي، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95] .

هذه هي بعض النصوص الجنائية ظاهر من استعراضها أنها ليس لها أثر رجعي، وهي في هذا تدلنا على طريقة الشريعة في التشريع الجنائي، وترشدنا إلى قاعدة الشريعة العامة.

ويستطيع القارئ أن يلاحظ أن بعض النصوص صرحت بالعفو عما سلف أي بانعدام الأثر الرجعي، والبعض الآخر لم يصرح به، وليس لهذا في ذاته أهمية؛ لأن النص على العفو عما سلف أي عما حدث قبل نزول النص يعتبر في ذاته نصاً عاماً مقرراً لقاعدة عامة، ولو أنه جاء ضمن نص خاص، فيطبق إذن على كل النصوص الجنائية لا على الحالات التي اقترن بتحريمها دون غيرها، وهذا التفسير يتفق مع القاعدة الشريعة الأساسية التي تقضي بأنه:"لا يكلف شرعاً إلا بفعل ممكن، مقدور للمكلف، معلوم له علماً يحمله على امتثاله"، ويتفق مع القاعدة الشريعة الأساسية التي تقضي بأن:"لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص"، كما أنه يتفق مع نصوص الشريعة الأكثر عموماً، فالله جل شأنه يقول:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، ويقول:{وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208]، ويقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى

ص: 265

إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] .

ونخرج من هذا كله بأن قاعدة الشريعة العامة في التشريع الجنائي تقضي بأن هذا التشريع ليس له أثر رجعي، وأن نصوص الشريعة ومبادئها العامة وتاريخ هذه النصوص كل ذلك يقطع بأن لا رجعية في التشريع الجنائي.

206 -

الاستثناء الأول: جواز الرجعية في حالة الجرائم الخطيرة التي تمس الأمن العام والنظام العام: إذا كانت القاعدة العامة في الشريعة أن لا رجعية في التشريع الجنائي، فإنه يجوز استثناء من تلك القاعدة أن يكون للتشريع الجنائي أثر رجعي في حالة الجرائم الخطيرة التي تمس الأمن أو النظام العام. ومن الأمثلة على هذا الاستثناء: جرائم القذف والحرابة والظهار، فقد طبقت العقوبة فيها على وقائع سابقة على نزول النص.

وفي نص القذف خلاف، فالبعض يرى أنه نزل قبل حادث الإفك فلما كان هذا الحادث وبرأ الله عائشة منه طبق النص على القاذفة، وعوقبوا بالعقوبة التي يقررها، وإذا صح هذا الرأي لم يكن لنص القذف أثر رجعي، حيث لا يعلم أنه طبق على واقعة سابقة على نزوله.

ويرى البعض - ورأيهم هو الراجح - أن النص نزل بمناسبة حادث الإفك، فإذا صح هذا الرأي كان لنص القذف أثر رجعي، إذ الثابت الذي لا خلاف فيه أن رسول الله حد القذفة، فكأنه طبق النص على وقائع سابقة على نزوله.

ويمكن أن يعلل الأثر الرجعي بما ترتب على الحادث الذي نزل فيه النص من آثار هامة، فقد قذف جماعة زوج النبي وخاضوا في عرضها؛ وآذوها وآذوا النبي بالإفك الذي قالوا؛ حتى اضطرب المجتمع الإسلامي اضطراباً شديداً؛ وكاد المسلمون يقتتلون، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد إلى المنبر بعد أن خاض الناس في هذا الأمر، وقال: "يا معشر المسلمين من يعذرني في رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد

ص: 266

ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان على أهلي إلا معي". فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من الخزرج أمرتنا فأطعنا أمرك. فقام سعد ابن عبادة فقال - وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية -: أي سعد بن معاذ، لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير وهو ابن عمة سعد بن معاذ وقال لسعد بن عبادة: لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين؛ فتأثر الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله يخفضهم حتى سكتوا (1) .

فهذا الحادث الذي أهم المسلمين، وكاد يوقع الفتنة بينهم، والذي أنزل الله فيه قرآناً، هو حادث هام يمس أمن الجماعة ونظامها، وهو أحق ما يجعل للنصوص فيه أثر رجعي؛ لأن العقوبة في مثل هذا الحادث تدعو إلى تهدئة النفوس الثائرة ومحو ما خلفته الجريمة من آثار.

وقد اختلفوا أيضاً في أسباب نزول آية الحرابة، والذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين، وهم قوم من عرينة، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة، فأمر لهم الرسول بلقاح، وأمرهم أن يشربوا ألبانها وأبوالها، فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا النعم، فأرسل الرسول في أثرهم فجئ بهم، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك قوله:{إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] . وقيل أن الآية نزلت على قوم من أهل الكتاب بينهم وبين الرسول عهد فنقضوا العهد، وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض. وروى

(1) تفسير الطبري ج18 ص53، تفسير الألوسي ج18 ص79، تفسير الشهاب على البيضاوي ج6 ص159.

ص: 267

ابن جرير أن الآية نزلت عتاباً للنبي؛ لأنه قطع أيدي العرنيين وتركها دون حسم، وسمل أعينهم كما سملوا عين الراعي فنزلت الآية تحريماً للمثلة (1) .

فإذا صحت رواية ابن جرير وكانت الآية قد نزلت بعد عقاب العرنيين فيكون الرسول قد عاقبهم طبقاً لقوله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقوله:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وتكون الآية قد نزلت بحكم جديد ثابت لعقاب من يفع تلك الفعلة، ويترتب على صحة هذه الرواية أن لا يكون للنص أثر رجعي؛ لأنه لم يطبق على حالة سبقت نزوله.

وإذا صحت الرواية القائلة بأنها نزلت لعقاب العرنيين، أو الرواية القائلة بأنها نزلت في قوم مشركين، فإن الآية قد نزلت بعقوبة فعل سابق عليها، ومن ثم يكون لها أثر رجعي، والجمهور يرجح الرواية القائلة بأن الآية نزلت لعقاب العرنيين، وعلى هذا يكون الرأي الراجح أن الآية لها أثر رجعي.

ولا شك أن المصلحة العامة التي اقتضت أن يكون للنص أثر رجعي، فقد كان حادث العرنيين فظيعاً، يوشك لو لم يؤخذ أصحابه بعقوبة رادعة أن يجرئ الناس على المسلمين، وعلى النظام الجديد، وأن يشجع على قطع الطريق، وزعزعة الأمن والنظام، فكان لابد من عقاب رادع على هذه الجريمة، ولكن العقاب الرادع يقتضي أن يجعل للنص أثر رجعي، فجعل له هذا الأثر حفظاً للأمن العام وحماية للجماعة ونظامها، كما جعل لنص القذف أثر رجعي، لتقطع الألسنة وتهدأ الفتنة وتسكن النفوس الثائرة، فحفظ الأمن وحماية الجماعة ونظامها هو الغرض الأول والأخير من جعل الأثر الرجعي للنص الجنائي.

(1) تفسير الطبري ج6 ص119، تفسير المنار ج6 ص302، تفسير القرطبي ج6 ص148.

ص: 268

وإذا كان هناك خلاف في أسباب نزول آية القذف وآية الحرابة فإنه لا خلاف في أسباب نزول آية الظهار، وإذا كان الخلاف في أسباب نزول آية القذف وآية الحرابة مما يدعو إلى الشك في أن الشريعة تجيز الرجعية في التشريع الجنائي، فإن الاتفاق على سبب نزول آية الظهار، وعلى أنها طبقت على واقعة سابقة، مما يقطع بأن الشريعة تجيز أن يكون للتشريع الجنائي أثر رجعي، وهذا الذي تقطع به آية الظهار ينهي الخلاف القائم في آيتي القذف والحرابة لمصلحة القائلين بأن كليهما طبقت على واقعة سابقة عليها، ويؤكد أن هاتين الآيتين كان لهما أثر رجعي.

ولقد كان الظهار (1) في الجاهلية وفي أول الإسلام طلاقاً، أي أنه كان تصرفاً يترتب عليه فسخ عقد الزواج وإنهاؤه، ولم يكن يعتبر جريمة، حتى ظاهر أوس بن الصامت من زوجته خولة، فقال لها: أنت علىّ كظهر أمي، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة تغسل شق رأسه، فقالت: يا رسول الله، طالت صحبتي مع زوجي، وأكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت عليه، فقالت: أشكو إلى الله فاقتي إليه، ثم قالت: يا رسول الله، طالت صحبتي مع زوجي، ونفضت له بطني، وظاهر مني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت عليه. فكلما قال لها ذلك رسول الله هتفت وصاحت: إلى الله أشكو فاقتي.

فنزل الوحي وقد قامت عائشة رضي الله عنها تغشل شق رأسه الآخر، فأومأت إليها عائشة أن أسكتي، فلما قضي الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادعي لي زوجك، فلما حضر تلا عليه الرسول قول الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ

(1) الظهار: هو تشبيه الرجل وطء من تحل له من النساء بوطء من تحرم عليه منهن تحريماً مؤبداً بنسب أو صهر أو رضاع، وكانت العرب تكني عن ذلك بالظهر، فيقول الرجل منهم: امرأتي علىّ كظهر أمي، ولذلك سمي ظهاراً لأنه مأخوذ من الظهر.

ص: 269

إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 1 - 4] .

بهذه الآيات التي نزلت في الظهار أخبر الله تعالى أن لفظ الظهار الذي كانوا يطلقون به نساءهم منكر من القول وزور، والمنكر من القول هو الذي لا تعرف حقيقته، والزور الكذب، وإنما قال الله فيه إنه كذب لأنهم صيروا به نساءهم كأمهاتهم، وهن لا يصرن كأمهاتهم ولا كذوي محارمهم؛ لأن ذوي المحارم لا يحللن لمظاهر أبداً، كذلك حرم الله الظهار وعاقب عليه، فأخرجه بهذا من باب التصرف إلى باب الجريمة، ومن باب المباح إلى باب المعاقب عليه.

ولقد طبقت آية الظهار أول ما طبقت على أوس بن الصامت نفسه، فقد قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أتستطيع أن تعتق رقبة؟ قال: لا. قال: فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: يا رسول الله إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرات خشيت أن يعشو بصري. قال: فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا يا رسول الله إلا أن تعينني فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطعم ستين مسكيناً، وراجع زوجته (1) .

وإذا كانت عقوبة الظهار قد طبقت على أوس بن الصامت عن واقعة حدثت قبل نزول النص فمعنى ذلك أن آية الظهار لها أثر رجعي.

207 -

الاستثناء الثاني: وجوب الرجعية إذا كان التشريع أصلح للجاني: إذا صدر نص جنائي أصلح للجاني وجب تطبيق هذا النص دون غيره على الجاني، ولو أن الجاني أرتكب جريمته تحت حكم نص أشد عقوبة.

(1) المقدمات لابن رشد ج2 ص140، 141.

ص: 270

ويشترط لتطبيق النص الأصلح للجاني أن لا يكون الحكم الصادر على الجاني طبقاً للنص القديم قد أصبح نهائياً، فإن كان قد أصبح نهائياً فقد انتهى الأمر به، ولا تعاد محاكمة الجاني طبقاً للنص الجديد. والعلة في تطبيق النص الأصلح أن العقوبة مقصود منها منع الجريمة وحماية الجماعة، فهي ضرورة اجتماعية اقتضتها مصلحة الجماعة، وكل ضرورة تقدر بقدرها، فإذا كانت مصلحة الجماعة في تخفيف العقوبة وجب أن يستفيد الجاني الذي لم يحكم عليه بعد من النص الجديد المخفف للعقوبة؛ لأن حفظ مصلحة الجماعة ليس في التشديد، ولأنه من العدل أن لا تكون العقوبة زائدة عن حاجة الجماعة ما دامت شرعت لحماية الجماعة؛ ولأن العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً.

ومن الأمثلة البارزة على هذا الاستثناء جريمة القتل، لك أن العرب قبل الإسلام كانت تباين في الفضل وتعترف بهذا التباين، فإذا كان بينها ما يكون بين الجيران من قتل العمد أو الخطأ عرف لصاحب الفضل فضله، وتباينت الديات بحيث تكون دية الشريف أضعاف دية الرجل دونه، واتسع هذا التباين حتى تعدى الأفراد إلى القبائل، فكانت دية النضير يمثلاً ضعف دية القرظي، وكان الشريف من العرب إذا قتل لم يقتل قاتله فقط من أشراف قبيلة القاتل من يرونه كفء القتيل، وربما لم يرضوا إلا بعدد يقتلونهم، ولقد قتل أحد أفراد قبيلة غني شاس بن زهير، فجمع عليهم أبوه زهير بن خزيمة؛ فقالوا له: سل في قتل شاس. فقال: إحدى ثلاث لا يغنيني غيرها. قالوا: وما هي: قال: تحيون لي شاساً، أو تملئون ردائي من نجوم السماء، أو تدفعون إليّ قبيلة بأسرها فأقتلها، ثم لا أرى أني أخذت منه عوضاً. فهذا هو ولي القتيل يرى أن قبيلة بأسرها لا يجزي قتلها في قتل ولده.

ولما قتل كليب بن وائل اقتتلوا دهراً طويلاً واعتزلهم بعضهم، فأصابوا ابناً له يقال له بجير، فأتاهم وقال: قد عرفتم عزلتي فبجير بكليب وكفوا

ص: 271

عن الحرب، فقالوا: بجير بشسع نعل كليب. فقاتلهم بعد اعتزاله وكان من أشراف القبيلة (1) .

وقد جاء الإسلام وبعض العرب يطلب بعضاً بدماء وجراح، فمحا حكم الجاهلية وسوى في الحكم بين الناس، وذلك قوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] ، وسوى الإسلام بين دم الشريف والوضيع، وبين دماء الأحرار ودماء العبيد، وبين دماء الرجال والنساء، وذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] ، وبعد نزول هذا الحكم انتهى التفاوض في الدماء والجارح والديات، وطبق الحكم على ما سبقه من دماء وجراح لم يحكم فيها بعد، وبهذا كان للنص أثر رجعي.

ويترتب على ما توجبه الشريعة من تطبيق التشريع الأصلح للجنائي نتائج منطقية هامة:

1 -

إذا صدر التشريع الجديد قبل الحكم في الجريمة وكان أصلح للجاني حوكم الجاني بمقتضاه ولو أنه أرتكب الجريمة في ظل التشريع القديم.

2 -

إذا صدر التشريع الجديد بعد الحكم وكان أصلح للمحكوم عليه نفذ من العقوبة المحكوم بها ما يتفق مع العقوبة التي يقررها التشريع الجديد.

3 -

إذا كان التشريع الجديد بعد الحكم وكان يبيح الفعل ولا يعاقب عليه، فيجب أن لا ينفذ الحكم الذي صدر طبقاً للتشريع القديم، كما يوجب أن يوقف تنفيذه إذا كان قد بدئ في تنفيذه.

4 -

إذا كان التشريع الجديد يشدد العقوبة فلا ينطبق على الجاني؛ لأنه ليس

(1) الأم ج6 ص7، تفسير القرطبي ج2 ص244.

ص: 272

الأصلح له، ولأن الأصل أن الجرائم يعاقب عليها طبقاً للنصوص السارية وقت ارتكابها.

208 -

الشريعة والقانون: بينا فيما سبق المبادئ التي تسير عليها الشريعة الإسلامية في سريان النصوص على الزمان، وهذه المبادئ هي نفس المبادئ التي تأخذ بها القوانين الوضعية اليوم، ولكن القوانين الوضعية لم تأخذ بهذه المبادئ إلا أخيراً، فقد كانت القاعدة في القوانين الوضعية قديماً أن يكون للشارع الحق في أن يجعل لأي قانون جنائي أثراً رجعياً، ولم يكن حقه في ذلك مقيداً بأي قيد، فلما جاءت الثورة الفرنسية أُلغي هذا الحق، ولم يعد للشارع أن يصدر قوانين جنائية لها أثر رجعي، وقد ظل هذا المبدأ محترماً من عهد الثورة الفرنسية إلى أن بدأ علماء القانون والمشرعون يخرجون عليه في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، حيث تبين لهم أن التقييد المطلق ضار بمصالح الجماعة، وإن كان متفقاً مع صالح الفرد، ورأوا أن صالح الجماعة يجب أن يرجح على الصالح الفردي، بحيث إذا اقتضي صالح الجماعة أن يجعل للقانون أثر رجعي كان للشارع هذا الحق. وممن يرى هذا الرأي الشراح الإيطاليون، فإنهم يرون قبول الأثر الرجعي للقوانين التي تنشئ عقوبات أشد لأمور كانت جرائم من قبل؛ لأن حق المجتمع يعلو على مصلحة المجرم. ويرى الشراح الإنجليز أن الأثر الرجعي للعقوبة المشددة أمر معقول. وقد جعل المشرع المصري والمشرع الفرنسي للقانون أثراً رجعياً في قوانين معتادي الإجرام والاشتباه (1) .

وظاهر مما سبق أن المبدأ الحديث الذي يراه الشراح ويأخذ به المشرعون هو أن المشرع ليس له في الأصل أن يجعل للقانون أثراً رجعياً، ولكن له

(1) القانون الجنائي لعلي بدوي ص116- 117، الموسوعة الجنائية ج5 ص568 وما بعدها.

ص: 273