الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فرنسية ناسين أو متناسين الفروق العديدة بين الشرق والغرب متجاهلين الدين والتقاليد والبيئة وعامل الوراثة.
459 -
العالم وتحريم الخمر: ولقد حرم الإسلام الخمر وعاقب على شربها من ثلاثة عشر قرناًُ، وانفرد بتحريمها والعقاب عليها طيلة هذه المدة، حتى جاء العالم في القرن العشرين يشهد للإسلام بأنه كان على حق في موقفه من الخمر وبأن غيره كان يعمه في الضلال، وقد حمل العالم على هذه الشهادة أن العلم أثبت أن الخمر حقيقة أم الخبائث كما قال عنها الإسلام، وأنها مفسدة للعقل والصحة والمال، وها هو العالم غير الإسلامي لا يكاد يخلو فيه بلد اليوم من جماعة تدعو إلى ترك الخمر ولهذه الجماعات مجلات ورسائل ومؤتمرات، ولقد كان أثر دعاية هذه الجماعات قوياً في الولايات المتحدة بأمريكا وفي الهند، وكان الرأي العام أسرع استجابة في هاتين الدولتين فسنت فيهما القوانين لتحريم الخمر تحريماً تاماً. في كثير من البلاد الأخرى سنت قوانين تحرم الخمر تحريماً جزئياً فمنع تناولها أو تقديمها في أوقات معينة، ولكن الكثير من القوانين التي حرمت الخمر لم تنجح في محاربة الخمر؛ لأن العقوبات التي فرضتها لم تكن عقوبات رادعة.
وإذا كان الناس جميعاً قد آمنوا بأحقية الإسلام في تحريم الخمر فقد بقى عليهم أن يؤمنوا بالعقوبة التي فرضها الإسلام على شارب الخمر، ويوم يؤمنوا بهذا تنجح القوانين التي تسن لتحريم الخمر وتؤدي مهمتها خير أداء.
* * *
المبحث الرابع
عقوبة السرقة
460 -
عقوبة القطع: تعاقب الشريعة على السرقة بالقطع لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ} [المائدة: 38] .
ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن لفظ أيديهما يدخل تحته اليد والرجل، فإذا سرق السارق أول مرة قطعت يده اليمنى، فإذا عاد للسرقة ثانية قطعت رجله اليسرى، وتقطع اليد من مفصل الكف، وتقطع الرجل من مفصل الكعب، وكان علي رضي الله عنه يقطعها من نصف القدم من معقد الشراك ليدع للسارق عقباً يمشي عليه (1) .
وعلة فرض عقوبة القطع للسرقة أن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أن يزيد كسبه بكسب غيره، فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال ويريد أن ينميه من طريق الحرام، وهو لا يكتفي بثمرة عمله فيطمع في ثمرة عمل غيره، وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور أو ليرتاح من عناء الكد والعمل أو ليأمن على مستقبله، فالدافع الذي يدفع إلى السرقة يرجع إلى هذه الاعتبارات وهو زيادة الكسب أو زيادة الثراء، وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع؛ لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب إذ اليد والرجل كلاهما أداة عل أياً كان، ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء، وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل والتخوف الشديد على المستقبل.
فالشريعة الإسلامية بتقديرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة، فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية وارتكب الإنسان الجريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارمة فلا يعود للجريمة مرة ثانية.
ذلك هو أساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية، وإنه لعمري خير أساس قامت عليه عقوبة السرقة من يوم نشأة عالمنا حتى الآن، وإنه السر في نجاح عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية قديماً، وهو
(1) المغني ج10 ص264 وما بعدها.
السر الذي جعلها تنجح نجاحاً باهراً في الحجاز في عصرنا هذا فتحوله من بلد كله فساد واضطراب ونهب وسرقات إلى بلد كله نظام وسلام وأمن وأمان. لقد كان الحجاز قبل أن تطبق في الشريعة الإسلامية أخيراً أسوأ بلاد العالم أمناً، فكان المسافر إليه أو المقيم فيه لا يأمن على نفسه وماله وعياله ساعة من ليل بل ساعة من نهار بالرغم مما له من قوة وما معه من عدة، وكان معظم السكان لصوصاً وقطاعاً للطرق، فلما طبقت الشريعة أصبح الحجاز خير بلاد العالم كله أمناً، يأمن فيه المسافر والمقيم، وتترك فيه الأموال على الطريق حتى تأتي الشرطة فيحملونها إلى حيث يقيم صاحبها.
461 -
عقوبة السرقة في القانون: وتجعل القوانين الحبس عقوبة للسرقة، وهي عقوبة قد أخفقت في محاربة الجريمة على العموم والسرقة على الخصوص، والعلة في هذا الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة؛ لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل والكسب إلا مدة الحبس، وما حاجته إلى الكسب في الحبس وهو موفر الطلبات مكفي الحاجات؟ فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب وكان لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته من طريق الحلال والحرام على السواء، واستطاع أن يخدع الناس وأن يظهر أمامهم بمظهر الشريف فيأمنوا جانبه ويتعاونوا معه، فإن وصل في الخاتمة إلى ما يبغي فذلك هو الذي أراد، وإن لم يصل إلى بغيته فإنه لم يخسر شيئاً ولم تفته منفعة ذات بال.
أما عقوبة القطع فتحول بين السارق وبين العمل، أو تنقص من قدرته على العمل والكسب نقصاً كبيراً، ففرصة زيادة الكسب مقطوعة بضياعها على كل حال، ونقص الكسب على حد ضئيل أو انقطاعه هو المرجح في أغلب الأحوال، ولن يستطيع أن يخدع الناس، أو يحملها على الثقة به والتعاون معه
رجل يحمل أثر الجريمة في جسمه وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه، فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة مقطوع به إذا كانت العقوبة القطع، وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس، وفي طبيعة الناس كلهم لا السارق وحده أن لا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة وأن لا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة.
462 -
اعتراضات مردودة: وأعجب بعد ذلك ممن يقولون إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية في عصرنا الحاضر، كأن الإنسانية والمدنية أن نقابل السارق بالمكافأة على جريمته، وأن نشجعه على لسير في غوايته، وأن نعيش في خوف واضطراب، وأن نكد ونشقى ليستولي على ثمار عملنا العاطلون واللصوص.
ثم أعجب بعد ذلك مرة ثانية ممن يقولون إن عقوبة القطع لا يتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية، وكأن الإنسانية والمدنية أن ننكر العلم الحديث والمنطق الدقيق، وان ننسى طبائع البشر، ونتجاهل تجارب الأمم، وأن نلغي عقولنا ونهمل النتائج التي وصل إليها تفكيرنا لنأخذ بما يقوله قائلة فلا يجد عليها دليلاً إلا التهويل والتضليل.
وإذا كانت العقوبة الصالحة حقاً هي التي تتفق مع المدينة والإنسانية، فإن عقوبة الحبس متين من علم النفس وطبائع البشر وتجارب الأمم ومنطق العقول والأشياء، وهي نفس الأسس التي تقوم عليها المدنية والإنسانية، أما عقوبة الحبس فلا تقوم على أساس من العلم ولا التجربة ولا تتفق مع منطق العقول ولا طبائع الأشياء.
إن أساس عقوبة القطع هو دراسة نفسية الإنسان وعقليته، فهي إذن عقوبة ملائمة للأفراد، وهي في الوقت ذاته صالحة للجماعة؛ لأنها تؤدي إلى
تقليل الجرائم وتأمين المجتمع، وما دامت العقوبة ملائمة للفرد وصالحة للجماعة فهي أفضل العقوبات وأعدلها.
ولكن ذلك كله لا يكفي عند بعض الناس لتبرير عقوبة القطع؛ لأنهم يرونها - كما يقولون - عقوبة موسومة بالقسوة، وتلك هي حجتهم الأولى والأخيرة، وهي حجة داحضة، فإن اسم العقوبة مشتق من العقاب ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوماً بالرخاوة والضعف، بل يكون لعباً أو عبثاً أو شيئاً قريباً من هذا، فالقسوة لابد أن تتمثل في العقوبة حتى يصح تسميتها بهذا الاسم.
وبعد ذلك فإن القانون أيها السادة الرحماء يوجب الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة في بعض جرائم السرقة، ويوجب الحكم بالأشغال الشاقة المؤقتة في بعض آخر، فكيف ترضى قلوبكم الرحيمة أن يوضع المحكوم عليه في السجن كما يوضع الحيوان في قفصه أو الميت في قبره طول هذه المدة محروماً من حريته بعيداً عن أهله وذويه، وأيهما أقسى: قطع يد المحكوم عليه وتركه بعد ذلك يتمتع بحريته ويعيش بين أهله وولده أم حبسه على هذا الوجه الذي يسلبه حريته وكرامته وإنسانيته ورجولته؟
والقانون أخيراً أيها الرحماء يبيح عقوبة الإعدام وهي تؤدي إلى إزهاق الروح وفناء الجسد، أما عقوبة القطع فهي تؤدي إلى فناء جزء من الجسد فقط، فمن رضي بعقوبة الإعدام وأنتم بها راضون وجب أن يرضى بعقوبة القطع؛ لأنها جزء من كل، ومن لم يستفظع عقوبة الإعدام فليس له أن يستفظع عقوبة القطع بأي حال.
إن الشريعة الإسلامية حين قررت عقوبة القطع لم تكن قاسية، وهي الشريعة الوحيدة في العالم التي لا تعرف القسوة، وما يراه البعض قسوة إنما هو القوة والحسم اللذان تمتاز بهما الشريعة يتمثلان في العقوبة كما في العقيدة وفي العبادات وفي الحقوق وفي الواجبات، ولعل لفظ الرحمة ومشتقاته أكثر