الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس
العود
525 -
ماهية العود: يطلق العود اليوم في اصطلاحنا القانوني على حالة الشخص الذي يرتكب جريمة بعد أخرى حكم فيها نهائياً، أي أن العود ينشأ عن تكرار وقوع الجرائم من شخص واحد بعد الحكم نهائياً عليه في إحداها أو بعضها.
ويتميز العود عن تعدد الجرائم بأن المجرم في حالة التعدد يرتكب جريمته الأخيرة قبل أن يصدر عليه حكم في جريمة سابقة عليها، أما في العود فيكون المجرم حين ارتكب جريمته الأخيرة قد صدر عليه حكم أو أكثر.
وعود المجرم للإجرام بعد الحكم عليه دليل على أن المجرم يصر على الإجرام، وعلى أن العقوبة الأولى لم تردعه، ومن ثم فقد كان من المعقول أن يتجه التفكير إلى تشديد العقوبة على العائد، ولقد كانت فكرة التشديد تلقى فيما مضى مقاومة من بعض شراح القوانين الوضعية، أما اليوم فليس ثمة من ينازع في مشروعية العقاب على العود.
وشراح القوانين وإن كانوا يسلمون بالعقوبة على العود، إلا أنهم اختلفوا في تقرير المبادئ التي يقوم عليها العود، فالبعض يرى أن يكون العود خاصاً، بمعنى أن لا يعتبر المجرم عائداً إلا إذا كانت الجريمة الثانية من نوع الجريمة الأولى أو مماثلة لها، فإن لم تكن الجريمة الثانية كذلك فلا يعتبر المجرم عائداً.
ويرى البعض أن يكون العود عاماً بحيث يعتبر المجرم عائداً إذا ارتكب جريمته الثانية، سواء كانت من نوع الأولى أو من نوع آخر مماثلة لها أو غير مماثلة.
كذلك اختلف الشراح في مدة العود، فرأى البعض أن يكون العود مؤبداً
بحيث يعتبر المجرم عائداً مهما مضى من الزمن على جريمته الأولى، ورأى البعض أن يكون العود مؤقتاً بمعنى أنه إذا مضى وقت معين على الجريمة الأولى فلا يعتبر المجرم عائداً إذا ارتكب جريمته الثانية.
وقد أخذ قانون العقوبات المصري بهذه المبادئ جميعاً؛ فأخذ بمبدأ العود العام في الفقرتين الأولى والثانية من المادة 49 من قانون العقوبات، وأخذ بمبدأ العود الخاص في الفقرة الثالثة من هذه المادة، وأخذ بنظام العود المؤبد في الفقرة الأولى من نفس المادة، وبنظام العود المؤقت في الفقرتين الثانية والثالثة من هذه المادة، مراعياً في كل ذلك نوع العقوبة ومدتها ونوع الجريمة.
وإذا تكرر من المجرم ارتكاب الجرائم فلا يعتبره شراح القوانين الوضعية مجرد عائد بل يعتبرونه مجرماً معتاداً على الإجرام وعدواً خطراً للجماعة يجب استئصاله منها أو إبعاده عنها، وقد طبق القانون المصري هذه النظرية تطبيقاً محدوداً فجعل عقوبة معتاد الإجرام الإرسال لمحل تعينه الحكومة "إصلاحية الرجال" إلى أن يأمر وزير العدل الإفراج عنه بشرط أن لا يزيد مدة بقاء المجرم في المحل الخاص عن ست سنوات أو عشر بحسب الأحوال (المادتان 52، 53 عقوبات) .
وفي إيطاليا يقضي قانون العقوبات الصادر في سنة 1930 بوضع معتادي الإجرام ومحترفيه في محل زراعي أو صناعي لمدة لا تقل عن سنتين للمعتادين وثلاث للمحترفين.
وفي فرنسا ينص القانون الصادر في 27/ 5/ 1885 على نفي معتادي الإجرام إلى إحدى المستعمرات.
وهكذا طبقت القوانين الوضعية النظرية تطبيقاً محدوداً ولم تأخذ بها على إطلاقها.
هذه هي القواعد العامة التي يقوم عليها العود في القوانين الوضعية الحديثة،
ويلاحظ أن القوانين الوضعية لم تعرف قواعد العود إلا أخيراً، وأن المبادئ التي وضعتها للعود والاعتياد على الإجرام تعتبر من أحدث المبادئ في هذه القوانين.
526 -
الشريعة والعود: وقد يدهش القارئ أن يعلم أن هذه المبادئ المستحدثة في القوانين الوضعية هي نفس المبادئ التي وضعتها الشريعة الإسلامية للعود ولمعتادي الإجرام من ثلاثة عشر قرناً، بل قد يدهشه أن يعلم أن القوانين الوضعية على حداثتها لم تطبق بعد المبادئ الشرعية على إطلاقها.
ومن المتفق عليه في الشريعة أن يعاقب المجرم بالعقوبة المقررة للجريمة، فإن عاد لها أمكن تشديد العقوبة، فإن اعتاد الإجرام استؤصل من الجماعة بقتله أو بكف شره عنها بتخليده في الحبس، واختيار إحدى العقوبتين متروك لولي الأمر بحسب ما يراه من ظروف الجريمة وأثرها على الجماعة.
ومن الأمثلة على ذلك اللواطة لغير المحصن فالفاعل والمفعول به يعاقب كلاهما بالعقوبة المقررة للجريمة، فإن اعتاد الجريمة ولم تردعه العقوبة قتل لشناعة جريمته ولما تؤدي إليه من التقاليد وإفساد الأخلاق والتخنث. والسارق إذا اعتاد السرقة يعاقب على الاعتياد بتخليده في الحبس حتى يموت أو تظهر توبته.
وقد أقرت الشريعة مبدأ العود على لإطلاقه، ولم يفرق الفقهاء بين العود العام والعود الخاص، كما أنهم لم يفرقوا بين العود الأبدي والعود المؤقت، ومن ثم يجوز أن يكون العود عاماً وخاصاً وأبدياً ومؤقتاً، والأمر في ذلك متروك لولي الأمر يضع من القواعد ما يراه محققاً للمصلحة العامة.
هذه هي قواعد العود في الشريعة، وتلك قواعد العود في القوانين الوضعية، ولا فرق بينهما إلا أن الشريعة لم تطبق منذ زمن طويل فجهل الناس كل شئ عنها، أما القوانين الوضعية فتطبق باستمرار ويعرفها أكثر الناس معرفة جيدة.
وقد يكفي الشريعة امتيازاً أن قواعدها التي وضعت منذ أكثر من ثلاثة عشر
قرناً تتفق تمام الاتفاق مع أحدث ما وصلت إليه القوانين الوضعية، ولكن الشريعة في الواقع تمتاز على القوانين الوضعية بأنها تعاقب معتادي الإجرام ومحترفيه فيه بالقتل وبالتخليد في السجن، وهما العقوبتان اللتان تصبو إليهما بصفة عامة نفوس شراح القوانين الوضعية، وعلى الأخص أصحاب نظريتي تدابير الأمن mesure de suete وغرق الاستئصال procede d' elemination، فهؤلاء يرون أن يستأصل معتاد الإجرام من الجماعة، أو أن يحبس حبساً غير محدد المدة بحيث يكف شره عن الجماعة، ولكن القوانين الوضعية لم تأخذ بهذه الآراء على إطراقها، واكتفت بالأخذ بنظرية الحبس غير المحدد المدة بعد أن وضعت على هذه النظرية من القيود ما يجعل الحبس في النهاية حبساً محدد المدة، كما بينا في الأمثلة التي ذكرناها عن القوانين المصري والإيطالي والفرنسي.
وهكذا يتبين أن الشريعة الإسلامية قد سبقت القوانين الوضعية في تنظيم العود وتقرير قواعده، ولا يزال سابقة لهذه القوانين فيما يختص بتقرير تدابير الأمن وطرق الاستئصال وتطبيقها على الوجه الذي ينادي به شراح القوانين أنفسهم.
* * *