المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالثسبب المسئولية ودرجتها - التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي - جـ ١

[عبد القادر عودة]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌تقديم وتوجيه

- ‌1 - موضوع البحث:

- ‌2 - محتويات الجزء الأول:

- ‌3 - مدى المقارنة بين الشريعة والقانون الوضعي:

- ‌4 - المذاهب الشرعية المقارن بها:

- ‌5 - علة الاقتصار على المذاهب الأربعة:

- ‌6 - لغة البحث:

- ‌7 - الفقهاء والشراح:

- ‌8 - لماذا بدأت بالقسم الجنائي

- ‌9 - كيف دفعت لدراسة الشريعة

- ‌10 - حاجة الكتب الشرعية إلى تهذيب:

- ‌11 - طريقة التأليف:

- ‌12 - كيف وصمت الشريعة بعدم الصلاحية

- ‌13 - وجه الخطأ في قياس الشريعة بالقانون:

- ‌14 - لا قياس بين مختلفين:

- ‌15 - نشأة القانون:

- ‌16 - نشأة الشريعة:

- ‌17 - لا مماثلة بين الشريعة والقانون:

- ‌18 - الاختلافات الأساسية بين الشريعة والقانون:

- ‌19 - المميزات الجوهرية التي تميز الشريعة عن القانون:

- ‌20 - الأدلة على توفر هذه المميزات في الشريعة:

- ‌21 - نظرية المساواة:

- ‌22 - نظرية مساواة المرأة بالرجل:

- ‌23 - نظرية الحرية:

- ‌24 - حرية التفكير:

- ‌25 - حرية الاعتقاد:

- ‌26 - حرية القول:

- ‌27 - نظرية الشورى:

- ‌28 - نظرية تقييد سلطة الحاكم:

- ‌29 - نظرية الطلاق:

- ‌30 - نظرية تحريم الخمر:

- ‌31 - نظرية تعدد الزوجات:

- ‌32 - نظريات في الإثبات والتعاقد:

- ‌33 - نظرية الإثبات بالكتابة:

- ‌34 - نظرية إثبات الدين التجاري:

- ‌35 - نظرية حق الملتزم في إملاء العقد:

- ‌36 - نظرية تحريم الامتناع عن تحمل الشهادات:

- ‌37 - أحكام أخرى في آية الدين:

- ‌38 - تذكير:

- ‌منهج البحث

- ‌الكتاب الأول في الجريمة

- ‌القسم الأول من الكتاب الأول

- ‌الباب الأولماهية الجريمة

- ‌الباب الثانيأنواع الجريمة

- ‌الفصل الأولالتقسيم المبني على جسامة العقوبة

- ‌الفصل الثانيتقسيم الجرائم بحسب قصد الجاني

- ‌الفصل الثالثتقسيم الجرائم بحسب وقت كشفها

- ‌الفصل الرابع[تقسيم الجرائم بحسب طريقة وكيفية ارتكابها ووقوعها]

- ‌المبحث الأول[تقسيم الجرائم بحسب طريقة ارتكابها]

- ‌المبحث الثانيتقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها

- ‌المبحث الثالثتقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها

- ‌الفصل الخامس[تقسيم الجرائم بحسب طبيعتها]

- ‌المبحث الأولتقسيم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة

- ‌المبحث الثانيتقسيم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة

- ‌القسم الثاني من الكتاب الأولالأركان العامة للجريمة

- ‌الباب الأولالركن الشرعي للجريمة

- ‌الفصل الأولالنصوص المقررة للجرائم والعقوباتأي الأحكام الجنائية الشرعية

- ‌المبحث الأولالأحكام الجنائية الشرعية وأثرها في الجريمة والعقوبة

- ‌الفرع الأوللا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم الحدود

- ‌الفرع الثانيلا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم القصاص والدية

- ‌الفرع الثالثلا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم التعازير

- ‌القسم الأول: التعزير على المعاصي

- ‌القسم الثاني: التعزير للمصلحة العامة

- ‌القسم الثالث: التعزير على المخالفات

- ‌الفرع الرابعكيف طبقت القوانين الوضعية القاعدة

- ‌المبحث الثانيأدلة الأحكام الشريعةأي مصادر التشريع الجنائي

- ‌الفرع الأولالقرآن

- ‌الفرع الثانيالسنة

- ‌الفرع الثالثالإجماع

- ‌الفرع الرابعالقياس

- ‌المبحث الثالثتفسير الأحكام الجنائية، أي النصوص الجنائية

- ‌الفرع الأولالقواعد اللغوية الموضوعة للتفسير

- ‌الفرع الثانيالقواعد التشريعية التي تراعى عند التفسير

- ‌المبحث الرابعتعارض الأحكام (أي النصوص) ونسخها

- ‌المبحث الخامسعلاقة الأحكام الشرعية بأحكام القوانين

- ‌الفصل الثانيسريان النصوص الجنائية على الزمان

- ‌الفصل الثالثسريان النصوص الجنائية على المكان

- ‌الفصل الرابعسريان النصوص الجنائية على الأشخاص

- ‌الباب الثانيالركن المادي للجريمة

- ‌الفصل الأولالشروع في الجريمة

- ‌الفصل الثانيالاشتراك في الجريمة

- ‌المبحث الأولالاشتراك المباشر

- ‌الباب الثالثالركن الأدبي

- ‌الفصل الأولالمسئولية الجنائية

- ‌المبحث الأولأساس المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الثانيمحل المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الثالثسبب المسئولية ودرجتها

- ‌المبحث الرابعقصد العصيان: أو القصد الجنائي

- ‌المبحث الخامسأثر الجهل والخطأ والنسيان على المسئولية

- ‌المبحث السادسأثر الرضاء بالجريمة على المسئولية الجنائية

- ‌المبحث السابعالأفعال المتصلة بالجريمة وعلاقتها بالمسئولية الجنائية

- ‌الفصل الثانيارتفاع المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الأولأسباب الإباحةاستعمال الحقوق وأداء الواجبات

- ‌الفرع الأولالدفاع الشرعي

- ‌المطلب الأولالدفاع الشرعي الخاص، أو "دفاع الصائل

- ‌المطلب الثانيالدفاع الشرعي العامأو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الفرع الثانيالتأديب

- ‌الفرع الثالثالتطبيب

- ‌الفرع الرابعألعاب الفروسية

- ‌الفرع الخامسإهدار الأشخاص

- ‌الفرع السادسحقوق الحكام وواجباتهم

- ‌المبحث الثانيأسباب رفع العقوبة

- ‌الفرع الأولالإكراه

- ‌الفرع الثانيالسكر

- ‌الفرع الثالثالجنون

- ‌الفرع الرابعصغر السن

- ‌الكتاب الثاني في العقوبة

- ‌الباب الأولالعقوبة - مبادئ عامة

- ‌الباب الثانيأقسام العقوبة

- ‌الفصل الأولالعقوبات المقررة لجرائم الحدود

- ‌المبحث الأولعقوبات الزنا

- ‌المبحث الثانيعقوبة القذف

- ‌المبحث الثالثعقوبة الشرب

- ‌المبحث الرابععقوبة السرقة

- ‌المبحث الخامسعقوبة الحرابة

- ‌المبحث السادسعقوبة الردة والبغي

- ‌الفصل الثانيالعقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية

- ‌الفصل الثالثعقوبات الكفارات

- ‌الفصل الرابععقوبات التعازير

- ‌الفصل الخامسمدى صلاحية العقوبات الشرعية

- ‌الفصل السادسالعقوبات في القانون المصري ومدى صلاحيتها

- ‌الباب الثالثتعدد العقوبات

- ‌الباب الرابعاستيفاء العقوبات

- ‌الباب الخامسالعود

- ‌الباب السادسسقوط العقوبة

الفصل: ‌المبحث الثالثسبب المسئولية ودرجتها

كل من أسند لغيره واقعة توجب احتقاره.

ومن المسلم به أن كثيراً مما يعتبر قذفاً في القوانين لا يمس ورثة المقذوف أو أهله الأحياء، أما نسبة الزنا للمقذوف ونفي النسب عنه فلا شك أنه يمسهم، ومن ثم يكون القول بأن القوانين تجيز دائماً ودون قيد لورثة المقذوف وأهله الأحياء أن يرفعوا الدعوى في هاتين الحالتين على القاذف، أما تعليق الدعوى على شكوى المقذوف فقد رأينا أن بعض القوانين كالقانون الفرنسي يتفق مع الشريعة في هذا المبدأ، وأن قوانين أخرى منها القانون المصري لا تعلق رفع الدعوى على شكوى القاذف.

* * *

‌المبحث الثالث

سبب المسئولية ودرجتها

284 -

سبب المسئولية الجنائية وشرطها: السبب هو ما جعله الشارع علامة على مسببه، وربط وجود المسبب بوجوده، وعدمه بعدمه، بحيث يلزم من وجود السبب وجود المسبب ومن عدمه (1) .

والشرط هو ما يتوقف وجود الحكم الشرعي على وجوده، ويلزم من عدمه عدم الحكم (2) .

وسبب المسئولية الجنائية هو ارتكاب المعاصي، أي إتيان المحرمات التي حرمتها الشريعة وترك الواجبات التي أوجبتها، وإذا كان الشارع قد جعل ارتكاب المعاصي سبباً للمسئولية الجنائية إلا أنه جعل وجود المسئولية الشرعي موقوفاً على توفر شرطين لا يغني أحدهما عن الآخر وهما: الإدراك والاختيار، فإذا انعدم أحد هذين الشرطين انعدمت المسئولية الجنائية، وإذا وجد الشرطان معاً وجدت المسئولية، فالسرقة معصية حرمها الشارع وجعل القطع عقوبة لفاعلها،

(1) أصول الفقه للأستاذ عبد الوهاب خلاف ص91.

(2)

أصول الفقه للأستاذ عبد الوهاب خلاف ص93.

ص: 402

فمن سرق مالاً من آخر فقد جاء بفعل هو سبب للمسئولية الجنائية، ولكنه لا يسأل شرعاً إلا إذا وجد فيه شرطا المسئولية وهما الإدراك والاختيار، فإن كان غير مدرك كمجنون مثلاً فلا مسئولية عليه، وإن كان مدركاً ولكنه غير مختار فلا مسئولية عليه أيضاً.

وإذا وجد سبب المسئولية وهو ارتكاب المعصية، ووجد شرطاها وهما الإدراك والاختيار، اعتبر الجاني عاصياً، وكان فعله عصياناً أي خروجاً على ما أمر به الشارع، وحقت عليه العقوبة المقررة للمعصية. أما إذا ارتكبت المعصية ولم يتوفر في الفاعل شرطا المسئولية أو أحدهما فلا يعتبر الفاعل عاصياً ولا يعتبر فعله عصياناً، وإذن فالوجود الشرعي للمسئولية الجنائية متوقف على وجود العصيان وعدمها تابع لعدمه.

والعصيان في الشريعة يقابل الخطأ والخطيئة La Faute في تعبير القوانين الوضعية، ولكن التعبير بالعصيان أدق في دلالته على المعنى المقصود - هو مخالفة أمر الشارع - من التعبير بالخطأ والخطيئة، فضلاً عن أن التعبير الأخير يؤدي إلى الخلط بين لفظ الخطأ بمعنى غير المتعمد، وبين لفظ الخطأ بمعنى مخالفة أمر الشارع.

285 -

درجات المسئولية: رأينا فيما سبق أن الوجود الشرعي للمسئولية الجنائية يتوقف على وجود العصيان، فمن الطبيعي إذن أن تكون درجات المسئولية تابعة لدرجات العصيان.

والأصل في هذه المسألة أن الشريعة الإسلامية تقرن دائماً الأعمال بالنيات وتجعل كل امرئ نصيباً من نيته، وهذا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، والنية محلها القلب ومعناها القصد، فتقول العرب: نواك الله بحفظه؛ أي قصدك الله بحفظه، فمن انتوى بقلبه أن يفعل ما حرمته الشريعة ثم فعل ما انتواه فقد قصده.

ص: 403

وتطبيقاً لقاعدة اقتران الأعمال بالنيات لا تنظر الشريعة للجناية وحدها عندما تقرر مسئولية الجاني، وإنما تنظر للجناية أولاً وإلى قصد الجاني ثانياً، وعلى هذا الأساس ترتب مسئولية الجاني (1) .

والمعاصي التي يمكن أن تنسب للإنسان المدرك المختار فيسأل عنها جنائياً لا تخرج عن نوعين: نوع يأتيه الإنسان وهو ينتوي إتيانه ويقصد عصيان الشارع، ونوع يأتيه الإنسان وينتوي إتيانه ولا يقصد عصيان الشارع، أو لا ينتوي إتيانه ولا يقصد العصيان ولكن الفعل يقع بتقصيره أو بتسبيبه، فالنوع الأول هو ما يتعمده قلب الإنسان، والنوع الثاني هو ما يخطئ به.

ولما كانت الشريعة الإسلامية تقرن الأعمال بالنيات كما قلنا فقد فرقت في المسئولية الجنائية بين ما يتعمد الجاني إتيانه وبين ما يقع من الجاني نتيجة خطئه، وجعلت مسئولية الجاني العامد مغلظة ومسئولية الجاني المخطئ مخففة، وعلة التغليظ على العامد أنه يتعمد العصيان بفعله وقلبه فجريمته متكاملة، وعلة التخفيف على المخطئ أن العصيان لا يخطر بقلبه وإن تلبس بفعله فجريمته غير متكاملة.

وقد فرق القرآن بين العامد والمخطئ في قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُم} [الأحزاب: 5]، وكرر الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المعنى في قوله:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"، والمقصود من عدم الجناح ومن رفع الخطأ هو تخفيف مسئولية المخطئ وعدم تسويته بالعامد، ولا يقصد من هذين التعبيرين محو المسئولية الجنائية كلية، وليس أدل على ذلك من أن الله جل شأنه جعل عقوبة القتل العمد القصاص، وجعل عقوبة القتل الخطأ الدية والكفارة، فغلظ مسئولية العامد وخفف مسئولية المخطئ ولم يمحها كلية، وذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}

(1) أعلام الموقعين ج3 ص101- 104، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج5 ص141 وما بعدها، الأشباه والنظائر ص8 وما بعدها.

ص: 404

[البقرة: 178]، وقوله:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، وقوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَاّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَاّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً} [النساء: 92] .

وهكذا تتنوع المسئولية الجنائية وتتعدد درجاتها بحسب تنوع العصيان وتعدد درجاته، فإذا أردنا أن نعرف مدى تنوع المسئولية وتعدد درجاتها فعلينا أن نعرف مدى تنوع العصيان وتعدد درجاته.

وقد عرفنا فيما سبق أن العصيان إما أن يتعمده العاصي وإما أن يخطئ به، فهو إما عمد وإما خطأ، والعمد والخطأ كلاهما على نوعين بحسب درجة جسامته، فالعمد ينقسم إلى عمد وشبه عمد، والخطأ ينقسم إلى خطأ وما جرى مجرى الخطأ، ومن ثم يكون العصيان على أربع درجات، وبالتالي تكون المسئولية الجنائية على أربع درجات؛ لأنها تقوم على العصيان، وتغلظ وتخفف بحسب درجة العصيان من الجسامة والبساطة.

1 -

العمد: المعنى العام للعمد هو أن قصد الجاني إتيان الفعل المحظور، فمن شرب الخمر وهو يقصد شربها فقد شربها متعمداً، ومن سرق وهو يقصد السرقة فقد تعمدها، والعمد هو أجسم أنواع العصيان، وترتب عليه الشريعة أجسم أنواع المسئولية، وتفرض عليه أغلب العقوبات.

وللعمد في القتل معنى خاص عند جمهور الفقهاء: هو أن يقصد الجاني الفعل القاتل ويقصد نتيجته.

ويفرق جمهور الفقهاء بين القتل الذي يتوفر فيه هذا المعنى الخاص وبين القتل الذي يتوفر فيه العمد بمعناه العام فقط، ويسمون الأول القتل العمد، ويسمون الثاني القتل شبه العمد.

ص: 405

2 -

شبه العمد: لا تعرف الشريعة شبه العمد إلا في القتل والجناية على ما دون النفس (1) . وهو غير مجمع عليه من الأئمة، فمالك لا يعترف به في القتل ولا فيما دون القتل، ويرى أنه ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ فمن زاد قسماً ثالثاً زاد على النص، ذلك أن القرآن نص على القتل العمد والقتل الخطأ فقط، فقال تعالى:{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} ، وقال:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَاّ خَطَئًا} ، وعلى أساس هذا الرأي يعرف مالك العمد في القتل بأنه إتيان الفعل بقصد العدوان، فهو لا يشترط أن يقصد الجاني الفعل ويقصد نتيجته (2) .

ويتفق أبو حنيفة والشافعي وأحمد (3) في الاعتراف بشبه العمد في القتل ولكنهم يختلفون في وجوده فيما دون النفس، فيرى الشافعي (4) أن العمد فيما دون النفس إما أن يكون عمداً محضاً وإما أن يكون شبه عمد، وهذا هو الرأي الراجح في مذهب أحمد (5) . ويرى أبو حنيفة (6) أن شبه العمد لا يوجد فيما دون النفس، ورأيه يتفق مع الرأي المرجوح في مذهب أحمد (7) .

وشبه العمد في القتل معناه إتيان الفعل القاتل بقصد العدوان دون أن تتجه نية الجاني إلى إحداث القتل، ولكن الفعل يؤدي للقتل، وحجة القائلين به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ألا إن في قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الأبل"، وسمى شبه العمد بهذه التسمية؛ لأنه يشبه العمد من حيث قصد الفعل ولا يشبهه من حيث انعدام قصد الفعل.

(1) الجناية على ما دون النفس معناها الاعتداء على الجسم بما لا يؤدي للقتل كالضرب والجرح وقطع الأطراف وغير ذلك.

(2)

مواهب الجليل ج6 ص241.

(3)

نهاية المحتاج ج7 ص235، الزيلعي ج6 ص97، المغني ج9 ص320.

(4)

الأم ج6 ص45.

(5)

الإقناع ج4 ص189.

(6)

البحر الرائق ج8 ص287.

(7)

المغني ج9 ص410.

ص: 406

وشبه العمد فيما دون النفس معناه إتيان الفعل بقصد العدوان دون أن تتجه نية الجاني إلى إحداث النتيجة التي انتهى إليها الفعل.

وشبه العمد أقل جسامة من العمد، وينبني على ذلك أن تكون عقوبة شبه العمد أخف من عقوبة العمد. فعقوبة العمد الأساسية القصاص، وعقوبة شبه العمد الدية والتعزير إن رأى ولي الأمر تعزير الجاني.

3 -

الخطأ: هو أن يأتي الجاني الفعل دون أن يقصد العصيان ولكنه يخطئ إما في فعله وإما في قصده. فأما الخطأ في الفعل فمثله أن يرمي طائراً فيخطئه ويصيب شخصاً. وأما الخطأ في القصد فمثله أن يرمي من يعتقد أنه جندي من جنود الأعداء؛ لأنه في صفوفهم أو عليه لباسهم، فإذا به جندي من جنود الوطن معصوم الدم.

4 -

ما جرى مجرى الخطأ: يلحق الفعل بالخطأ ويعتبر جارياً مجراه في حالتين: أولاهما: أن لا يقصد الجاني إتيان الفعل ولكن الفعل يقع نتيجة تقصيره، كمن ينقلب وهو نائم على صغير بجواره فيقتله. وثانيتهما: أن يتسبب الجاني في وقوع الفعل المحرم دون أن يقصد إتيانه، كمن يحفر حفرة في الطريق لتصريف ماء مثلاً فيسقط فيها أحد المارة ليلاً.

والخطأ أكثر جسامة مما جرى مجرى الخطأ؛ لأن الجاني في الخطأ يقصد الفعل وتنشأ النتيجة المحرمة عن تقصيره وعدم احتياطه، أما فيما جرى مجرى الخطأ فالجاني لا يقصد الفعل ولكن الفعل يقع نتيجة تقصيره أو تسببه.

وأول من قسم الخطأ إلى خطأ وما جرى مجراه هو أبو بكر الرازي، فقد رأى أن الفعل في الخطأ مقصود إلا أن الخطأ يقع تارة في الفعل وتارة في قصد الفاعل، ولا ينطبق هذا على الساهي والنائم والمتسبب، ولما كان فعل كل من هؤلاء غير مقصود أصلاً فليس هو إذن في حيز الخطأ كما أنه ليس في حيز العمد أو شبه العمد، ولما كان حكم فعل الساهي والنائم والمتسبب هو حكم الخطأ من

ص: 407

حيث الجزاء فقد رأى أبو بكر الرازي إلحاقه بالخطأ باعتباره جارياً مجراه (1) .

286 -

الشريعة والقانون: وتتفق القوانين مع الشريعة فيما ذكرنا من سبب المسئولية وشرطها، فسبب المسئولية في القانون هو ارتكاب الجرائم، وشرط المسئولية هو الإدراك والاختيار كما هو الحال في الشريعة، ولا مسئولية ما لم يكن الجاني مخطئاً؛ أي عاصياً، ودرجات المسئولية تتعدد وتتنوع بحسب تنوع الخطأ (2) وتعدده. والخطأ في القانون على نوعين: عمد وخطأ، والخطأ على نوعين: خطأ بإهمال وخطأ بسيط، ويدخل تحت العمد ما يدخل في الشريعة تحت العمد وشبه العمد، ويدخل تحت الخطأ ما يدخل تحت الخطأ في الشريعة وما يجري مجراه.

والقوانين الوضعية وإن كانت لا تعترف بشبه العمد في القتل إلا أنها تجعل هذا النوع من القتل ضرباً مفضياً للموت، وتخفف عقوبته عن عقوبة القتل العمد، فتصل بذلك إلى الغرض الذي ترمي إليه الشريعة من التفرقة بين القتل بقصد الضرب والقتل بقصد القتل، فالخلاف إذن بين الشريعة والقانون خلاف في التسمية لا غير.

ولا شك أن تعبير الشريعة بالقتل شبه العمد أصح منطقاً من تعبير القوانين الوضعية، ذلك أن القتل شبه العمد يندرج تحته الموت الناشئ عن الضرب والجرح وإعطاء المواد السامة والضارة والتغريق والتحريق والتردية والخنق، وكل ما يدخل تحت القتل العمد إذا انعدمت نية القتل عند الجاني وتوفر قصد الاعتداء، ولفظ القتل يدخل تحته كل ما يؤدي للموت.

فاختيار الفقهاء لهذا التعبير للدلالة على هذه الأنواع المختلفة من الاعتداء والإيذاء هو اختيار موفق؛ لأنها تنتهي جميعاً بالموت، أما لفظ الضرب المفضي للموت الذي عبرت به القوانين الوضعية فإذا دخل تحته الضرب باليد أو بأداة أخرى فإنه لا يمكن أن يندرج تحته غير ذلك

(1) أحكام القرآن لأبي بكر الرازي الجصاص ج2 ص223.

(2)

ذكرنا فيما سبق أن الخطأ أو الخطيئة في القانون يقابل العصيان في الشريعة.

ص: 408