الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول
العقوبة - مبادئ عامة
438 -
العقوبة والغرض منها: العقوبة هي الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع. والمقصود من فرض عقوبة على عصيان أمر الشارع هو إصلاح حال البشر، وحمايتهم من المفاسد، واستنفاذهم من الجهالة، وإرشادهم من الضلالة، وكفهم عن المعاصي، وبعثهم على الطاعة، ولم يرسل الله رسوله للناس ليسيطر عليهم أو ليكون عليهم جباراً، وإنما أرسله رحمة للعالمين، وذلك قوله تعالى:{لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22]، وقوله:{وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} [ق: 45]، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} ، فالله أنزل شريعته للناس وبعث رسوله فيهم لتعليم الناس وإرشادهم، وقد فرض العقاب على مخالفة أمره لحمل الناس على ما يكرهون ما دام أنه يحقق مصالحهم، ولصرفهم عما يشتهون ما دام أنه يؤدي إلى فسادهم، فالعقاب مقرر لإصلاح الأفراد ولحماية الجماعة وصيانة نظامها، والله الذي شرع لنا هذه الأحكام وأمرنا بها لا تضره معصية عاصٍ ولو عصاه أهل الأرض جميعاً، ولا تنفعه طاعة مطيع ولو أطاعه أهل الأرض جميعاً (1) .
439 -
الأصول التي تقوم عليها العقوبة: ولما كان الغرض من العقوبة هو إصلاح الأفراد وحماية الجماعة وصيانة نظامها فقد وجب أن تقوم العقوبة على أصول تحقق هذا الغرض ليؤدي العقوبة وظيفتها كما ينبغي، والأصول المحققة للغرض من العقوبة هي:
(1) راجع الفقرة 43.
1 -
أن تكون العقوبة بحيث تمنع الكافة من الجريمة قبل وقوعها، فإذا ما وقعت الجريمة كانت العقوبة بحيث تؤدب الجاني على جنايته وتزجر غيره من التشبه به وسلوك طريقه، وفي هذا يقول بعض الفقهاء عن العقوبات:"إنها موانع قبل الفعل زواجر بعده، أي العلم بشريعتها يمنع الإقدام على الفعل وإقاعها بعده يمنع العود إليه"(1) .
2 -
أن حد العقوبة هو حاجة الجماعة ومصلحتها، فإذا اقتضت مصلحة الجماعة التشديد شددت العقوبة، وإذا اقتضت مصلحة الجماعة التخفيف خففت العقوبة؛ فلا يصح أن تزيد العقوبة أو تقل عن حاجة الجماعة (2) .
3 -
إذا اقتضت حماية الجماعة من شر المجرم استئصاله من الجماعة أو حبس شره عنها وجب أن تكون العقوبة هي قتل المجرم أو حبسه عن الجماعة حتى يموت، ما لم يتب وينصلح حاله (3) .
4 -
أن كل عقوبة تؤدي لصلاح الأفراد وحماية الجماعة هي عقوبة مشروعة، فلا ينبغي الاقتصار على عقوبات معينة دون غيرها (4) .
5 -
أن تأديب المجرم ليس معناه الانتقام منه، وإنما استصلاحه، والعقوبات على اختلاف أنواعها تتفق - كما يقول بعض الفقهاء - في أنها "تأديب واستصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب"(5) .
والعقوبات "إنما شرعت رحمة من الله تعالى بعباده فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا
(1) شرح فتح القدير ج4 ص112.
(2)
الأحكام السلطانية، ص206. شرح فتح القدير ج4 ص212، 215. تبصرة الحكام، ج2 ص260 وما بعدها. الإقناع، ج4 ص268 وما بعدها
(3)
الإقناع ج4 ص271، 272. حاشية ابن عابدين ج5 ص480 وج3 ص59، 260. اختيارات ابن تيمية ص178 وما بعدها.
(4)
المراجع السابقة.
(5)
الأحكام السلطانية ص205، 206.
ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض" (1) .
ويلاحظ في التأديب أنه يختلف باختلاف الأشخاص، فتأديب أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاء والسفاهة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:"أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"(2) ، ولأن المقصود من التأديب الزجر عن الجريمة وأحوال الناس مختلفة فيه، فمنهم من ينزجر بالنصيحة، ومنهم من يحتاج إلى اللطمة وإلى الضرب، ومنهم من يحتاج إلى الحبس (3) .
440 -
نظرية الشريعة في العقاب: يلاحظ أن الأصول التي تقوم عليها العقوبة في الشريعة ترجع إلى أصلين أساسيين أو مبدأين عامين، فبعضها يعني بمحاربة الجريمة ويهمل شخصية المجرم وبعضها يعني بشخصية المجرم ولا يهمل محاربة الجريمة. والأصول التي تعني بمحاربة الجريمة الغرض منها حماية الجماعة من الإجرام، أما الأصول التي تعني بشخص المجرم فالغرض منها إصلاحه.
ولا جدال في أن بين المبدأين تضارباً ظاهراً؛ لأن حماية الجماعة من المجرم تقتضي إهمال شأن المجرم، كما أن العناية بشأن المجرم تؤدي إلى إهمال حماية الجماعة.
وقد قامت نظرية العقوبة في الشريعة على هذين المبدأين المتضاربين، ولكن الشريعة جمعت بين المبدأين بطريقة تزيل تناقضهما الظاهر، وتسمح بحماية المجتمع من الإجرام في أكثر الأحوال، ذلك أن الشريعة أخذت بمبدأ حماية الجماعة على إطلاقه واستوجبت توفره في كل العقوبات المقررة للجرائم، فكل عقوبة يجب أن تكون بالقدر الذي يكفي لتأديب المجرم على جريمته تأديباً يمنعه من العودة إليها ويكفي لزجر غيره عن
(1) اختيارات ابن تيمية ص171.
(2)
الأحكم السلطانية ص206.
(3)
شرح فتح القدير ج4 ص121.
التفكير في مثلها، فإذا لم يكف التأديب شر المجرم عن الجماعة أو كانت حماية الجماعة تقتضي استئصال المجرم وجب استئصال المجرم أو حبسه حتى الموت. أما مبدأ العناية بشخص المجرم فقد أهملته الشريعة بصفة عامة في الجرائم التي تمس كيان المجتمع؛ لأن حماية الجماعة اقتضت بطبيعتها هذا الإهمال، والجرائم التي من هذا النوع قليلة ومحدودة بطبيعة الحال، وما عدا ذلك من الجرائم ينظر في عقوبته إلى شخصية المجرم، تستوجب الشريعة أن تكون شخصية الجاني وظروفه وأخلاقه وسيرته محل تقدير القاضي عند الحكم بالعقوبة.
تقسيم الجرائم: ولقد نشأ عن الجمع بين المبدأين على هذه الصورة أن أصبح لكل مبدأ حيز ينطبق فيه ومدى ينتهي إليه، ولتقيم الشريعة معالم واضحة للحيز الذي ينطبق فيه كل مبدأ قسمت الجرائم قسمين:
القسم الأول: الجرائم الماسة بكيان المجتمع: يدخل تحت هذا القسم كل القسم كل الجرائم التي تمس كيان المجتمع مساساً شديداً، وهي نوعان لكل منهما حكم مختلف.
1 -
النوع الأول: والنوع الأول من الجرائم الماسة بكيان المجتمع يشمل جرائم الحدود التامة، وهي سبع جرائم:
(1)
الزنا
…
... (2) القذف
…
... (3) الشرب
(4)
السرقة
…
... (5) الحرابة
…
... (6) الردة
(7)
البغي
وقد وضعت الشريعة لهذه الجرائم السبع عقوبات مقدرة ليس للقاضي أن ينقص منها أو يزيد فيها أو يستبدل بها غيرها، فمن ارتكب جريمة منها أصابته العقوبة المقررة لها دون نظر إلى رأي المجني عليه أو إلى شخصية الجاني، وليس لولي الأمر أن يعفو عن الجريمة أو العقوبة بحال من الأحوال.
وقد اتجهت الشريعة في جرائم الحدود إلى حماية الجماعة من الجريمة وأهملت شأن المجرم إهمالاً تاماً، فشددت العقوبة وجعلتها مقدرة، ولم تجعل للقاضي أو ولولي الأمر سلطاناً على العقوبة، وعلة التشديد أن هذه الجرائم من
الخطورة بمكان، وأن التساهل فيها يؤدي حتماً إلى تحلل الأخلاق وفساد المجتمع واضطراب نظامه وازدياد الجرائم، وهي نتائج ما ابتلى بها جماعة إلا تفرق شملها واختل نظامها وذهب ريحها، فالتشدد في هذه الجرائم قصد به الإبقاء على الأخلاق وحفظ الأمن والنظام، أو بتعبير آخر: قصد به مصلحة الجماعة، فلا عجب أن تهمل مصلحة الفرد في سبيل مصلحة الجماعة، بل العجب أن لا تضحي بمصلحة الفرد في هذا السبيل.
ب - النوع الثاني: والنوع الثاني من الجرائم الماسة بكيان المجتمع يشمل جرائم القصاص والدية؛ وهي جرائم القتل والجرح سواء كانت عمداً أو خطأً، أو هي على وجه التحديد:
(1)
القتل العمد
…
... (2) القتل شبه العمد
…
... (3) الخطأ.
(4)
الجرح العمد
…
... (5) الجرح الخطأ.
وقد وضعت الشريعة لهذه الجرائم عقوبتين هما: القصاص أو الديةفي حالة العمد والدية في حالة الخطأ، وحرمت على القاضي أن ينقص من هاتين العقوبتين أو يزيد فيهما أو يستبدل بهما غيرهما، كما حرمت على ولي الأمر أن يعفو عن الجريمة أو العقوبة، وعلى هذا فمن ارتكب جريمة من هذه الجرائم أصابته العقوبة المقررة لها دون نظر إلى ظروف الجاني وشخصيته. وإذا كانت الشريعة قد حرمت العفو على ولي الأمر فإنها قد أباحته للمجني عليه أو وليه، فإذا عفا المجني عليه أو وليه في العمد سقط القصاص وحلت محله الدية إذا كان العفو على الدية، فإذا كان العفو مجاناً سقطت الدية أيضاً. وفي جرائم الخطأ يسقط العفو الدية، ويترتب على سقوط القصاص في العمد والدية في الخطأ جواز معاقبة الجاني بعقوبة تعزيرية، والعقوبات التعزيرية ينظر فيها إلى شخص المجني عليه وظروفه.
وظاهر مما سبق أن الشريعة تتجه أصلاً في جرائم القصاص والدية إلى حماية الجماعة من الجريمة وإهمال شأن المجرم، وأنها لا تعني بشخصية الجاني وظروفه
إلا إذا عفا المجني عليه أو وليه، وقد منحت الشريعة حق العفو للمجني عليه أو وليه، لأن الجريمة وإن كانت ماسة بكيان المجتمع إلا أنها تمس المجني عليه أكثر مما تمس المجتمع، بل إنها لا تمس المجتمع إلا عن طريق مساسها بالمجني عليه، فإذا عفا المجني عليه أو وليه لم يعد ما يدعو لإهمال شأن المجرم والتشدد في حماية الجماعة؛ لأن أثر الجيمة الخطر يزول بالعفو فتصبح الجريمة غير خطرة ولا تؤثر على كيان المجتمع.
والواقع أن المجني عليه أو وليه لا يعفو إلا إذا صفح عن الجاني أو رأى في الدية فائدة مادية يهمه الاحتفاظ بها، فعله العفو هي إما الصفح أو الفائدة المادية التي تعود على المجني عليه وأوليائه، وكلاهما علة مشروعة تحلها الشريعة محل الاعتبار، لأن الصفح معناه القضاء على الخصومات والأحقاد، ولأن تفصيل الفائدة المادية على العقوبة البدنية معناه التسامح والصفح وإضعاف حدة الخصومات، ولا شك أن حق المجني عليه أو وليه أن يكون أول من تعود عليه الجريمة بالفائدة إذا أمكن ذلك بعد أن أصيب منها وتحمل من آلامها ما لم يتحمله غيره.
القسم الثاني: الجرائم الأخرى: ويشمل هذا القسم كل الجرائم التي لا تدخل تحت القسم الأول. أو هو يشمل الجرائم التي تعاقب عليها الشريعة بعقوبات غير مقدرة، فيدخل تحت هذا القسم كل الجرائم المعاقب عليها بعقوبة تعزيرية، وهي على ثلاثة أنواع:
(1)
جرائم التعازير الأصلية، أي كل جريمة ليست من جرائم الحدود ولا من جرائم القصاص والدية.
(2)
جرائم الحدود التي لا يعاقب عليها بعقوبة مقدرة، وهي جرائم الحدود غير التامة، وجرائم الحدود التي يدرأ فيها الحد.
(3)
جرائم القصاص والدية التي يعاقب عليها بعقوبة غير مقدرة، وهي الجرائم التي لا قصاص ولا دية فيها.
والجرائم التي تدخل تحت هذا القسم ليست في خطورة جرائم القسم الأول، ولهذا كان لها حكم مختلف، ففي القسم الأول تقيد الشريعة القاضي بعقوبة معينة
مقدرة ليس له اختيار غيرها وليس له أن يزيد فيها أو ينقص منها، أما في القسم الثاني فتترك الشريعة الحرية للقاضي في اختيار العقوبة الملائمة من بين مجموعة من العقوبات، كما تترك له تقدير كمية العقوبة اللازمة وتقدير ظروف الجريمة وظروف المجرم، فإن رأى أن ظروف الجريمة وظروف المجرم لا تقتضي التخفيف عاقب المجرم بما تستحقه جريمته، وإن رأى ظروف الجاني تقتضي التخفيف عاقبه بالعقوبة الملائمة لشخصه وظروفه وسيرته وأخلاقه، وإن رأى أن ظروف الجريمة تقتضي التشديد وظروف الجاني تقتضي التخفيف توسط بين الأمرين فلم يغلظ العقوبة ولم يخففها.
وفي هذا القسم تطبق الشريعة الأصول التي تقوم عليها نظرية العقوبة منفردة ومجتمعة، فإذا لم تكن ظروف الجاني تقتضي التخفيف روعي في تقدير العقوبة واختيار نوعها حماية الجماعة من الجريمة ولم يراعى فيها غير هذا الاعتبار، وإذا كانت ظروف الجاني تقتضي التخفيف روعي في تقدير العقوبة واختيار نوعها شخصية الجاني. وإذا كانت ظروف الجريمة تقتضي التشديد وظروف الجاني تقتضي التخفيف روعي بقدر الإمكان في اختيار العقوبة وتقدير كميتها أن تحمي الجماعة من الإجرام وأن تلائم شخصية المجرم.
ورأى المجني عليه ليس له اعتبار لذاته في هذا القسم، وعفوه لا يسقط العقوبة، ولكن العفو ينظر إليه باعتباره ظرفاً قضائياً مخففاً للجاني، فإذا تصالح المجني عليه مع الجاني أو عفا عنه كان للقاضي أن يعتبر الصلح أو العفو ظرفاً مخففاً في صالح الجاني. والعلة في عدم إسقاط العقوبة التعزيرية بالعفو أن كل عقوبة فيها حقان: حق للمجني عليه وحق للجماعة، فإذا أسقط المجني عليه حقه بقى حق الجماعة، بعكس الحال في عقوبتي القصاص والدية فيما من حق المجني عليه أو وليه دون غيرهما، فإذا عفا أحدهما سقطت العقوبة وحل محلها التعزير على اعتبار أن التعزير حق الجماعة، ولهذا لا يظهر أثر العفو في عقوبات التعازير كما يظهر في القصاص والدية؛ لأن عقوبة التعزير فيها حق المجني عليه وحق الجماعة، فإذا أسقط حق
المجني عليه بقى حق الجماعة، أما القصاص والدية فهما من حق المجني عليه وحده فإذا عفا أسقطهما العفو.
العلة في اعتبار جرائم القسم الأول ماسة بكيان المجتمع: قلنا: إن الشريعة تشددت في جرائم القسم الأول واتجهت في اختيار العقوبة وتقديرها إلى حماية المجتمع من الإجرام وأهملت شخصية الجاني إهمالاً تاماً، إلا إذا عفا المجني عليه في جرائم القصاص والدية دون غيرها. وقلنا: إن الشريعة أرادت بذلك حماية المجتمع لأن جرائم القسم الأول بنوعيها تمس كيان المجتمع مساساً شديداً، وقد بقى أن نعرف كيف تمس هذه الجرائم كيان المجتمع، وذلك هو ما سنبينه الآن.
فالجماعات مهما اختلفت على المبادئ أو اختلفت عليها العصور تشترك في أنظمة معينة تعيش عليها الجماعة ويقوم كيانها عليها، ولو بحثنا كل الأنظمة التي تقوم عليها الجماعات في كل أقطار الأرض لوجدنا كل الجماعات تشترك في أربعة أنظمة هي الدعائم التي يقوم عليها فعلاً كل مجتمع على وجه البسيطة، وهذه الأنظمة الأربعة هي:
(1)
نطام الأسرة.
…
...
…
(2) نظام الملكية الفردية
(3)
النظام الاجتماعي للجماعة.
…
(4) نظام الحكم في الجماعة.
فوجود الرجل والمرأة وقدرتهما على التناسل وحاجة هذا النسل إلى من يعوله حتى يبلغ أشده؛ كل هذا اقتضى بطبيعته أن يستأثر كل رجل بامرأة معينة، وأن ينسب لنفسه من تلده من أبناء، وهكذا اقتضى وجود الرجل والمرأة وجود نظام الأسرة، وصار هذا النظام أساساً تقوم عليه كل جماعة؛ لأن الجماعة ليست إلا مجموعة من الأفراد، ولا يزال نظام الأسرة حتى في الدول الشيوعية عماد المجتمع وسيظل كذلك إلى ما شاء الله.
وحاجة الإنسان الطبيعية الدائمة إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن وأدوات السعي لهذه ولغيرها من المنافع إلى تملك هذه الأشياء والاستئثار بها دون غيره من الناس لنفسه أولاً ولنفسه ولأسرته بعد أن اقتضى الحال وجود نظام
الأسرة، وهكذا وجد نظام الملكية الفردية كما وجد نظام الأسرة؛ أوجدتهما طبيعة الإنسان وطبيعة الأشياء، وسيظل كلاهما قائماً ما لم تتغير طبائع البشر وطبائع الأشياء ولن تتغير حتى تبدل الأرض غير الأرض والسموات.
وإذا كانت المبادئ الإشتراكية والشيوعية تحبذ الملكية الجماعية وتؤثرها على الملكية الفردية فإن غلاة المعتنقين لهذه المبادئ لم يقولوا بإلغاء الملكية الفردية إلغاء مطلقاً؛ لأن هناك من الملكيات الفردية ما تقتضي الطبيعة وجوده والمحافظة عليه، فكل إنسان يجب أن يملك طعامه وكساءه ومسكنه وأداة عمله وإلا استحالت عليه الحياة.
وقد اقتضى نظام الأسرة ونظام الملكية الفردية الاعتراف بشخصية الفرد وحريته وحقه في حماية نفسه وأسرته وملكه، ولكن ضعف الفرد وكثرة حاجاته وقلة وسائله وحاجاته إلى التعاون مع غيره كل ذلك دعا إلى تكوين الجماعة.
وتكوين الجماعة يقتضي بطبيعته أن يكون للجماعة نظام اجتماعي تقوم الجماعة على مبادئه ويبين حقوق الأفراد وواجباتهم. والنظام الاجتماعي للجماعة يختلف باختلاف الجماعات، فالجماعات الإسلامية نظامها الاجتماعي يقوم على مبادئ الإسلام، والجماعات غير الإسلامية يقوم نظامها الاجتماعي على أساس الإشتراكية أو الشيوعية أو الرأسمالية أو غير ذلك من الأنظمة الاجتماعية.
كذلك اقتضى تكوين الجماعة أن يقوم فيها نظام للحكم يصرف شئونها ويسهل على مصالحها ونظامها الاجتماعي ويوفر الأمن لها في الدخل والخارج. ونظام الحكم يختلف باختلاف البلاد، ففي بعض البلاد يكون الحكم جمهورياً وفي بعضها ملكياً إلى غير ذلك، وهكذا وجد نظام الحكم وكان وجوده نتيجة ضرورية لوجود الجماعة نفسها.
هذه هي الأنظمة الأربعة التي يقوم عليها كيان المجتمع، كل مساس بها يمس
المجتمع في أصل وجوده ويهدم أهم مقوماته، ولذلك حرصت الشريعة الإسلامية على أن تحمي هذه النظم من كل اعتداء؛ لأن في حمايتها بقاء الجماعة وصلاحيتها للبقاء، ولأن كل تهاون في احتياطها وحمايتها يؤدي إلى انحلال الجماعة وسقوطها.
وقد تقصت الشريعة الاعتداءات الخطيرة التي يمكن أن تمس هذه الأنظمة فوجدوتها تنحصر في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، وهي: الزنا، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، والحرابة، والردة، والبغي، والقتل والجرح في حالتي العمد والخطأ.
فالزنا اعتداء على نظام الأسرة، ولو لم يعاقب عليه لكان لكل امرئ أن يشارك الآخر في أي امرأة شاء، وأن يدعي من شاء أو يتنصل ممن شاء من الأبناء؛ وأخيراً فإن إباحة الزنا معناها الاستغناء عن نظام الأسرة وهدم الدعامة الأولى من الدعائم التي تقوم عليها الجماعة.
والسرقة اعتداء على نظام الملكية الفردية، ولو لم يعاقب عليها لكان لكل امرئ أن يشارك غيره وطعامه وشرابه وكسائه ومسكنه وأداة عمله، وكانت الغلبة آخر الأمر للأقوياء، وكان الجوع والعري والحرمان للضعفاء، فإباحة السرقة معناها الاستغناء عن نظام الملكية @الفردية، وعجز الأفراد عن الحصول على ضروريات الحياة، وسقوط الجماعة بعد سقوط أهم الدعامات التي قامت عليها.
والردة اعتداء على النظام الاجتماعي للجماعة؛ لأن النظام الاجتماعي لكل جماعة إسلامية هو الإسلام، ولأن الردة معناها الكفر بالإسلام والخروج على مبادئه والتشكيك في صحته، ولا يمكن أن يستقيم أمر الجماعة إذا وضع نظامها الاجتماعي موضع التشكيك والطعن؛ لأن ذلك قد يؤدي في النهاية إلى هدم هذا النظام.
والبغي اعتداء على نظام الحكم في الجماعة؛ لأن جريمة البغي تعني الخروج على الحكام ومعصيتهم، أو تعني طلب تغييرهم نظام الحكم نفسه، وإباحة مثل هذه الجريمة يؤدي إلى إشاعة الخلاف والاضطراب في صفوف الجماعة،
ويقسمها شيعاً وأحزاباً تتقابل وتتناحر في سبيل الحكم، كما يؤدي إلى اختلاف الأمن والنظام وسقوط الجماعة وانحطاطها.
وجرائم القتل والجرح اعتداء من ناحية على حياة الأفراد المكونين للجماعة، وهي من ناحية أخرى اعتداء على النظام الاجتماعي ونظام الحكم في الجماعة؛ لأن هذه الجرائم تمس حياة الأفراد وأبدانهم، والنظام الاجتماعي يقتضي حماية الأفراد وعصمة أنفسهم وأموالهم، كما أن نظام الحكم وجد لإقامة النظام الاجتماعي وتوفير الأمن للجماعة، فالتساهل في محاربة هذه الجرائم يؤدي إلى تحكم الأقوياء في الضعفاء، وصرف الأفراد عن العمل المنتج وانصرافهم إلى التنازع والتناحر، واستنباط الوسائل لحماية أرواحهم وأنفسهم، وهذا يؤدي بالتالي إلى تفكك الجماعة وانحلالها. وقد حرصت الشريعة على أن لا يصل الجماعة لهذه الحالة فقررت عقوبة القصاص في حالة العمد والدية في حالة الخطأ، وهي عقوبات رادعة قصد منها حماية الأفراد المكونين للجماعة، وبث الأمن بينهم، وتوفير الطمأنينة في نفوسهم.
وجريمة القذف اعتداء على نظام الأسرة؛ لأن القذف في الشريعة قاصر على ما يمس الأعراض، ولأن القذف الماس بالأعراض هو تشكيك في صحة نظام الأسرة. فمن يقذف شخصاً فإنما ينسبه لغير أبيه وبالتالي لغير أسرته، وإذا ضعف الإيمان بنظام الأسرة فقد ضعف الإيمان بالجماعة تقوم على هذا النظام.
وجريمة الشرب تؤدي إلى فقدان الشعور، وإذا فقد شارب الخمر شعوره فقد أصبح على استعداد لارتكاب السرقة والقذف والزنا وغير ذلك من الجرائم، فضلاً عن أن شرب الخمر يضيع المال ويفسد الصحة ويضعف النسل ويذهب العقل، والنظام الإسلامي يحرم شرب الخمر تحريماً قاطعاً، فإتيان هذه الجريمة اعتداء من كل وجه على الجماعة، وهدم للنظم التي تقوم عليها الجماعة.
وجريمة الحرابة إن اقتصرت على السرقة فهي اعتداء على نظام الملكية
الفردية، وإن صحبها القتل فهي أيضاً اعتداء على حياة الأفراد المكونين للجماعة، وإن اقتصرت على ترويع المجني عليه فهي اعتداء على أمن الجماعة، والاعتداء على حياة الأشخاص وأمنهم هو اعتداء على نظام الاجتماعي وعلى نظام الحكم؛ لأن كل جماعة ملزمة بحماية حياة الأفراد وتوفير الأمن لهم، لأن ذلك ضروري لبقاء الجماعة، فإذا لم تكن هذه الجماعة فمعنى ذلك تفكك الجماعة وانحلالها؛ لأن الأساس الأول لبقاء الجماعة وهو حماية أفرادها منعدم، ولا يحمي الأفراد ويمنع الاعتداء على حياتهم وأمنهم إلا تقرير العقوبة الرادعة على هذا الاعتداء.
هذه هي الجرائم التي تمس كيان المجتمع مساساً مباشراً، عاقبت عليها الشريعة بعقوبات رادعة، وأهملت في تقدير العقوبة شخصية الجاني إبقاء للجماعة وحماية لها. وإذا قلنا إن هذه الجرائم تمس كيان الجماعة فليس معنى ذلك أن باقي الجرائم لا تمس الجماعة من قريب أو بعيد، إذ الواقع أن كل جريمة أياً كانت تمس الجماعة، ولكننا نستطيع أن نقول: إنه ليس في الجرائم كلها ما يمس الأسس التي يقوم عليها المجتمع مساساً مباشراً مثل الجرائم التي احتفظت لها الشريعة بهذه العقوبات، وإن بقية الجرائم إن مست مصالح المجتمع فإنها لا يمس الأنظمة التي تقوم عليها الجماعة، وإن مست هذه الأسس فإنها لا تمسها مساساً مباشراً وخطيراً، وهكذا كانت الشريعة منطقية وواقعية حين أهملت شخصية الجاني في الجرائم التي تمس كيان المجتمع وتتصل بالأسس التي يقوم عليها، وكانت الشريعة منطقية وواقعية حين ميزت بين هذه الجرائم من ناحية وبقية الجرائم من ناحية أخرى، لتفاوت الخطورة والآثار في النوعين.
علة التفرقة في العقاب بين جرائم الحدود وبين جرائم القصاص والدية: وتعتبر الشريعة جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية ماسة بكيان المجتمع وبالأسس التي يقوم عليها، وبالرغم من هذه التسوية فقد أبيح للمجني عليه أو وليه حق العفو عن العقوبة في جرائم القصاص والدية ولم تبح له أن يعفو في جرائم
الحدود، وعلة التفرقة أن جرائم الحدود يصيب ضررها المباشر الجماعة أكثر مما يصيب الأفراد، وأن جرائم القصاص والدية مع مساسها بكيان المجتمع يصيب ضررها المباشر الأفراد أكثر مما يصيب الجماعة، فالسرقة والحرابة والقذف والشرب والردة والبغي هي في ذاتها تهديد للجماعة واعتداء عل أمنها ونظامها أكثر مما هي تهديد واعتداء على الأفراد الذين تقع عليهم، فالفرد قد يسرق منه بعض ماله فلا يحزنه ما سرق منه بقدر ما يهدده هذا العمل ويخيفه على بقيه ماله وبقدر ما يخيف جيرانه ومعارفه وأهل بلده ويهدد أموالهم بخطر السرقة، ومثل ذلك يقال عن بقية جرائم الحدود، فضررها على الجماعة أشد من ضررها على الأفراد. أما جرائم القتل والجرح فهي تصيب الأفراد بأكثر مما يصيب الجماعة، وتعتبر إلى حد ما جرائم شخصية، بمعنى أن مرتكبها لا يقصد الاعتداء على كل شخص يلقاه إنما يقصد الاعتداء على شخص بعينه، فإذا لم يستطع الوصول إليه لم يعتد على غيره، ولهذا لا يهز الاعتداء الجماعة فإذا وقع لا يؤثر على أمنها تأثيراً شديداً، أما السارق مثلاً فإنه يطلب المال أنى وجده، فإن لم يستطع سرقة شخص بذاته سرق أي شخص آخر؛ لأنه يقصد المال وهو في يد كل الأفراد، وكذلك الزاني فإنه لا يطلب امرأة بعينها إنما يطلب المرأة أياً كانت، فإذا تعسرت عليه امرأة بحث عن غيرها.
ولأن جرائم القصاص والدية تمس الفرد أكثر مما تمس الجماعة ترك للمجني عليه وأوليائه أن يختاروا بين القصاص والدية في حالة العمد، وجعلت الدية من حق المجني عليه كتعويض له عما أصابه من الجريمة، وترك له أن يعفو عن القصاص وعن الدية معاً.
441 -
نظرية العقاب في القوانين الوضعية: كانت القوانين الوضعية حتى أواخر القرن الثامن عشر تنظر إلى المجرم نظرة تفيض عنفاً وقسوة، وكان
أساس العقوبات المبالغة في الإرهاب والانتقام والتشهير، وكان من العقوبات المقررة المعترف بها قانوناً: الحرق، والصلب، وتقطيع الأوصال، وصلم الآذان، وقطع الشفاه واللسان، والوشم بأداة محماة في النار، ولبس أطواق من الحديد، والنفي، والجلد، والحبس.
ولم تكن العقوبات في غالب تتناسب مع أهمية الجرائم التي قررت لها، فبالرغم من قسوة بعض العقوبات التي ذكرناها وفظاعة بعضها كانت عقوبة الإعدام جزاء لكثير من الجرائم البسيطة، فمثلاً كان القانون الإنجليزي حتى آخر القرن الثامن عشر يعاقب على مائتي جريمة بعقوبة الإعدام، ومن هذه الجرائم سرقة أكثر من شلن من شخص ما أي ما يقابل خمسة قروش تقريباً في العملة المصرية، وكان لقانون الفرنسي يعاقب بالإعدام على مائتين وخمس عشرة جريمة معظمها جرائم بسيطة.
وكما كان الإنسان الحي أهلاً للمسئولية والعقاب فكذلك كان الأموات، بل كذلك كان الحيوان والجماد، فكان القانون يجيز محاكمة الإنسان حياً ويجيز محاكمته ميتاً، ويجيز محاكمة الحيوان والجماد،، ويجيز توقيع العقوبة على الإنسان الحي الذي يحس ويتألم ويفكر ويعقل كما يجيز توقيع على جثث الأموات الذين فقدوا الإحساس بالألم وخرجوا من دنيا التفكير والتعقل، بل كان يجيز توقيع العقوبة على الحيوان الأبكم الذي لا يستطيع التفكير في جريمته والدفاع عن نفسه، ويجيز توقيعها على الجماد الذي لا يحس بالجريمة ولا يشعر بالمحاكمة ولا يتألم من العقوبة.
وكان الأساس الذي تقوم عليه العقوبة هو الانتقام من المجرم وإرهاب غيره، وفكرة الانتقام والإرهاب هي التي سوغت تقرير العقوبات القاسية، وهي التي سوغت التمثيل بالمجرم وتشويه جسمه، بل هي التي سوغت محاكمة الأموات ومحاكمة الحيوانات والجماد، فالميت والجماد لن يشعر أحدهما بالمحاكمة ولن يحس بالعقوبة، والحيوان لا يشعر بالمحاكمة أو لا يفقه معناها وقد يحس بالعقوبة
ويتألم منها ولكنها لن تردعه عن الفعل الذي حوكم من أجله؛ لأنه لا يعقل شيئاً من المحاكمة ولا يفهم سبب العقوبة، ولكن محاكمة الأموات والجمادات والحيوانات وإنزال العقوبات بالجميع تؤدي إلى إرهاب الناس أيما إرهاب وتمثل فكرة الانتقام خير تمثيل.
وفي القرن الثامن عشر بدأ الفلاسفة وعلماء الاجتماع يعملون على هدم الأساس الذي تقوم عليه العقوبة ويحاولن إقامتها على أساس آخر، فأخذ "روسو" يبرز العقوبة بالعقد الاجتماعي ويرى أن الغرض منها هو حماية الجماعة من المجرم ومنعه من إيذاء غيره، وبرر "بكاريا" العقوبة بأنها حق الدفاع يتنازل عنه الأفراد للجماعة وأن الغرض منها تأديب المجرم وزجر غيره، وقد تأثر رجال الثورة الفرنسية بهذه الآراء فطبقوها في القانون الفرنسي الصادر في سنة 1791. ثم جاء "بنتام" فبرر العقوبة بمنفعتها للجماعة حيث تقوم بحمايتها واستوجب في العقوبة أن تكون كافية لتأديب الجاني وزجر غيره، ثم ظهر رأي "كانت" وهو يبرر العقوبة بالعدالة، ورأى البعض التوفيق بين مذهب المنفعة ومذهب العدالة فرأى أن لا تكون العقوبة أكثر مما تستدعيه الضرورة ولا أكثر مما تسمح به العدالة.
وتمتاز النظريات السابقة بأنها تهمل شخصية المجرم وتنظر إلى الجريمة ومقدار جسامتها وأثرها على المجتمع، ولذلك لم تؤد إلى حل مشكلة العقاب حلاً يحسن السكوت عليه.
وظهرت بعد ذلك النظرية العلمية أو النظرية الإيطالية، وهي تقوم على إهمال الجريمة إهمالاً تاماً والنظر إلى شخصية المجرم، فيرى أصحاب النظرية أن تكون العقوبة متناسبة مع عقلية المجرم وتكوينه وتاريخه ودرجة خطورته، فالمجرم المطبوع على الإجرام يبعد إبعاداً مؤبداً عن المجتمع أو يحكم عليه بالإعدام، ولو كانت جريمته بسيطة، والمجرم الذي اعتاد الإجرام يأخذ حكم المطبوع على الإجرام إذا تمكنت منه العادة، والمجرم الذي تجعل منه المصادفات والظروف مجرماً يعاقب
عقاباً هيناً ليناً ولو كانت جريمته خطيرة، والمجرم الذي يرتكب الجريمة تحت تأثير العاطفة لا ضرورة لعقابه.
ولم تفلح النظرية العلمية في حل مشكلة العقوبة أيضاً؛ لأنها تنظر إلى المجرم وتهمل الجريمة، ولأنها تفرق بين المجرمين دون فارق ملحوظ أو محدود، ولأنها تترك بعض المجرمين دون عقاب بينما تأخذ غيرهم ممن ارتكبوا نفس الفعل بأشد العقاب.
وقد وجد بعض علماء القانون أن النظريات القديمة أخفقت؛ لأنها تحتفل بالجريمة وتهمل شأن المجرم، وأن النظرية العلمية أخفقت لأنها تحتفل بالمجرم وتهمل الجريمة، فرأوا أن يدمجوا الفكرتين اللتين تقوم عليهما هذه النظريات ويقيموا عليهما نظرية جديدة بحيث يتمثل في العقوبة على كل جريمة فكرتان: فكرة التأديب والزجر، وفكرة شخصية المجرم، ولكن هذه النظرية المختلطة فشلت أكثر مما فشلت النظريات السابقة؛ لأنها تقوم على فكرتين تناقض إحداهما الأخرى في أكثر الأحوال، فالنظر في كل عقوبة إلى شخصية المجرم لا يحقق دائماً فكرة التأديب والزجر؛ أي حماية المجتمع وعلى الأخص في الجرائم الخطيرة التي تتمس الأمن والنظام والأخلاق، والأخذ بفكرة حماية المجتمع في كل عقوبة يمنع من الالتفات لشخصية المجرم في الجرائم الخطيرة والبسيطة على السواء.
ويمكن القول بأن الاتجاه السائد اليوم لدى شراح القوانين الوضعية هو أن الغرض من العقوبة تأديب المجرم واستصلاحه ومعاونته على استعادة مكانته السابقة في الهيئة الاجتماعية.
ومع أن هذا هو الاتجاه الأساسي فهناك اتجاه ثان يرى أصحابه أن تكون العقوبة أداة استئصال كلما كان المجرم غير قابل للإصلاح.
وهناك اتجاه ثالث يرى أصحابه أن تكون العقوبة وسيلة لحماية المجتمع وإرهاب من تحدثه نفسه بارتكاب الجرائم، وقد أيد الاتحاد الدولي لقانون
العقوبات هذا الاتجاه وأخذت به بعض البلاد الأوروبية ومنها ألمانيا.
وهذه الاتجاهات جميعاً تقوم إما على النظر إلى الجريمة دون المجرم، وإما على النظر إلى المجرم دون الجريمة، وإما أنها تقوم على الجمع بين هاتين الفكرتين.
هذه هي النظريات المختلفة عن العقوبة في عالم القوانين الوضعية، وظاهر من استعراضها أن شراح القوانين الوضعية يتجهون اتجاهات يناقض بعضها بعضاً، وقد منع تعدد النظريات من وضع أساس واحد ثابت للعقوبة في كل القوانين الوضعية؛ فاتخذت كل دولة لنفسها اتجاهاً خاصاً بحسب ما تراه متفقاً مع مصلحتها الخاصة أو بحسب الفكرة السائدة فيها.
ولعل تعدد النظريات والاتجاهات هو الذي دعا اتحاد القانون الدولي لقانون العقوبات - الذي حلت محله الجمعية الدولية لقانون العقوبات - لأن يقرر وجوب الاسترشاد بما تظهره التجارب، وأن أحسن نظام جنائي هو الذي يؤدي عملاً إلى نتائج أكيدة في كفاح الجريمة.
وقد حاول واضعو القوانين أن يجمعوا بين هذه النظريات والاتجاهات المختلفة بقدر الإمكان، وأن يتغلبوا على ما وجه إليها من انتقادات بحلول عملية بحته، ويمكننا أن نتخذ القانون المصري مثالاً في هذا الباب لغيره من القوانين الوضعية الحديثة، كما يمكننا أن نلخص وجهات النظر التي أخذ بها القانون المصري فيما يلي:
أولاً: أخذ القانون الجنائي المصري بالمبدأ القائل بأن الغرض من العقوبة حماية الجماعة، وجعل هذا المبدأ أصلاً وضعت على أساسه العقوبات لكل الجرائم بحيث تكفي العقوبة لتأديب المجرم على فعلته وزجر غيره عن التفكير في مثلها.
ثانياً: وأخذ القانون الجنائي المصري بالنظرية العلمية إلى حد ما، فلم ينس شخصية المجرم في كل الجرائم تقريباً، فجعل لكل جريمة عقوبتين إحداهما أخف من الأخرى، وجعل لكل عقوبة حدين تختار العقوبة من بينهما، وأباح
للقضاة في جرائم الجنايات أن تستبدلوا بالعقوبة أخرى، كما أباح لهم أن يوقفوا تنفيذ العقوبة إذا لم تزد العقوبة المحكوم بها عن حد معين هو الحبس لمدة سنة، ومعنى كل ذلك أن القانون اعترف بشخصية المجرم عند وضع العقوبة لكنه لم يلزم القضاة إلزاماً بمراعاة شخصية المجرم عند اختيار العقوبة وتقديرها، بل ترك لهم الحرية ينظرون إلى شخصية المجرم إذا رأوا ظروفه تدعو لذلك ويهملون شخصيته إذا كان هناك ما يدعو لإهمالها.
ثالثاً: بعد أن أخذ المشرع المصري بالمبدأين السابقين رأى أخيراً أن من الخطر النظر إلى شخصية المجرم في كل الجرائم وعلى الأخص في الجرائم الهامة، فحرم على القضاة أن ينزلوا بالعقوبة عن حد معين في بعض الجرائم كان حرم عليهم إيقاف تنفيذ العقوبة، وقد أخذ بهذا المبدأ في قانون المخدرات الصادر في سنة 1928، وقانون الغش الصادر في سنة 1941، وقانون السلاح الصادر في سنة 1949، وكان المنطق يقضي بعد أن أخذ المشرع المصري بهذا المبدأ الأخير أن يعيد النظر في قانون العقوبات على هدى هذا المبدأ، فيحرم على القضاة أن ينظروا إلى شخصية المجرم في جرائم هي أخطر على الجماعة من جرائم الغش وإحراز المخدرات والأسلحة، ولكنه لم يفعل، فأدى هذا الاضطراب المنطقي إلى نتيجة تبعث على الرثاء، فبينما يمنع القانون التخفيف وإيقاف التنفيذ في جرائم الغش وإحراز المخدرات والأسلحة إذا به يبيح التخفيف وإيقاف التنفيذ في جرائم الخيانة العظمى واختلاس الأموال الأميرية والرشوة والقتل والسرقات والزنا والقذف، ولا شك أن كل واحدة من هذه الجرائم أخطر من كيان المجتمع وعلى أمنه ونظامه من الغش وإحراز المخدرات والأسلحة.
هذا هو القانون الوضعي نظراً وعملاً فيما يتصل بالعقوبة، يرى أن تتمثل في العقوبة فكرة التأديب والزجر حماية للجماعة من الإجرام، ويرى أن لا تهمل في تقدير العقوبة شخصية المجرم، ويرى في بعض التشريعات الحديثة إهمال
شخصية المجرم في بعض الجرائم، والقانون واضح ومنطقي فيما يتعلق بالمبدأ الأول ولكنه بعيد عن المنطق والوضوح فيما يتعلق بالمبدأين الأخيرين حيث لم يصل بعد إلى تحديد المدى الذي يعمل فيه كل من المبدأين.
442 -
بين الشريعة والقانون: يستطيع القارئ بعد استعراض نظرية العقوبة في الشريعة ونظرياتها المختلفة في القوانين الوضعية أن يقول بأن نظرية الشريعة تجمع بين كل النظريات الوضعية التي ظهرت ابتداء من القرن الثامن عشر، فالعقوبات في الشريعة إنما شرعت لمنفعة الجماعة ولإصلاح الأفراد ولحماية الجماعة من الجريمة وتمكينها من الدفاع عن نفسها ضد الإجرام، والعقوبات في الشريعة لا يصح أن تزيد عن حاجة الجماعة كما لا يصح أن تقل عن هذه الحاجة، فهي من هذه الوجهة إجراء تقتضيه العدالة والمصلحة معاً، وهذا هو ما رآه "روسو" و"بكاريا" و"بنتام" و"كانت" مجتمعين، والعقوبة في الشريعة يقصد منها استصلاح الجاني والرحمة به والإحسان إليه، فينبغي أن لا يهمل شأن المتهم في تقدير العقوبة، وهذا هو ما تتجه إليه النظرية العلمية.
وإذا كانت نظرية الجريمة قد جمعت بين النظريات التي سادت في القوانين الوضعية من القرن الثامن عشر حتى الآن، فإن نظرية الشريعة قد تنزهت عن العيوب التي شابت النظريات الوضعية وسلمت من الانتقادات التي وجهت إليها.
ولعله مما يدهش الكثيرين أن يعلموا أن للعقوبة في الشريعة الإسلامية نظرية علمية فنية تامة التكوين لا يأتيها النقد من بين يدها ولا من خلفها، وأن القانون بالرغم مما وصل إليه من تقدم إنما يسير في أثر الشريعة ويترسم خطاها، وأنه لم يصل بعد إلى ما وصلت إليه الشريعة، وأن النتائج التي وصل إليها القانون والاتجاهات التي يتجه نحوها تدل على أن تطوره في المستقبل القريب أو البعيد لن يخرج عن النطاق الذي رسمته الشريعة للعقوبة.
ونستطيع أن نقول: إنه لا خلاف بين الشريعة والقوانين على المبادئ والأصول
التي تقوم عليها العقوبة، وإنما الخلاف في الكيفية التي تطبق بها هذه المبادئ والحدود التي تطبق فيها، فقد طبقت الشريعة كل المبادئ التي تعترف بها القوانين الوضعية ولكنها لم تجمع بينها في كل العقوبات ولم تسو بينها في كل الجرائم، بل جعلت لكل مبدأ منطقة يعمل فيها وحده أو مع غيره، وجعلت لهذه المناطق معالم بارزة واضحة لا يخطئها عقل ولا بصر، ومن ثم استطاعت الشريعة أن تخرج على الناس بنظرية منطقية عملية لا عيب فيها ولا مأخذ عليها.
أما القوانين الوضعية فقد حاولت الجمع بين كل هذه المبادئ والتسوية بينها في كل الجرائم والعقوبات كما حاول ذلك شراح القوانين الوضعية، وكانت النتيجة أن أخفق واضعو القانون في إيجاد حلول عملية مقبولة كما أخفق الشراح في إيجاد نظرية علمية سليمة، وفي اليوم الذي تطبق فيه القوانين الوضعية المبادئ التي تقوم عليها العقوبة تطبيقاً سليماً متفقاً مع مصلحة الجماعة والأفراد، وملائماً لطبائع الأشياء، ستضطر أن تجعل لكل مبدأ منطقة يعمل فيها، وستهمل شخصية المجرم في الجرائم التي تمس كيان المجتمع، فتصل بذلك إلى ما سبقتها إليه الشريعة وتصبح متفقة معها تمام الاتفاق.
ولا يفوتنا بعد هذا أن نذكر أن القانون الوضعي كان حتى آخر القرن الثامن عشر قانوناً وحشياً بعيداً عن أفق الإنسانية، فكان يحكم الأحياء والأموات والحيوان والجماد وينزل بالجميع عقوبات شتى قائمة على التمثيل والتشهير.
كان القانون الوضعي كذلك حتى أخذ في القرن الثامن عشر بأول مبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية فانقلب قانوناً إنسانياً بحتاً؛ إذ أصبحت العقوبة فيه قائمة على أساس التأديب والزجر بقصد حماية المجتمع، ولم تعد هناك حاجة للتمثيل والتشهير، ولم يعد منطق القانون يقبل محاكمة الأموات والحيوانات والجمادات؛ لأن التأديب لا ينفع فيهم فلا يجوز إذن عليهم، وهذا المبدأ الأول الذي لم يعرفه القانون إلا في القرن الثامن عشر عرفته الشريعة مع غيره من المبادئ من القرن السابع الميلادي، ولذلك تركزت المسئولية الجنائية من يوم نزول الشريعة في الإنسان الحي، ولم
يجعل غيره أهلاً لها، ولم يعرف عن الشريعة ما عرف عن القانون من محاكمة الأموات والحيوان والجماد، ولم يعرف عنها أنها تقبل التشهير والتمثيل، بل عرف عنها أنها تأباه أشد الإباء، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور، ومن لا يرضى المثلة للحيوان فهو دون شك لا يرضاها لإنسان. ويكفي الشريعة الإسلامية فخراً بعد هذا أنها سبقت تفكير العالم بأحد عشر قرناً، وأن العالم يسير على آثارها من قرنين ولا تزال تسبق تفكيره بمراحل.
443 -
شروط العقوبة: يشترط في كل عقوبة أن تتوفر فيها الشروط الآتية لتكون عقوبة مشروعة:
أولاً: أن تكون العقوبة شرعية: وتعتبر العقوبة شرعية إذا كانت تستند إلى مصدر من مصادر الشريعة، كأن يكون مردها القرآن، أو السنة، أو الإجماع، أو صدر بها قانون من الهيئة المختصة، ويشترط في العقوبات التي يقررها أولو الأمر أن لا تكون منافية لنصوص الشريعة وإلا كانت باطلة.
ويترتب على اشتراط شرعية العقوبة أنه لا يجوز للقاضي أن يوقع عقوبة من عنده ولو اعتقد أنها أفضل من العقوبات المنصوص عليها.
ويظن البعض خطأ أن الشريعة تمنح القاضي سلطة تحكمية في العقاب، وهو ظن لا يتفق مع الواقع، وليس له مصدر إلا الجهل بأحكام الشريعة، فالعقوبات في الشريعة تقسم إلى حدود وقصاص وتعازير، فأما الحدود والقصاص فهي عقوبات مقدرة معينة ليس للقاضي حيالها من سلطان إلا أن يحكم بتطبيقها كلما كانت الجريمة ثابتة دون أن يستطيع تخفيفها أو تشديدها أو استبدال غيرها بها.
فالسرقة مثلاً عقوبتها القطع وليس للقاضي إذا ثبتت الجريمة على الجاني أن يحكم عليه بغير القطع، إلا إذا كان هناك سبب شرعي يمنع من عقوبة القطع كسرقة الأب من الابن. والزنا من غير محصن فعقوبته الجلد مائة جلدة؛ فإذا ثبت الزنا
حكم القاضي بالجلد مائة جلدة، وليس له أن ينقص منها واحدة أو يزيد عليها واحدة، وليس له أن يستبدل بالجلد عقوبة أخرى. والقتل العمد عقوبته القصاص أي القتل، فإذا ثبتت الجريمة على الجاني كان على القاضي أن يحكم بالقصاص، وليس له أن يحكم بعقوبة أخرى إلا إذا كان هناك سبب شرعي يمنع من القصاص، فسلطة القاضي في الحدود والقصاص محدودة مقيدة.
أما التعازير فسلطة القاضي فيها واسعة ولكنها ليست تحكمية، فهي واسعة لأن الشريعة تعاقب على جرائم التعازير بمجموعة من العقوبات تبدأ بأتفه العقوبات كالتوبيخ وتنتهي بأشدها كالحبس حتى الموت والقتل، وتترك الشريعة للقاضي أن يختار من بين هذه المجموعة العقوبات الملائمة للجريمة والمجرم، كأن تترك له أن يقدر كمية العقاب من بين حدي العقوبة الأدنى والأعلى، ولا شك أن إعطاء القاضي هذا السلطان المشروع الواسع يسهل عليه أن يضع الأمور في مواضعها، وأن يعاقب الجاني بالعقوبة التي تحمي الجماعة من الجريمة وتصلح الجاني وتؤدبه. وسلطة القاضي على سعتها ليست تحكمية لأنه لا يستطيع أن يحكم بعقوبة غير شرعية، ولا أن يعاقب الجاني بعقوبة لا تتلاءم مع جريمته، ولعل اتساع سلطة القاضي هو الذي دعا إلى الظن خطأ بأن سلطة القاضي في الشريعة سلطة تحكمية.
وليس في الشريعة ما يوجب منح القضاة هذا السلطان الواسع، ومن ثم يجوز لولي الأمر أن يضيق هذا السلطان إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة؛ لأن المصلحة العامة هي التي سوغت منح القضاة هذا السلطان (1) .
ثانياً: أن تكون العقوبة شخصية: ويشترط في العقوبة أن تكون شخصية تصيب الجاني ولا تتعداه إلى غيره، وهذا الشرط هو أحد الأصول التي تقوم
(1) راجع الفقرة 97 وما بعدها.
عليها الشريعة الإسلامية، وقد تكلمنا عن هذا الشرط بما فيه الكفاية بمناسبة الكلام على المسئولية (1) .
ثالثاً: أن تكون العقوبة عامة: ويشترط في العقوبة أن تكون عامة تقع على كل الناس مهما اختلفت أقدارهم، وبحيث يتساوى أمامها الحاكم والمحكوم والغني والفقير والمتعلم والجاهل.
والمساواة التامة في العقوبة لا توجد إلا إذا كانت العقوبة حداً أو قصاصاً؛ لأن العقوبة معينة ومقدرة، فكل شخص ارتكب الجريمة عوقب بها وتساوى مع غيره في نوع العقوبة وقدرها.
أما إذا كانت العقوبة التعزير فالمساواة في نوع العقوبة غير مطلوبة، ولو اشترطت المساواة على هذا الوجه لأصبحت عقوبة التعزير حداً، وإنما المطلوب هو المساواة في أثر العقوبة على الجاني، والأثر المرجو للعقوبة هو الزجر والتأديب، وبعض الأشخاص يزجرهم التوبيخ، وبعضهم لا يزجرهم إلا الضرب أو الحبس، وعلى هذا تعتبر المساواة محققة إذا عوقب المشتركين في جريمة واحدة بعقوبات مختلفة تكفي كل منها لردع من وقعت عليه بحسب حاله وظروفه.
* * *
(1) راجع الفقرتين 281، 472.