الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على المفاسد في مكمنها وقبل ظهورها وانتشارها.
ولم تعرف القوانين الوضعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا ابتداء من القرن الماضي، حيث بدأت تعترف للأفراد بحق النقد وحق التوجيه، وتعترف للأفراد بالقبض على المجرم في حالة التلبس وتسليمه إلى الجهات المختصة، وتعطي في بعض الحالات للأفراد الحق في منع الجاني بالقوة من ارتكاب الجريمة إذا كانت ماسة بمصالح الجماعة كقلب نظام الحكم وتخريب المنشآت العامة، ولكن القوانين الوضعية مع هذا لم تأخذ بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إطلاقه، وإنما قصرت تطبيقه على حالات معينة، بخلاف الشريعة التي تطبقه في كل الحالات وفي جميع الجرائم.
الفرع الثاني
التأديب
351 -
(أولاً) : تأديب الزوجة: من حق الزوج في الشريعة الإسلامية أن يؤدب زوجته إذا لم تطعه فيما أوجبه الله عليها من طاعته كأن تثاقل عليه إذا دعاها أو تخرج من منزله بغير إذنه، وأساس هذا الحق قوله تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} [النساء: 34]، وقوله:{وَاللَاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34] ، والنشوز هو معصية الزوج مأخوذ من النشز؛ أي الارتفاع، فكأنها ارتفعت وتعالت عما أوجب الله عليها من الطاعة.
352 -
ما يؤدب فيه: من المتفق عليه أن للزوج أن يؤدب زوجته بصفة عامة على المعاصي التي لا حد فيها، كمقابلة غير المحارم، وترك الزينة، والخروج دون إذن، وعصيان أوامر الزوج وتبذير ماله. والرأي الراجح أن له تعزيرها
على ترك فرائض الله إذا كانت مسلمة كترك الصلاة والصوم (1) .
ومن المتفق عليه أن الزوجة لا تضرب لخوف النشوز قبل إظهاره، وإنما تضرب لإظهار النشوز فعلاً (2) .
353 -
هل يجوز التأديب لأول معصية؟: يرى مالك وأبو حنيفة أن الضرب لا يكون لأول معصية، وإنما يكون لتكرر المعصية والإصرار عليها، فإذا عصت أول مرة وعظها بالرفق واللين، وإن عادت كان له أن يهجرها، فإن عادت كان له أن يضربها، وحجة أصحاب هذا الرأي أن الواو وردت للترتيب في قوله تعالى:{فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] ، وأن المقصود من التأديب هو الزجر عن المعصية في المستقبل وما هذا سبيله يبدأ فيه بالأسهل فالأسهل (3) ، وهذا يتفق مع الرأي المرجوح في مذهبي الشافعي وأحمد.
ويترتب على الأخذ بهذا الرأي أن يعاقب من يضرب زوجته لأول معصية أو لثاني معصية، أما من يضربها للثالثة فلا عقوبة عليه؛ لأنه استعمل حقه في حدوده المقررة، ويعاقب أيضاً من يضرب زوجته للمعصية الثالثة إذا لم يكن وعظها أو هجرها قبل ذلك، فعلى الضارب ليعفي من العقوبة أن يثبت أنها عصت قبل الضرب مرتين وأنه وعظها في أولاهما وهجرها في الثانية.
والرأي الراجح في مذهبي الشافعي وأحمد أن من حق الزوج ضرب الزوجة سواء تكررت المعصية أو لم تتكرر، وسواء سبق الضرب وعظ وهجر أو لم يسبق الضرب شئ من ذلك، وحجة أصحاب هذا الرأي أن عقوبات المعاصي
(1) البحر الرائق ج5 ص53، أسني المطالب ج4 ص162، إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج4 ص146، الشرح الكبير ج8 ص169.
(2)
الشرح الكبير ج9 ص168.
(3)
مواهب الجليل ج4 ص15، 16، مقدمات ابن رشد ج2 ص104، بدائع الصنائع ج2 ص334.
لا تختلف بالتكرار، وأن الواو في قوله تعالى:{فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} جاءت لمطلق الجمع وليست للترتيب (1) .
ويترتب على هذا الرأي أن من ضرب زوجته لأول معصية لا يعاقب على ضربها؛ لأنه استعمل حقه في حدوده المقررة.
354 -
هل يسأل الزوج عن سبب الضرب؟: يرى أحمد أن لا يسأل الزوج عن سبب الضرب؛ لأن الرجل قد يضرب الزوجة لأجل الفراش فإن أخبر بذلك استحيا وإن أخبر بغيره كذب، ويستند في هذا المبدأ إلى ما روى الأشعث عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يا أشعث احفظ عني شيئاً سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسألن رجلاً فيما ضرب امرأته".
وهذا الحديث يوجب الأخذ بقول الزوج أنه ضربها للتأديب، ويمنع البحث عن سبب الضرب ما لم تدعي هي أنه ضربها لغير التأديب فحينئذ يجب على الزوج أن يثبت سبب الضرب. ولا يتوقف تأديب الزوجة على سن معينة فللزوج أن يؤدبها مهما بلغت من العمر على خلاف الصغار، فإن حق تأديبهم ينتهي بالبلوغ.
355 -
حد الضرب: وليس للزوج أن يضرب زوجته أي ضرب شاء، فحقه مقيد بضربها ضرباً غير مبرح لقوله عليه الصلاة والسلام:"إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح".
والضرب غير المبرح هو الضرب غير الشديد، وقد فسره البعض بأنه الضرب الذي يؤلمها ولا يكسر لها عظماً ولا يدمي لها جسماً، وقال البعض أنه الضرب الذي لا يسود الجلد ولا ينهر الدم وأن يكون مما يعتبر مثله تأديباً. وعرفه البعض بأنه ما كان غير مدم ولا مدمن. وقال البعض انه الضرب الذي لا يترك أثراً. وكل هذه التفسيرات على اختلاف عباراتها تؤدي معنى واحداً.
(1) المهذب ج2 ص74، أسني المطالب ج3 ص239، المغني ج8 ص162.
ويشترط في ضرب التأديب أن لا يكون على الوجه ولا على المواضع المخوفة كالبطن (1) .
ويشترط في الضرب أن يكون بقصد التأديب وأن لا يسرف فيه وأن يكون مما يعتبر مثله تأديباً، فإن كان كذلك فلا مسئولية على الزوج؛ لأن الفعل حقه فهو مباح له، ويراعى الوسط في الضرب فما يعتبر تأديباً في وسط قد لا يعتبر تأديباً في وسط آخر، وما يخرج عن حدود التأديب في وسط قد لا يصل حد التأديب في وسط آخر.
ويصح أن يكون التأديب باليد وبالسوط وبالعصا.
ويشترط إذا كان التأديب عن أمر تعاقب عليه السلطات العامة أن لا يبلغ لهذه السلطات، وأن لا تكون الدعوى العمومية قد رفعت ضد الزوجة بشأن هذا الأمر، فإن حدث شئ من هذا فليس للزوج أن يؤدب الزوجة (2) ، وتعليل هذا أن السلطات العامة هي المختصة أصلاً بالعقاب، فإذا عرض الأمر عليها سقط حق الزوج في التأديب؛ لأنه حق اعطى له استثناء حتى لا يؤدي تدخل السلطات العامة في كل أمر إلى إساءة العلاقة بين الزوجين، فإذا سرقت الزوجة مثلاً من جارتها أو سبتها ولم تر الجارة أن تلجأ للسلطات العامة كان للزوج أن يؤدب زوجته على ما حدث منها، أما إذا لجأت الجارة إلى السلطات العامة لم يكن للزوج أن يؤدب الزوجة إلا إذا كان هناك ما يمس حقوقه عليها، كأن يكون قد نهاها عن سب جارتها أو نهاها عن الخروج من المنزل، فإن مخالفتها عصيان له واعتداء على حقه فيجوز له أن يؤدبها على هذا فقط، لا على السرقة أو السب.
وليس للزوج أن يؤدب الزوجة إذا اعتقد أو غلب على ظنه أن التأديب لا فائدة منه، وليس له أن يخرج عن حدود التأديب إذا اعتقد أو غلب على
(1) المغني ج8 ص163..
(2)
مواهب الجليل ج4 ص15.
ظنه أن إصلاحها لا يكون إلا بالضرب الشديد، ويعتبر عمل الزوج في الحالين اعتداء لا تأديباً (1) .
356 -
حكم السراية: وإذا ضرب الزوج زوجته بقصد التأديب فتلفت من الضرب أو أصيبت بعاهة فمن رأي مالك وأحمد أن الزوج لا يضمن الزوجة إذا تلفت من التأديب المشروع على أن يكون الضرب مما يعتبر مثله أدباً، فإن كان الضرب شديداً بحيث لا يكون مثله أدباً للزوجة ففيه الضمان (2) .
أما أبو حنيفة والشافعي فيريان أن الزوج يضمن تلف زوجته سواء كان الضرب مما يعتبر تأديباً أو كان أشد من ذلك، وحجة أبي حنيفة أن التأديب فعل يبقى المؤدب بعده حياً، فإذا أدى الضرب إلى تلف المضروب أو إلى تلف أحد أعضائه، فقد وقع قتلاً أو قطعاً أو تأديباً، وحجة الشافعي أن التأديب ليس واجباً على الزوج وإنما هو حقه ومتروك لاجتهاده، فيتحمل نتيجة اجتهاده. والمتأخرون من فقهاء مذهبي أبي حنيفة والشافعي يحتجون في تحميل الزوج نتيجة الفعل بأن التأديب ليس واجباً عليه، وإنما هو حق له واستعمال الحق مقيد بشرط السلامة، وبأن حق الزوج في التأديب متمحض لنفعه الشخصي وله أن يستعمله أو يتركه (3) .
وحجة مالك وأحمد أن استعمال الحق في حدوده عمل مباح ولا مسئولية على عمل مباح.
357 -
المسئولية على التأديب: ويتبين من الرأيين السابقين أن الزوج لا يسأل جنائياً ولا مدنياً عن التأديب ما دام في حدوده المشروعة؛ لأنه
(1) مواهب الجليل ج4 ص16، أسنى المطالب ج3 ص239.
(2)
المغني ج10 ص349.
(3)
المغني ج10 ص349، حاشية الطهطاوي ج4 ص275، الأم ج6 ص131ووما بعدها.166
يستعمل حقاً أباحه له الشارع. أما إذا تعدى الزوج حدود التأديب المشروع فهو مسئول جنائياً ومدنياً عن فعله.
والخلاف الذي عرضناه بين الفقهاء هو على الحالة التي لا يخرج فيها التأديب عن حدوده المقررة ولكنه يؤدي إلى الموت أو إلى تلف عضو.
358 -
(ثانياً) : تأديب الصغار: للأب الحق في تأديب أولاده الصغار الذين دون البلوغ، وللمعلم أياً كان مدرساً أو معلم حرفة تأديب الصغير، وللجد وللوصي تأديب من تحت ولايتهما، وللأم حق التأديب على رأي إذا كانت وصية على الصغير أو كانت تكفله ولها هذا الحق في غيبة الأب، وفيما عدا هذه الأحوال فليس لها حق التأديب على الرأي الراجح (1) .
359 -
شروط تأديب الصغار: ويشترط في تأديب الصغار ما يشترط في تأديب الزوجة؛ فيجب أن يكون التأديب لذنب فعله الصغير لا لذنب يخشى أن يفعله، وأن يكون الضرب غير مبرح متفقاً مع حالة الصغير وسنه، وأن لا يكون على الوجه والمواضع المخوفة كالبطن والمذاكير، وأن يكون بقصد التأديب، وأن لا يسرف فيه، وأن يكون مما يعتبر مثله تأديباً للصغير، فإذا كان الضرب في هذه الحدود فلا مسئولية علي الضارب؛ لأن الفعل مباح له.
360 -
حكم السراية: وإذا أدى الضرب إلى تلف الصغير أو تلف أحد أعضائه فمالك وأحمد يريان أن المؤدب لا يضمن ما دام الضرب مما يعتبر مثله أدباً، وما دام التأديب في حدوده المشروعة، فإن كان الضرب شديداً بحيث لا يعتبر مثله أدباً فالمؤدب مسئول عنه جنائياً (2) .
ويرى الشافعي أن المؤدب ضامن تلف الصغير وتلف أطرافه في أى حال؛
(1) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص11، حاشية الطهطاوي ج5 ص275.
(2)
المغني ج10 ص349، 350.
لأن التأديب حقه وليس واجباً عليه، فله أن يتركه وله أن يفعله فإن فعله فهو مسئول عنه (1) .
ورأي أبي حنيفة الشخصي أن الأب والجد والموصي يضمنون تلف الصغير أو تلف أطرافه كما يضمن الزوج زوجته، ولكن هذا الرأي غير معمول به في المذهب بل إن بعض الفقهاء يرى أن أبا حنيفه عدل عنه، والرأي المعمول به في المذهب هو رأي أبي يوسف ومحمد وهما يريان أن الأب والجد والوصي مأذونون في الفعل ولا مسئولية عما تولد عن فعل مأذون فيه.
أما المعلم والمدرس فيفرق أبو حنيفة وأصحابه بين ما إذا كان الضرب بغير إذن الأب أو الوصي، وفي هذه الحالة يكون الضارب مسئولاً جنائياً؛ لأنه متعد في الضرب حيث ضرب من لم يؤذن له في ضربه، فأما إذا كان الضرب بإذن الأب أو الوصي فلا مسئولية للضرورة؛ لأن المعلم إذا علم أنه يلزمه الضمان بالسراية يمتنع عن التعليم والناس في حاجة إليه فأسقطوا اعتبار السراية في حقه لهذه الضرورة، فمذهب أبي حنيفة وأصحابه في تأديب الصغار يتفق مع مذهبي مالك وأحمد (2) في النتيجة.
ويفرق بعض الحنفية بين ضرب التأديب وضرب التعليم، ويرون أن ضرب التأديب حق وأن ضرب التعليم واجب، والأول مقيد بشرط السلامة والثاني غير مقيد، والتفرقة مقصورة على الضرب المعتاد في الكم والكيف والمحل، أما غير المعتاد فموجب للضمان في الكل؛ أي في ضرب التأديب وضرب التعليم (3) .
ونستطيع أن نميز على ضوء هذه التفرقة بين ضرب الزوج وغيره، فضرب الزوج للتأديب دائماً، أما ضرب الأب والجد والولي والوصي والمعلم فقد يقصد به التعليم وقد يقصد به التأديب، ولكن معنى التأديب يختلط بمعنى التعليم في حالة
(1) الأم ج6 ص166 وما بعدها.
(2)
بدائع الصنائع ج8 ص305، حاشية الطهطاوي ج4 ص275.
(3)
حاشبة الطهطاوي ج4 ص275.