المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الشريعة لا تبيح عصمة المحل، أي أن رفع العقوبة عن - التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي - جـ ١

[عبد القادر عودة]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌تقديم وتوجيه

- ‌1 - موضوع البحث:

- ‌2 - محتويات الجزء الأول:

- ‌3 - مدى المقارنة بين الشريعة والقانون الوضعي:

- ‌4 - المذاهب الشرعية المقارن بها:

- ‌5 - علة الاقتصار على المذاهب الأربعة:

- ‌6 - لغة البحث:

- ‌7 - الفقهاء والشراح:

- ‌8 - لماذا بدأت بالقسم الجنائي

- ‌9 - كيف دفعت لدراسة الشريعة

- ‌10 - حاجة الكتب الشرعية إلى تهذيب:

- ‌11 - طريقة التأليف:

- ‌12 - كيف وصمت الشريعة بعدم الصلاحية

- ‌13 - وجه الخطأ في قياس الشريعة بالقانون:

- ‌14 - لا قياس بين مختلفين:

- ‌15 - نشأة القانون:

- ‌16 - نشأة الشريعة:

- ‌17 - لا مماثلة بين الشريعة والقانون:

- ‌18 - الاختلافات الأساسية بين الشريعة والقانون:

- ‌19 - المميزات الجوهرية التي تميز الشريعة عن القانون:

- ‌20 - الأدلة على توفر هذه المميزات في الشريعة:

- ‌21 - نظرية المساواة:

- ‌22 - نظرية مساواة المرأة بالرجل:

- ‌23 - نظرية الحرية:

- ‌24 - حرية التفكير:

- ‌25 - حرية الاعتقاد:

- ‌26 - حرية القول:

- ‌27 - نظرية الشورى:

- ‌28 - نظرية تقييد سلطة الحاكم:

- ‌29 - نظرية الطلاق:

- ‌30 - نظرية تحريم الخمر:

- ‌31 - نظرية تعدد الزوجات:

- ‌32 - نظريات في الإثبات والتعاقد:

- ‌33 - نظرية الإثبات بالكتابة:

- ‌34 - نظرية إثبات الدين التجاري:

- ‌35 - نظرية حق الملتزم في إملاء العقد:

- ‌36 - نظرية تحريم الامتناع عن تحمل الشهادات:

- ‌37 - أحكام أخرى في آية الدين:

- ‌38 - تذكير:

- ‌منهج البحث

- ‌الكتاب الأول في الجريمة

- ‌القسم الأول من الكتاب الأول

- ‌الباب الأولماهية الجريمة

- ‌الباب الثانيأنواع الجريمة

- ‌الفصل الأولالتقسيم المبني على جسامة العقوبة

- ‌الفصل الثانيتقسيم الجرائم بحسب قصد الجاني

- ‌الفصل الثالثتقسيم الجرائم بحسب وقت كشفها

- ‌الفصل الرابع[تقسيم الجرائم بحسب طريقة وكيفية ارتكابها ووقوعها]

- ‌المبحث الأول[تقسيم الجرائم بحسب طريقة ارتكابها]

- ‌المبحث الثانيتقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها

- ‌المبحث الثالثتقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها

- ‌الفصل الخامس[تقسيم الجرائم بحسب طبيعتها]

- ‌المبحث الأولتقسيم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة

- ‌المبحث الثانيتقسيم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة

- ‌القسم الثاني من الكتاب الأولالأركان العامة للجريمة

- ‌الباب الأولالركن الشرعي للجريمة

- ‌الفصل الأولالنصوص المقررة للجرائم والعقوباتأي الأحكام الجنائية الشرعية

- ‌المبحث الأولالأحكام الجنائية الشرعية وأثرها في الجريمة والعقوبة

- ‌الفرع الأوللا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم الحدود

- ‌الفرع الثانيلا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم القصاص والدية

- ‌الفرع الثالثلا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم التعازير

- ‌القسم الأول: التعزير على المعاصي

- ‌القسم الثاني: التعزير للمصلحة العامة

- ‌القسم الثالث: التعزير على المخالفات

- ‌الفرع الرابعكيف طبقت القوانين الوضعية القاعدة

- ‌المبحث الثانيأدلة الأحكام الشريعةأي مصادر التشريع الجنائي

- ‌الفرع الأولالقرآن

- ‌الفرع الثانيالسنة

- ‌الفرع الثالثالإجماع

- ‌الفرع الرابعالقياس

- ‌المبحث الثالثتفسير الأحكام الجنائية، أي النصوص الجنائية

- ‌الفرع الأولالقواعد اللغوية الموضوعة للتفسير

- ‌الفرع الثانيالقواعد التشريعية التي تراعى عند التفسير

- ‌المبحث الرابعتعارض الأحكام (أي النصوص) ونسخها

- ‌المبحث الخامسعلاقة الأحكام الشرعية بأحكام القوانين

- ‌الفصل الثانيسريان النصوص الجنائية على الزمان

- ‌الفصل الثالثسريان النصوص الجنائية على المكان

- ‌الفصل الرابعسريان النصوص الجنائية على الأشخاص

- ‌الباب الثانيالركن المادي للجريمة

- ‌الفصل الأولالشروع في الجريمة

- ‌الفصل الثانيالاشتراك في الجريمة

- ‌المبحث الأولالاشتراك المباشر

- ‌الباب الثالثالركن الأدبي

- ‌الفصل الأولالمسئولية الجنائية

- ‌المبحث الأولأساس المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الثانيمحل المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الثالثسبب المسئولية ودرجتها

- ‌المبحث الرابعقصد العصيان: أو القصد الجنائي

- ‌المبحث الخامسأثر الجهل والخطأ والنسيان على المسئولية

- ‌المبحث السادسأثر الرضاء بالجريمة على المسئولية الجنائية

- ‌المبحث السابعالأفعال المتصلة بالجريمة وعلاقتها بالمسئولية الجنائية

- ‌الفصل الثانيارتفاع المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الأولأسباب الإباحةاستعمال الحقوق وأداء الواجبات

- ‌الفرع الأولالدفاع الشرعي

- ‌المطلب الأولالدفاع الشرعي الخاص، أو "دفاع الصائل

- ‌المطلب الثانيالدفاع الشرعي العامأو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الفرع الثانيالتأديب

- ‌الفرع الثالثالتطبيب

- ‌الفرع الرابعألعاب الفروسية

- ‌الفرع الخامسإهدار الأشخاص

- ‌الفرع السادسحقوق الحكام وواجباتهم

- ‌المبحث الثانيأسباب رفع العقوبة

- ‌الفرع الأولالإكراه

- ‌الفرع الثانيالسكر

- ‌الفرع الثالثالجنون

- ‌الفرع الرابعصغر السن

- ‌الكتاب الثاني في العقوبة

- ‌الباب الأولالعقوبة - مبادئ عامة

- ‌الباب الثانيأقسام العقوبة

- ‌الفصل الأولالعقوبات المقررة لجرائم الحدود

- ‌المبحث الأولعقوبات الزنا

- ‌المبحث الثانيعقوبة القذف

- ‌المبحث الثالثعقوبة الشرب

- ‌المبحث الرابععقوبة السرقة

- ‌المبحث الخامسعقوبة الحرابة

- ‌المبحث السادسعقوبة الردة والبغي

- ‌الفصل الثانيالعقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية

- ‌الفصل الثالثعقوبات الكفارات

- ‌الفصل الرابععقوبات التعازير

- ‌الفصل الخامسمدى صلاحية العقوبات الشرعية

- ‌الفصل السادسالعقوبات في القانون المصري ومدى صلاحيتها

- ‌الباب الثالثتعدد العقوبات

- ‌الباب الرابعاستيفاء العقوبات

- ‌الباب الخامسالعود

- ‌الباب السادسسقوط العقوبة

الفصل: الشريعة لا تبيح عصمة المحل، أي أن رفع العقوبة عن

الشريعة لا تبيح عصمة المحل، أي أن رفع العقوبة عن السكران بسبب عدم الإدراك لا يمنع من مسئوليته مدنياً عن تعويض الأضرار التي سببها للغير؛ لأن عدم الإدراك إذا صلح سبباً لرفع العقوبة فإنه لا يصلح سبباً لإهدار الدماء والأموال.

410 -

الشريعة والقوانين: تتفق آراء شرح القوانين مع ما يراه الفقهاء في الشريعة، وينقسمون أيضاً قسمين: أقلية ترى ما يراه أصحاب الرأي المرجوح في الشريعة من أن السكران لا يعاقب في أي حال على ما يرتكبه من الجرائم، وأغلبية ترى ما يراه أصحاب الرأي الراجح في الشريعة من رفع العقاب عن السكران إذا تناول المسكر مكرهاً أو غير عالم بأنه مسكر ثم ارتكب الجريمة أثناء سكره، فإن تناول المسكر مختاراً فإنه يعاقب على أية جريمة يرتكبها أثناء سكره.

ويتفق نص القانون المصري تمام الاتفاق مع الرأي الراجح في الشريعة الإسلامية، فهو لا يعاقب من ارتكب الفعل وهو فاقد الشعور لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أياً كان نوعها إذا أخذها قهراً أو على غير علم منه بها.

* * *

‌الفرع الثالث

الجنون

411 -

تمهيد: تعتبر الشريعة الإنسان مكلفاً أي مسئول مسئولية جنائية إذا كان مدركاً مختاراً، فإذا انعدم أحد هذين العنصرين ارتفع التكليف عن الإنسان، ومعنى الإدراك في المكلف أن يكون متمتعاً بقواه العقلية، فإن فقد عقله لعاهة أو أمر عارض أو جنون فهو فاقد الإدراك.

والمرء قد يولد فاقداً لقواه العقلية وقد يولد متمتعاً بهذه القوى، وقد تنمو قواه العقلية مسايرة إلى نمو جسمه، وقد يعترضها ما يوقف نموها من مرض أو

ص: 584

عاهة فينمو الجسم إلى آخر أطوار نموه وتظل القوى العقلية باقية في أطوارها الأولى، وقد يبلغ الإنسان رشيداً متمتعاً بقواه العقلية ولكن يطرأ عليه مرض يذهب بقواه العقلية كلها أو بعضها، ففقدان القوى العقلية ليس له وقت ولا أوان.

وفقدان القوى العقلية قد يكون تاماً ومستمراً ويسمونه جنوناً مطبقاً. وقد يكون تاماً وغير مستمر ويسمونه جنوناً متقطعاً. وقد يكون جزئياً فيفقد الإنسان قدرة الإدراك في موضوع بعينه، ولكنه يظل متمتعاً بالإدراك فيما عداه، وهذا ما يسمونه بالجنون الجزئي. وقد لا تفقد القوى العقلية تماماً، ولكنها تضعف ضعفاً غير عادي، فلا ينعدم الإدراك كلية، ولا يصل في قوته إلى درجة الإدراك العادي للأشخاص الراشدين، وهذا ما يسمونه بالعته أو البله.

وهناك مظاهر أخرى لفقدان القوى العقلية اصطلح على تسميتها بأسماء معينة، ولكنها جميعاً تقوم على أساس واحد هو انعدام الإدراك في الإنسان، وحكم هذه الحالات جميعاً واحد على تعدد مظاهرها واختلاف مسمياتها، وهو أن المسئولية الجنائية تنعدم كلما انعدم الإدراك فإذا لم ينعدم فالمسئولية قائمة.

412 -

تعريف الجنون: ونستطيع بعد ما سبق أن نعرف الجنون: بأنه زوال العقل أو اختلافه أو ضعفه، وهو تعريف يشمل الجنون والعته وغير ذلك من الحالات المرضية والنفسية التي تؤدي إلى إنعدام الإدراك، وسنبين فيما يلي حالات الجنون وما يلحق بها.

413 -

الجنون المطبق: الجنون المطبق الذي لا يعقل صاحبه شيئاً أو هو الجنون الكلي المستمر، ويستوي أن يكون عارضاً للإنسان أو أن يكون مصاحباً له من يوم ولادته، ويسمى بالجنون المطبق إما لأنه يستوعب كل أوقات المجنون، وإما لكونه مجنوناً كلياً لا يفقه صاحبه شيئاً، ويعبر بعض الفقهاء عن المجنون جنوناً مطبقاً بالمجنون المغلوب، ولكن يرى البعض أن المجنون المغلوب هو من كان جنونه مستمراً سوء كان جنونه كلياً بحيث

ص: 585

لا يعقل شيئاً ما أو كان جنونه جزئياً بحيث يعقل بعض الأشياء دون البعض الآخر.

414 -

الجنون المتقطع: هو الذي لا يعقل صاحبه شيئاً واكنه جنون غير مستمر، فهو يصيب الشخص تارة ويرتفع عنه أخرى، فإذا أصابه فعد عقله تماماً، وإذا ارتفع عنه عاد إليه عقله، فهو نفس الجنون المطبق لا يفترق عنه إلا في الاستمرار. فالجنون المتقطع يفقد صاحبه الإدراك في حالة وجوده فلا يكون مسئولاً جنائياً، فإذا انقشع عنه عاد له الإدراك وصار مسئولاً جنائياً عما يرتكبه من جرائم في حالة إفاقته، بعكس المجنون جنوناً مطبقاً، فإنه لا يسأل جنائياً؛ لأن جنونه تام ومستمر.

وإذا أفاق صاحب الجنون المتقطع إفاقة جزئية، بمعنى أنه لا يدرك إدراكاً تاماً في حالة أو في حالات معينة، ولكنه يدرك إدراكاً تاماً فيما عدا ذلك، فحكمه في حالة الإفاقة الجزئية حكم صاحب الجنون الجزئي.

وإذا أفاق صاحب الجنون المتقطع ولكنه كان في إفاقته ضعيف الإدراك بصفة عامة فحكمه في هذه الحالة حكم المعتوه.

415 -

الجنون الجزئي: إذا لم يكن الجنون كلياً وكان قاصراً على ناحية أو أكثر من تفكير المجنون بحيث يفقده الإدراك في هذه الناحية أو هذه النواحي فقط مع بقائه متمتعاً بالإدراك في غيرها من النواحي، فهذا هو الجنون الجزئي.

والمجنون جزئياً مسئول جنائياً فيما يدركه، وغير مسئول في النواحي التي ينعدم فيها إدراكه.

وقد يكون الجنون الجزئي متقطعاً ينتاب المريض حيناً ويرتفع عنه حيناً آخر، فإذا ارتفع الجنون صار المريض مسئولاً جنائياً عما يرتكبه من جرائم في حالة إفاقته. وقد يكون الجنون جزئياً مستمراً، ويسمي البعض المجنون في

ص: 586

هذه الحالة بالمجنون المغلوب؛ لأنهم يرون أن المجنون المغلوب هو من كان جنونه مستمراً سواء كان كلياً أو جزئياً، والتسمية على كل حال لا أهمية لها؛ لأن العبرة في انعدام المسئولية بفقد الإدراك لا بالتسمية، فالمجنون غير مسئول كلما انعدم إدراكه.

416 -

العَتَه: يعرف الفقهاء المعتوه بأنه: من كان قليل الفهم، مختلط الكلام، فاسد التدبير، سواء كان ذلك ناشئاً من أصل الخلقة أو لمرض طرأ عليه. ويفهم من هذا التعريف أن العته أقل درجات الجنون، ويمكن القول بأن الجنون يؤدي إلى زوال العقل أو اختلاله، أما العته فيؤدي إلى إضعافه ضعفاً تتفاوت درجاته، ولكن إدراك المعتوه أياً كان لا يصل إلى درجة الإدراك في الراشدين العاديين.

وأكثر الفقهاء يسلمون أن العته نوع من الجنون وبأن درجات الإدراك تتفاوت في المعتوهين ولكنها لا تخرج عن حالة الصبي المميز، ولكن بعض الفقهاء يرون أن بعض المعتوهين يكونون من حيث الإدراك كالصبي الغير مميز وبعضهم كالصبي المميز، وأصحاب هذا الرأي لا يجعلون فرقاً بين الجنون والعته إذا كان المعتوه في أقل درجات التمييز، ولذلك فرقوا بين الجنون والعته بأن الأول يصحبه اضطراب وهيجان، والثاني يلازمه الهدوء ولكن حقيقتهما واحدة.

وسواء صح هذا الرأي أو ذاك فهي مسميات لحقائق واقعة ومعبرة بالواقع لا بالمسمى؛ لأن فاقد الإدراك معفى من العقاب سواء سمي معتوهاً أو مجنوناً أو كان له اسم آخر.

417 -

الصرع والهستيريا وما أشبه: هناك حالات عصبية تظهر على المرضى بها فيفقدون شعورهم أو اختيارهم كما يفقدون إدراكهم ويأتون بحركات وأعمال وأقوال لا يعونها ولا يدركون حقيقتها. وهذه الحالات المرضية لم يتعرض لها فقهاء الشريعة بصفة خاصة، ولعل السر في ذلك أن العلوم النفسية والطبية

ص: 587

لم تكن وصلت إلى ما هي عليه اليوم من التقدم، ولكن هذه الحالات على اختلافها يمكن استظهار حكمها بسهولة إذا طبقنا عليها قواعد الشريعة العامة.

والمصاب بالصرع تأخذه حالات تشنجية بعد أن يفقد الإدراك والاختيار، وقد يرتكب وهو في هذه الحالة أعمالاً إجرامية دون أن يشعر بما حدث منه بعد إفاقته.

والمصاب بالهيستريا تنتابه حركات تشنجية فإذا عاودته راح يهذي دون وعي، والمريض بالملاخوليا يتصور الأمور على غير حقيقتها ويدعوه هذا التصور المغاير للواقع إلى إتيان أمور لا مبرر لها.

وهؤلاء المرضى وأمثالهم حكمهم حكم المجنون إذا كانوا وقت ارتكاب الحادث فاقدي الإدراك أو كان إدراكهم ضعيفاً في درجة إدراك المعتوه، ويأخذ هؤلاء المرضى حكم المكره إذا كانوا متمتعين بالإدراك ولكنهم فاقدي الاختيار فإن لم يفقدوا إدراكهم ولا اختيارهم فهم مسئولون جنائياً عن أعمالهم.

418 -

تسلط الأفكار الخبيثة: ويلحق بالمجنون ما يسمونه في عصرنا الحاضر تسلط الأفكار الخبيثة، وهي حالة مرضية تنشأ عن ضعف الأعصاب أو الوراثة، ومظهرها وقوع الإنسان تحت سلطان فكرة معينة، والشعور القوي الذي لا يدفع بالرغبة في إتيان فعل معين استجابة للفكرة المتسلطة، فمن يعتقد أنه مضطهد، أو أن أناساً يريدون قتله أو تسميمه، فيشعر بالرغبة الجامحة في قتل من يتوهم أنه يريد قتله أو الانتقام منه، وقد يأتي المريض الفعل استجابة لميل غريزي جامح لا تحت تأثير فكرة متسلطة عليه.

وحكم المرضى من هذا النوع إلحاقهم بالمجانين إذا كانوا يأتون الفعل وهم فاقدوا الإدراك أو كان إدراكهم من الضعف بحيث يساوي إدراك المعتوه، فإن لم يكونوا كذلك فهم مسئولون جنائياً.

419 -

ازدواج الشخصية: هي حالة مرضية نادرة تصيب الإنسان

ص: 588

فيظهر في بعض الأحيان بغير مظهره العادي وتتغير أفكاره ومشاعره وقد تتغير ملامحه ويأتي أعمالاً ما كان يأتيها وهو في حالته العادية، ثم تزول الحالة الطارئة فلا يذكر شيئاً مما حدث له بعد أن يعود إلى حالته الطبيعية.

وحكم هذه الحالة أنه يعتبر مجنوناً إذا لم يدرك ما يفعله؛ لأنه كان فاقداً عقله وقت ارتكاب الفعل.

420 -

ضعف التمييز: هناك أشخاص يرتفع إدراكهم عن إدراك المجنون والمعتوه ولكنه ينقص عن إدراك الإنسان الكامل، وهم على ضعف إدراكهم سريعو الاندفاع ولكنهم حين يأتون الجريمة يأتونها وهم مميزون مدركون لأفعالهم، وهذا الإدراك الناقص نوع لا يعفي من العقاب طبقاً لقواعد الشريعة العامة، وهو كذلك لا يعفي من العقاب في القوانين الوضعية. ويرى بعض الشراح تخفيف العقوبة باعتبار الفاعل معذوراً، ولكن البعض الآخر يرى تشديد العقوبة لأن العقوبة الشديدة هي التي تردع أمثال هؤلاء وتصرفهم عن ارتكاب الجرائم. ولا تسمح قواعد الشريعة بالأخذ بفكرة التخفيف إلا في جرائم التعازير، أما جرائم الحدود والقصاص فلا يصح فيها تخفيف العقوبة ولا استبدال غيرها بها؛ لخطورة هذه الجرائم واتصالها الشديد بحياة الأشخاص وأمن الجماعة ونظامها.

421 -

الصم البكم: الصم البكم مسئولون جنائياً عن جرائمهم كلما كانوا متمتعين بالإدراك والاختيار وقت ارتكابها، فإذا أثرت حالتهم على إدراكهم بحيث يمكن اعتبارهم مجانين أو معتوهين فلا مسئولية عليهم.

ويرى أبو حنيفة وأصحابه درء الحدود عن الصم البكم والاكتفاء بتعزيرهم ولو أقروا بالجريمة؛ لأن الصم والبكم شبهة، ولأن إقرارهم يقوم على الإشارة وقد يقصد بالإشارة غير المعنى الذي فهم منها، ولأن الأصم الأبكم لو استطاع أن ينطق لدفع التهمة أو جرح الشهود. ويخالف مالك والشافعي وأحمد رأي

ص: 589

أبي حنيفة، ويأخذون بإقرار الأبكم ما لم يكن في الإشارة شبهة ولا يرون درء الحد عنه بالصمم والبكم.

422 -

الحركة النومية: يأتي بعض الناس أفعالاً وهو نائم دون أن يشعر، ويغلب أن تكون الحركات التي يأتي بها النائم ترديداً للحركات التي اعتاد أن يأتيها في اليقظة، ولكن يحدث أن يأتي بحركات مخالفة لا علاقة لها بالحركات التي يأتيها وهو متيقظ.

ويعللون حركة النائم من الناحية العلمية بأن ملكات الإنسان جميعاً لا تتأثر بنومه بل يهجع بعضها ويظل البعض متنبهاً بدرجات مختلفة، ويحدث عند من تنتابهم هذه الحالة أن تتنبه فيهم بعض الملكات بدرجة غير عادية فتؤدي وظائفها العادية دون أن يشعر النائم بذلك، فيتحرك أو يكتب أو يأتي أعمالاً أخرى، ثم تزول حالة التنبه الطارئة فيعود النائم إلى حالته الطبيعية ولا يشعر بعد اليقظة مما حدث منه أثناء النوم.

والقاعدة العامة في الشريعة أن لا عقاب على النائم، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:"رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق"، وإذا كان الحديث قد جمع بين حالة النوم وحالة الجنون وجعل حكمهما واحداً إلا أن الفقهاء يلحقون حالة النوم بالإكراه ولا يلحقونها بالجنون، ولعل الحكمة في هذا هي أن النائم المتيقظ يتمتع بالإدراك وإنما يفقد فقط الاختيار، فهو يعمل ما يعمل دون أن يقصد عمله، وهو وقت العمل لا يفقد إدراكه بدليل أنه لا يأتي أعماله اعتباطاً ويميز بين الضار والنافع ولا يأتي أعمالاً تضر به.

وشراح القانون الوضعي يتكلمون عن هذه الحالة إذا تكلموا عن الجنون، على أساس أن النائم يكون فاقد الإدراك والاختيار معاً، وأن ميوله هي التي تحرك عضلاته دون أن يرى ما يفعل ببصره أو بعقله.

ويلوح لي أن إلحاق هذه الحالة بالإكراه أقرب للمنطق من إلحاقها بالجنون

ص: 590

حتى لو صح أن النائم يفقد إدراكه أيضاً؛ لأن المكره مع تمتعه بالإدراك والإرادة لا يعمل بعقله ولا بإرادته وإنما يعمل مدفوعاً بإرادة غيره وعقل غيره، وقد تحركه قوة مادية خارجية فلا يغني عنه عقله ولا إرادته شيئاً، والنائم المتيقظ أشبه شيء بالمكره فهو متمتع يالإدراك والاختيار ولكنهما لا يغنياه شيئاً وقت الحركة النومية.

وليس ثمة فرق عملي بين الشريعة والقوانين الوضعية في هذه المسألة بالرغم مما ذكرنا؛ لأن الإكراه في الشريعة يرفع العقوبة وكذلك الجنون، وحكم الإكراه والجنون في القوانين الوضعية أنهما يرفعان أيضاً العقوبة، فسواء اعتبرنا النائم مكرهاً أو مجنوناً فهو غير معاقب على يأتيه من جرائم أثناء نومه.

423 -

التنويم المغناطيسي: هو حالة من حالات النوم الصناعي يقع فيها شخص بتأثير يصبح النائم تحت تأثير المنوم يفعل كل ما يأمره بفعله سواء وقت النوم أو بعد اليقظة، وينفذ النائم عادة هذه الأوامر بشكل آلي فلا يشعر بما فعل تلبية للأمر الصادر إليه إذا أتى الفعل أثناء النوم، ولا يستطيع مقاومة إيحاء الآمر إذا أتى الفعل بعد اليقظة. ولم يعرف بعد بصفة قاطعة الكيفية التي يسيطر بها المنوم على النائم وإن كان البعض الأطباء يرى أن النائم يستطيع أن يقاوم الإيحاء الإجرامي.

وإذا طبقنا قواعد الشريعة على هذه الحالة وجب أن نلحقها بحالة النوم الطبيعي، ومن ثم يكون النائم مكرهاً ويرتفع عنه العقاب للإكراه إذا ارتكب جريمة من الجرائم التي يرفع فيها الإكراه العقاب. والواقع أنه يصعب إلحاق التنويم المغناطيسي بالجنون؛ لن النوم الصناعي الذي يقع فيه النائم لا يسلبه الإدراك وإنما يسلبه فقط الاختيار.

وآراء أغلب شراح القوانين تتفق مع الشريعة في اعتبار التنويم المغناطيسي

ص: 591

إكراهاً وإن كانوا يتكلمون عنه عادة بمناسبة الكلام على الجنون.

هذا هو حكم التنويم المغناطيسي إذا كان النائم قد نام مرغماً أو قبل أن ينام وهو لا يفكر في ارتكاب الجريمة، أما إذا كان النائم يعلم أن المنوم يقصد من تنويمه أن يوحي إليه بارتكاب جريمة أو يشجعه على ارتكابها ثم قبل أن ينام فإن النائم في هذه الحالة يعتبر متعمداً ارتكاب الجريمة، وما كان التنويم إلا وسيلة من وسائل التي تساعده على ارتكابها، فهو مسئول عن فعله طبقاً لقواعد المسئولية العامة، وفي هذا تتفق الشريعة الإسلامية مع القوانين الوضعية تمام الاتفاق.

424 -

هياج العواطف: إذا كان الإنسان متمتعاً بالإدراك والاختيار ثم ارتكب جريمة فهو مسئول عنها جنائياً ولو كان قد ارتكب الجريمة تحت تأثير عاطفة قوية، ويستوي أن تكون العاطفة شريفة أو دنيئة، فمن دفعه حب الانتقام أو شدة الكراهية لقتل شخص فهو مسئول عن قتله، ومن دفعه الحب الشديد لقتل إنسان ليخلصه من آلامه الشديدة فهو مسئول أيضاً عن قتله، فالعواطف القوية مهما بلغت قوتها لا أثر لها على المسئولية الجنائية، وإنما قد يكون لها في الشريعة أثر في العقوبة إذا كانت العقوبة تعزيراً، أما إذا كانت حداً فلا أثر للعاطفة على مسئولية ولا على العقوبة.

والغضب الشديد أو الاستفزاز لا تعتبره الشريعة مبرراً لارتكاب الجريمة ولا مانعاً من المسئولية الجنائية، إنما قد يكون لهما أثر على العقوبة إذا كانت تعزيراً، فإن كانت العقوبة حداً فلا أثر للغضب أو الاستفزاز عليها.

ولكن الخوف الشديد من الاعتداء قد يرفع المسئولية الجنائية إذا كان الإنسان في حالة دفاع شرعي أو في حالة إكراه.

ويرى بعض الفقهاء إعفاء قاتل الزاني غير المحصن من العقوبة إذا قتل في حالة اتلبس على أساس أنه كان في حالة استفزاز وتهيج. ولكن الرأي الراجح

ص: 592

أن علة القتل هي تغيير المنكر وأن من يغير المنكر يؤدي واجباً عليه فالفعل مباح له (1) .

هذا هو أثر العواطف القوية على المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية، والقاعدة العامة في القوانين الوضعية أن العواطف مهما بلغت من القوة لا أثر لها على المسئولية الجنائية، ولكنها قد تصلح عذراً لتخفيف العقوبة إذا رأى القاضي ذلك. على أن بعض القوانين تجعل من حالة الاستفزاز عذراً قانونياً، كالقانون الفرنسي فإنه يجعل الاستفزاز عذراً قانونياً في جرائم القتل والضرب، وكالقانون المصري يجعل التلبس بالزنا عذراً للزوج الذي يقتل زوجته ومن يزني بها.

425 -

حكم الجنون: يختلف حكم الجنون بحسب ما إذا كان معاصراً للجريمة أو لاحقاً لها.

426 -

حكم الجنون المعاصر للجريمة: يترتب على الجنون المعاصر للجريمة رفع العقوبة عن الجاني لانعدام الإدراك فيه. فالجنون لا يبيح الفعل المحرم وإنما يرفع عقوبته عن الفاعل، وهذا الحكم متفق عليه بين فقهاء الشريعة، ولا تختلف الشريعة في هذا عن القوانين الوضعية الحديثة، فكلها على أن الجنون يمنع عقوبة الفاعل ولكنه لا يبيح الفعل، ونص القانون المصري صريح في هذا فهو يقضي بأن لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل إما لجنون أو عاهة في العقل (2) .

مسئولية المجنون المدنية: وإعفاء المجنون ومن في حكمه من العقوبة الجنائية لا يعفيه من المسئولية المدنية عن فعله؛ لأن الأموال والدماء معصومة، ولأن

(1) تبصرة الحكام ج2 ص169، البحر الرائق ج5 ص40، 41، المغني ج10 ص353 وما بعدها.

(2)

المادة 62 من قانون العقوبات.

ص: 593

الأعذار الشريعة لا تبيح عصمة المحل، فإذا كان الجاني له من الأعذار ما يمنع عنه العقوبة فإن هذه الأعذار لا تؤثر على حق الغير في تعويض الأضرار التي سببها له الجاني بفعله؛ لأن الفعل يظل محرماً على الفاعل، وإذا كان الجنون لا يجعل الجاني أهلاً للعقوبة فإنه لا ينفي عن الجاني أهليته لتملك الأموال والتصرف فيها، وما دامت هذه الأهلية متوفرة فيه فقد وجب أن يتحمل المسئولية المدنية وهي مسئولية مالية.

مدى مسئولية المجنون المدنية: من المتفق عليه بين الفقهاء أن المجنون ضامن لأفعاله أي مسئول عنها مدنياً، فهو ملزم بتعويض ما ينشأ عن جريمته من ضرر تعويضاً كاملاً ما دام الضرر ناشئاً عن عمله.

ومع تسليم الفقهاء بهذه القاعدة العامة فإنهم اختلفوا في مدى مسئولية المجنون المدنية في جرائم القتل والجرح، وأساس اختلافهم في هذه المسألة هو اختلافهم في تكييف جرائم المجنون، فمالك وأبو حنيفة وأحمد يرون أن عمد المجنون خطأ؛ لأنه لا يمكن أن يقصد الفعل قصداً صحيحاً، وإذا لم يكن فعله مقصوداً فهو ليس عمداً وإنما خطأ (1) . أما الشافعي فيرى عمد المجنون عمد لا خطأ، وأن الجنون يعفيه من العقوبة فقط ولا يؤثر على تكييف الفعل؛ لأنه يأتيه مريداً له وإن كان لا يدركه إدراكاً صحيحاً (2) .

وللاختلاف على تكييف فعل المجنون أثره على التعويض الذي يلزم به المجنون؛ لأن الدية في جرائم العمد مغلظة ويحملها العامد في ماله الخاص، ولكن الدية في جرائم الخطأ مخففة وتحملها العاقلة مع الجاني أو عنه. ولما كان التعويض في جرائم القتل والجرح مقدراً بالدية فإنه يأخذ حكمها، ولذلك جعل الشافعي التعويض مال المجنون لما اعتبره عامداً؛ لأن المتعمد يحمل الدية في ماله،

(1) مواهب الجليل ج6 ص242، بدائع الصنائع ج7 ص236، المغني ج9 ص375.

(2)

الأم ج6 ص34.

ص: 594

أما بقية الأئمة فجعلوا التعويض على المجنون وعاقلته؛ لأنهم اعتبره مخطئاً لا عامداً ولو جعلوا التعويض كله في ماله مع اعتباره مخطئاً لكان مركز المجنون في جرائم القتل والجرح أسوأ من مركز العاقل المخطئ؛ لأن العاقل المخطئ لا يلزم إلا بالدية، تحملها معه العاقلة.

427 -

مقارنة بين الشريعة والقانون: يختلف القانون المصري والقانون الفرنسي عن الشريعة في هذه المسألة، فكلاهما لا يجعل المجنون مسئولاً مدنياً عن جرائمه ولكنه يحمل المسئولية الشخص المكلف بملاحظة المجنون باعتبار أنه أهمل في ملاحظته، ويعللون عدم مسئولية المجنون مدنياً بأنه فاقد الشعور والاختيار وأن كل مسئولية تقتضي وجود خطأ ولا خطأ إذا لم تكن هناك إرادة. وليس للمسئول عن ملاحظة المجنون أن يرجع المجنون بما سببه له من المسئولية بفعله، ولو أن القاعدة العامة أن المسئول عن غيره له أن يرجع على هذا الغير (1) ، ويعللون هذا الحكم بأن الخطأ خطأ المسئول عن ملاحظة المجنون؛ لأنه مكلف بملاحظته والإشراف عليه وحمايته من أعماله الضارة. وهو تعليل فيهشئ من التعسف.

ونصوص القانون المصري والفرنسي في المسئولية المدنية تقوم على نظرية التقليدية نظرية الخطأ La faute، ولكن هناك نظرية أخرى حديثة هي نظرية الخطر La theorie du risque تحاول أن تزحزح النظرية التقليدية عن مكانها، ومقتضى نظرية الخطر أن المجنون يسأل مدنياً عن تعويض الأضرار التي أحدثها من ماله الخاص، وقد طبق القانون الألماني والقانون السويسري نظرية الخطر، فالقانون الألماني يلزم المجنون بتعويض ما أحدثه من ضرر في حدود مقدرته على دفع التعويض، والقانون السويسري يبيح للقاضي أن يحكم على غير المسئول

(1) المسئولية المدنية لمصطفى مرعي ص153.

ص: 595

جنائياً تعويض الضرر الذي أحدثه تعويضاً كلياً أو جزئياً، بل أن القانونين الألماني والسويسري يذهبان إلى مسئولية المجنون جنائياً ومدنياً إذا كان الفعل الذي أتاه من الأفعال التي يعاقب فيها على الإهمال أو عدم التبصر، وكأن يكون جنونه ناشئاً عن عادات سيئة كتعاطي المسكرات أو ناشئاً عن فساد الأخلاق. وذلك لأنه يوجد في هذه الحالة خطأ أصلي يصح أن ينسب إلى الفاعل ويكفي لتبرير مسئوليته (1) .

وظاهر مما سبق أن نظرية الخطر وهي أحدث النظريات تتجه اتجاه الشريعة في مسئولية المجنون مدنياً بل هي نفس نظرية الشريعة، وإذا كانت القوانين الوضعية لم تعرف نظرية الخطر إلا في القرن العشرين فقد عرفتها الشريعة من ثلاثة عشر قرناً وأكثر.

428 -

حكم الجنون اللاحق للجريمة: الجنون اللاحق للجريمة إما أن يحدث قبل الحكم أو بعده:

الجنون قبل الحكم: إذا حدث الجنون قبل الحكم فإنه لا يمنع المحاكمة ولا يوقفها عند الشافعية والحنابلة، وحجتهم أن التكليف لا يشترط إلا وقت ارتكاب الجريمة، وليس في رأيهم هذا ما يسيء إلى مركز المجنون؛ لأن محاكمة المجرمين في الشريعة محوطة بضمانات قوية. ولعل أصحاب هذا الرأي كانوا متأثرين في رأيهم بالمنطق والواقع أكثر من أي شئ آخر، فالمجرم قد ارتكب جريمته واستحق العقوبة عليها فإذا جن فإن جنونه لا يمنع من محاكمته على جريمته ما دام هناك من الوسائل ما يوصل إلى الحقيقة؛ لأن أثر الجنون ينحصر في إعجاز المتهم عن الدفاع عن نفسه، والقاعدة أن العجز عن الدفاع لا يوقف المحاكمة ولا يمنعها، فالأبكم ومن فقد النطق بعد ارتكاب الجريمة ومن لا يكاد يبين كل هؤلاء عاجزون عن الدفاع عن أنفسهم ولا يمنع عجزهم من محاكمتهم، فليس إذن

(1) الموسوعة الجنائية ج3 ص629.

ص: 596

ما يدعوا لتمييز المجنون على هؤلاء وإيقاف محاكمته بحجة أنه عاجز عن الدفاع عن نفسه؛ لأنهم مثله من حيث عجزهم عن الدفاع ولم يقل أحد بإيقاف محاكمتهم أو امتناعهم.

أما المالكية والحنفية فيرون أن الجنون قبل الحكم يمنع المحاكمة ويوقفها حتى يزول الجنون. وأساس هذا الرأي أن شرط العقوبة التكليف، وأن هذا الشرط يجب توفره وقت المحاكمة وهذا يقتضي أن يكون الجاني مكلفاً وقت المحاكمة فإن لم يكن كذلك امتنعت محاكمته.

ويتفق القانون المصري والقانون الفرنسي مع رأي المالكية والحنفية في إيقاف محاكمة المجنون، ولكن القانونيين يجعلان علة الإيقاف عجز المجنون عن الدفاع عن نفسه، وهذه العلة ظاهرة في نص المادة 247 من قانون تحقيق الجنايات المصري حيث جاء بها:"إذا كان المتهم غير قادر على الدفاع عن نفسه بسبب عاهة في عقله فلا يحاكم حتى يعود إليه من الرشد ما يكفي لدفاعه عن نفسه، وإذا اتضح عجزه عن الدفاع عن نفسه أمام المحكمة وجب إيقاف محاكمته على الوجه المتقدم".

وعلة إيقاف المحاكمة في الشريعة عند القائلين بالإيقاف ليست عن عجز المجنون عن الدفاع وإنما هي عدم استيفاء شرط العقاب، ولعل هذا التعليل أدق منطقاً من تعليل الإيقاف بالعجز عن الدفاع؛ لأن القانون المصري والقانون الفرنسي لا يوقفان محاكمة الأخرس ولا الأصم ولا الأبكم ولا من فقد النطق بعد ارتكاب الجريمة مع أنهم عاجزون عن الدفاع عن أنفسهم تماماً كالمجنون، فضلاً عن أن حالاتهم أكثر طروءاً في العمل من حالة المجنون.

الجنون الطارئ بعد الحكم: إذا جن الجاني بعد الحكم عليه فيرى الشافعي وأحمد أن الجنون لا يوقف تنفيذ الحكم إلا إذا كانت الجريمة المحكوم فيها من جرائم الحدود وكان دليل الإثبات الوحيد الذي بني عليه الحكم هو الإقرار؛ لأن للمحكوم عليه في جرائم الحدود أن يرجع عن إقراره إلى وقت تنفيذ العقوبة

ص: 597

وبعد البدء في التنفيذ. فإذا رجع في إقراره أوقف التنفيذ لاحتمال أن يكون عدوله عن إقراره صحيحاً، ولما كان الجنون يمنع المحكوم عليه من الرجوع في إقراره وكان من حقه أن يرجع في إقراره تعين إيقاف التنفيذ حتى يفيق المجنون.

أما إذا كان الحكم قائماً على دليل آخر غير الإقرار فلا يوقف الرجوع عن الإقرار تنفيذ الحكم. وأساس هذا الرأي أن العقوبة عن جريمة ارتكابها مجرم مسئول وقت ارتكابها، وأن العبرة في الحكم بالعقوبة وتنفيذها إنما بحال المكلف وقت ارتكاب الجريمة لا قبل ذلك ولا بعده (1) .

ويمكن تعليل هذا الرأي أيضاً بأن العقوبة شرعت للتأديب والزجر، فإذا تعطل جانب التأديب بجنون المحكوم عليه لأنه لا يشعر بالتأديب فلا ينبغي تعطيل جانب الزجر؛ لأن مصلحة الجماعة ظاهرة في تنفيذ العقوبة لزجر الغير.

وفي مذهب مالك يرون أن الجنون يوقف تنفيذ الحكم، ويظل الحكم موقوفاً حتى يفيق المجنون، إلا إذا كانت العقوبة قصاصاً فإنها على رأي البعض تسقط باليأس من إفاقة المجنون وتحل محلها الدية، ولكن البعض الآخر يرى في حالة اليأس من إفاقة المجنون أن يسلم المجنون المحكوم عليه بالقصاص لأولياء الدم فإن شاءوا اقتصوا وإن شاءوا أخذوا الدية (2) .

ويرى أبو حنيفة إيقاف تنفيذ العقوبة على المجنون إلا إذا كان الجنون قد طرأ بعد تسليم المجنون للتنفيذ عليه؛ لأن هذا يعتبر بدءاً في التنفيذ وإذا بدأ التنفيذ فلا يوقف للجنون. وإذا كانت العقوبة قصاصاً فجن الجاني بعد الحكم عليه وقبل تسليمه للتنفيذ عليه فإن القصاص ينقلب بالجنون دية استحساناً (3) .

ويقوم القول بأن الجنون يوقف التنفيذ على أساسين:

أولهما: أن شرط العقوبة

(1) تحفة المحتاج ج4 ص19، المغني ج9 ص377، الإقناع ج4 ص244.

(2)

مواهب الجليل ج6 ص232.

(3)

حاشية ابن عابدين ج5 ص470.

ص: 598