الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
الشروع في الجريمة
248 -
الفقهاء والشروع في الجريمة: لم يهتم فقهاء الشريعة بوضع نظرية خاصة للشروع في الجرائم ولم يعرفوا لفظ الشروع بمعناه الفني كما نعرفه اليوم، ولكنهم اهتموا بالتفريق بين الجرائم التامة والجرائم غير التامة، ويمكننا أن نرد عدم اهتمامهم بوضع نظرية خاصة بالشروع لسببين.
أولهما: أن الشروع في الجرائم لا يعاقب عليه بقصاص (1) ولا حد وإنما يعاقب عليه بالتعزير أياً كان نوع الجريمة. وقد جرى الفقهاء على أن يهتموا فقط بجرائم الحدود والقصاص؛ لأنها جرائم ثابتة لا يدخل على أركانها وشروطها التغيير أو التعديل، كما أن عقوبتها مقدرة ليس للقاضي أن يغلظها أو يخففها، أما جرائم التعزير فإذا استثنينا العدد القليل الذي نصت عليه الشريعة كتحريم الميتة وخيانة الأمانة، فإن معظم الجرائم التعزيرية متروك أمرها للسلطة التشريعية أي لأولي الأمر، يحرمون من الأفعال ما يرونه ماساً بالمصلحة العامة أو النظام العام، ويعاقبون عليه، ويتركون ما لا يرون ضرورة للعقاب عليه، كما أن تقدير العقاب في جرائم التعزير عامة متروك لأولي الأمر سواء كان التحريم بنص الشريعة أو كان التحريم راجعاً لأولي الأمر. فيستطيع ولي الأمر أن يخفف عقوبات جرائم التعازير وأن يشددها طبقاً لما تقتضيه المصلحة العامة، وللقاضي بعد ذلك سلطة واسعة في توقيع العقوبة، فله أن ينزل بها إلى الحد الأدنى، وأن يرتفع بها إلى الحد الأعلى، ويترتب على ذلك أن جرائم التعازير ليست ذات أهمية بالنسبة لجرائم الحدود والقصاص، وأن جرائم
(1) يعاقب على الشروع في القتل إذا أدى لجرح أو قطع بالقصاص كلما كان ذلك ممكناً، ولكن العقاب في هذه الحالة ليس على الشروع في القتل الذي لم يتم، وإنما على الجرح أو القطع باعتبار أن ما حدث هو جريمة تامة، وسيأتي تفصيل ذلك.
التعازير جرائم عقوباتها غير ثابتة قد يعاقب عليها بعقوبات تافهة وقد يعاقب عليها بعقوبات جسيمة، وأن أغلب جرائم التعازير قد يعاقب عليها في زمان دون زمان ومكان دون مكان، وقد تتغير أركانها بتغير وجهة نظر أولي الأمر. ولهذا كله لم يتكلم الفقهاء عن جرائم التعازير إلا كلاماً عاماً، ولم يدخلوا في تفاصيل أركان الجريمة وشروطها، وعلى هذا الأساس لم يتكلموا عن الشروع بصفة خاصة؛ لأنه من جرائم التعازير.
ثانيهما: أن قواعد الشريعة الموضوعة للعقاب على تعازير منعت من وضع قواعد خاصة للشروع في الجرائم، لأن قواعد التعازير كافية لحكم جرائم الشروع. فالقاعدة في الشريعة أن التعزير يكون في كل معصية ليس فيها حد مقدر ولا كفارة، أي أن كل فعل تعتبره الشريعة معصية هو جريمة يعاقب عليها بالتعزير ما لم يكن معاقباً عليها بحد أو كفارة، ولما كان الحد والكفارة لا يعاقب بها إلا على جرائم معينة أتمها الجاني فعلاً، فإن كل شروع في فعل محرم لا يعاقب عليه إلا بالتعزير، ويعتبر كل شروع معاقب عليه معصية في حد ذاته أي جريمة تامة، ولو أنه جزء من الأعمال المكونة لجريمة لم تتم، ما دام الجزء الذي تم محرماً لذاته، ولا استحالة في أن يكون فعل ما جريمة معينة إذا كان وحده، وأن يكون مع غيره جريمة من نوع آخر.
فالسارق إذا ما نقب البيت ثم ضبط قبل أن يدخله يكون مرتكباً لمعصية تستوجب العقاب، وهذه المعصية تعتبر في ذاتها جريمة تامة، ولو أنها بدء في تنفيذ جريمة السرقة، وعندها يتسلق السارق المنزل الذي يريد أن يسرق منه يرتكب معصية، وعندما يدخل البيت دون نقب أو تسلق بقصد السرقة يرتكب معصية، وإذا أذن له بدخول البيت فجمع متاعه ليسرقه فضبط قبل الخروج منه فهو مرتكب لمعصية، وهكذا كلما أتى السارق فعلاً تحرمه عليه الشريعة فهو مرتكب لمعصية؛ أي جريمة تامة تستوجب العقاب، إذا نظرنا إليها على حدة، ولو أن هذه المعصية تعتبر جزءاً من جريمة أخرى إذا نظرنا إلى جريمة
السرقة التي لم تتم، فإذا أتم الجاني سلسلة الأفعال المكونة لجريمة السرقة، وخرج بالمسروقات من الحرز، فإن كل الأفعال التي أتاها تكون مجتمعة جريمة معين هي السرقة، وبتمام جريمة السرقة تجب عقوبة الحد وهي العقوبة المقررة للسرقة التامة، ويمتنع التعزير على ما دون التمام؛ لأن كل الأفعال اندمجت وتكونت منها جريمة السرقة.
والزاني إذا دخل بيت المرأة المزني بها يرتكب معصية، وإذا جلس معها في خلوة يرتكب معصية، وإذا قبلها يرتكب معصية، وكل هذه الأفعال تعتبر شروعاً في جريمة الزنا التي لم تتم، ولكن كل فعل منها يعتبر بذاته معصية تامة تستوجب التعزير، فإذا ما تمت جريمة الزنا وجب الحد وامتنع التعزير، لأن كل هذه المقدمات تكون مع الإيلاج جريمة واحدة تامة هي جريمة الزنا.
وهكذا يتبين لنا مما سبق أنه لم يكن ثمة ما يدعو الفقهاء لوضع نظرية خاصة بالشروع في الجرائم، وإنما دعتهم الضرورة فقط إلى التفرقة بين الجريمة التامة والجريمة غير التامة في جرائم الحدود والقصاص، لأن الجريمة التامة دون غيرها هي التي تستوجب عقوبة الحد أو القصاص، أما الجرائم غير التامة فلا تستوجب هاتين العقوبتين وفيها التعزير فقط.
ومن الخطأ البين أن يظن البعض أن الشريعة لا تعرف الشروع في الجرائم، إذ الظاهر مما تقدم أنها عرفت الشروع حق المعرفة، وكل ما في الأمر أنها عالجته بطريقتها الخاصة لا على طريقة القوانين الوضعية. ولم يعبر الفقهاء عن الجرائم غير التامة بتعبير الشروع في الجرائم، لأن الأفعال التي لم تتم تدخل في جرائم التعازير كلما تكون منها معصية، وتعتبر جرائم تامة بذاتها ولو أنها لم تكف لتكوين الجرائم المقصودة أصلاً، فليس هناك ما يدعو لتسميتها بالجرائم المشروع فيها ما دام أن ما تم منها يعتبر في ذاته جريمة تامة، وإذا عبرنا اليوم عن الجرائم غير التامة وقلنا إنها جرائم الشروع فلن نأتي بشيء جديد، وإنما هو إطلاق تسمية جديدة
على بعض جرائم التعازير، وتمييز لبعض جرائم التعازير عن بعضها الآخر، دون أن تكون هناك حاجة ملحة لهذه التسمية أو هذا التمييز، ودون أن يدفعنا إلى هذا التعبير إلا البيان والإقناع، ومقارنة نظرية الشريعة بما يقابلها في القوانين الوضعية.
ونظرية الشريعة في الشروع أوسع مدى منها في القوانين الوضعية، فهي تعاقب على الشروع في كل جريمة إذا كون الفعل غير التام معصية، وهي تسير على هذه القاعدة دون استثناء، فمن رفع على إنسان عصاً ليضربه بها فحيل بينه وبين ذلك فهو مرتكب لمعصية يعزر عليها، ومن حاول إطلاق النار على آخر فلم يصبه فهو مرتكب لمعصية عقوبتها التعزير. أما القوانين الوضعية فتعاقب غالباً على الشروع في أكثر الجنايات، وعلى الشروع في بعض الجنح، دون البعض الآخر، وليس لها قاعدة عامة في هذا.
ومن تطبيقات نظرية الشريعة حالة إحداث جرح بقصد القتل، فإن الجرح إذا أدى للموت أعتبر الفعل قتلاً عمداً، وإذا شفى المجني عليه اعتبر جرحاً فقط وعوقب عليه الجاني بعقوبة خاصة، أما إذا أراد الجاني أن يقتل المجني عليه فلم يصبه فالفعل معصية وفيه تعزير.
249 -
المراحل التي تمر بها الجريمة وأيها يعتبر معصية: تمر الجريمة بمراحل معينة قبل أن يرتكبها المجرم، فهو أولاً يفكر فيها، ثم يعقد العزم على ارتكابها، ثم يحضر بعد ذلك المعدات ويهيئ الوسائل اللازمة لتنفيذها؛ كشراء سلاح يقتل به، أو منقب ينقب به حائط المنزل الذي يريد السرقة منه، أو إعداد مفتاح مصطنع ليفتح به باب محل الجريمة. فإذا أعد المجرم معدات الجريمة انتقل إلى مرحلة ثالثة هي مرحلة التنفيذ؛ فيبدأ في تنفيذ جريمته على الوجه الذي فكر فيه وأعد له الوسائل.
هذه هي المراحل الثلاث التي يمر بها المجرم حتى يرتكب جريمته. فأي هذه
المراحل يعتبر معصية وبالتالي جريمة تستحق العقاب؟ والجواب هو ما سنبينه فيما يلي:
أولاً: مرحلة التفكير والتصميم: لا يعتبر التفكير في الجريمة والتصميم على ارتكابها معصية تستحق التعزير وبالتالي جريمة يعاقب عليها؛ لأن القاعدة في الشريعة الإسلامية أن الإنسان لا يؤاخذ على ما توسوس له نفسه أو تحدثه به من قول أو عمل، ولا على ما ينتوي أن يقوله أو يعمله؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:"إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم"، وإنما يؤاخذ الإنسان على ما يقوله من قول وما يفعله من فعل.
وهذا المبدأ الأساسي الذي قامت عليه الشريعة من يوم وجودها هو مبدأ حديث في القوانين الوضعية، أخذت به جميعاً في عصرنا الحاضر، ولكنها لم تعرفه ولم تأخذ به إلا ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر بعد الثورة الفرنسية، وقبل ذلك كان من الممكن أن يعاقب على النية أو التفكير إذا أمكن إثباتهما، فالشريعة في تقريرها هذا المبدأ قد سبقت كل شريعة وضعية، والشرائح الوضعية حين أخذت متأخرة بهذا المبدأ إنما أخذت بأقدم المبادئ الأساسية في الشريعة الإسلامية، ويبقى بعد ذلك أن الشريعة الإسلامية ليس فيها استثناءات لهذا المبدأ، أما القوانين الوضعية فلا يزال بها استثناءات للمبدأ، ومن الأمثلة على ذلك: أن القانون المصري والفرنسي يفرقان بين عقوبة القتل العمد المصحوب بسبق الإصرار أو الترصد، وبين عقوبة القتل العمد الخالي عن سبق الإصرار أو الترصد، ويشددان العقوبة في الحالة الأولى ويخففانها في الثانية.
ثانياً: مرحلة التحضير: لا تعتبر مرحلة التحضير أيضاً معصية، ولا تعاقب الشريعة على إعداد الوسائل لارتكاب جريمة إلا إذا كانت حيازة الوسيلة أو إعدادها مما يعتبر معصية في حد ذاته، كمسلم أراد سرقة إنسان بواسطة إسكاره فإن شراء المسكر أو حيازته يعتبر بذاته معصية يعاقب عليها دون حاجة لتنفيذ الغرض الأصلي وهو السرقة.
والعلة في عدم اعتبار دور التحضير جريمة، أن الأفعال التي تصدر من الجاني يجب للعقاب عليها أن تكون معصية، ولا يكون الفعل معصية إلا إذا كان اعتداء على حق لله، أي حق للجماعة أو على حق للأفراد، وليس في إعداد وسائل الجريمة في الغالب ما يعتبر اعتداء ظاهراً على حق الجماعة أو حقوق الأفراد، وإذا أمكن اعتبار بعض هذه الأفعال اعتداء فإنه اعتداء قابل للتأويل؛ أي مشكوك فيه، والشريعة لا تأخذ الناس في الجرائم إلا باليقين الذي لا شك فيه.
ثالثاً: مرحلة التنفيذ: هذه هي المرحلة الوحيدة التي تعتبر فيها أفعال الجاني جريمة، ويعتبر الفعل جريمة كلما كان معصية، أي اعتداء على حق الجماعة أو حق الفرد، وليس من الضروري أن يكون الفعل بدءاً في تنفيذ ركن الجريمة المادي، بل يكفي أن يكون الفعل معصية، وأن يكون مقصوداً به تنفيذ الركن المادي، ولو كان لايزال بين الفعل وبين الركن المادي أكثر من خطوة، فمثلاً في النقب والتسلق وكسر الباب وفتحه بمفتاح مصطنع كل ذلك يعتبر معصية تستحق التعزير، وبالتالي شروعاً في سرقة، ولو أن بين كل منها وبين الفعل المادي المكون لجريمة السرقة خطوات؛ هي دخول محل السرقة، والاستيلاء على المسروقات، وإخراجها من الحرز. كذلك يعزر الجاني باعتباره مرتكباً لمعصية أو شارعاً في سرقة إذا تعرض للنقب أو فتح الباب أو حاول التسلق ولو لم يتم ما تعرض له أو حاول فعله.
ويعتبر الجاني مرتكباً لمعصية يعزر عليها وبالتالي يعتبر شارعاً في الزنا إذا دخل منزل المرأة التي يقصد الزنا بها، أو اجتمع بها في غرفة واحدة، أو قبلها أو ضمها، أو فعل غير ذلك من مقدمات الزنا، وهو يعاقب على هذه الأفعال ولو أن بينه وبين الفعل المادي المكون لجريمة الزنا أكثر من خطوة.
ويرى أبو عبد الله الزبيري تعزير الجاني باعتباره مرتكباً لمعصية أو شارعاً في السرقة إذا وجد بجوار المنزل المراد سرقته ومعه مِبْرَد ليستعمله في فتح الباب
أو مِنْقب لينقب به الحائط، ولو أنه لم يبدأ في فتح الباب أو نقب الحائط، إذا ثبت أنه جاء بقصد السرقة، ويرى تعزير الجاني كذلك إذا وجد مترصداً بجوار محل السرقة يترصد غفوة الحارس ليسرق المتاع الذي يحرسه (1) .
فمقياس الفعل المعاقب عليه في الشروع هو أن يكون ما أتاه المتهم مكونا لمعصية كالنقب، ويستعان على معرفة ما إذا كان الفعل معصية أو غير معصية بنية الجاني وقصده من الفعل؛ لأن ثبوت هذه النية يزيل كل شك ويساعد على تحديد نوع المعصية.
وقد جعل أبو عبد الله الزبيري في الأمثلة التي ذكرناها سابقاً شأناً كبيراً لنية الجاني، فالترصد بجوار محل السرقة قد يكون للسرقة أو لعمل آخر مباح، ولكن نية الجاني وحدها هي التي أزالت الشك عن الفعل وعينت المعصية، ووجود الجاني بجوار محل السرقة ومعه مبرد أو منقب يحتمل أن يكون الجاني قاصداً سرقة هذا المحل أو غيره، ويحتمل أن يكون أراد السرقة أو أراد عملاً آخر غير محرم، ولكن نية الجاني هي التي أخرجت الفعل من حيز الاحتمال إلى حيز اليقين وعينت المعصية.
250 -
الشريعة والقانون: وتتفق الشريعة مع القوانين الوضعية في عدم العقاب على مرحلتي التفكير والتحضير، وفي قصر العقاب على مرحلة التنفيذ، ولكن شراح القوانين يختلفون على الوقت الذي يعتبر فيه الجاني قد بدأ بالتنفيذ، فأصحاب المذهب المادي يرون أن بدء التنفيذ المكون للشروع هو البدء في تنفيذ الفعل المادي المكون للجريمة، فإذا كانت الجريمة تتكون من فعل واحد كان الشروع هو البدء في تنفيذ هذا الفعل، وإذا كانت تتكون من جملة أفعال كان البدء في أحدها شروعاً في الجريمة، ولا يعد بدءاً في التنفيذ أي عمل آخر لا يدخل في الأفعال المكونة للجريمة. ويرى أصحاب المذهب الشخصي أنه يكفي لتحقيق الشروع أن يبدأ الفاعل تنفيذ فعل ما، سابق مباشرة
(1) الأحكام السلطانية ص206، 207.
على تنفيذ الركن المادي للجريمة ومؤدًّ إليه حتماً، ويستعين أصحاب هذا المذهب بنية الجاني وشخصيته لمعرفة الغرض الذي قصده من فعله.
والمذهب الشخصي لا يختلف في شئ عن نظرية الشريعة الإسلامية، فكل ما يمكن العقاب عليه بحسب هذا المذهب تعاقب عليه الشريعة، ولكن نظرية الشريعة مع هذا تتسع لأكثر ما يتسع له المذهب الشخصي؛ لأن الشريعة تعاقب على كل ما يأتيه الجاني إذا تكون مما فعله معصية، سواء كان ما فعله الجاني مؤدياً حتماً إلى الركن المادي للجريمة المقصودة أو لا يؤدي إليه؛ كدخول منزل بقصد الزنا بامرأة فيه. أما المذهب الشخصي فيستوجب أن يكون الفعل مؤدياً حتماً للركن المادي كنقب وفتح محل السرقة بمفتاح مصطنع. ويأخذ القانون المصري بالمذهب الشخصي، وقد انتهت أحكام محكمة النقض المصرية إلى الأخذ بهذا المذهب.
251 -
العقاب على الشروع: قاعدة الشريعة الإسلامية في جرائم الحدود والقصاص أن لا يتساوى عقاب الجريمة التامة بالجريمة التي لم تتم، وأصل هذه القاعدة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:"من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين"(1) .
وهذه القاعدة لا يمكن الخروج عليها في جرائم الحدود وجرائم القصاص، فلا يمكن العقاب على الشروع في الزنا التام وهي الجلد والرجم، ولا يمكن العقاب على الشروع في السرقة بعقوبة القطع؛ لأن القطع جعل جزاء الجريمة التامة.
ولا شك أن البون شاسع بين الشروع والفعل التام، فيجب أن يؤخذ المتهم بقدر ما فعل، ويجزي بقدر ما اكتسب، فضلاً عن أن التسوية في العقاب بين الشروع والجريمة التامة تحمل مَن شرع في جريمة
(1) تعتبر جرائم القصاص وجرائم الحدود حدوداً. والحد في الأصل هو ما كانت عقوبته مقدرة.
على إتمامها؛ لأنه يرى نفسه قد استحق عقوبة الجريمة التامة بالبدء في تنفيذ الجريمة، فليس ثمة ما يغريه بالعدول عنها (1) .
ونستطيع أن نقيس الشروع في جرائم التعازير بالشروع في جرائم الحدود والقصاص، فنقول: إن القواعد العامة التي تسري على جرائم الحدود والقصاص تسري على جرائم التعازير، ولو وردت هذه القواعد خاصة بجرائم الحدود والقصاص فقط؛ لأن هذين النوعين من الجرائم هما أهم الجرائم وما يسري على الجرائم الهامة يسري على غيرهما.
ونستطيع أن نخصص الحديث بالعقوبات المقدرة فقط، وهي عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص، ونص الحديث يحتمل هذا التخصيص فهو "من بلغ حداً في غير حد"، والحد الأول هو العقوبة، والحد الثاني هو الجريمة، فالنص قاطع بلفظه بأنه ورد في جرائم الحدود والقصاص دون غيرهما، ومن ثم يجوز تسوية عقوبة الشروع بعقوبة الجريمة التامة في غير الحدود خصوصاً وأن التعازير غير مقدرة، وللقاضي حرية واسعة في تقدير العقوبة من بين حديها الأدنى والأعلى. والقوانين الوضعية لا تخرج عن هذين الاتجاهين، فبعضهما يسوي بين عقوبة الشروع وعقوبة الجريمة التامة، وبعضها يعاقب على الشروع بعقوبة أخف من عقوبة الجريمة التامة.
252 -
أثر عدول الجاني عن الفعل: إذا شرع الجاني في ارتكاب الجريمة فإما أن يتمها وإما أن لا يتمها، فإذا أتمها فقد استحق عقوبتها، وإذا لم يتمها فإما أن يكون أُكره على عدم إتمامها كمن يضبط وهو يجمع المسروقات من محل السرقة، وإما أن يكون هو الذي عدل مختاراً عن إتمامها، وفي حالة العدول
(1) راجع الفقرة 481.
إما أن يكون لسبب ما غير التوبة، كأن يكتفي الجاني بما فعل، أو يرى أنه ينقصه بعض الأدوات، أو يرى أن يعاود الكرَّة في وقت آخر مناسب، أو يخشى أن يراه أحد، وإما أن يكون سبب العدول هو توبة الجاني وشعوره بالندم ورجوعه إلى الله.
فإذا كان سبب عدم إتمام الجريمة هو إكراه الجاني على ذلك كأن يضبطه المجني عليه أو يصاب بحادث يمنعه من إتمام الجريمة، فإن ذلك لا يؤثر على مسئولية الجاني في شئ، ما دام أن الفعل الذي أتاه يعتبر معصية.
وإذا عدل الجاني عن إتمام الجريمة لأي سبب غير التوبة، فهو مسئول عن الفعل كلما اعتبر الفعل معصية، أي اعتداء على حق الجماعة أو حق الفرد، فمثلاً إذا قصد سرقة منزل فنقبه أو كسر بابه، ثم عدل عن دخوله لأنه رأى الحارس يمر في هذه المنطقة فخشى أن يكتشف الحادث، أو دخل المنزل ثم خرج دون أن يسرق شيئاً لأنه عجز عن فتح خزانة النقود، أو ليأتي بزميل له يعاونه في فتح الخزانة أو يعاونه في حمل المسروقات، فهو في كل هذه الحالات يعاقب بالرغم من عدوله؛ لأنه عدل لسبب غير التوبة، ولأن ما وقع منه فعلاً يعتبر معصية، فالنقب معصية، ودخول منزل الغير دون إذنه معصية، وكسر باب منزل الغير معصية. أما إذا وصل إلى باب المنزل بقصد السرقة ثم عدل لأي سبب وعاد، فإنه لا يعاقب؛ لأن ما فعله لا يعتبر اعتداء على حق الجماعة
أو حق الفرد ومن ثَمَّ لا يعتبر معصية، وإذا لم يعتبر الفعل معصية فلا عقاب.
253 -
التعديل للتوبة: أما إذا كان سبب عدول الجاني عن الفعل هو توبته ورجوعه إلى الله، فإن الجاني لا يعاقب على ما فعل، إذا كانت الجريمة هي جريمة الحرابة، وذلك لقوله تعالى:{إِلَاّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 34] ، فالمحارب إذا تاب قبل القدرة
عليه سقطت عقوبته بالرغم من أنه أتى الجريمة التامة. وإذا كان هذا هو حكم من أتم الجريمة فأولى به أن يكون حكم من لم يتمها.
وإذا كان الفقهاء قد اتفقوا على أن التوبة تسقط العقوبة المقررة لجريمة الحرابة (1) إذا حدثت التوبة قبل القدرة على المحارب، فإنهم اختلفوا في أثر التوبة على ما عدا هذه الجريمة، ولهم في ذلك ثلاث نظريات:
النظرية الأولى: ويقول بها بعض الفقهاء في مذهب الشافعي ومذهب أحمد، ومجمل رأيهم أن التوبة تسقط العقوبة، وحجتهم في ذلك أن القرآن نص على سقوط عقوبة المحارب بالتوبة، وجريمة الحرابة هي أشد الجرائم، فإذا دفعت التوبة عن المحارب عقوبته كان من الأولى أن تدفع التوبة عقوبة ما دون الحرابة من الجرائم، وأن القرآن لما جاء بعقوبة الزنا الأولى رتب على التوبة منع العقوبة، وذلك قوله تعالى:{وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} [النساء: 16]، وذكر القرآن حد السارق وأتبعه بذكر التوبة في قوله تعالى:{فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39]، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"التائب من الذنب كمن لا ذنب له"، ومن لا ذنب له لا حد عليه، وقال الرسول في ماعز لما أُخبر بهربه:"هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه".
ويشترط هؤلاء الفقهاء لتُسقط العقوبة أن تكون الجريمة مما يتعلق بحق الله، أي أن تكون من الجرائم الماسة بحقوق الجماعة كالزنا والشرب، وأن لا تكون مما يمس حق الأفراد كالقتل أو الضرب، ويشترط بعض هؤلاء الفقهاء شرطاً آخر، وهو أن تكون التوبة مصحوبة بإصلاح العمل، وهذا الشرط
(1) من المتفق عليه أن التوبة تسقط ما يمس حقوق الجماعة أما ما يمس حقوق الأفراد فلا يسقط بالتوبة. فالمحارب إذا أخذ المال فقط ثم تاب سقطت عنه عقوبة القطع بالتوبة ولكنه يلزم برد المال، وإذا أخذ المال وقتل ثم تاب سقطت عنه عقوبة القتل حداً ولكنه يلزم برد المال ولا تسقط عنه عقوبة القصاص إلا بعفو أولياء القتيل.
يقتضي مضي مدة يعلم بها صدق التوبة، ولكن البعض الآخر يكتفي بالتوبة ولا يشترط إصلاح العمل (1) .
ويترتب على الأخذ بهذه النظرية أن تسقط العقوبة عمن يعدل عن إتمام جريمته تائباً كلما كانت الجريمة مما يمس حقوق الجماعة، أما الجرائم التي تمس حقوق الأفراد فلا يؤدي العدول عن ارتكابها لسقوط العقوبة بحال ولو كان سبب العدول هو التوبة.
النظرية الثانية: وهي نظرية مالك وأبي حنيفة وبعض الفقهاء في مذهبي الشافعي وأحمد، ومجمل رأيهم أن التوبة لا تسقط العقوبة إلا في جريمة الحرابة للنص الصريح الذي ورد فيها؛ لأن الأصل أن التوبة لا تسقط العقوبة، فالله أمر بجلد الزاني والزانية فقال:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، فجعل الجلد عاماً للتائبين وغير التائبين، وقال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، فجعل القطع للتائب وغير التائب.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز والغامدية وقطع الذي أقر بالسرقة وكلهم جاءوا تائبين معترفين على أنفسهم يطلبون أن يتطهروا من ذنوبهم بإقامة الحد عليهم، وقد سمى الرسول فعلهم توبة فقال في حق المرأة:"لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم".
ويرى هؤلاء الفقهاء أن العقوبة لا تسقط بالتوبة، لأنها كفارة عن المعصية، ولا يرون شبهاً بين المحارب وبين غيره من المجرمين حتى يقاس أحدهما على الآخر، فالمحارب شخص لا يقدر عليه فجعلت التوبة مسقطة لعقوبته إذا تاب قبل القدرة عليه بتشجيعه على التوبة والامتناع عن الفساد في الأرض، أما المجرم العادي فهو شخص مقدور عليه دائماً فليس ثمة ما يدعو لإسقاط العقوبة عنه بالتوبة، بل إن العقوبة هي التي تزجره عن الجريمة، وفضلاً عن ذلك فإن القول بأن
(1) نهاية المحتاج ج8 ص6، المغني ج10 ص316، 317.
التوبة تسقط العقوبة يؤدي إلى تعطيل العقوبات؛ لأن كل مجرم لا يعجز عن ادعاء التوبة (1) .
ويترتب على هذه النظرية أن عدول الجاني عن إتمام جريمته تائباً راجعاً إلى الله لا يمنع عنه العقوبة كلما اعتبر فعله معصية.
النظرية الثالثة: وهي نظرية ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وهما من الحنابلة. وعندهما أن العقوبة تطهر من المعصية، وأن التوبة تطهر من المعصية وتسقط العقوبة في الجرائم التي تمس حقاً لله، فمن تاب من جريمة من هذه الجرائم سقطت عقوبته إلا إذا رأى الجاني نفسه أن يتطهر بالعقوبة، فإنه إذا اختار أن يعاقب عوقب بالرغم من توبته (2) .
ويترتب على هذه النظرية أن من عدل عن إتمام جريمته تائباً تسقط عنه العقوبة إذا كانت الجريمة مما يمس حقاً لله، أي حقاً من حقوق الجماعة، ما لم يطلب الجاني نفسه أن يعاقب، أما إذا كانت الجريمة تمس حقاً للأفراد فلا تسقط العقوبة.
والقاعدة العامة في القوانين الوضعية هي أن توبة الجاني لا تسقط العقوبة، وهذا يتفق مع نظرية مالك ومن معه، ولكن بعض القوانين الوضعية لا تعاقب الجاني إذا عدل مختاراً عن إتمام الجريمة، ومن هذه القوانين القانون المصري والقانون الفرنسي، وهذا يتفق مع ما يقوله بعض الفقهاء المسلمين من أن التوبة تسقط العقوبة. وبعض القوانين الوضعية لا تخلي الجاني من المسئولية عن الشروع ولو عدل عن إتمام الجريمة مختاراً كالقانون الإنجليزي والقانون الهندي.
254 -
الشروع في الجريمة المستحيلة: ليس في أقوال الفقهاء ما يشير
(1) شرح الزرقاني ج8 ص110، بدائع الصنائع ج7 ص96، أسني المطالب ج4 ص156، المغني ج10 ص316.
(2)
أعلام الموقعين ج2 ص197، 198.
إلى ما نسميه اليوم بالجريمة المستحيلة. والجريمة المستحيلة - كما يعرفها شراح القوانين الوضعية - هي التي يستحيل وقوعها: إما لعدم صلاحية وسائلها، كمن يطلق على آخر بقصد قتله بندقية لا يعلم أنها غير معمرة أو أن إبرتها مكسورة، وإما لانعدام موضوعها، كمن يطلق عياراً على ميت بقصد قتله وهو غير عالم بموته.
وقد كانت الجريمة المستحيلة محل نظر فقهاء القانون الوضعي ومناقشاتهم في القرن الماضي، وكان بعضهم يرى العقاب على الشروع فيها، وبعضهم لا يرى ذلك. أما اليوم فقد اتجه الرأي إلى إهمال نظرية الاستحالة والأخذ بالمذهب المضاد وهو المذهب الشخصي، ويقوم على النظر إلى غرض الفاعل وخطورته، فمتى كانت الأفعال التي أتاها تدل صراحة على قصد الفاعل فهو شارع في الجريمة وتجب عليه عقوبة الشروع.
ورأي أصحاب المذهب الشخصي في الجريمة المستحيلة يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، إذ يستوي في الشريعة الإسلامية أن تستحيل الجريمة بالنسبة لوسائلها أو موضوعها والغاية منها، فإن ذلك كله لا ينفي مسئولية الجاني إن كان ما فعله معصية، ولا شك أن محاولة الجاني الاعتداء على المجني عليه هي في ذاتها معصية بغض النظر عما إذا كانت المحاولة قد أدت لنتيجتها أم لم تؤد لذلك، وسواء كانت نتيجة المحاولة ممكنة الحصول أو مستحيلة الوقوع؛ لأن المحاولة في كل الأحوال اعتداء على الفرد وعلى أمن الجماعة، وما دامت النية الجنائية قد ظهرت وتجسمت في أفعال خارجية أتى بها الجاني بقصد تنفيذ جريمته فهو جان يستحق العقاب كلما تكوَّن من أفعاله معصية، وإذا كان الفعل لم يلحق أذى فعلاً بالمجني عليه، أو كانت الجريمة قد استحال تنفيذها، فإن ذلك أمر يترك تقديره للقاضي، فيعاقب الجاني بالعقوبة التي تتلاءم مع قصده وخطورته والظروف التي أحاطت بتنفيذ جريمته.
* * *