الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جريمة في فعل يستعمل حقاً أو يؤدي واجباً. وهذا هو نفس الحكم في القانون المصري وغيره من القوانين الوضعية الحديثة. والشريعة ترفع العقاب في حالات الإكراه والسكر والجنون وصغر السن، مع بقاء الفعل جريمة، وهكذا الحكم في القوانين. والشريعة تعفي من العقاب في بعض الجرائم الخطيرة من يتوب ويعدل عن ارتكاب الجريمة قبل القدرة عليه، وهكذا تفعل القوانين الوضعية الحديثة.
والفرق الوحيد بين الشريعة والقوانين الوضعية أن أسباب الإباحة وأسباب رفع العقاب والإعفاء من العقاب عرفت كلها في الشريعة الإسلامية من يوم وجودها؛ أي من مدة تزيد على ثلاثة عشر قرناً، وعرفت من أول يوم على الوجه الذي هي عليه الآن، بينما القوانين الوضعية لم تعرف هذا كله إلا في أواخر القرن الثامن عشر، وفي القرن التاسع عشر، ولم تعرفه إلا سبباً بعد سبب وخطوة بعد خطوة.
* * *
المبحث الأول
أسباب الإباحة
استعمال الحقوق وأداء الواجبات
329 -
العلة في إباحة الأفعال المحرمة: الأصل في الشريعة الإسلامية أن الأفعال المحرمة محظورة على الكافة بصفة عامة، لكن الشارع رأى استثناء من هذا الأصل أن يبيح بعض الأفعال المحرمة لمن توفرت فيهم صفة خاصة؛ لأن ظروف الأفراد أو ظروف الجماعة تقتضي هذه الإباحة، ولأن هؤلاء الذين تباح لهم الأفعال المحرمة يأتونها في الواقع لتحقيق غرض أو أكثر من أغراض الشارع.
فالقتل مثلاً محرم على الكافة، وعقوبة القاتل عمداً القصاص؛ أي القتل، ولكن الشارع جعل تنفيذ هذه العقوبة من حق ولي الدم وذلك لقوله تعالى:
{وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] ، فولي الدم حينما يقتل القاتل يأتي عملاً مباحاً له بصفة خاصة، ولو أن هذا العمل محرم على الكافة، وهو حين يأتيه يحقق غرضين، أولهما: القصاص من القاتل. وثانيهما: أن يكون القصاص بيد ولي الدم.
والجرح محرم على الكافة، ولكن لما كانت حياة الإنسان أو راحته قد تتوقف على عملية جراحية، فقد أبيح للطبيب بصفة خاصة جرح المريض لإنقاذه من آلامه أو لإنقاذ حياته؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، ولأن الشريعة تحض على التداوي من الأمراض وتوجب على المرء أن لا يلقي بنفسه في التهلكة، فإحداث الجرح يحقق من أغراض الشارع دفع الضرورة، والتداوي من المرض، وإنقاذ النفس من الهلكة.
والضرب محرم على الكافة، ولكن تربية الصغار وتنشئتهم نشأة طيبة تقتضي بطبيعتها أن يؤدبوا ويضربوا، ولما كانت الشريعة توجب على المشرفين على الصغار أن يحسنوا تربيتهم وتنشئتهم؛ فقد أبيح لهؤلاء أن يضربوا الصغار بقصد التأديب والتعليم تحقيقاً للواجب المفروض عليهم.
وهكذا استوجبت طبيعة الأشياء وصالح الأفراد والجماعة وتحقيق غايات الشارع، استوجب لكل هذا أن يعطى لبعض الأفراد حق ارتكاب الأفعال المحرمة على الكافة.
وإذا كان الفعل المحرم قد أبيح؛ لتحقيق مصلحة معينة، فقد وجب منطقياً أن لا يؤدي الفعل المحرم إلا لتحقيق المصلحة التي أبيح من أجلها، فإن ارتكاب الفعل لغرض آخر فهو جريمة، فالطبيب الذي يجرح مريضاً بقصد علاجه يؤدي واجباً كلف به فعمله مباح، ولكنه إذا جرح المريض بقصد قتله فهو قاتل وعمله جريمة.
330 -
الحق والواجب: والأصل أن صاحب الحق له أن يستعمل
حقه وأن لا يستعمله، فإذا استعمله فلا حرج عليه، وإن تركه فلا إثم عليه، فالحق إذن هو ما يجوز فعله ولا يعاقب على تركه.
ويقابل الحق الواجب، وكلاهما يختلف عن الآخر في طبيعته، فإذا كان الحق يجوز فعله فالواجب يتحتم فعله، وإذا كان صاحب الحق لا يأثم بتركه ولا يعاقب على تركه فإن المكلف بالواجب يأثم بتركه ويعرض نفسه للعقوبة المقررة لترك الواجب.
وإذا كان الحق والواجب يختلفان في طبيعتهما، إلا أنهما يتفقان من الناحية الجنائية في أن الفعل الذي فعل أداء لواجبه أو استعمالاً لحق هو فعل مباح ولا يعتبر جريمة.
والفعل الواحد قد يعتبر حقاً لشخص بعينه وواجباً على شخص آخر، فالقتل قصاصاً هو حق لولي الدم إذا باشره، ولكن الفعل نفسه واجب على الجلاد إذا تركت مباشرته له، والتأديب في مذهب أبي حنيفة هو حق للزوج والأب ولكنه واجب على المدرس والمعلم.
وللتفرقة بين الحق والواجب أهمية من وجهين: أولهما: وهو متفق عليه من الفقهاء: أن الحق لا يمكن العقاب على تركه وأن الواجب يمكن عقاب تاركه. وثانيهما، وهو مختلف عليه بين الفقهاء: أن الحق يتقيد بشرط السلامة وأن الواجب لا يتقيد بشرط السلامة؛ أي أن من باشر حقاً مسئول دائماً عن سلامة المحل الذي باشر عليه الحق؛ لأنه مخير بين أن يأتي الفعل أو يتركه، أما من كان عليه واجب فلا يسأل عن سلامة محل واجبه؛ لأنه ملزم بتأدية الواجب وليس له أن يتخلى عنه، وهذا هو رأي أبي حنيفة والشافعي، أما مالك وأحمد فعندهما أن الحق كالواجب غير غير مقيد بشرط السلامة؛ لأن استعمال الحق في حدوده المقررة عمل مباح ولا مسئولية على مباح.
ولمعرفة ما إذا كان الفعل حقاً أو واجباً بالنسبة لشخص معين ننظر هل يتحتم