المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأولالدفاع الشرعي الخاص، أو "دفاع الصائل - التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي - جـ ١

[عبد القادر عودة]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌تقديم وتوجيه

- ‌1 - موضوع البحث:

- ‌2 - محتويات الجزء الأول:

- ‌3 - مدى المقارنة بين الشريعة والقانون الوضعي:

- ‌4 - المذاهب الشرعية المقارن بها:

- ‌5 - علة الاقتصار على المذاهب الأربعة:

- ‌6 - لغة البحث:

- ‌7 - الفقهاء والشراح:

- ‌8 - لماذا بدأت بالقسم الجنائي

- ‌9 - كيف دفعت لدراسة الشريعة

- ‌10 - حاجة الكتب الشرعية إلى تهذيب:

- ‌11 - طريقة التأليف:

- ‌12 - كيف وصمت الشريعة بعدم الصلاحية

- ‌13 - وجه الخطأ في قياس الشريعة بالقانون:

- ‌14 - لا قياس بين مختلفين:

- ‌15 - نشأة القانون:

- ‌16 - نشأة الشريعة:

- ‌17 - لا مماثلة بين الشريعة والقانون:

- ‌18 - الاختلافات الأساسية بين الشريعة والقانون:

- ‌19 - المميزات الجوهرية التي تميز الشريعة عن القانون:

- ‌20 - الأدلة على توفر هذه المميزات في الشريعة:

- ‌21 - نظرية المساواة:

- ‌22 - نظرية مساواة المرأة بالرجل:

- ‌23 - نظرية الحرية:

- ‌24 - حرية التفكير:

- ‌25 - حرية الاعتقاد:

- ‌26 - حرية القول:

- ‌27 - نظرية الشورى:

- ‌28 - نظرية تقييد سلطة الحاكم:

- ‌29 - نظرية الطلاق:

- ‌30 - نظرية تحريم الخمر:

- ‌31 - نظرية تعدد الزوجات:

- ‌32 - نظريات في الإثبات والتعاقد:

- ‌33 - نظرية الإثبات بالكتابة:

- ‌34 - نظرية إثبات الدين التجاري:

- ‌35 - نظرية حق الملتزم في إملاء العقد:

- ‌36 - نظرية تحريم الامتناع عن تحمل الشهادات:

- ‌37 - أحكام أخرى في آية الدين:

- ‌38 - تذكير:

- ‌منهج البحث

- ‌الكتاب الأول في الجريمة

- ‌القسم الأول من الكتاب الأول

- ‌الباب الأولماهية الجريمة

- ‌الباب الثانيأنواع الجريمة

- ‌الفصل الأولالتقسيم المبني على جسامة العقوبة

- ‌الفصل الثانيتقسيم الجرائم بحسب قصد الجاني

- ‌الفصل الثالثتقسيم الجرائم بحسب وقت كشفها

- ‌الفصل الرابع[تقسيم الجرائم بحسب طريقة وكيفية ارتكابها ووقوعها]

- ‌المبحث الأول[تقسيم الجرائم بحسب طريقة ارتكابها]

- ‌المبحث الثانيتقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها

- ‌المبحث الثالثتقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها

- ‌الفصل الخامس[تقسيم الجرائم بحسب طبيعتها]

- ‌المبحث الأولتقسيم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة

- ‌المبحث الثانيتقسيم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة

- ‌القسم الثاني من الكتاب الأولالأركان العامة للجريمة

- ‌الباب الأولالركن الشرعي للجريمة

- ‌الفصل الأولالنصوص المقررة للجرائم والعقوباتأي الأحكام الجنائية الشرعية

- ‌المبحث الأولالأحكام الجنائية الشرعية وأثرها في الجريمة والعقوبة

- ‌الفرع الأوللا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم الحدود

- ‌الفرع الثانيلا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم القصاص والدية

- ‌الفرع الثالثلا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم التعازير

- ‌القسم الأول: التعزير على المعاصي

- ‌القسم الثاني: التعزير للمصلحة العامة

- ‌القسم الثالث: التعزير على المخالفات

- ‌الفرع الرابعكيف طبقت القوانين الوضعية القاعدة

- ‌المبحث الثانيأدلة الأحكام الشريعةأي مصادر التشريع الجنائي

- ‌الفرع الأولالقرآن

- ‌الفرع الثانيالسنة

- ‌الفرع الثالثالإجماع

- ‌الفرع الرابعالقياس

- ‌المبحث الثالثتفسير الأحكام الجنائية، أي النصوص الجنائية

- ‌الفرع الأولالقواعد اللغوية الموضوعة للتفسير

- ‌الفرع الثانيالقواعد التشريعية التي تراعى عند التفسير

- ‌المبحث الرابعتعارض الأحكام (أي النصوص) ونسخها

- ‌المبحث الخامسعلاقة الأحكام الشرعية بأحكام القوانين

- ‌الفصل الثانيسريان النصوص الجنائية على الزمان

- ‌الفصل الثالثسريان النصوص الجنائية على المكان

- ‌الفصل الرابعسريان النصوص الجنائية على الأشخاص

- ‌الباب الثانيالركن المادي للجريمة

- ‌الفصل الأولالشروع في الجريمة

- ‌الفصل الثانيالاشتراك في الجريمة

- ‌المبحث الأولالاشتراك المباشر

- ‌الباب الثالثالركن الأدبي

- ‌الفصل الأولالمسئولية الجنائية

- ‌المبحث الأولأساس المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الثانيمحل المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الثالثسبب المسئولية ودرجتها

- ‌المبحث الرابعقصد العصيان: أو القصد الجنائي

- ‌المبحث الخامسأثر الجهل والخطأ والنسيان على المسئولية

- ‌المبحث السادسأثر الرضاء بالجريمة على المسئولية الجنائية

- ‌المبحث السابعالأفعال المتصلة بالجريمة وعلاقتها بالمسئولية الجنائية

- ‌الفصل الثانيارتفاع المسئولية الجنائية

- ‌المبحث الأولأسباب الإباحةاستعمال الحقوق وأداء الواجبات

- ‌الفرع الأولالدفاع الشرعي

- ‌المطلب الأولالدفاع الشرعي الخاص، أو "دفاع الصائل

- ‌المطلب الثانيالدفاع الشرعي العامأو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الفرع الثانيالتأديب

- ‌الفرع الثالثالتطبيب

- ‌الفرع الرابعألعاب الفروسية

- ‌الفرع الخامسإهدار الأشخاص

- ‌الفرع السادسحقوق الحكام وواجباتهم

- ‌المبحث الثانيأسباب رفع العقوبة

- ‌الفرع الأولالإكراه

- ‌الفرع الثانيالسكر

- ‌الفرع الثالثالجنون

- ‌الفرع الرابعصغر السن

- ‌الكتاب الثاني في العقوبة

- ‌الباب الأولالعقوبة - مبادئ عامة

- ‌الباب الثانيأقسام العقوبة

- ‌الفصل الأولالعقوبات المقررة لجرائم الحدود

- ‌المبحث الأولعقوبات الزنا

- ‌المبحث الثانيعقوبة القذف

- ‌المبحث الثالثعقوبة الشرب

- ‌المبحث الرابععقوبة السرقة

- ‌المبحث الخامسعقوبة الحرابة

- ‌المبحث السادسعقوبة الردة والبغي

- ‌الفصل الثانيالعقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية

- ‌الفصل الثالثعقوبات الكفارات

- ‌الفصل الرابععقوبات التعازير

- ‌الفصل الخامسمدى صلاحية العقوبات الشرعية

- ‌الفصل السادسالعقوبات في القانون المصري ومدى صلاحيتها

- ‌الباب الثالثتعدد العقوبات

- ‌الباب الرابعاستيفاء العقوبات

- ‌الباب الخامسالعود

- ‌الباب السادسسقوط العقوبة

الفصل: ‌المطلب الأولالدفاع الشرعي الخاص، أو "دفاع الصائل

‌المطلب الأول

الدفاع الشرعي الخاص، أو "دفاع الصائل

"

332 -

معنى الدفاع الشرعي الخاص: الدفاع الشرعي الخاص في الشريعة هو واجب الإنسان في حماية نفسه أو نفس غيره، وحقه في حماية ماله أو مال غيره من كل اعتداء حال غير مشروع بالقوة اللازمة لدفع هذا الاعتداء.

والدفاع الشرعي الخاص، سواء كان واجباً أو حقاً مقصوداً به دفع الاعتداء، ليس عقوبة عليه؛ بدليل أن دفع الاعتداء فعلاً لا يمنع من عقاب المعتدى على اعتدائه.

ويصطلح الفقهاء على تسمية الدفاع الشرعي الخاص بدفع الصائل، وعلى تسمية المعتدى صائلاً، والمعتدى عليه مصولاً عليه.

والأصل في دفع الصائل قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وما رواه يعلي بن أمية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان لي أجير فقاتل إنساناً فعض أحدهما يد الآخر فانتزع المعضوض يده من فم العاض فانتزع إحدى ثنيتيه، فأتى النبي فأهدر ثنيتيه وقال:"أفيدع يده في فيك تقضمها قضم الفحل"، وما رواه عبد الله بن عمرو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد"، وما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح".

وكما أقرت الشريعة دفع الصائل لرد اعتدائه عن نفس الدافع أو عرضه أو ماله، كذلك أقرته لدفع الاعتداء عن نفس الغير أو عرضه أو ماله، لقوله عليه

ص: 473

السلام: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، ولقوله:"إن المؤمنين يتعاونون على الفتان".

333 -

التكييف الشرعي لدفع الصائل: لا خلاف بين الفقهاء في أن دفع الصائل شرع ليحمي الإنسان نفسه أو غيره من الاعتداء على النفس والعرض والمال، ولكنهم اختلفوا في التكييف الشرعي لدفع الصائل من وجهين:

أولهما: ماهية الدفاع، وهل هو واجب على المدافع فليس له أن يتخلى عنه كلما كان في مقدوره، أم هو حق للمدافع فله أن يدفع الاعتداء وله أن لا يدفعه؟

وقد اتفق الفقهاء على أن دفع الصائل واجب على المدافع في حالة الاعتداء على العرض، فإذا اراد رجل امرأة على نفسها ولم تستطع دفعه إلا بالقتل كان من الواجب عليها أن تقتله إن أمكنها ذلك؛ لأن التمكين منها محرم، وفي ترك الدفاع تمكين منها للمعتدي، وكذلك شأن الرجل يرى غيره يزني بامرأة أو يحاول الزنا بها ولا يستطيع أن يدفعه عنها إلا بالقتل، فإنه يجب عليه أن يقتله إن أمكنه ذلك.

والواجب هو الذي يذم تاركه ويلام شرعاً بوجه ما على رأي، وهو ما يعاقب على تركه طبقاً لرأي آخر (1) ، ويستوي أن تكون العقوبة على الواجب دنيوية أو أخروية.

والدفاع الواجب قد لا يعاقب على تركه عقوبة دنيوية، ولكن تاركه يعتبر آثماً مستحقاً للعقوبة الأخروية، فانعدام المسئولية الجنائية على ترك الواجب لا يغير شيئاً من طبيعة الواجب ولا يعفى من أدائه.

(1) الإحكام في أصول للآمدي ج1 ص138 وما بعدها، المستصفي للغزالي ج1 ص65، 66.

ص: 474

وانعدام المسئولية الجنائية على ترك الواجب لا يسوى بين الواجب وبين الحق؛ لأن الحق يتضمن التخيير بين الفعل والترك والواجب لا تخيير فيه؛ كما أن صاحب الحق لا يعتبر آثماً بالفعل أو الترك، أما تارك الواجب فآثم شرعاً (1) .

واختلف الفقهاء في الدفاع عن النفس، فظاهر مذهب أبي حنيفة يتفق مع الرأي الغالب في مذهبي مالك والشافعي على أن دفع الصائل عن النفس واجب (2) .

والرأي المرجوح في مذهبي مالك والشافعي يتفق مع الرأي الراجح في مذهب أحمد على أن دفع الصائل عن النفس جائز (3) وليس واجباً. وحجة هؤلاء أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الفتنة: "اجلس في بيتك فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فغط وجهك"، أو في لفظ آخر:"فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل". كذلك يحتجون بعمل عثمان رضي الله عنه إذ ترك القتال مع إمكانه وهو يعلم أن الثوار يريدون نفسه.

وبعض الحنابلة يفرقون بين حالة الفتنة وغيرها، ويجعلون الدفاع جائزاً مطلقاً في حالة الفتنة، أما في غير حالة الفتنة فيجعلونه واجباً مطلقاً (4) ، وهو رأي بعض الشافعية والمالكية (5) .

أما الدفع عن المال فأغلب الفقهاء يرونه جائزاً لا واجباً، فللمعتدى عليه أن يدفع الصائل إن شاء، وأن لا يدفعه. والفرق بين المال والنفس، أن المال مما يباح بالإباحة أما النفس فلا تباح بالإباحة. ولكن بعض الفقهاء يرون أن الدفع عن المال واجب إذا كان مالاً فيه روح؛ أي ليس جماداً، أو كان مالاً للغير في يد

(1) المستصفي للغزالي ج1 ص74.

(2)

حاشية ابن عابدين ج5 ص481، تحفة المحتاج ج4 ص124، مواهب الجليل ج6 ص323، الزيلعي وحاشية الشلبي ج6 ص110.

(3)

المغني ج10 ص350 وما بعدها.

(4)

الإقناع ج4 ص290.

(5)

حاشية الرملي ج4 ص168، وأسنى المطالب ج4 ص168، شرح الزرقاني وحاشية البناني ج8 ص118.

ص: 475

المدافع كمال المحجور عليه أو الوقف، أو مالاً مودوعاً، أو كان مالاً للمدافع ولكن تعلق به حق للغير كرهن أو إجازة (1) .

ثانيهما: صيال الصبي والجنون والحيوان: يرى مالك والشافعي وأحمد أن الإنسان إذا صال عليه صبي أو مجنون أو حيوان يكون في حالة دفاع، فإذا قتل الصبي أو المجنون أو الحيوان ولم يكن في وسعه أن يحمي نفسه من الصيال إلا بالقتل فلا مسئولية عليه من الناحية الجنائية أو المدنية، لأنه كان يؤدي واجباً في دفع الصائل عن نفسه (2) .

ولكن أبا حنيفة وأصحابه عدا أبي يوسف يرون أن يكون الموصول عليه مسئولاً مدنياً عن دية الصبي والمجنون وقيمة الحيوان، وحجتهم في ذلك أن الدفاع شرع لدفع الجرائم، وعلم الصبي والمجنون لا يعتبر جريمة وكذلك فعل الحيوان الأعجم، ومن ثم فلا وجود للدفع في حالة صيال الصبي والمجنون والحيوان، ولكن للمعتدى عليه في هذه الحالة الحق في قتل الصائل أو جرحه أو إيذائه على أساس الضرورة الملجئة، والقاعدة أن الضرورة الملجئة لا تعفي من الضمان وإن أعفت من العقاب؛ لأن الدماء والأموال معصومة؛ لأن الأعذار الشرعية لا تنافي هذه العصمة.

ويرى أبو يوسف أن يكون المصول عليه مسئولاً عن قيمة الحيوان فقط لأن فعل الصبي أو المجنون جريمة ولكن رفع عنهما العقاب لانعدام الإدراك، أما فعل الحيوان الأعجم فليس جريمة، ويترتب على هذا أن يكون المصول عليه في حالة دفاع إذا صال عليه صبي أو مجنون، وفي حالة ضرورة ملجئة إذا صال عليه حيوان (3) .

(1) أسنى المطالب ج4 ص168.

(2)

مواهب الجليل ج6 ص323، تبصرة الحكام ج2 ص303، الأم ج6 ص172، المهذب ج2 ص243، الإقناع ج4 ص289.

(3)

البحر الرائق ج8 ص302.

ص: 476

وحجة القائلين بقيام حالة الدفاع في كل حال أن من واجب الإنسان أن يحمي نفسه ونفس غيره من كل اعتداء يقع على النفس، ومن حقه ومن واجبه أحياناً أن يحمي ماله ومال غيره من كل اعتداء يقع على المال سواء كون الاعتداء جريمة أم لا، وأن فعل الاعتداء بذاته لا يحل دم الصائل ولكنه يوجب على المصول عليه أو يجيز له أن يمنع الاعتداء، فإذا لم يكن في الإمكان منع الاعتداء إلا بالقتل فذلك هو القدر اللازم لرد الاعتداء، فمشروعية منع الاعتداء هو الذي أحل دم الصائل وليس الاعتداء في ذاته، ومن ثم فليس من الضروري أن يكون الاعتداء جريمة (1) .

334 -

بين الشريعة والقانون: بينا فيما سبق التكييف الشرعي للدفاع، أما تكييف الدفاع في القوانين الوضعية فقد اختلف باختلاف الأزمنة، فقديماً كانوا يرن أنه حق مستمد من القانون الطبيعي لا القانون الوضعي، وفي العصور الوسطى اعتبر الدفاع حالة لا تمنع من العقوبة، ولكنها تؤهل للعفو عن العقوبة. وفي القرن الثامن عشر فسر الدفاع بأنه حالة للضرورة تبيح للمرء أن يدافع عن نفسه بنفسه، وتنشأ الضرورة من عدم وجود حماية حاضرة من الهيئة الاجتماعية. وفي القرن التاسع عشر كيف الدفاع بأنه حالة من حالات الإكراه؛ لأن الخطر المحدق بالمدافع يجعله عديم الاختيار، ولأن الجاني يندفع بغريزته للمحافظة على حياته.

وقد أخذ على هذا التكييف بأنه لا يعلل الدفاع عن الغير ولا عن المال، وأنه يؤدي إلى تبرير الدفاع عند استعمال الحق أو أداء الواجب.

وأحدث الآراء اليوم في القوانين الوضعية أن الدفاع استعمل لحق أباحه القانون الوضعي بل أداء لواجب؛ لأن من حق كل إنسان بل ومن واجبه أن يعني بالمحافظة على حياته وأن يدافع عن نفسه وماله، فضلاً عن أن الجماعة

(1) الأم ج6 ص172.

ص: 477

لا مصلحة لها في العقاب، لأن المدافع ليس بالمجرم الذي يخشى على الجماعة من شره.

والظاهر من مقارنه هذه الآراء المختلفة باختلاف العصور وتطوراتها المستمرة أنها انتهت في القرن العشرين إلى ما بدأت به الشريعة الإسلامية في القرن السابع، فالدفاع يكيف في الشريعة بأنه واجب في أكثر الحالات حق في بعضها، وهو يكيف اليوم في القوانين الوضعية بأنه حق إن لم يكن واجباً، ولعلنا بعد قليل نرى شراح القوانين الوضعية يحددون الدفاع الواجب كما فعل فقهاء الشريعة.

ويرى شراح القوانين الوضعية أنه يجوز استعمال حق الدفاع ضد المجنون والطفل، ولو أن كليهما معفى من العقاب؛ لأن الدفاع الشرعي ليس عقاباً يقع على المعتدى، وإنما هو دفع لعدوانه، وهذا يتفق مع ما يراه أغلب الفقهاء.

ولكن شراح القوانين اختلفوا فيما إذا كان هجوم الحيوان يمكن دفعه استناداً إلى حق الدفاع الشرعي، أو استناداً إلى أنه حالة ضرورة، فرأى البعض ما يراه فقهاء الحنفية، من أن الحيوان الأعجم لا يمكن اعتباره معتدياً أو مرتكباً لجريمة، وأن حالة الضرورة هي التي تبيح قتل الحيوان، ورأى البعض الآخر تطبيق نظرية الدفاع الشرعي بالنسبة للحيوان، وهو ما يراه مالك والشافعي وأحمد (1) .

ويتفق القانون المصري مع مذهب أبي حنيفة في اشتراط أن يكون فعل الصائل جريمة، فإن لم يكن جريمة لم توجد حالة الدفاع (2) .

335 -

شروط دفع الصائل: لدفع الصائل شروط يجب توفرها حتى يعتبر المصول عليه في حالة دفاع، وهذه الشروط هي: أولاً: أن يكون هناك اعتداء أو عدوان، ثانياً: أن يكون هذا الاعتداء حالاً، ثالثاً: أن لا يمكن دفع الاعتداء يطريق آخر، رابعاً: أن يدفع الاعتداء بالقوة اللازمة لدفعه.

(1) الموسوعة الجنائية ج1 ص525.

(2)

راجع المادة 246 من قانون العقوبات المصري.

ص: 478

الشرط الأول: أن يكون هناك اعتداء: يجب أن يكون الفعل الواقع على المصول عليه اعتداء، فإن لم يكن كذلك لم يجز دفعه، فالأب إذا ضرب ولده أو زوجته للتأديب، والمعلم إذا أدب الصبي، والجلاد حين يقطع رقبة المحكوم عليه أو يد السارق، ومستوفي القصاص حين يقتل القاتل أو يقطع يده قصاصاً، كل هؤلاء لا يعتبر فعلهم عدواناً أو اعتداء، وإنما هو استعمال لحق أو أداء لواجب.

ويترتب على اشتراط الاعتداء أو العدوان في الفعل أن كل عمل أوجبته الشريعة أو أجازته لا يعتبر اعتداء إذا باشره صاحب الحق فيه، كالقبض والتفتيش والجلد والحبس، وغير ذلك من الحقوق والواجبات المقررة للأفراد والسلطات العامة أو عليهم.

وليس للاعتداء حد مقرر؛ فيصح أن يكون الاعتداء شديداً، ويصح أن يكون بسيطاً، وبساطة الاعتداء لا تمنع من الدفاع، ولكنها تقيد المدافع بأن يدفع الاعتداء بالقوة اللازمة لدفعه.

ويصح أن يكون الاعتداء واقعاً على نفس المصول عليه أو عرضه أو ماله، كما يصح أن يكون واقعاً على نفس الغير أو عرضه أو ماله، ويصح أن يكون واقعاً على نفس الصائل أو ماله، كمن حاول أن يقتل نفسه أو يقطع طرفه أو يتلف ماله (1) .

وليس من الضروري في رأي مالك والشافعي وأحمد أن يكون الاعتداء جريمة معاقباً عليها، ولكن يكفي أن يكون عملاً غير مشروع، وليس من الضروري في رأي هؤلاء الفقهاء أن يكون الصائل مسئولاً جنائياً عن فعله، فيصح أن يكون الصائل مجنوناً أو طفلاً، ويكفي لقيام حالة الدفاع أن يكون فعل الصائل أياً كان غير مشروع. أما أبو حنيفة وأصحابه فيشترطون أن يكون الاعتداء

(1) أسنى المطالب ج4 ص167.

ص: 479

مما يعتبر جريمة معاقباً عليها، وأن يكون الصائل مسئولاً جنائياً عنها، وإلا كان الدفاع قائماً على حالة الضرورة. ويخالفهم أبو يوسف في هذا حيث يشترط أن يكون الفعل جريمة دون حاجة لأن يكون الصائل مسئولاً عن الجريمة جنائياً. ورأي أبو يوسف يتفق تمام الاتفاق مع نص القانون المصري الذي يشترط أن يكون الفعل جريمة.

ويعتبر الفعل اعتداء سواء كان مصدره إنساناً أو حيواناً، وهو ما يراه مالك والشافعي وأحمد، ولكن أبا حنيفة وأصحابه جميعاً لا يرون مبرراًُ لوجود حالة الدفاع عن هجوم الحيوان؛ لأن فعله لا يعتبر جريمة، ويرون رد الهجوم على أساس حالة الضرورة، وهو رأي قد يتفق أيضاً مع نص القانون المصري، الذي يعاقب على قتل الحيوان إذا كان قتله دون مقتض (م355 عقوبات) .

هذا إذا فسرنا المقتضى بأنه حالة ضرورة وهو الرأي الراجح؛ لأن فعل الحيوان ليس جريمة في ذاته، أما إذا أمكن في بعض الأحوال اعتبار الفعل جريمة من صاحب الحيوان؛ فالدفاع يوجد ولكنه لا يوجد في غير ذلك من الحالات.

وليس للصائل أن يرد دفاع المصول عليه ثم يحتج بأنه كان يدافع عن نفسه؛ لأنه هو الذي اعتدى فأصبح باعتدائه عرضة لدفاع المصول عليه، فإذا اقتضى الدفاع قتل الصائل فقد أصبح دم الصائل هدراً، أما المصول عليه فمعصوم، وإذا اقتضى الدفاع جرح الصائل لتعطيله فقد أصبح الجرح هدراً مع بقاء المصول عليه معصوماً. ومن الأمثلة على ذلك قضاء علي رضي الله عنه في امرأة تزوجت، فلما كان ليلة زفافها أدخلت صديقها الحجلة سراً، وجاء الزوج فدخل الحجلة فوثب عليه الصديق فاقتتلا فقتل الوج الصديق، وقتلت المرأة الزوج، فقضى عليّ بقتل المرأة بالزوج ولم يعتبرها مدافعة عن نفسها أو عن غيرها.

لكن إذا زادت أعمال الدفاع عن الحد اللازم لرد العدوان اعتبر الزائد منها عدواناً وكان الصائل أن يدفعه ويقاد المصول عليه بما زاد عن حاجة الدفاع ويؤخذ بجريرته.

ص: 480

ولا يشترط لقيام حالة الدفاع أن يقع الاعتداء فعلاً، فليس على المصول عليه أن ينتظر حتى يبدره الصائل بالاعتداء، بل للموصول عليه أن يبدر الصائل بالمنع ما دامت حالته على أنه سيعتدي، فإذا أقبل الرجل بالسيف أو غيره من السلاح إلى الرجل فإنما له ضربه على ما يقع في نفسه، فإن وقع في نفسه أنه يضربه وإن لم يبدأه المقبل إليه بالضرب فليضربه وإن لم يقع في نفسه ذلك لم يكن له ضربه (1) ، ويجب أن يكون الاعتقاد بالاعتداء غالياً على الظن حتى يمكن تبرير الدفاع، أما الوهم والظن الضعيف فلا يبرره، فإذا دخل رجل بالسلاح داراً فغلب على ظن صاحب الدار أنه قاصد قتله - لأسباب معقولة - كان له أن يبدره بالقتل، وإذا توقع صاحب الدار من لص أنه سيعاجله وكان توقعه مبنياً على أسباب معقولة فليقتله ولا شيء عليه.

وإشهار السلاح بقصد المزاح واللعب لا يوجد المشهور عليه في حالة دفاع ولا يجعله مصولاً عليه؛ لأن إشهار السلاح على هذا الوجه لا يعتبر اعتداء، لكن إذا كانت الظروف تدل على أن الصائل يظهر المزاح ويبطن الجد حتى يتمكن من المصول عليه، كان للمصول عليه دفع شره ولو بقتله إذا لم يمكن دفعه إلا بالقتل (2) .

ولمعرفة بداية الاعتداء ونهايته أهمية قصوى؛ لأن الدفاع يتولد عن الاعتداء وينتهي بانتهائه، فلا دفاع قبل الاعتداء ولا دفاع بعد الاعتداء، فإذا ضرب المصول عليه الصائل فانصرف أو جرحه فأعجزه عن الاعتداء فليس للمصول عليه أن يتبعه ليضربه مرة أخرى، وليس له بعد أن يعجزه أن يثنى عليه، فإذا فعل من ذلك شيئاً فهو جرح أو قتل وعليه عقوبته، ولكن يجوز للمصول عليه أن يتبع الصائل ليسترد منه ما هرب به من مال، وتعتبر حالة الدفاع قائمة

(1) الأم ج6 ص27.

(2)

نفس المرجع السابق.

ص: 481

حتى يسترد من الصائل ما أخذه، وللمصول عليه أن يقتل الصائل ليسترد منه المسروق إذا لم يمكن استرداده بطريقة أخرى.

والرغبة في الاعتداد لا تخلق حالة الدفاع وإنما المعتبر هو إمكان الاعتداء، فمن كان يريد الاعتداء ولكنه لا يستطيعه فضربه أو جرحه أو قتله جريمة؛ لأن الدفاع مقرر لدفع الاعتداء والاعتداء غير ممكن في ذاته.

الشرط الثاني: أن يكون الاعتداء حالاً: لا يوجد المصول عليه في حالة دفاع إلا إذا كان الاعتداء حالاً، فإن لم يكن حالاً فعمل المصول عليه ليس دفاعاً وإنما اعتداء؛ لأن الدفاع لا يوجد إلا إذا تحقق الاعتداء في الفعل أو الظن فحلول الاعتداء هو الذي يخلق حالة الدفاع، ومن ثم لم يكن الاعتداء المؤجل محلاً للدفاع، ولم يكن التهديد بالاعتداء محلاً للدفاع، إذ ليس هناك خطر يحتمي منه الإنسان بالدفاع العاجل، وإذا اعتبر التهديد اعتداء في ذاته فإنه يجب أن يندفع بما يناسبه، والالتجاء للسلطات العمومية كاف لحماية المصول عليه من التهديد.

الشرط الثالث: أن لا يمكن دفع الاعتداء بطريق آخر: يشترط لوجود حالة الدفاع أن لا تكون هناك وسيلة أخرى ممكنة لدفع الصائل، فإذا أمكن دفع الصائل بوسيلة أخرى غير الدفع وجب استعمالها، فإن أهمل المصول عليه هذه الوسيلة ودفع الاعتداء فهو معتد، فإذا أمكن دفع الصائل مثلاً بالصراخ والاستغاثة فليس للمصول عليه أن يضربه أو يجرحه أو يقتله، فإن فعل كان فعله جريمة (1) ، وإذا أمكن الاحتماء برجال السلطة العمومية في الوقت المناسب أو استطاع المصول عليه أن يمنع نفسه أو يمتنع بغيره دون استعمال العنف فليس له أن يستعمله (2) .

(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص482، أسنى المطالب ج4 ص167.

(2)

الأم ج6 ص27، أسنى المطالب ج4 ص167.

ص: 482

وقد اختلف الفقهاء في الهرب كوسيلة لدفع الاعتداء، فمن رأى أن الهرب يصلح وسيلة من وسائل دفع الاعتداء فقد أوجب الهرب على المصول عليه؛ لأن الهرب هو الوسيلة المناسبة لدفع الاعتداء، والمصول عليه مكلف بدفع الاعتداء بأيسر ما يمكن (1) . فمن رأى أن الهرب لا يصلح وسيلة من وسائل الدفاع فإنه لا يلزم المصول عليه بالهرب، ويجعل له أن يثبت ويدافع إذا لم يكن إلا الهرب أو الدفاع (2) . وفرق بعض الفقهاء بين ما إذا كان الهرب مشيناً أو غير مشين، وجعلوه لازماً إذا لم يكن مشيناً وغير لازم إذا كان مشيناً (3) .

ويشترط على كل حال عند من يرون الهرب دفاعاً أن يقوم الهرب مقام الدفاع، فإذا كان الدفاع عن المال أو الحريم ولم يستطع المدافع الهرب بالمال أو الحريم فلا يعتبر الهرب دفاعاً ولا يلزم به المصول عليه (4) .

الشرط الرابع: أن يدفع الاعتداء بالقوة اللازمة لرده: يشترط في الدفاع أن يكون بالقدر اللازم لدفع الاعتداء، فإن زاد عن ذلك فهو اعتداء لا دفاع، فالمصول عليه مقيد دائماً بأن يدفع الاعتداء بأيسر ما يندفع به، وليس له أن يدفعه بالكثير إذا كان يندفع بالقليل، فإذا دخل رجل منزل آخر بغير إذنه وكان يدفع بالأمر بمغادرة المنزل أو بالتهديد بالضرب فليس له أن يضربه، فإن لم يخرج ضربه بأسهل ما يعلم أنه يندفع به؛ لأن المقصود دفعه فإن اندفع بقليل فلا حاجة لأكثر منه، فإن علم أنه يخرج بالعصا لم يكن له ضربه بالحديد؛ لأن الحديد آلة للقتل بخلاف العصا، وإن ذهب مولياً لم يكن له قتله ولا اتباعه، وإن ضربه ضربة عطلته لم يكن له أن يثني عليه؛ لأنه كفى شره، وإن ضربه فقطع يمينه فولى مدبراً فضربه فقطع رجله فقطع الرجل مضمون عليه بالقصاص أو الدية؛

(1) المغني ج10 ص353.

(2)

نفس المرجع السابق، الأم ج6 ص28.

(3)

تحفة المحتاج ج4 ص126.

(4)

المرجع السابق، أسنى المطالب ج4 ص167.

ص: 483

لأنه في حال لا يجوز له فيها ضربه (1) ، وإن كان لا يندفع إلا بالقتل أو خاف أن يبدره بالقتل إن لم يقتله فله ضربه بما يقتله أو يقطع طرفه، وما أتلف منه فهو هدر؛ لأنه تلف لدفع شره (2) .

ومن قصده رجل في نفسه أو ماله أو أهله بغير حق فله أن يدفعه بأيسر ما يندفع به، فإذا أمكنه الدفع بالصياح والاستغاثة لم يدفع باليد، وإن كان في موضع لا يلحقه الغوث دفعه باليد، فإن لم يندفع باليد دفعه بالعصا، فإن لم يندفع بالعصا دفعه السلاح، فإن لم يندفع إلا بإتلاف عضو دفعه بإتلاف عضو، فإن لم يندفع بالقتل دفعه بالقتل. وإن قدر على دفعه بالعصا فقطع عضواً أو قدر على دفعه بالقطع فقتله، وجب عليه الضمان (3) ، أي العقاب؛ لأنها جناية من غير حق فأشبه ما إذا جنى عليه من غير دفع، وإن قصده ثم انصرف عنه لم يتعرض له، وإن ضربه فعطله لم يجز أن يضربه ضربة أخرى؛ لأن القصد كف أذاه (4) .

ومن عض يد آخر ولم يمكنه تخليصها إلا بفك لحيته فك لحيته، وإن لم يندفع إلا بأكثر من هذا فعله ولا مسئولية عليه.

ومن أراد امرأة على نفسها فقتلته لتدفع عن نفسها، فلا شيء عليها. ومن قضاء عمر رضي الله عنه في هذا الباب أن رجلاً أضاف ناساً من هذيل فأراد امرأة على نفسها فرمته بحجر فقتلته، فقال عمر:"والله لا يؤدى أبداً".

وإذا صالت بهيمة على إنسان دفعها بالقدر الذي تندفع به، فإن لم تندفع إلا بالقتل قتلها ولا مسئولية عليه من الناحيتين الجنائية والمدنية، إلا في مذهب

(1) المغني ج10 ص351، 352.

(2)

نفس المرجع السابق.

(3)

يعبر الفقهاء كثيراً عن الجزاء بالضمان، والضمان قد يكون عقوبة بدنية وقد يكون عقوبة مالية.

(4)

المهذب ج2 ص241.

ص: 484

أبي حنيفة فإنه يسأل مدنياً فقط، لأن الدفع كان على أساس حالة الضرورة، وحالة الضرورة ترفع المسئولية الجنائية ولا ترفع المسئولية المدنية.

وإذا اطلع رجل على بيت إنسان من ثقب أو شق باب أو نحوه فله أن ينهاه، فإن لم ينته جاز له أن يدفعه بأيسر ما يندفع به، فإن لم يندفع إلا بفقأ عينه ففقأها فلا مسئولية عليه، وهذا رأي مجمع عليه في مذهب الشافعي ومذهب أحمد (1)، وحجتهما حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:"لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح"، وحديث الرسول مروى عن سهل بن سعد أن رجلاً اطلع في جحر من باب النبي صلى الله عليه وسلم وكان الرسول يحك رأسه بمدرى في يده، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"لو علمت أمك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر"، وفضلاً عن الحديثين فإن هذا الرأي تطبيق لقواعد الدفاع، وعلى هذا الرأي الأقلية في مذهبي مالك وأبي حنيفة، أما الغالبية فترى أن المدافع ليس له أن يفقأ عين من يطلع من الخارج لمجرد النظر؛ لأنه لو نظر إنسان إلى عورة آخر بغير إذنه لم يستبح فقأ عينه، فالنظر إلى إنسان في بيته أولى أن لا يستباح به الفقأ، ويرى الحنيفية أن الحديث قصد به المبالغة في الزجر عن الاطلاع (2) ، ويرى المالكية أن الرمي أبيح للتنبيه أو المدافعة لا بقصد الإيذاء أو إصابة العين، فإذا قصد عينه فعليه القود، وإذا قصد التنبيه فأصاب عينه فهي إصابة خطأ يسأل عنها باعتباره مخطئاً لا عامداً (3) .

ويرى علاء الدين الكاساني أن الأصل في كل ما سبق هو أن من قصد قتل إنسان لا ينهدر دمه بمجرد هذا القصد، ولكن ينظر إن كان المشهور عليه (أي المصول عليه) يمكنه دفعه عن نفسه بدون القتل لا يباح له القتل، وإن كان لا يمكنه الدفع إلا بالقتل يباح القتل؛ لأنه من ضرورات الدفع. فإن شهر

(1) المغني ج10 ص255، المهذب ج2 ص242.

(2)

حاشية ابن عابدين ج5 ص485.

(3)

مواهب الجليل ج6 ص322، 323.

ص: 485

عليه سيفه يباح له أن يقتله؛ لأنه لا يقدر على الدفع إلا بالقتل، ألا ترى أنه إذا استغاث الناس يقتله قبل أن يلحقه الغوث إذ السلاح لا يلبث فكان القتل من ضرورات الدفع فيباح قتله، فإذا قتله فقد قتل شخصاً مباح الدم فلا شئ عليه (1) .

ولا حرج على المصول عليه إذا تعذر بدر الصائل بالدفع ولم ينتظر حتى يقع عليه الاعتداء ما دامت حالة الصائل تدل على قصده الاعتداء. وإذا كان الصائل يندفع بالعصا فلم يجد إلا سيفاً أو سكيناً فلا حرج عليه أن يدفعه بأيهما إذ لا يمكنه الدفع إلا به ولا يمكن نسبته إلى التقصير بترك استصحاب العصا (2) .

وليس للمصول عليه أن يقصد قتل الصائل أو جرحه ابتداء إلا إذا علم أنه لا يندفع إلا بذلك وأن القتل أو الجرح هو القوة اللازمة لدفعه (3) . والمقياس الصحيح للقوة اللازمة لدفع الاعتداء هو ظن المدافع المبني على أسباب معقولة، فهذا المقياس تقاس القوة اللازمة لدفع الاعتداء ولا تقاس بالضرر الحقيقي الذي وقع أو ضرر الذي كان الصائل ينتوي أن يحدثه، فللمصول عليه إذن أن يدفع الصائل بأيسر ما يغلب على ظنه أن الصائل يندفع به بشرط أن يكون ظن المصول عليه قائماً على أسباب معقولة.

ويراعى أن الأمر قد يخرج عن حد الضبط عند الالتحام سيما إذا كان الصائلون جماعة؛ لأن دفع أحدهم بأيسر ما يندفع به قد لا يندفع به الآخر وقد يؤدي إلى إهلاك المصول عليه (4) ، ومن ثم يرجع في تقدير القوة الملائمة لظروف كل واقعة.

336 -

تجاوز حد الدفاع: إذا استعمل المدافع قوة أكثر مما تقضي الضرورة لدفع الاعتداء فهو مسئول عن فعله الذي تعدى به حد الدفاع المشروع،

(1) بدائع الصنائع ج7 ص93.

(2)

أسنى المطالب ج4 ص167.

(3)

شرح الزرقاني وحاشية البناني ج8 ص118.

(4)

تحفة المحتاج ج4 ص126.

ص: 486

فإذا كان الصائل يندفع بالتهديد فضربه فهو مسئول عن الضرب، وإن كان يندفع بالضرب باليد فجرحه فهو مسئول عن الجرح، وإن كان يندفع بالجرح فقتله فهو مسئول عن القتل، وإن هرب الصائل بعد أن جرحه فاتبعه المدافع وجرحه مرة ثانية فهو مسئول عن الجرح الثاني، وإن عطل مقاومته ثم قطع بعد ذلك يده أو رجله أو قتله فهو مسئول عما فعله بعد تعطيل المقاومة، وهكذا يسأل المصول عليه عن كل فعل لم يكن لاوماً لدفع الاعتداء.

وبين الاعتداء والدفع ارتباط وثيق؛ لأن الدفاع يتولد عن الاعتداء، فإذا بدأ الاعتداء بدأت حالة الدفاع، وإذا انتهى الاعتداء فق انتهت حالة الدفاع، ومن ثم لا يعتبر المصول عليه مدافعاً إذا انتهى الاعتداء، ويسأل عن كل فعل يقع منه بعد انتهاء الاعتداء. ولكن لا يعتبر الاعتداء منتهياً إذا هرب الصائل وأخذ معه المال المصول عليه. فللمدافع أن يتتبعه حتى يسترد منه ما أخذه، وأن يستعمل معه القوة اللازمة في استرداده، فإن لم يكن إلا القتل إمكان استرداد المأخوذ قتله (1) .

والأصل في أفعال الدفاع أنها مباحة ولا عقاب عليها، ولكنها إذا تعدت الصائل وأصابت غيره خطأ فالفعل الذي وقع على الغير لا يعتبر مباحاً إذا أمكن نسبة الخطأ والإهمال إلى المدافع، فمن أراد أن يضرب الصائل فأخطأه وأصاب غيره فجرحه أو قتله فهو مسئول عن جرح هذا الغير أو قتله خطأ ولو أنه تعمد الفعل، إذ الفعل في ذاته مباح على الصائل ولكنه وقع على الغير خطأ، وتشبه هذه الحالة ما إذا أراد إنسان أن يصيد صيداً فأخطأه وأصاب شخصاً فالصيد في ذاته عمل مباح ولكن الصائد يسأل عن إصابة الشخص خطأ.

ونصب الحبالات والأشراك والفخاخ وراء الأبواب أو الأسوار أو في

(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص274.

ص: 487

الممرات بقصد قتل المعتدين أو جرحهم جائز عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد (1) ، وليس على صاحب المكان مسئولية؛ لأنه من قبيل الدفاع، ولأن الداخل قتل نفسه بتعديه ودخوله مسكن غيره دون حق، ولكن مالكاً (2) يرى مسئولية الفاعل إذا قصد بعمله إصابة الداخلين أو إهلاكهم، أما إذا قصد سد حاجة من حاجات المسكن أو المكان فلا مسئولية عليه. ولعل رأي مالك أقرب إلى الدقة في تطبيق قواعد الدفاع؛ لأن الدفاع قائم على رد الاعتداء بأيسر ما يندفع به وقد يندفع المعتدي بأيسر من الجرح أو القتل. وقد تعرض شراح القوانين لهذه المسألة بالذات فمنهم من رأى الفعل دفاعاً ومنهم من لم يره كذلك، وعرضت قضية من هذا النوع على المحاكم الفرنسية فقضت ببراءة صاحب المسكن على اعتبار أن عمله طريقة من طرق الدفاع الشرعي (3) .

337 -

أيكون للصائل حق الدفاع؟: يصبح الصائل في حالة دفاع إذا تعدى المصول عليه حدود الدفاع المشروع؛ لأن عمل المصول عليه يصبح حينذاك اعتداء والدفاع يتولد عن الاعتداء، أما إذا بقى فعل المصول عليه في حدود الدفاع فلا يعتبر الصائل إلا معتدياً وليس له أن يدعي بأنه كان يدفع عن نفسه. وإذا تجاوز المصول عليه حد الدفاع اعتبر عمله اعتداء، وكان للصائل أن يدفع عن نفسه هذا الاعتداء بأيسر ما يندفع به.

338 -

حكم دفع الصائل: من المتفق عليه بين الفقهاء أن أفعال الدفاع مباحة، فلا مسئولية على المدافع من الناحية الجنائية؛ لأن الفعل ليس جريمة، ولا مسئولية عليه من الناحية المدنية؛ لآنه أتى فعلاً مباحاً وأدى واجباً أو استعمل حقاً قرره الشارع، وأداء الواجبات واستعمال الحقوق لا يترتب عليه أية

(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص524، تحفة المحتاج ج4 ص50، المغني ج9ص571.

(2)

تبصرة الحكام ج2 ص296، مواهب الجليل ج6 ص241.

(3)

القسم العام لأحمد بك صفوت ص224.

ص: 488