الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع
استيفاء العقوبات
512 -
من له حق الاستيفاء: الأصل في الشريعة أن الجرائم تنقسم من حيث استيفاء عقوباتها إلى ثلاثة أقسام: جرائم الحدود، وجرائم القصاص والدية، وجرائم التعازير، وأن من نسب إليه أية جريمة من هذه الأنواع حوكم عليها، فإن ثبت عليه أنه أتاها حكم عليه بالعقوبة المقررة لها، وإن لم يثبت عليه إتيانها حكم ببراءته مما نسب إليه، فإذا حكم عليه بالعقوبة استوفاها ولي الأمر إن كانت الجريمة من جرائم الحدود أو التعازير، أما إن كانت من جرائم القصاص فيجوز للمجني عليه أو وليه استيفاء عقوبة القصاص إذا توفرت شروط معينة. وفيما يلي تفصيل ذلك كله.
513 -
الاستيفاء في جرائم الحدود: من المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحد - أي العقوبات المقررة لجرائم الحدود - إلا الإمام أو نائبه؛ لأن الحد حق الله تعالى ومشروع لصالح الجماعة فوجب تفويضه إلى نائب الجماعة وهو الإمام، ولأن الحد يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب، فوجب تركه لولي الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواسطة نائبه.
وحضور الإمام ليس شرطاً في إقامة الحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير حضوره لازماً فقال: "اغدُ يا أُنَيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، وأمر عليه السلام برجم ماعز ولم يحضر الرجم، وأُتي بسارق فقال:"اذهبوا به فاقطعوه"(1) .
(1) الشرح الكبير ج10 ص121.
لكن إذن الإمام بإقامة الحد واجب، فما أُقيم حد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه، وما أقيم حد في عهد الخلفاء إلا بإذنهم، ومما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا قوله:"أربع إلى الولاة: الحدود، والصدقات، والجُمعات، والفيء"(1) .
وإذا كانت القاعدة العامة أن إقامة الحد للإمام أو نائبه، إلا أنه لو أقامه غيره من الأفراد فإن مقيمه لا يُسأل عن إقامته إذا كان الحد متلفاً للنفس أو للطرف (2) ؛ أي إذا كان الحد قتلاً أو قطعاً، وإنما يسأل باعتباره مفتاتاً على السلطات العامة. أما إذا كان الحد غير متلف كالجلد في الزنا والقذف فإن مقيمه يسأل عن إقامته؛ أي أنه يسأل عن الضرب والجرح وما يتخلف عنهما. والفرق بين هاتين الحالتين أن الحد المتلف للنفس أو الطرف يزيل عصمة النفس وعصمة الطرف، وزوال العصمة عن النفس يبيح القتل، وزوال العصمة عن الطرف يبيح القطع، فيصير قتل النفس أو قطع العضو مباحاً ولا جريمة فيما هو مباح. أما الحد غير المتلف فلا يزيل عصمة النفس ولا عصمة الطرف قيبقى معصوماً من يرتكب جريمة عقوبتها حد غير متلف، وتعتبر إقامة الحد عليه جريمة ما لم تكن الإقامة ممن يملك تنفيذ العقوبة.
514 -
الاستيفاء في جرائم التعازير: واستيفاء العقوبات المحكوم بها في جرائم التعازير من حق ولي الأمر أو نائبه أيضاً؛ لأن العقوبة شرعت لحماية الجماعة فهي من حقها فيترك استيفاؤها لنائب الجماعة، ولأن التعزير كالحد يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فيه الحيف.
وليس لأحد غير الإمام أو نائبه إقامة عقوبة التعزير ولو كانت متلفة للنفس، فإن قتل أحد الأفراد شخصاً محكوماً عليه بالقتل تعزيراً فهو قاتل له ولو أن عقوبة القتل متلفة للنفس، والفرق بين عقوبة الحد المتلفة للنفس وعقوبة التعزير المتلفة للنفس أن
(1) المهذب ج2 ص287، شرح فتح القدير ج4 ص130.
(2)
الإقناع ج4 ص245.
عقوبة الحد لا يجوز العفو عنها وإسقاطها ولا تأخير تنفيذها؛ فهي عقوبة محتمة لا بد منها، أما عقوبة التعزير المتلفة فلولي الأمر العفو عنها، ولهذا فهي عقوبة غير لازمة لا تهدر عصمة المحكوم عليه، إذ من الجائز أن يصدر عنها عفو في اللحظة الأخيرة.
515 -
الاستيفاء في جرائم القصاص: والأصل أن عقوبات جرائم القصاص كغيرها من العقوبات متروك إقامتها لأولي الأمر، لكن أُجيز استثناءً أن يُستَوفَى القصاص بمعرفة ولي الدم أو المجني عليه، والأصل في ذلك قوله تعالى:{وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] .
ومن المتفق عليه أن لولي المجني عليه حق استيفاء القصاص في القتل بشرط أن يكون الاستيفاء تحت إشراف السلطان؛ لأنه أمر يفتقر إلى الاجتهاد ويَحرُم فيه الحيف، ولأنه لا يؤمن الحيف من المقتص مع قصد التشفي، لكن إذا استوفاه في غير حضور السلطان وقع الموقع؛ أي وقع الفعل قصاصاً، وعزر المستوفي لافتياته على السلطان وفعله ما منع من فعله.
وينظر السلطان في الولي؛ فإن كان يحسن الاستيفاء ويقدر عليه بالقوة والمعرفة اللازمة مكنه منه، وإن كان لا يحسن الاستيفاء أمَرَه أن يوكل غيره؛ لأنه عاجز عن استيفاء حقه.
وليس ثمة ما يمنع أن يعين خبير لاستيفاء الحدود والقصاص يأخذ أجره من بيت المال؛ لأن هذا العمل من المصالح العامة، فإذا كان الولي لا يحسن القصاص وكل هذا الخبير.
فإذا كان القصاص فيما دون النفس - أي فيما ليس قتلاً - فيرى أبو حنيفة أن للمجني عليه الحق في استيفاء العقوبة بنفسه إن كان خبيراً يحسن الاستيفاء، فإن لم يكن يحسنه وكل عنه من يحسنه. وما يراه أبو حنيفة هو وجه في مذهب أحمد (1) .
(1) بدائع الصنائع ج7 ص246، الشرح الكبير ج9 ص398، 399.
ويرى مالك والشافعي ورأيهما وجه في مذهب أحمد أن المجني عليه ليس له أن يستوفي عقوبة القصاص فيما دون النفس بأي حال سواء كان يحسن القصاص أو لا يحسنه؛ لأنه لا يؤمن مع قصد التشفي أن يحيف على المجني عليه أو يجني عليه بما لا يمكن تلافيه، وإنما يتولى القصاص فيما دون النفس من يحسنه من الخبراء، وعلى هذا يصح أن يكون المستوفي موظفاً لهذا الغرض (1) .
516 -
كيفية استيفاء القصاص في النفس: لا يُستوفى القصاص في النفس إلا بالسيف عند أبي حنيفة ورواية عن أحمد، سواء كان الجاني قتل بسيف أم بغير سيف، وسواء كان القتل نتيجة لحز الرقبة أم لسراية جرح أو نتيجة الخنق أو التغريق أو التحريق أو غير ذلك، وحجة القائلين بهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا قَوَدَ إلا بالسيف"، والقود هو القصاص، فمعنى الحديث منع استيفاء القصاص بغير السيف.
وإذا كان الموت نتيجة قطع اتصلت به السراية فالقود بالسيف؛ لأنه تبين أن فعل الجاني وقع قتلاً من وقت وجوده فلا يقتص منه إلا بالقتل؛ لأنه لو قطع عضواً من الجاني ليحقق التماثل ثم عاد فحز الرقبة إذا لم يمت من القطع كان ذلك جمعاً بين القطع والحز، ولم يكن مجازاة بالمثل، ولا يعتبر حز الرقبة متمماً للقطع؛ لأن المتمم للشيء يكون من توابعه والحز قتل وهو أقوى من القطع فليس من توابعه. كذلك فإن القصاص في النفس مقصود منه إتلاف النفس فإذا أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز إتلاف أطرافه؛ لأن إتلافها يعتبر تعذيباً وليس استيفاء.
وإذا أراد الولي أن يقتل بغير السيف لا يُمكَّن من ذلك، وإذا فعله عزر
(1) مواهب الجليل ج6 ص253- 254، المهذب ج2 ص197، الشرح الكبير ج9 ص399.
لافتياته، إلا أنه يعتبر مستوفياً لحقه من القصاص بأي طريق قتله سواء قتله بالعصا أو الحجر أو ألقاه من سطح أو رداه في بئر ونحو ذلك؛ لأن القتل حقه فإذا قتله استوفى حقه، إلا أنه يفتات إذا استوفاه بغير السيف؛ لأنه يستوفيه بطريق غير مشروع فيعزر على هذا الافتيات (1) .
وعند مالك والشافعي وهو رواية عن أحمد (2) أن القاتل أهل لأن يُفعل به كما فعل؛ فإذا قتل بالسيف لم يقتص منه إلا بالسيف، لقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] .
فإن حرقه أو غرقه أو رماه بحجر أو رماه من شاهق أو ضربه بخشبة أو حبس عنه الطعام أو الشراب فمات، فللولي أن يقتص منه بمثل ذلك، لقوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126] ، ولأن القصاص قائم على المماثلة والمماثلة ممكنة فجاز أن يستوفي بها القصاص.
وللولي أن يقتص بالسيف في هذه الأحوال؛ لأنه قد وجب له القتل والتعذيب، فإذا عدل إلى السيف فقد ترك بعض حقه وهو جائز له.
وإن كان القتل بما هو محرم لنفسه كاللواط وسقي الخمر فالرأي الراجح أن يكون القصاص بالسيف.
517 -
ما يشترط في آلة القصاص: وإذا أراد الولي أن يستوفي بنفسه فلا يكفي أن يكون خبيراً بالقصاص، بل يجب أن يستعمل فيه أداة صالحة له لا كالَّة مثلاً ولا مسممة لئلا يعذب المقتص منه، فإن فعل ذلك وجب عليه التعزير؛ لأن من شروط القصاص أن لا يعذب الجاني وأن تزهق روحه بأيسر ما يمكن (3)، تحقيقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان
(1) بدائع الصنائع ج7 ص246، الشرح الكبير ج9 ص400 وما بعدها.
(2)
مواهب الجليل ج6 ص256، المهذب ج2 ص199، الشرح الكبير ج9 ص400.
(3)
المهذب ج2 ص198، الشرح الكبير ج9 ص397.
على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته".
518 -
هل يجوز الاستيفاء بما هو أسرع من السيف؟: الأصل في اختيار السيف أداة للقصاص أنه أسرع في القتل وأنه يزهق روح الجاني بأيسر ما يمكن من الألم والعذاب، فإذا وجدت أداة أخرى أسرع من السيف وأقل إيلاماً فلا مانع شرعاً من استعمالها، "فلا مانع شرعاً من استيفاء القصاص بالمقصلة والكرسي الكهربائي وغيرهما مما يفضي إلى الموت بسهولة وإسراع ولا يتخلف الموت عنه عادة ولا يترتب عليه تمثيل بالقاتل ولا مضاعفة تعذيبه، أما المقصلة فلأنها من قبيل السلاح المحدد، وأما الكرسي الكهربائي فلأنه لا يتخلف الموت عنه عادة مع زيادة السرعة وعدم التمثيل بالقاتل دون أن يترتب عليه مضاعفة التعذيب"(1) .
519 -
هل يجوز للسلطان أن يستأثر اليوم باستيفاء القصاص؟: الرأي الراجح عند الفقهاء هو أن لا يترك للمجني عليه أو وليه أن يستوفي حق القصاص فيما دون النفس؛ لأن هذا النوع من القصاص يقتضي خبرة ودقة في المقتص ولا يؤمن فيه الحيف والتعذيب لو ترك للمجني عليه أو وليه (2) ، أما القصاص في النفس فقد ترك للولي استيفاؤه بشرط أن يحسنه وأن يستوفيه بآلة صالحة، فإذا لم يكن يحسنه وكل في الاستيفاء من يحسنه، فحق الولي في الاستيفاء مقيد بإحسان الاستيفاء وباستعمال الآلة الصالحة.
ولقد كان الناس قديماً يحملون السلاح ويحسنون استعماله غالباً، أما اليوم فقل فيهم من يحسن استعمال السيف بصفة خاصة، وقل من يوجد لديه سيف صالح للاستعمال.
(1) من فتوى لجنة الفتوى بالأزهر. راجع القصاص ص208.
(2)
المغني ج9 ص412، المهذب ج2 ص197، مواهب الجليل ج6 ص253.
وإذا أضيف إلى هذا أن وسيلة الشنق والمقصلة والكرسي الكهربائي أسرع بالموت من السيف كما هو ثابت من التجربة، وأن المشنقة والمقصلة وما أشبه لا يمكن أن يحصل عليها الأفراد ولا يصلحون لاستعمالها وأنها في حيازة الدولة، إذا روعي هذا جميعه أمكن القول أن الضرورات اليوم تقضي بمنع ولي المجني عليه من استيفاء حقه على الطريقة القديمة وبترك الاستيفاء لمن تخصصهم الدولة لهذا الغرض من الخبراء، وللأولياء أن يأذنوا لهم بالتنفيذ إذا شاءوا القصاص وأن لا يأذنوا إذا رأوا العفو.
520 -
استيفاء العقوبات عند التعدد: تخالف الشريعة القوانين الوضعية في طريقة استيفاء العقوبات عند التعدد، ويرجع هذا الاختلاف قبل كل شئ إلى طبيعة العقوبات في كلًّ.
وإذا أخذنا القانون المصري مثلاً على القوانين الوضعية الحديثة فإنه يقضي بأن تنفذ العقوبات عند التعدد على حسب درجة جسامتها، فتنفذ الأشغال الشاقة أولاً، ثم ينفذ السجن ثانياً، ثم الحبس مع الشغل، ثم الحبس البسيط (مادة 34 عقوبات) .
ولا يراعي في الترتيب صدور العقوبات. فإذا حُكم على إنسان بالأشغال الشاقة أثناء تنفيذ عقوبة السجن أو الحبس عليه أُوقف تنفيذ عقوبة السجن أو الحبس وبدئ في تنفيذ عقوبة الأشغال الشاقة.
وتنفذ العقوبات في القانون المصري على التوالي، فإذا انتهت إحداها نُفذت الأخرى، ولا يوقف تنفيذها أو يعطله أي اعتبار متعلق بالمحكوم عليه، فتنفذ سواء كان المحكوم عليه مريضاً أو صحيحاً، سقيماً أو قوياً.
وقد أوحت طبيعة العقوبات القانونية بهذا النظام، فهي عقوبات يستغرق
تنفيذها زمناً طويلاً، فكان لا بد من ترتيب تنفيذها على هذا الوجه ما دامت عقوبة الأشغال الشاقة تجُب بمقدار مدتها كل عقوبة أخرى مقيدة للحرية محكوم بها عن جريمة وقعت قبل الحكم بالأشغال الشاقة، وما دام من المحتمل أن يصدر على المحكوم عليه حكم آخر بالأشغال الشاقة أثناء التنفيذ.
أما النظام المتبع في الشريعة الإسلامية في حالة تعدد العقوبات فهو مختلف، ولكل مذهب من المذاهب الفقهية رأيه في هذه المسألة.
فمالك يرى في حالة تعدد العقوبات أن يبدأ في التنفيذ بما هو لله؛ أي بما يمس حقوق الجماعة، ثم يقام بعد ذلك ما هو للناس؛ أي ما يمس حقوق الأفراد، وحجة مالك في هذا أن ما لله لا عفو فيه وما للآدميين قد يعفى عنه، فمن مصلحة المحكوم عليه تأخير ما يمس حقوق الأفراد.
ويستوي عند مالك بعد ذلك البدء بالعقوبة الخفيفة والبدء بالعقوبة الأشد، ويرى أن يترك لولي الأمر البدء بأيهما.
ويرى أبو حنيفة وأحمد تقديم ما يمس حقوق الأفراد على ما يمس حقوق الجماعة، على أن يبدأ فيما يمس حقوق الأفراد بالأخف فالأخف، ثم ينفذ بعد ذلك ما يمس حقوق الجماعة على أن يبدأ فيه ما يَجُب غيره.
ويرى الشافعي أن تنفذ العقوبات كلها بحسب خفتها، فيقدم الأخف على الخفيف، ويقدم ما يمس حقوق الآدميين على ما يمس حقوق الجماعة، وهكذا حتى تنفذ العقوبات كلها، لأنه لا يعترف بالجب.
ورأي فقهاء الشريعة في تقديم الأخف على الأشد رأي يخالف ما جاء به القانون المصري، ولكن يتفق مع طبيعة العقوبات الشرعية، فالعقوبات الأساسية في الشريعة هي القطع والجلد والقصاص، وهي عقوبات بدنية فاستيفاؤها يوجب البدء بأخفها حفظاً لسلامة المحكوم عليه واستبقاء لقوة احتماله ومقاومته،
ولا يقدم الأشد على الأخف إلا إذا كان الأشد يجب الأخف. وفي هذا تتفق الشريعة مع القانون.
521 -
التنفيذ على المريض والضعيف والسكران: وفقهاء الشريعة متفقون على وجوب تأخير تنفيذ عقوبة القصاص وعقوبات الحدود وما يماثلها من عقوبات التعازير إذا كان المحكوم عليه مريضاً، أو كان الوقت لا يناسب تنفيذ العقوبة كأن كان برداً شديداً أو حراً شديداً، ولا يستثنون من ذلك إلا عقوبة القتل؛ لأنها عقوبة مهلكة؛ أي أن المقصود منها إهلاك المحكوم عليه، أما العقوبات الأخرى التي لا يقصد منها إهلاك المحكوم عليه فلا يصح أن تنفذ في ظروف تؤدي إلى الهلكة.
ويرى بعض الفقهاء أن يؤخر تنفيذ الحد على الضعيف حتى يقوى، ولكن البعض الآخر لا يرى تأخير التنفيذ ويفضل أن ينفذ الحد بقدر الإمكان بحيث لا يضار المحكوم عليه بضعفه، فإن كانت العقوبة الجلد مثلاً جلد مرة أو مرتين بسوط متعدد الفروع أو بعثكال له شماريخ بعدد الأسواط أو نصفها.
ويرى الفقهاء أن لا تنفذ العقوبة على السكران حتى يصحو من سكره (1) .
522 -
التنفيذ على الحامل: عرفت الشريعة من يوم وجودها مبدأ عدم التنفيذ على الحامل، وحديث الغامدية قاطع في ذلك، فقد جاءت الرسول تعترف بالزنا وهي حامل فقال لها عليه الصلاة والسلام:"اذهبي حتى تضعي حملك"، ومثله حديث معاذ:"إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها"، والتنفيذ الممنوع على الحامل هو الذي يضر بالحمل وهو تنفيذ القَوَد والرجم والجلد.
والفقهاء مجمعون على هذا المبدأ ولكنهم مختلفون بعض الشئ في مدى تطبيقه.
فيرى الشافعي أن لا ينفذ على المرأة إذا ذكرت حملاً أو ريبة من حمل حتى تضع حملها أو يتبين أنها غير حامل ثم ينفذ عليها بعد الوضع، وإن لم يكن لولدها
(1) شرح فتح القدير ج3 ص185.
مرضع فيفضل الشافعي تركها أياماً حتى تجد لولدها مرضعاً في حالة القتل.
ويرى أبو حنيفة فوق ما سبق أن لا ينفذ على الحامل حتى تشفى من النفاس ولو كانت العقوبة جلداً.
ويرى مالك أن لا ينفذ على الحامل حتى تضع، ويعتبر النفاس مرضاً يوجب تأخير الجلد حتى ينتهي، وإن وجد لطفلها مرضع نفذ عليها القتل، وإن لم يصيبوا لطفلها من يرضعه لم يعجل عليها بالقتل.
ويرى أحمد أنه إذا وجب القود أو الرجم على حامل أو حملت بعد وجوبه لم تقتل حتى تضع وتسقيه اللبن، ثم إن وجد له مرضعة راتبة قُتلت، ويستحب لولي القتل تأخيره للفطام، وإن لم يكن له من يرضعه تُركت حتى ترضعه حولين ثم تفطمه، كما يرى تأخير الجلد حتى تضع الحمل.
523 -
التنفيذ على المجنون: سبق أن تكلمنا على هذا الموضوع بمناسبة الكلام على مسئولية المجنون، فليس ما يدعو لإعادة الكلام عن هذا الموضوع، ويكفي فيه مراجعة ما سبق (1) .
524 -
علنية التنفيذ: الأصل في الشريعة أن يكون التنفيذ علنياً لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ؛ ولأن السنة جرت بهذا، ويستوي في ذلك القتل وغير القتل، وتتفق الشريعة في هذا مع كثير من القوانين الوضعية.
ولقد كان القانون المصري يوجب العلانية في تنفيذ عقوبة الإعدام أخذاً عن القوانين الأوروبية، ثم عدل عن اشتراط العلانية، ولكن فرنسا لا تزال متمسكة بالعلانية.
وتنفذ عقوبة القتل في الشريعة بالرجم إذا كانت عقوبة زان محصن، وتنفذ بقطع الرقبة إن لم تكن عقوبة زنا، على الرأي الراجح بين الفقهاء.
(1) راجع الفقرة 428.
والفقهاء مجمعون على أن يتم التنفيذ دون تعذيب أو تمثيل، فأداة القتل يجب أن تكون قاطعة، والجلاد يجب أن يكون خبيراً بعمله، والتنفيذ يجب أن يتم بطريقة واحدة لجميع الناس مهما اختلفت مراتبهم وجرائمهم.
ولقد جاءت الشريعة بهذه المبادئ من يوم وجودها، ولكن القوانين الوضعية لم تعرفها إلا أخيراً، فقد كانت عقوبة القتل في القوانين الوضعية على درجات كعقوبة الحبس، وكان يصحبها أنواع مختلفة من التعذيب تختلف بحسب نوع الجريمة، فقاتل والده مثلاً كانت تقطع يده قبل القتل، وكان التنفيذ يختلف بحسب درجة الأشخاص، فالشريف يعدم بقطع رقبته بالسيف، والعامي يعدم شنقاً.
ولما جاءت الثورة الفرنسية تغيرت هذه الأوضاع وصدر قانون في فرنسا يسوي بين المحكوم عليهم في التنفيذ ويجعل عقوبة القتل بإزهاق الروح فقط، وانتشر هذا المبدأ من فرنسا إلى غيرها من البلاد. ثم بدأت الأمم بعد ذلك تبحث عن الطريقة المثلى لإزهاق الروح دون تعذيب.
فالمشرع الفرنسي اهتدى إلى طريقة قطع الرأس، والمصري والإنجليزي إلى طريقة الشنق، وفي إيطاليا يطلق الرصاص على المحكوم عليه بالقتل، وفي بعض الولايات المتحدة الأمريكية يصعق المحكوم عليه بالكهرباء.
وتقضي الشريعة أن تسلم جثة القتيل لأهله بعد التنفيذ ليدفنوه كما يشاءون، لقوله عليه الصلاة والسلام:"افعلوا به كما تفعلون بموتاكم"، فيصح إذن أن يدفن القتيل باحتفال كما يدفن غيره، ولكن لولي الأمر إن شاء أن يمنع الاحتفال إن رأى أنه يؤدي إلى المساس بالأمن والنظام.
والقانون المصري يقضي بتسليم الجثة لورثة القتيل على أن يكون الدفن بغير احتفال (المادة 262 من قانون تحقيق الجنايات) . كذلك يوجب القانون المصري إيقاف تنفيذ حكم القتل على الحامل إذا ظهرت أنها حبلى ولا ينفذ عليها إلا بعد الوضع (المادة 263 من قانون تحقيق الجنايات المصري) .
* * *