الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أعطى إماماً صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر"، وقوله:"ستكون هنات وهنات، ألا ومن خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا بالسيف عنقه كائناً من كان".
وجريمة البغي موجهة إلى نظام الحكم والقائمين بأمره، وقد تشددت فيها العقوبة؛ لأن التساهل فيها يؤدي إلى الفتن والاضطرابات وعدم الاستقرار، وهذا بدوره يؤدي إلى تأخر الجماعة وانحلالها.
ولا شك أن عقوبة القتل أقدر العقوبات على صرف الناس عن هذه الجريمة التي يدفع إليها الطمع وحب الاستعلاء.
وكل الدول اليوم تعاقب على البغي بالإعدام، وهو نفس العقوبة المقررة للجريمة في الشريعة.
* * *
الفصل الثاني
العقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية
470 -
عقوبات متعددة: جرائم القصاص والدية، وهي كما ذكرنا قبلاً:
(1)
القتل العمد
…
... (2) القتل شبه العمد
(3)
القتل الخطأ
…
... (4) الجرح العمد
…
... (5) الجرح الخطأ
والعقوبات المقررة لهذا الجرائم هي: القصاص - الدية - الكفارة - الحرمان من الميراث - الحرمان من الوصية. وسنتكلم فيما يلي عن هذه العقوبات واحدة بعد أخرى.
471 -
(أولاً) القصاص: جعلت الشريعة القصاص عقوبة للقتل العمد والجرح العمد، ومعنى القصاص أن يعاقب المجرم بمثل فعله، فيقتل كما قتل ويجرح كما جرح.
ومصدر عقوبة القصاص هو القرآن والسنة، فالله جل شأنه يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178، 179]، ويقول جل شأنه:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] . وجاءت السنة مؤكدة لما جاء به القرآن، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"من اعتبط مؤمناً بقتل فهو قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول"، ويقول:"من قتل له القتيل فأهله بين خيرتين، إن أحبوا فالقود، وإن أحبوا فالعقل؛ أي الدية".
وليس في العالم كله قديمه وحديثه عقوبة تفضل عقوبة القصاص، فهي أعدل العقوبات، إذ لا يجازي المجرم إلا بمثل فعله، وهي أفضل العقوبات للأمن والنظام؛ لأن المجرم حينما يعلم أنه سيجزى بمثل فعله لا يرتكب الجريمة غالباً.
والذي يدفع المجرم بصفة عامة للقتل والجرح هو تنازع البقاء وحب التغلب والاستعلاء، فإذا علم المجرم أنه لن يبقى بعد فريسته أبقى على نفسه بإبقائه على فريسته، وإذا علن انه إذا تغلب على المجني عليه اليوم فهو متغلب عليه غداً لم يتطلع إلى التغلب عليه عن طريق الجريمة، وأمامنا على ذلك الأمثلة العملية نراها كل يوم، فالرجل العصبي المزاج السريع إلى الشر تراه أهدأ ما يكون وأبعد عن الشر وطلب الشجار إذا رأى خصمه أقوى منه أو قدر أنه سيرد على الاعتداء بمثله. والرجل المسلح قد لا يثنيه شئ عن الاعتداء ولكنه يتراجع ويتردد إذا رأى خصمه مسلحاً مثله ويستطيع أن يرد على الاعتداء بالاعتداء. والمصارع والملاكم لا يتحدى أيهما شخصاً يعلم أنه أكثر منه قوة أو أمرنا أو جلداً، ولكنه
يتحدى بسهولة من يظنه أقل منه قوة وأضعف جلداً.
تلك هي طبيعة البشر وضعت الشريعة على أساسها عقوبة القصاص، فكل دافع نفسي يدعو إلى الجريمة يواجه من عقوبة القصاص، فكل دافع نفسي يدعو إلى الجريمة يواجه من عقوبة القصاص دافعاً نفسياً مضاداً يصرف عن الجريمة، وذلك ما يتفق تمام الاتفاق مع علم النفس الحديث.
والقوانين الوضعية الحديثة تعترف بعقوبة القصاص ولكنها تطبقها على جريمة القتل فقط، فتعاقب بالإعدام على القتل ولكنها لا تعاقب بالقصاص على الجراح، وتكتفي في عقاب الجارح بالغرامة والحبس أو بأحدهما.
ولا شك في أن الشريعة الإسلامية حين سوت بين القتل والجراح في نوع العقوبة كانت طبيعية ومنطقية. أما القوانين الوضعية فقد باعدت بين نفسها وبين المنطق وطبائع الأشياء حين فرقت في نوع العقوبة بين هاتين الجريمتين، وذلك أن جريمتي القتل والجرح من نوع واحد وينبعثان عن دافع واحد، ولا يكون القتل قتلاً قبل أن يكون ضرباً أو جرحاً في أغلب الأحوال، وإنما ينتهي بعض الجروح أو الضربات بالوفاة، وينتهي البعض بالشفاء فتسمى هذه جراحاً كما تسمى تلك قتلاً، وما دام الجريمتان من نوع واحد فوجب أن تكون عقوبتهما من نوع واحد، وإذا كانت النتيجة في كل من الجريمتين تخالف الأخرى، فإن نتيجة العقوبة مخالفة أيضاً بنفس المقدار لا تزيد ولا تنقص، فالجريمتان نوعهما واحد وأصلهما الجرح، وعقوبتهما من نوع واحد وهو القصاص، وإحدى الجريمتين تنتهي بقتل المجني عليه وعقوبتها قتل المجرم، والجريمة الثانية تنتهي بجرح المجني عليه وعقوبتها جرح المجرم، وهذا هو منطق الشريعة الدقيق وفنها العميق الذي لم يصل إليه القانون بعد، والذي قد يصل إليه بعد حين طويل أو قصير ولكنه سيصل إليه دون شك؛ لأن الأساس الأول في الشرائع على العموم هو المنطق، وما دامت القوانين تعترف بعقوبة القصاص وتطبيقها على جريمة القتل، وما دام المنطق يقضي بأن تطبق هذه العقوبة على جريمة الجرح أيضاً، فلابد من أن
تخضع القوانين لهذا المنطق الذي أخذت بأسبابه واعترفت بمقدماته.
وللمجني عليه ولوليه حق العفو عن عقوبة القصاص، فإذا عفا سقطت العقوبة.
والعفو قد يكون مجاناً وقد يكون مقابل الدية، ولكن سقوط عقوبة القصاص بالعفو لا يمنع ولي الأمر من أن يعاقب المجرم بعقوبة تعزيرية مناسبة.
والأصل في الشريعة أن المجني عليه ليس له في الجرائم عامة حق العفو عن العقوبة، ولكن هذا الحق أعطى استثناء للمجني عليه أو وليه في جرائم القصاص والدية دون غيرها من الجرائم؛ لأن هذه الجرائم تتصل اتصالاً وثيقاً بشخص المجني عليه، ولأنها تمس المجني عليه أكثر مما تمس أمن الجماعة ونظامها، ولم تخش الشريعة أن يمس حق المجني عليه في العفو الأمن العام والنظام؛ لأن جريمة القتل والجرح إذا كانت اعتداء خطيراً على أمن الفرد، فإنها ليست في هذه الخطورة بالنسبة لأمن الجماعة، فكل إنسان لا يخاف قاتل غيره أو ضارب ولا يخشى أن يعتدي عليه؛ لأنه يعرف أن القتل أو الجرح أو الضرب لا يكون إلا عن دافع شخصي، أما السارق مثلاً فيخافه كل فرد ويخشاه؛ لأنه يعلم أن السارق يطلب المال أنى وجده ولا يطلب مال شخص بعينه.
وإذا فرض أن إعطاء حق العفو للمجني عليه أو وليه يؤثر على الأمن العام، فإن هذا التأثير لا يكون إلا إذا أسرف المجني عليه في استعمال هذا الحق، والإسراف بعيد الاحتمال؛ لأن اتصال الجريمة بشخص المجني عليه مما يدعوه للتشدد في استعمال حق العفو عنه، وإذن ففي اتصال الجريمة بشخص المجني عليه ضمان لعدم الإسراف في استعمال حق العفو، وبالتالي ضمان لعدم المساس بأمن الجماعة.
ولقد كانت الشريعة عملية ومنطقية في منح حق العفو للمجني عليه أو وليه؛ لأن العقوبة فرضت أصلاً لمحاربة الجريمة ولكنها لا تمنع وقوع الجريمة في أغلب الأحوال، أما العفو فيؤدي إلى منع الجريمة في أغلب الأحوال، لأنه لا يكون إلا
بعد الصلح والتراضي وصفاء النفوس وخلوها من كل ما يدعو إلى الجريمة والإجرام، فالعفو هنا يؤدي وظيفة العقوبة وينتهي إلى نهاية تعجز العقوبة عن الوصول إليها، وهذا هو الوجه العملي لتقرير حق العفو.
أما من ناحية المنطق فقد قلنا إن جرائم القتل والجرح جرائم شخصية، فهي تصدر عن دوافع شخصية في نفس المجرم سببها شخصية المجني عليه، وهي تمس المجني عليه في حياته وبدنه أكثر مما تمس المجتمع في أمنه، فمن حق المجني عليه أن يكون لشخصيته اعتبار في توقيع العقوبة ما دامت الجريمة متصلة بشخصه هذا الاتصال.
وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد اعترفت بحق المجني عليه في أن يعفو عن عقوبة بعض الجرائم، فإن القوانين الوضعية تعترف بنفس هذا المبدأ وإن كانت لا تطبقه على نفس الجرائم التي ينطبق عليها في الشريعة، ذلك أن من القوانين الوضعية ما يعترف بحق الزوج وهو المجني عليه في جريمة الزنا في أن يعفو عن عقوبة زوجته الزانية. فالشريعة إذن لم تأت بشيء غريب حين اعترفت للمجني عليه بحق العفو وإنما جاءت بمبدأ تعترف به اليوم أحدث القوانين، وتبقى الشريعة بعد ذلك متفوقة على القانون الوضعي تفوقاً ظاهراً في أنها أحسنت اختيار المنطقة التي يطبق فيها المبدأ؛ لأن تقرير حق العفو في جرائم القتل والجرح يؤدي إلى الوفاق والوئام، ويقضي على دواعي النفور وبواعث الانتقام، فتقل بذلك الجرائم وتخف حدة الإجرام، أما القانون فقد أساء اختيار المنطقة التي يطبق فيها المبدأ، لأن تقرير حق العفو ي جريمة الزنا يؤدي إلى شيوع الفاحشة وفساد الأخلاق، ويهدم نظام الأسرة وإن أريد به الوفاق الوقتي بين الزوجين، وإذا هدم نظام الأسرة فقد هدم الركن الركين الذي يقوم عليه المجتمع، وما وجد القانون لهدم الجماعة وإنما وجد للمحافظة عليها.
وإذا كان القصاص هو عقوبة القتل العمد والجرح العمد فإن الحكم بالقصاص مقيد بإمكانه بتوفر شروطه، فإذا لم يكن ممكناً ولم تتوفر شروطه امتنع الحكم
به ووجب الحكم بالدية ولو لم يطلب المجني عليه أو وليه الحكم بها؛ لأن الدية عقوبة لا يتوقف الحكم بها على طلب الأفراد.
وليس في الشريعة ما يمنع في حالة عدم إمكان الحكم بالقصاص من معاقبة الجاني بعقوبة تعزيرية مع الدية إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة. ومذهب مالك على إيجاب عقوبة التعزير كلما سقط القصاص أو امتنع الحكم به في حالة القتل والجرح (1) .
والقصاص هو العقوبة الأصلية للقتل والجرح في حالة العمد، أما الدية أو التعزير فكلاهما عقوبة بدلية تحل محل القصاص عند امتناع القصاص أو سقوطه بالعفو.
472 -
(ثانياً) : الدية: جعلت الشريعة الدية عقوبة أصلية للقتل والجرح في شبه العمد والخطأ، ومصدر هذه العقوبة القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالله جل شأنه يقول:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَاّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَاّ أَن يَصَّدَّقُواْ} [النساء: 92]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل".
والدية مقدار معين من المال، وهي إن كانت عقوبة إلا أنها تدخل في مال المجني عليه ولا تدخل خزانة الدولة، وهي من هذه الناحية أشبه بالتعويض خصوصاً وأن مقدارها يختلف تبعاً لجسامة الإصابات ويختلف بحسب تعمد الجاني للجريمة وعدم تعمده لها.
ومن الخطأ اعتبار الدية تعويضاً لهذا التشابه القوي بينها وبين التعويض، وإذ الدية عقوبة جنائية لا يتوقف الحكم بها على طلب الأفراد، وكذلك من
(1) مواهب الجليل ج6 ص268.
التجاوز اعتبارها عقوبة خالصة وهي مال خالص للمجني عليه، وأفضل ما يقال في الدية أنها عقوبة وتعويض معاً، فهي عقوبة لأنها مقررة جزاء للجريمة، وإذا عفا المجني عليه عنها جاز تعزير الجاني بعقوبة تعزيرية ملائمة، ولو لم تكن عقوبة لتوقف الحكم بها على طلب المجني عليه، ولما جاز عند العفو عنها أن تحل محلها عقوبة تعزيرية، وهي تعويض لأنها مال خالص للمجني عليه ولأنه لا يجوز الحكم بها إذا تنازل المجني عليه عنها.
وعقوبة الدية ذات حد واحد فليس للقاضي أن ينقص منها شيئاً أو يزيد في مقدارها، وهي إن اختلفت في شبه العمد عنها في الخطأ واختلفت في الجراح بحسب نوع الجرح وجسامته فإن مقدارها ثابت لكل جريمة ولكل حالة، فدية الصغير كدية الكبير، ودية الضعيف كدية القوي، ودية الوضيع كدية الشريف، ودية المحكوم كدية الحاكم، ومن المتفق عليه أن دية المرأة على النصف من دية الرجل في القتل، أما في الجراح فأبو حنيفة والشافعي (1) يريان أن ما يجب للمرأة هو نصف ما يجب للرجل بصفة مطلقة، وبينما يرى مالك وأحمد (2) أن المرأة تساوي الرجل إلى ثلث الدية، فإن زاد الواجب على ثلث الدية فللمرأة نصف ما يجب للرجل (3) . وهناك خلاف على دية غير المسلمين، فالبعض يسوي بين دية المسلم وغير المسلم والبعض يفرق بينهما (4) .
وقد فرقت الشريعة بين عقوبة القتل العمد وعقوبة القتل شبه العمد، فجعلتها في الأول القصاص وفي الثاني الدية المغلظة؛ لأن المجرم في القتل العمد يقصد قتل
(1) بدائع الصنائع ج7 ص312، نهاية المحتاج ج7 ص302.
(2)
شرح الدردير ج4 ص248، والمغني ج9 ص523.
(3)
هذه القاعدة مطلقة عند أحمد، أما مالك فيقيدها باتحاد الفعل واتحاد المحل، راجع شرح الدردير ج4 ص249، ومواهب الجليل ج6 ص264، 265.
(4)
بدائع الصنائع ج7 ص255، شرح الدردير ج4 ص238، المغني ج9 ص527، المهذب ج2 ص211.
المجني عليه أما في شبه العمد فالمجرم لا يقصد قتل المجني عليه، ووجود هذا الفرق بينهما في الفعل يمنع من التسوية بينهما في العقوبة، وفضلاً عن هذا فإنه لا يمكن تطبيق عقوبة القصاص على القتل شبه العمد؛ لأن القصاص يقتضي التماثل بين ما يفعله الجاني وما يفعل به، والجاني لم يقصد قتل المجني عليه، فإذا قتل الجاني بالمجني عليه فإن قاتل الجاني لابد أن يقصد قتله، وهنا ينعدم التماثل، فالعدالة والمنطق هما أساس التفريق بين عقوبة العمد وعقوبة شبه العمد.
وفرقت الشريعة بين عقوبة العمد الخالص والخطأ، فجعلتها في حالة العمد القصاص وفي حالة الخطأ الدية المخففة، ناظرة في ذلك إلى أن الجاني في جرائم العمد يتعمد الجريمة ويفكر فيها ويتوسل ارتكابها بمختلف الوسائل ليحقق لنفسه أو لغيره مصلحة مادية أو معنوية، أما الجاني في جرائم الخطأ فإنه لا يتعمد الجريمة ولا يفكر فيها وليس ثمة ما يدفعه لارتكابها، وكل ما هنالك أن إهماله أو عدم احتياطه يؤدي إلى وقوع الفعل المكون للجريمة دون أن يتجه ذهن الجاني إلى هذا افعل بالذات، فالجريمة العمدية إذن تتكون من عنصرين: عنصر معنوي هو اتجاه المجرم النفسي للجريمة، وعنصر مادي هو الفعل المكون للجريمة، أما جريمة الخطأ فيتوفر فيها العنصر المادي فقط وينقصها العنصر المعنوي لتساوي الجريمة العمدية، والفرق بين نفسية الجاني المتعمد وبين نفسية الجاني المخطئ هو علة التفرقة في عقوبة الجريمتين، والفرق بين النفسيتين يساوي تماماً الفرق بين العقوبتين؛ لأن المجرم المتعمد إذا تجرد من العوامل النفسية التي دعت لارتكاب الجريمة أصبح مساوياً للمجرم المخطئ ولم يبقى إلا العنصر المادي للجريمة، ومن أجل ذلك سوت الشريعة بين عقوبة العمد في حالة العفو وبين عقوبة الخطأ وجعلتها الدية في الحالين، فكأن العفو ينصرف إلى العنصر المعنوي في الجريمة العمدية، فإذا كان العفو عن الدية انصرف إلى العنصر المادي في الجريمتين.
ولم تعاقب الشريعة في حالة الخطأ بالقصاص؛ لانعدام الدوافع النفسية لدى
الجاني، ولأنه لم يتعمد الجريمة ولم يفكر فيها، ولكن لما كانت الجريمة سببها الإهمال وعدم الحرص، ولما كان يتسبب عنها في الغالب أضرار مالية للمجني عليه أو لورثته، فقد رأت الشريعة لهذين السببين أن تكون العقوبة في أعز ما يحرص عليه الإنسان بعد النفس وهو المال. فكان جزاء عدم الحرص هو الحرمان من المال الذي يتعب الناس أنفسهم في الحرص عليه، وكان جزاء الإضرار بما الآخرين هو الإضرار بالمال، ولا شك أن هذه العقوبة كافية لحمل المتهاون المهمل على أن يتمسك بأهداب الحرص واليقظة.
ويتضح مما سبق أن الدية عقوبة مشتركة بين العمد الذي لا قصاص فيه وبين شبه العمد وبين الخطأ، ولكن مقدار الدية ليس واحداً في هذه الحالات الثلاث، فدية العمد وشبه العمد واحدة وهي الدية المغلظة، ودية الخطأ هي الدية المخففة.
والأصل أن الدية بصفة عامة من الإبل، والتغليظ والتخفيف لا دخل له في العدد إنما يكون في أنواع الإبل وأسنانها.
ولفظ الدية إذا أطلق يقصد منه الدية الكاملة وهي مائة من الإبل سواء كانت الدية مغلظة أو مخففة، أما ما هو أقل من الدية الكاملة فيطلق عليه لفظ الأرش، فيقال أرش اليد وأرش الرجل، على أن الكثيرين يستعملون لفظ الدية فيما يجب أن يستعمل فيه لفظ الأرش.
والأرش على نوعين: أرش مقدر، وأرش غير مقدر، فالأول: هو ما حدد الشارع مقداره كأرش الأصبع واليد، والثاني: هو ما لم يرد فيه نص وترك للقاضي تقديره، ويسمى هذا النوع من الأرش حكومة أو حكومة العدل.
من يحمل الدية: والقاعدة العامة أن دية العمد تجب في مال المجني عليه دون غيره سواء كانت الدية عن النفس أو ما دون النفس، إلا أن مالكاً يستثني من هذه القاعدة أرش الجراح التي يمتنع القصاص فيها خوف تلف الجاني ككسر الفخذ والجائفة، ويرى أن العاقلة تحمل مع الجاني ما بلغ ثلث دية الجاني أو
المجني عليه من هذه الجراح، بشرط أن لا تكون الجريمة قد ثبتت على الجاني بالاعتراف لأن العاقلة لا تحمل اعترافاً (1) .
ولكن الفقهاء اختلفوا فيمن يحمل الدية إذا كان الجاني صغيراً أو مجنوناً، فرأى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن الدية الواجبة على الصغير والمجنون تحملها العاقلة ولو تعمد الفعل؛ لأنهم يرون أن عمد الصغير والمجنون خطأ لا عمد، وإذ لا يمكن أن يكون لهما قصد صحيح فألحق عمدهما بالخطأ (2) ، وفي مذهب الشافعي رأيان أحدهما وهو المرجوح يتفق مع الرأي السابق، والثاني هو الراجح (3) يرى أن عمد الصغير والمجنون عمد؛ لأنه يجوز تأديبهما على القتل العمد وإن كان لا يمكن القصاص منهما، فكان عمدهما عمداً كالبالغ العاقل، وعلى هذا تجب الدية في مالهما.
ويختلف الفقهاء في حكم شبه العمد (4) والخطأ، فيرى مالك أن العاقلة تحمل ما يبلغ ثلث دية المجني عليه أو الجاني، فما كان دون الثلث فهو على الجاني وحده (5) . ويرى أحمد أن الجاني يحمل ما دون ثلث الدية الكاملة، فإن بلغ الثلث أو زاد عليه حملته العاقلة (6) . ويرى أبو حنيفة أن الجاني يحمل ما دون نصف عشر الدية الكاملة وما زاد على ذلك تحمله العاقلة (7) . ويرى الشافعي أن العاقلة تحمل الجميع ما قل أو كثر؛ لأن من ألزم بالكثير ألزم بالقليل من باب أولى (8) .
(1) شرح الدردير ج4 ص250، بدائع الصنائع ج7 ص255، المغني ج9 ص488، المهذب ج2 ص209.
(2)
شرح الدردير ج4 ص210، البحر الرائق ج8 ص341، المغني ج9 ص504.
(3)
المهذب ج2 ص210.
(4)
يلاحظ أن مالكاً لا يعترف بشبه العمد والفعل طبقاً لمشهور مذهبه؛ إما أن يكون عمداً أو خطأ ولا وسط بينهما.
(5)
مواهب الجليل ج6 ص265.
(6)
المغني ج9 ص505، 506.
(7)
بدائع الصنائع ج7 ص255.
(8)
المهذب ج2 ص227.
وإذا حملت العاقلة الدية فيرى مالك وأبو حنيفة أن يتحمل الجاني من الدية ما يحمله أحد أفراد العاقلة، أما الشافعي وأحمد فيريان أن لا يحمل الجاني شيئاً مع العاقلة.
العاقلة: هي من يحمل العقل. والعقل هو الدية، وسميت عقلاً لأنها تعقل لسان ولي المقتول، وقيل: إنها سميت العاقلة لأنهم يمنعون عن القاتل. فالعقل على هذا هو المنع.
وعاقلة القاتل هم عصباته، فلا يدخل في العاقلة الإخوة لأم ولا الزوج ولا سائر ذوي الأرحام.
ويدخل في العصبة سائر العصبات مهما بعدوا؛ لأنهم عصبة يرثون المال إذا لم كن وارث أقرب منهم، ولا يشترط أن يكونوا وارثين في الحال، بل متى كانوا يرثون، لولا الحجب عقلوا.
ولا تكلف العاقلة من مال ما يجحف بها ويشق عليها؛ لأنه لزمها من غير جناية على سبيل المواساة للجاني والتخفيف عنه، فلا يخفف عن الجاني بما يشق على غيره ويجحف به، ولو كان الإجحاف مشروعاً كان الجاني ألحق به؛ لأنه موجب جنايته وجزاء فعله، فإن لم يشرع في حقه ففي حق غيره أولى.
واختلف الفقهاء في مقدار ما يحمله كل فرد، فقال مالك وأحمد: يترك الأمر للحاكم يفرض على كل واحد ما يسهل عليه ولا يؤذيه. وفي مذهب مالك رأي بفرض دينار على كل شخص. وفي مذهب أحمد رأي آخر يفرض نصف مثقال على الموسر وربع مثقال على متوسط الحال، وهو مذهب الشافعي. ويرى أبو حنيفة أن لا يزيد ما يؤخذ من الفرد عن ثلاثة أو أربعة، كما يرى التسوية بين الغني ومتوسط الحال (1) .
(1) بدائع الصنائع ج7 ص256، المغني ج9 ص520، مواهب الجليل ج6 ص267، المهذب ج2 ص230.
وليس على الفقير ولا على المرأة ولا على الصبي ولا على زائل العقل شئ من الدية؛ لأن تحميل الفقير إجحاف به، ولأن المرأة والصبي والمجنون ليسوا من أهل النصرة، ولكن هؤلاء إذا كانوا جناة يعقل عنهم.
وإذا لم يكن للجاني عاقلة أصلاً أو كانت له عاقلة فقيرة أو عددها صغير لا تتحمل كل الدية، فهناك رأيان: الأول: يرى أصحابه أن يقوم بيت المال مقام العاقلة، فإذ لم كن عاقلة أو كانت عاقلة ولكنها فقيرة أخذت الدية كلها من بيت المال. وهذا الرأي هو مذهب مالك والشافعي وظاهر مذهب أبو حنيفة ومذهب أحمد. الثاني: يرى أصحابه أن الدية تجب في مال القاتل؛ لأن الأصل أن القاتل هو المسئول عن الدية، وإنما حملتها العاقلة للتناصر والتخفيف، فإذا لم تكن عاقلة يرد الأمر لأصله. وهذا الرأي رواية عن أبي حنيفة لمحمد، ويقول به بعض الحنابلة (1) .
علة تحميل العاقلة الدية: وتحمل الدية للعاقلة معناه أن آخرين غير الجاني يحملون وزر جريمته، وهو استثناء من القاعدة الشرعية العامة {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، إلا أن ظروف الجناة والمجني عليهم هي التي سوغت هذا الاستثناء وجعلت الأخذ به لازماً لتحقيق العدالة والمساواة، ولضمان الحصول على الحقوق، ويمكن تبرير هذا الاستثناء بالمبررات الآتية:
1 -
لو أخذنا بالقاعدة العامة فتحمل كل مخطئ وزر عمله لكانت النتيجة أن تنفذ العقوبة على الأغنياء وهم قلة، ولامتنع تنفيذها على الفقراء وهم الكثرة، ويتبع هذا أن يحصل المجني عليه أو وليه على الدية كاملة إن كان الجاني غنياً، وعلى بعضها أن كان متوسط الحال، أما إذا كان الجاني فقيراً وهو كذلك في أغلب الأحوال فلا يحصل المجني عليه من الدية على شئ، وهكذا تنعدم العدالة
(1) مواهب الجليل ج6 ص266، بدائع الصنائع ج7 ص256، المغني ج9 ص254، المهذب ج2 ص228.
والمساواة بين الجناة كما تنعدم بين المجني عليهم، فكان ترك القاعدة العامة إلى هذا الاستثناء واجباً لتحقيق العدالة والمساواة.
2 -
إن الدية وإن كانت عقوبة إلا أنها حق مالي للمجني عليه أو وليه، وقد روعي في تقديرها أن تكون تعويضاً عادلاً عن الجريمة، فلو أخذ بالقاعدة العامة وتحمل المتهم وحده الدية لما أمكن أن يصل معظم المجني عليهم إلى الدية التي يحكم بها؛ لأن مقدرا الدية أكبر عادة من ثروة الفرد، إذ الدية الكاملة مائة من الإبل تقدر بألف دينار، ولاشك أن ثروة الفرد الواحد في أغلب الأحوال أقل بكثير من مقدرا الدية الواحدة، فلو طبقنا القاعدة العامة وتحمل الجاني وحده وزر عمله لكان ذلك مانعاً من حصول المجني عليهم على حقوقهم، فكان ترك القاعدة إلى هذا الاستثناء هو الضمان الوحيد الذي يضمن وصول الحقوق المقررة إلى أربابها.
ويلاحظ أن المجني عليهم في جرائم العمد لا يتعرضون لمثل هذه الحالة؛ لأن العقوبة الأصلية هي القصاص ولا تستبدل بها الدية إلا إذا عفا المجني عليه أو وليه عن القصاص، ولن يعفو أحدهم عن القصاص إلا إذا كان ضامناً الحصول على الدية، فإذا عفا أحدهما عن القصاص وقبل الدية ولم يكن مال الجاني كافياً لسداد الدية فذلك هو اختيار المجني عليه أو وليه، وليس لأحدهما أن يتضرر من هذا الوضع الذي وضع فيه نفسه.
3 -
إن العاقلة تحمل الدية في جرائم الخطأ أو شبه العمد وهو ملحق بالخطأ، وأساس جرائم الخطأ هو الإهمال وعدم الاحتياط، وهذان سببهما سوء التوجيه وسوء التربية غالباً، والمسئول عن تربية الفرد وتوجيهه هم المتصلون به بصلة الدم، كما أن الفرد ينقل دائماً عن أسرته ويتشبه بأقاربه، فكأن الإهمال وعدم الاحتياط هو في الغالب ميراث الأسرة، ولما كانت الأسرة تأخذ عن البيئة والجماعة فيكون الإهمال وعدم الاحتياط في النهاية ميراث الجماعة، فوجب لهذا
أن تتحمل أولاً عاقلة الجاني نتيجة خطئه، وأن تتحمل الجماعة أخيراً هذا الخطأ كما عجزت العاقلة عن حمله.
ويمكننا أن نقول أيضاً: إن الإهمال وعدم الاحتياط هو نتيجة الشعور بالعزة والقوة، وإن هذا الشعور يتولد من الاتصال بالجماعة، فالمشاهد أن من لا أسرة له يكون أكثر احتياطاً ويقظة ممن له أسرة، وأن المنتمين للأقليات يكونون أكثر حرصاً من المنتمين للأكثريات. فوجب لهذا أن تتحمل العاقلة والجماعة نتيجة الخطأ ما دام أنهما هما المصدر الأول للإهمال وعدم الاحتياط.
4 -
إن نظام الأسرة ونظام الجماعة يقوم كلاهما بطبيعته على التناصر والتعاون ومن واجب الفرد في كل أسرة أن يناصر باقي أفراد الأسرة ويتعاون معهم. وكذلك واجب الفرد في كل جماعة. وتحميل العاقلة أولاً والجماعة ثانياً نتيجة خطأ الجاني يحقق التعاون والتناصر تحقيقاً تاماً، بل أنه يجدده ويؤكده في كل وقت. فكلما وقعت جريمة من جرائم الخطأ اتصل الجاني بعاقلته واتصلت العاقلة بعضها ببعض وتعاونوا على جمع الدية وإخراجها من أموالهم. ولما كانت جرائم الخطأ تقع كل يوم فمعنى ذلك أن الاتصال والتعاون والتناصر بين الأفراد ثم الجماعة كل أولئك يظل متجدداً مستمراً.
5 -
إن الحكم بالدية على الجاني وعلى عاقلته فيه تخفيف عن الجناة ورحمة بهم وليس فيه غبن وظلم لغيرهم؛ لأن الجاني الذي تحمل عنه العاقلة اليوم دية جريمته ملزم بأن يتحمل غداً بنصيب من الدية المقررة لجريمة غيره من أفراد العاقلة، وما دام كل إنسان معرضاً للخطأ فسيأتي اليوم الذي يكون فيه ما حمله فرد بعينه عن غيره مساوياً لما تحمله هذا الغير عنه.
6 -
إن القاعدة الأساسية في الشريعة هي حياطة الدماء وصيانتها وعدم إهدارها، والدية مقررة بدلاً من الدم وصيانة له عن الإهدار، فلو تحمل كل
جان وحده بالدية التي تجب بجريمته وكان عاجزاً عن أدائها، لأهدر بذلك دم المجني عليه، فكان الخروج عن القاعدة العامة إلى الاستثناء واجباً حتى لا تذهب الدماء هدراً دون مقابل.
هذه هي أهم المبررات التي دعت إلى الخروج على القاعدة العامة، ولعل هذا الاستثناء هو في الشريعة الإسلامية الاستثناء الوحيد لقاعدة "ألا تزر وازرة وزر أخرى"، أو لقاعدة تفريد العقاب كما تسميها النظريات القانونية الحديثة، وقد أخذت الشريعة بهذا الاستثناء لأنه يحقق الرحمة والمساواة والعدالة ويمنع إهدار الدماء ويضمن الحصول على الحقوق (1) .
هل يمكن الأخذ بنظام العاقلة اليوم؟: نظام العقلة على ما فيه من عدالة وتسوية بين الجناة والمجني عليهم لا يمكن أن يقوم في عهدنا الحاضر، لأن أساسه وجود العاقلة، لا شك أن العاقلة ليس لها وجود اليوم إلا في النادر الذي لا حكم له، وإذا وجدت فإن عدد أفرادها قليل لا يتحمل أن تفرض عليه كل الدية، ولقد كان للعاقلة وجود طالما احتفظ الناس بأنسابهم وقراباتهم وانتموا إلى قبائلهم وأصولهم، أما الآن فلا شيء من هذا في أغلب البلاد والأقطار، وإذن فلا محيص من الأخذ بأحد الرأيين الذين أخذ بهما الفقهاء من قبل، فإما الرجوع على الجاني بكل الدية، وإما الرجوع على بيت المال.
والرجوع على الجاني يؤدي إلى إهدار دماء أكثر المجني عليهم؛ لأن أكثر الجناة فقراء وهذا لا يتفق مع أغراض الشريعة التي تقوم على حفظ الدماء وحياطتها، كما أن الرجوع على الجاني يؤدي إلى انعدام العدالة والمساواة.
والرجوع على بيت المال يرهق الخزانة العامة، ولكنه يحقق العدالة والمساواة، ويصون الدماء، ويحقق أغراض الشريعة، وإذن يجب أن لا يكون الخوف من إرهاق الخزنة مانعاً من العدالة والمساواة، وحائلاً دون تحقيق أغراض
(1) راجع الفقرة 281.
الشريعة، فالحكومة تستطيع أن تفرض ضريبة عامة تخصص دخلها لهذا النوع من التعويض، وتستطيع أن تخصص الغرامات التي يحكم بها على المتقاضين لهذا الغرض، وإذا كانت الحكومات العصرية تلزم نفسها بإعالة الفقراء والعاطلين فأولى أن تلزم نفسها بتعويض المجني عليهم وورثتهم المنكوبين.
ولقد أخذت بعض الدول الأوروبية بهذه الفكرة كألمانيا وإيطاليا ويوغسلافيا، فأنشأت خزانة خاصة تسمى خزانة الغرامات، إيرادها المبالغ المتحصلة من الغرامات التي تحكم بها المحاكم، وخصص إيراد هذه الخزانة لتعويض المجني عليهم في الجرائم بشرط أن تكون أموال الجاني لا تكفي للتعويض (1) .
وهذا الذي أخذت به بعض البلاد الأوروبية هو جزء من نظام العاقلة أخذت به هذه البلاد لتحقق بعض الأغراض التي ترمي الشريعة لتحقيقها، وإذا كان نظام العاقلة يقوم على هذا الوجه في البلاد الأوروبية فأولى بنا وهو نظامنا الأصيل أن نقيمه بيننا على الوجه الذي يحقق أغراض الشريعة ويلائم ظروفنا.
473 -
(ثالثاً) : الكفارة: الأصل في الكفارة قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَاّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ} [النساء: 92] .
والكفارة عقوبة أصلية وهي عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجدها أو يجد قيمتها يتصدق بها فعليه صيام شهرين متتابعين، فالصوم عقوبة بدلية لا تكون إلا إذا امتنع تنفيذ العقوبة الأصلية.
وظاهر النص أن الكفارة شرعت في القتل الخطأ، ومن المتفق عليه أنها واجبة
(1) الموسوعة الجنائية ج5 ص124.
في القتل الخطأ، وكذلك القتل شبه العمد؛ لأنه يشبه الخطأ من وجه إذا الجاني لا يقصد قتل المجني عليه.
ولكن الفقهاء اختلفوا في وجوب الكفارة في القتل العمد، فيرى الشافعي أنها تجب في القتل العمد؛ لأنها إذا وجبت في القتل الخطأ مع عدم المأثم فلأن يجب في العمد وقد تغلظ بالإثم أولى (1) ، ولأحمد رأي يتفق مع رأي الشافعي ولكن المشهور في المذهب أن لا كفارة في القتل العمد؛ لأن نص القتل العمد جاء خلواً من الكفارة (2) . ويرى أبو حنيفة أن لا كفارة في القتل العمد؛ لأن الكفارة من العقوبات المقدرة فلابد من النص عليها (3) . ولا يوجب مالك الكفارة في القتل العمد ولكنه يراها مندوباً إليها في العمد الذي لم يقتص فيه سواء كان عدم القصاص راجعاً لمانع شرعي أو للعفو (4) .
ولا يفرق مالك والشافعي وأحمد في القتل الذي تجب فيه الكفارة بين أن يكون القتل مباشراً أو بالتسبب، ولكن أبا حنيفة يرى أن لا كفارة في القتل بالتسبب أياً كان نوعه، أي ولو كان خطأ (5) .
على من تجب الكفارة؟: تجب الكفارة عند الشافي وأحمد على القاتل أياً كان بالغاً أو غير بالغ، عاقلاً أو مجنوناً، مسلماً أو غير مسلما (ً (6) . ويرى مالك أنها تجب على الصبي والبالغ والعاقل والمجنون ولكنها لا تجب إلا على مسلم؛ لأنها تعبدية (7) . ويرى أبو حنيفة أنها لا تجب إلا على بالغ مسلم؛ لأن الصبي والمجنون
(1) المهذب ج2 ص334.
(2)
المغني ج10 ص40.
(3)
البحر الرائق ج8 ص291.
(4)
مواهب الجليل ج6 ص268.
(5)
شرح الدردير ج4 ص254، البحر الرائق ج8 ص293، المغني ج10 ص37، المهذب ج2 ص234.
(6)
المغني ج10 ص38، نهاية المحتاج ج7 ص364، 365.
(7)
شرح الدردير ج4 ص254، مواهب الجليل ج6 ص286.
لا يخاطب كلاهما بالشرائع أصلاً؛ ولأن غير المسلم لا يلزم بما هو عبادة، والكفارة وإن كانت عقوبة إلا أنها في نفس الوقت عبادة (1) .
وحجة الشافعي وأحمد أن الكفارة عقوبة مالية، والمجنون والصغير إن لم يسألا عن فعلهما من الناحية الجنائية فإنهما ضامنان له من الناحية المالية، وأما غير المسلم فهو ملزم بالكفارة لعموم النص.
الصيام: والصيام عقوبة بدلية لعقوبة الكفارة الأصلية وهي العتق، ولا يجب الصيام إلا إذا لم يجد القاتل الرقبة أو قيمتها فاضلة عن حاجته، فإن وجدها فلا يجب الصيام عليه.
474 -
(رابعاً) : الحرمان من الميراث: الحرمان من الميراث عقوبة تبعية تصيب القاتل تبعاً للحكم عليه بعقوبة القتل، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:"ليس للقاتل شيء من الميراث"، وقوله:"ليس للقاتل ميراث بعد صاحب البقرة".
وقد اختلف الفقهاء اختلافاً كبيراً في الحرمان من الميراث بحيث لا يتفق مذهبان في هذه المسألة.
فمالك يرى أن القتل المانع من الميراث هو القتل العمد العدوان، سواء كان القتل مباشرة أو تسبباً، وسواء اقتص من القاتل أو درئ عن القصاص لسبب ما. أما القتل الخطأ فلا يحرم القاتل من الميراث وإنما يحرمه فقط من الدية التي وجبت بالقتل (2) . والرأي الراجح في المذهب الراجح يقضي بحرمان الصغير والمجنون من الميراث.
وأبو حنيفة يرى حرمان القاتل من الميراث أياً كان نوع القتل، بشرط أن يكون القتل مباشرة لا تسبباً، وأن يكون عدواناً، وأن لا يكون من صغير أو مجنون (3) .
(1) بدائع الصنائع ج7 ص252.
(2)
شرح الدردير ج4 ص432، مواهب الجليل ج6 ص422.
(3)
البحر الرائق ج8 ص488، 500.
واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من فرق بين القتل المضمون وبين القتل غير المضمون، ورأى الحرمان من الميراث إذا كان القتل مضموناً؛ لأنه قتل بغير حق، أما القتل غير المضمون فلا يمنع من الميراث؛ لأنه قتل بحق. ومنهم من قال: إن كان متهماً باستعجال الميراث حرم من الميراث، كما في القتل الخطأ، وكما لو حكم على مورثه في جريمة الزنا على أساس البينة فإنه يحرم؛ لأنه متهم في قتله باستعجال الميراث، وإن لم يكن متهماً باستعجال الميراث فلا حرمان، كما لو حكم عليه في الزنا بإقراره.
والرأي الراجح في المذهب غير هذين، وهو أن القاتل يحرم الإرث في كل حال سواء كان القتل عمداً أو شبه عمد أو خطأ، وسواء كان مباشرة أو تسبباً، وسواء كان القتل بحق أو بغير حق، وسواء كان القاتل بالغاً عاقلاً أو صغيراً أو مجنوناً. وأصحاب هذا الرأي يرون أن الحرمان من الميراث قصد به سد الذرائع ومنع الوارث من استعجال الميراث (1) .
ويرى أحمد أن القتل المضمون هو القتل المانع من الإرث، أما غير المضمون فلا يمنع الميراث؛ كالقتل دفاعاً عن النفس والقتل قصاصاً. ويعللون حرمان الصبي والمجنون من الميراث في مذهب أحمد بأن ما فعله القصاص لقصور الأهلية لا يمنع من حرمان الجاني من الميراث، بل إن الاحتياط يقتضي المنع من الميراث صوناً للدماء (2) .
475 -
الحرمان من الوصية: الحرمان من الوصية عقوبة تبعية، والأصل فيها قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا وصية لقاتل"، وقوله:"ليس لقاتل شيء"، وذكر الشيء نكرة في محل النفي يعم الميراث والوصية جميعاً.
(1) المهذب ج2 ص26.
(2)
الإقناع ج3 ص123، مجلة القانون والاقتصاد س6 ص586.
وقد اختلف الفقهاء في تفسير هذين النصين وتطبيقهما:
ففي مذهب مالك يفرقون بين القتل العمد والقتل الخطأ، ويتفقون على أن القتل الخطأ لا يصلح سبباً للحرمان من الوصية، فالقاتل خطأ تصح الوصية له في المال ولو لم يكن المقتول عالماً بأنه هو قاتله، فإن علم بأنه قاتله وأوصى له صحت الوصية في المال وفي الدية. ولكنهم اختلفوا في القتل العمد، فرأى البعض أن الوصية لا تصح إذا كان المقتول لا يعلم أن الموصى له قاتله، فإن علم أنه قاتله وأوصى له بعد الجناية فالوصية تصح في المال ولا تصح في الدية؛ لأن الدية مال لم يجب إلا بالموت، وعلى هذا إذا كانت الوصية قبل الجريمة فإنها تبطل بارتكاب جريمة القتل العمد إلا إذا رأى المقتول البقاء على الوصية. ورأى البعض الآخر أن الوصية تصح للقاتل عمداً سواء علم الموصى بأنه قاتله أو لم يعلم، ويستوي عند أصحاب هذا الرأي أن تكون الوصية قبل القتل أو بعده فهي صحيحة في الحالين (1) .
ويرى أبو حنيفة حرمان القاتل من الوصية أياً كان نوع القتل، بشرط أن يكون القتل مباشراً، وأن يكون عدواناً، وأن يكون من بالغ عاقل. ويرى أبو حنيفة أن الوصية تصح إذا أجازها الورثة، ويرى أبو يوسف أنها لا تصح ولو أجازها الورثة؛ لأن المانع من الوصية هو القتل لا مصلحة الورثة (2) .
وفي مذهبي الشافعي وأحمد نظريتان:
الأولى: يرى أصحابها أن الوصية لا تصح لقاتل، وأصحاب هذه النظرية ينقسمون بعد ذلك إلى فريقين: فريق يرى أن الوصية لا تصح ولو أجازها الورثة؛ لأن المانع من الوصية هو القتل لا مصلحة الورثة، فإجازة الورثة تكون هبة مبتدأة ينبغي أن تتوافر فيها شروط الهبة. وفريق يرى أن الوصية تصح بإجازة الورثة.
(1) مواهب الجليل ج6 ص386، شرح الدردير ج4 ص379.
(2)
بدائع الصنائع ج7 ص339، 340.